بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بَراءةُ النِّسْبَةِ
(حولَ خبرِ وَأْدِ عمرَ بن الخطّاب رضي اللّهُ عنه لِابنتِه في الجاهليَّة،وظاه رةِ الوَأْدِ عندَ العربِ)

* شَواهِدُ البُطْلانِ :
‏مِن المهمّ أن ننتبهَ إلى ظاهرةِ الطّعنِ في الأنبياءِ،وآلِ البيت عليهم السّلام،والصّحا بة رضوان الله ‏عليهم ‏بشكلٍ خاصٍّ،سواء كان ذلك بقصدٍ أو مِن غيرِ قصدٍ،مباشرٍ أو غيرِ ‏مباشرٍ،‏وذلك مِن خِلالِ التَّرويجِ لبعضِ القَصَصِ الّتي يبدو مِن ظاهرِها البراءةُ،وهي تحمِلُ في طيّاتِها السُّمَّ ‏الزُّعافَ.
‏لذا ينبغي على المرءِ التثبُّتُ مِن كلِّ ما ينقُلُه،وخاصّةً في هذه الفَضاءات على شبكة الأنترنت،مِن خِلال مواقعِ التّواصُلِ الاجتماعيّ (تويتر - ‏واتساب - فيس بوك – أنستغرام و ...)،بأن يعرفَ مِن ‏أين يستقي المعلومات ‏الصّحيحة.
وبعدُ،فإبراءً للذّمَّة،وتبرئة ً لساحةِ الخليفة الرّاشد عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه مِن شَيْن هذه التُّهمَة؛أستعر ِضُ بعضًا مِن شواهدِ بطلانها،وأدلّةِ نقضِ صَرْحِ بنيانِها:
1- رُوي هذا الخبرُ،ونُقِلَت ْ هذه القِصةُ في جميعِ المصادرِ والمراجعِ الّتي اطّلعتُ عليها بغيرِ إسنادٍ !!!.وهذا الأمرُ كافٍ لنَسفِها وإسقاطِها،وعدمِ الإعتدادِ بها.ونحنُ أُمّةُ الإسنادِ، والإسنادُ مِن الدّينِ،ولولا الإسنادُ لَقالَ مَن شاءَ ما شاءَ[1]؛ذلك لأنّ ثبوتَ صِحّةِ السَّنَدِ إنّما هو فرعُ لِوجودِها في الواقِعِ العلميّ،أي في ‏‏الكتب المُسندَة على اختلافِ تخصُّصاتِها وفروعِها المعرفيَّة.ومن بديعِ ما نُقِلَ عن أئمّتِنا رحمهم اللّه تعالى مِن قواعدِ العلم،قولُهم: التّأويلُ فرعُ التَّصحيحِ. ومِمّا يُؤثَرُ عن العلاّمة الألبانيّ رحمه اللّه تعالى قولُه:أَثبتِ العَرْشَ ثمّ انقُشْ؛وعليه فالدِّرايةُ تَبَعٌ لِصِحّةِ الرِّوايةِ.
2- وعلى فرضِ صحَّةِ هذا الخبر،وثبوتِ هذه القِصَّة بصحيح النّقلِ؛فلا ضَيْرَ في ذلك؛لأنّه لا يَقدحُ في عمرَ بنِ ‏الخطّاب رضي الله عنه بعد إسلامِه،فلا تُنزِلُ مِن قَدرِهِ العالي،ولا تُقلِّل مِن مكانةِ مَن كان إسلامُه فَتْحًا،وهجرتُه نَصْرًا، وخِلافتُه عِزًّا‏؛ولأنّ مَن كانَ يعبدُ الأصنامَ،ماذا يكونُ بجانبِهِ قتلُ ابنةٍ ؟.وما كان ‏عليه أهلُ الجاهليّة مِن الشِّركِ وعبادةِ ‏الأوثانِ أعظمُ بكثيرٍ مِن قتلِ إنسانٍ مهما كانت قرابتُهُ مِن الجاني.هذا، والصّحابةُ قبلَ الإسلام كانُوا على أخلاقِ أهلِ الجاهليّةِ، و‏الإسلامُ يَجُبُّ ويَهْدِمُ ما كانَ قبلَه،صحَّ بذلك الحديثُ[2].
وعليه فلو كان عمرُ رضي الله عنه ممَِّن فعلَ ذلك في جاهليّتِه لما كانَ عليه فيه مَطْعَنٌ ولا ‏‏مَغْمَزٌ؛لِم ا رواه ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:(قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ ؟. قَالَ:مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ)[3].
3- على أنّ صِحّةَ السَّندِ غيرُ مُجْزِئةٍ في اعتبارِ ثبوتِ الخبرِ،وصحّةِ الرّوايةِ إلاّ أنْ ينضَمَّ إليها خُلوُّها مِن الشّذوذِ والعِلَّة القادِحَة كما هو مُقرَّرٌ في علمِ مصطلحِ الحديثِ.وهذه الواقعةُ المُدَّعاةُ مُنكرَةُ المَتنِ،تُباينُ ما عُرِفَ وشُهِرَ به عمرُ بن الخطّاب رضي اللّه عنه مِن الصِّفات والخِلالِ في الجاهليّة والإسلام،فلا يكادُ يُصدِّقُها إلاّ جاهِلٌ به،أو حاقِدٌ عليه رضي اللّه تعالى عنه!. ‏
4- ولو فَرَضنا وسَلَّمنا جَدَلًا أنّ عمرَ وأدَ ابنتَه المزعومةَ؛فلِمَ لم يَئِدْ مِن قبلُ ابنتَه حفصة رضي الله عنها،وقد وُلِدتْ قبل البعثةِ بخمسِ سنواتٍ[4]،وهي أكبرُ بناتِهِ الّتي تَكنَّى بها أبا حفص،وأوّلُ أولادِهِ،ولا يُعرَفُ ‏أنّ له بنتًا قبلَها. فلو كانَ عمرُ رضي الله عنه مِن ‏‏مُؤيِّدي الوَأْدِ في الجاهليّة لَكانتْ حفصةُ في عِدادِ الموتى،ولم تَتحوَّل لأمِّ المؤمنين - رضي اللّه عنها -.
5- ومِمّا يعَزِّزُ مِن اعتبار هذه الرّواية محضَ كذِبٍ و افتراءٍ تَساؤُلٌ عن سِرِّ انقطاعِ أخبارِ هذه البنتِ الموءودةِ الصُّغرى؛فلم يَذكُرْها أحدٌ – فيما علمتُ -‏ مِن أقاربها[5]،ولم يُوجَدْ لها ذِكرٌ في أولادِه ؟.بل لماذا خَرِسَتْ دفاترُ العلماء مِن أهلِ السِّيَر والتَّراجِم والتّاريخِ والأنسابِ ‏عنها،فلم يأتِ لها فيها ذِكرٌ البَتَّةَ،حتّى غدَتْ في حكمِ الدّهرِ مجهولةَ العَيْنِ والحالِ.
6- كان عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه يُنسَبُ إلى بني عَدِيٍّ،وهم بطنٌ مِن بطونِ قريشٍ،والّذين لم يُعرَفْ فيهم،ولا‏ ‏اشتهرَ عنهم وَأْدُ بناتِهم؛ولا اشتهرَتْ بها أُسرةُ الخَطّاب الّتي ‏عاشتْ منها ‏فاطمةُ أختُ عمر رضي اللّه عنهما،والّتي بقيَتْ حَيّةً حتّى تزوّجتْ سعيدَ بنَ زيد رضي اللّه عنه ابنَ عمٍّ عمر - رضي الله عنهم -.بل إنّ زعماءَ بني عديٍّ كانوا على ‏سُنَّة عَمرو بن ‏نُفَيْل في استحياءِ الوَئيدِ كما سلَفَ ذلك عنه.
7- (فيما يُروَى أنّ عَمرو بنَ نُفَيل عمَّ عمرَ بن الخطّاب كان بسببِ إحساسِه الإنسانيّ،‏ ونبذِه لتلكَ ‏العادةِ السّيِّئةِ يدفعُ مِن حُرِّ مالِه ثمنَ مَن يُرادُ وَأدُها،فَيَتبن ّاها أو ‏يتركَ لِأهلِها مالًا ‏يُعيلُون به الموءودَةَ؛‏ فلماذا لم يدفَعْ لابنِ أخيهِ جَمَلًا أو جَمَلينِ ثمنًا لِشراءِ ابنتِهِ لِتَبقى حَيَّةً ‏؟.إذا ‏كانَ عمرُ لا يجدُ في قبيلتِهِ مَن يُعيلُ طفلةً ؟.كما يقول العقّاد)[6].
8- ‎ومِمّا يدلُّ على بطلانِ القِصّة،وعدمِ وقوعِ الوَأْدِ المزعوم‎ ‎مِن عمر بن الخطّاب رضي الله ‏عنه ما رواه النّعمان بن بشير رضي الله عنهما عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ‏رضي الله عنه؛سُئل عن قَوْلِ اللهِ تعالى:(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ‏‏[التّكوير/8-9].قَالَ:جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم فَقَالَ:‏يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي وَأَدْتُ [ثماني] بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ،فَقَالَ: «أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً»،قَالَ :[يَا رَسُولَ اللهِ] إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ؟. قَالَ: «فَانْحَرْ "،وفي رواية:فاهْدِ إِنْ شِئتَ" عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ [مِنْهُنَّ] بَدَنَةً)[7].
فهذا الحديثُ الّذي رواه عمرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه يدلُّ ‏على ‏كفّارة مَن وقعَ منه الوَأْدُ في الجاهليّة،فرواي ةُ عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه لِفعلِ قيسِ بنِ عاصِمٍ،وعدمُ ذِكرهِ ذلك عن نفسِهِ دليلٌ على بطلانِ وُقوعِ الوَأدِ ‏المنسوبِ إليهِ رضي الله عنه؛إذ لو حصلَ منه ذلك لَذَكرَه في ذلك الموقفِ الّذي سُئلَ فيه عن ‏الوَأْدِ، تَفسيرًا للآيةِ،‏ ولَكانَ كفَّرَ عن ذلك.‏وقد كانَ رضي اللّه عنه مُعظِّمًا لِشعائرِ الله تعالى حتّى في الجاهليّة،ولم يرِدْ ذلك إلاّ في كتبِ ‏‏بعضِ الفِرَقِ الضّالَّةِ كالرّوافِضِ،وهم قومٌ بُهْتٌ على الصّحابة عامّةً،وعلى الشّيخينِ رضي الله عنهما خاصَّةً.‎
9- ما رواه الماورديُّ في الحاوي الكبير (13/ 67)‏ مِن أنّ عمرَ رضي اللّه عنه قَالَ:(يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ )؛فإنّما رواه عنه بغير سَنَدٍ،وبصيغة التّمريضِ للدّلالةِ على عدمِ ثبوتِه،وصِحَّتِ هِ.
* تاريخُ النِّسبة :
لم أقِفْ لِهذه الفِرْيَة الّتي طالَتْ الخليفةَ الرّاشِدَ عمرَ بنَ الخطّاب رضي اللّه عنه مصدرًا ذُكِرَتْ فيه أقدمََ مِن كتابِ الشِّيعيِّ الرّافضيِّ نعمة ‏الله ‏الجزائريّ، الهالِكِ سنة (1112هـ) في كتابه:الأنوار النّعمانيّة (3/ 30 - ‏‏31)‏؛لذا كانت أصابعُ الاتّهام مُوجَّهَةً إليهِ،لِخُلُوّ مسرحِ (الجريمة) مِن أَحَدٍ سِواه.
نعم،أوردَ الماورديُّ (ت:450هـ) في الحاوي الكبير (13/ 67)‏،وعنه النّوويُّ (ت:676هـ) في‏‎ ‎المجموع (21/ 21)‏‏ روايةً جاءَ فيها:(ورُوِيَ عن عمرَ بنِ الخطّاب [رضي اللّه عنه] أنّه قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَأَدْتُ فِي ‏‏الْجَاهِلِيّ ةِ).‏
وهي رواية لا يُفرَحُ بها لِفُقدانِها أساسَ الاعتبارِ،وهو السَّنَدُ المتّصِلُ إلى مَن نُسِبتْ إليه،وهو الصّحابيُّ عمرُ بن الخطّاب رضي اللّه عنه.أَضِفْ إلى ذلك أنّها صُدِّرَتْ بكلمة (رُوِيَ) .ومعلومٌ أنّ هذه الصِّيغة إنّما وُضِعَتْ للدّلالة على الضّعْف والوَهَن الّذي يَعتري الأخبارَ والآثارَ،وتُسمّ َى في علمِ مصطلحِ الحديثِ ب(صيغةِ التّمريضِ).
* اليَدُ الطُّولى لهذه الفِريَة بعضُ كتب الشِّيعة الرّوافِض:
الظَّنُّ غالِبٌ في كونِ هذه الرّوايةِ المنسوبةِ زورًا وبُهتانًا للخليفة الرّاشد عمرَ بنِ الخطّاب رضي اللّه عنه أنّها مِن اختلاقِ الشِّيعة الرّوافِضِ،وأحس َِبُ أنّهم مَن أمعَنَ في حَبْكَها،ونسجِ خُيوطِها في قَديم الدّهر،وغابرِ الزّمان؛فعلَّها مِن أَكاذيبهم وافتراءاتِهم؛ول ا غَرْوَ في ذلك فها هي كتبُهم طافِحَةٌ بالكذبِ والافتراء على اللّه تعالى،ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والصّحابة خاصّة،ولِلَّهِ دَرُّ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميّة إذ قال في نَعْتِهم: إِنَّهم أَكذبُ الطَّوائِفِ[8]!.
ومثلُ هذه الفِرْيَةِ لا يجوزُ ذِكرُها ولا نشرُها إلاّ على سبيل التَّحذيرِ منها،شأنَ الأحاديثِ الضّعيفةِ والموضوعةِ. ولعلّ المُتَّهمَ بوَضعِها الرّافضيُّ ‏نعمةُ الله الجزائريّ (ت:1112هـ)، حيث أَوردَها في كتابه الأَنوار النُّعمانِيّة (3/ 30 –31)‏ ،وصدَّرَها بقوله:(وقد حَكَى عمرُ بنُ الخطّاب فيما ‏رُوِيَ عنه)‎،و‏ساقَها العقّادُ في كتابه: عَبقريَّةُ عمر ‏(ص204 – 205 ‏عمر في بيته) بغيرِ إسنادٍ،وشَكَّكَ في صحَّتِها بما أَورده مِن اعتراضاتٍ في تَفنيدِها.
ومسألةُ الطّعنِ في الصّحابة عن طريقِ اختلاقِ القَصَص كثيرةٌ جدًّا مِن قِبَل الشِّيعةِ خاصّةً؛لذا ينبغي على المسلم أن يتثبَّتَ ويتبيَّنَ في جميعِ ما عسى أنْ يقرَعُ سمعَه،أو يمُرَّ بناظِرِه من وسائِلِ وأدواتِ اكتساب المعرفة على اختلافِها وتنوُّعِها.
يتبع ...
الهوامش:

[1] - من كلام التّابعي الجليل عبد الله بن المبارك رحمه اللّه تعالى ورضي عنه.
[2] - مسند أحمد (ج29 ص315 رقم 17777 - ص349 رقم 17813 - ص360 رقم 17827 الرّسالة)، الثَّمر المُستطاب (1/ 55 كتاب الصّلاة/المواقيت).
[3] - رواه البخاريّ (المقدّمة ص495 فتح) و (14/ 264 رقم 6921 فتح)،ومسلم (1/ 2/ 135 – 136 نوويّ).
[4] - مستدرك الحاكم (4/ 14 - 15 رقم ‏6752 )،‏الإصابة (4/ 265 رقم 296 الحاء).
[5] - كإِخوانِها وأخواتِها وعمومتِها وخُؤولَتِها و ... ‏
[6] - عمر والتّشيُّع (ص33 – 34).
[7] -‏ السّلسلة ‏الصّحيحة (7/ 1/ 877 رقم 3298). ‏
[8] - مجموع الفتاوى (11/ 259) و (13/ 112) و (22/ 247).