اللغة العربية لسان وكيان
أحمد محمد جمال
قبل أن نتحدث عن (اللغة العربية) كلسان للأمة العربية خاصة، وللعالم الإسلامي الأكبر بصفة عامة، وأثرها العميق الوثيق في تكوين كيان الأمة الإسلامية عقيدةً وشريعةً، وخُلقاً وتعاملاً وارتباطاً..
اختلف الباحثون في نشوء اللغات: هل هو توقيفي؟ أم تواضعي؟ ويقول ابن فارس في كتابه ((فقه اللغة)): إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} أي الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرضٍ وجبلٍ وسهل وأشباه ذلك.. ويوضح ابن فارس معنى أن اللغة توقيف بقوله: "وليس معنى ذلك أن اللغة كلها جاءت جملة واحدة، وإنما المعنى أن الله علم آدم ما شاء، ثم علّم بني آدم بعده ما شاء أيضاً حتى انتهى الأمر إلى نبيِّنا ((صلى الله عليه وسلم))، فآتاه الله ما لم يؤت أحداً من قبله".
أما ابن جنّي فيقول: في كتابه ((الخصائص)): ((إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة، وذلك بأن يضع حكيمان أو ثلاثة لكل واحدٍ من الأشياء سمةً ولفظاً)).
حقيقة التلازم بين الإسلام والعربية
والآن نتحدث عن حقيقة الارتباط الوثيق بين اللغة العربية والإسلام، وأسراره وآثاره.. إن الواقع التاريخي للغة العربية وللدين الإسلامي – خلال أربعة عشر قرناً – يثبت حقيقة التلازم والارتباط بين انتشار كل منهما وازدهاره بمساعدة الآخر.
هذا إلى جانب حقيقة أخرى واضحة وثابتة هي: أن في كل من الدين الإسلامي واللغة العربية من القوة الذاتية والاستعداد الأصيل ما يكفل له الغلبة والانتصار.
فاللغة العربية – ذاتها – لغة حية أدت رسالتها في الحياة خير أداء، وعبّرت في عصورها الأولى عن حاجات المجتمعات التي تتخذها لغة لها تعبر بها عن مطالبها وآلامها وعلومها وآدابها وفنونها، وما زالت مستعدة للتعبير عن الحياة وما جدَّ فيها، ومستعدة أن تتسع أكثر من ذي قبل لكل جديد مبتكر ومخترع حديث كما يقول الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في كتابه ((الفصحى والعامية)).
واللغة العربية أيضاً – من أغنى لغات البشر ثروة لفظية تستوعب حاجات الأمة الحسية والمعنوية – كما يقول الأستاذ مصطفى السقا في مقدمة كتاب ((المعجم العربي)) للدكتور حسين نصار.
والعرب منذ أواخر العصر الجاهلي مهتمون بلغتهم معتزون بتراثها الأدبي، وقد قيل: ((الشعر ديوان العرب)) ولكن اهتمامهم واعتزازهم بها ازداد مع ظهور الإسلام لأن الله عز وجل اختارها لغة لدينه؛ قرآناً، وسنةً، وعبادةً، وتشريعاً.. وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، ثم تضاعف الاهتمام والاعتزاز باللغة العربية وحفظ التراث اللغوي وتنقيته من الدخيل الأعجمي أثناء الفتوحات الإسلامية وبعدها. وعلى الرغم من أن الاستعمار الغربي كان يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي الذي ما يزال يحاول هدمه بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامية لغة للتأليف والكتابة كما فعل اللورد ((دفرين)) السياسي البريطاني حين طالب بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية. وكما حاول المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، إلا أن هذه الدعوات والمحاولات الاستعمارية قَد باءت بالخيبة والفشل والخسران المبين.
وننتقل الآن إلى الحديث عن أثر الإسلام في انتشار اللغة العربية وسنروي أقوال بعض أئمة اللغة والأدب مختصرة عن حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام.
نبدأ بالأزهري الإمام اللغوي المشهور فهو يقول في مقدمة كتابه ((تهذيب اللغة)): "الحمد لله، على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا إلى تدبر تنزيله، والتفكر في آياته، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والبحث عن معانيه، والفحص عن اللغة العربية التي نزل بها الكتاب، والاهتداء بما شرع فيه، ودعا الخلق إليه وأوضح الصراط المستقيم به، وهداهم إلى ما فضلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغات العرب التي نزل بها القرآن ووردت سنة المصطفى النبي المرتضى عليه السلام".
هذا النص من مقدمة ((التهذيب)) لأحد أئمة اللغة الأعلام كاف لأن نتبين الباعث الأساسي على الاهتمام باللغة العربية، وتدوينها وتصحيحها ونشرها ألا وهو ((الإسلام)) قرآناً وسنةً وعبادةً وتشريعاً.
والقرآن نفسه، قبل كلام الأزهري وأمثاله من علماء اللغة، يؤكد حقيقة هذا الباعث الأساسي للاهتمام باللغة العربية والاعتزاز بتراثها العلمي والأدبي. فقد منّ الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى العرب الذين بعث فيهم ومنهم بقوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}. {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}. {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}. {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} الخ...
فنزول القرآن الكريم بالعربية – كما يتضح من آيات القرآن نفسه – دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. وهي – أيضاً – لأنها أغنى اللغات بياناً وأقواها برهاناً كانت ولا تزال عاملاً مساعداً لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلاً على ذلك اختيار الله لها لساناً لدينه العام والأخير، وهو الإسلام وَمَنُّه بذلك على العرب خاصة والمسلمين عامة.
وقد رُوي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه. (كما نقل عن الإمام ابن تيمية قوله:"إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ويقول الأزهري في مقدمته: إن تعلّم العربية التي يتوصل بها إلى تعلم ما تجزئ به الصلاة من تنزيل وذكر فرض على عامة المسلمين. وإن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها التي بها التوصل إلى معرفة ما في الكتاب (القرآن) ثم في السنة والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغريبة، فإن الجهل بذلك جهل بجملة علم الكتاب الخ.
ثم يذكر الأزهري أن من أسباب قيامه بتأليف كتابه: النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين، كما جاء بها التوجيه النبوي: (الدين النصيحة) أي أن دينه حَمَله على أن يضع كتابه في اللغة العربية لإفادة الناس ما يحتاجون إليه، والدفاع عن لغة العرب التي جاء بها القرآن، وجاءت بها السنن والآثار..
ويقول الأستاذ العقاد رحمه الله في مقدمة كتاب (الصحاح) للأستاذ العطار: "ولقد قيل كثيراً إن اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن. وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة لأن الإسلام دين الإنسانية قاطبة وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل. وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية أو لغة كتاب يدين به قومه، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتخرجها من حظيرة العصبية الضيقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون".
ثم يضيف الأستاذ العقاد: ((إن هذه الفضيلة الإنسانية التي لا تفرق بين العربي والأعجمي ولا بين القرشي والحبشي، لهي التي أنهضت لخدمة اللغة أناساً من الأعاجم غاروا عليها من حيف الأعجمية – أي أنهم غاروا عليها من لغة أمّهاتهم وآبائهم، لأنها لغتهم على المساواة بينهم وبين جميع المؤمنين بالقرآن الكريم كتاب الإسلام.
ويقول العقاد أيضاً: وستبقى اللغة العربية ما دام لها أنصار يريدون لها البقاء. ولم ينقطع أنصارها في عصرنا الحاضر بل نراهم بحمد الله يزدادون ويتعاونون. ويتلاقى أبناء البلاد المختلفة على خدمتها ودعمها، لأنهم مختلفون بمواقع البلاد متفقون بمقاصد الضمائر والألسنة والأفكار).
إن العقاد يعني بما قدَّم: أن إنسانية الإسلام وعالمية تشريعه الحكيم هي التي ساعدت على انتشار اللغة العربية التي هي لغة كتابه ((القرآن)) الذي وحّد في المؤمنين به ((مقاصد)) الضمائر والألسنة والأفكار، على الرغم من اختلافهم في مواقع البلاد..
ويقول الدكتور حسين نصار في ((المعجم العربي)) لم تنهر اللغة العربية بانهيار الدولة الأموية وذلك بفضل القرآن الذي أحاط العربية بهالة من القداسة والجلال غمرت كل مسلم مهما كان جنسه ومهما كانت لغته، فاستمرت حية تتوارثها ألسنة جيل بعد جيل. وأن السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية هو ارتباطها بالدراسات الدينية، واتحادها في النشأة... فقد أنزل القرآن كتاب العربية الأعظم على الرسول العربي الكريم [صلى الله عليه وسلم] ليدعو قومه إلى سبيل الرشاد فكان بلغتهم وعلى أساليب كلامهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده المرجع في تفسير القرآن، ثم جاءت الحركة العلمية الأولى عند المسلمين التي شملت في مدة وجيزة جميع العلوم التي عرفها العالم القديم، فما اتصل بالقرآن كان أولها ظهوراً حيث ظهرت كتب (غريب الحديث) وكان آخر الظواهر التي أمدَّت الدراسات اللغوية بالروافد ظاهرة التدوين العلمي حيث وضعت معظم العلوم العربية في أواخر العصر الأموي وأوائل العهد العباسي: كعلوم القرآن والحديث والفقه والأصول والنحو والرياضة والمنطق والكلام والفلسفة الخ..)).
في كتابه ((المستقبل لهذا الدين)): "إن انتصار الصليبيين في الأندلس وانتصار اليهود في فلسطين.. أعظم مشاهد على أنه حين يُطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى لغته ولا قوميته بعد اقتلاع الجذر الأصيل".
ويقول أيضاً: "إن المماليك – وهم من جنس التتار – حموا من التتار بلاد العرب، مع أنهم ليسوا من جنس العرب، فصمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين دفاعاً عن الإسلام، لأنهم كانوا مسلمين.. صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف.. وكذلك حمى صلاح الدين الأيوبي هذه البقعة من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية وهو كردي لا عربي.. وهو إنما حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين، لقد كان الإسلام في ضمير صلاح الدين هو الذي كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير المظفر قطز والظاهر بيبرس والملك الناصر هو الذي كافح التتار المتبربرين".
ولغير العرب وغير المسلمين شهادات مماثلة: يؤكد جورجي زيدان في كتابه (آداب اللغة العربية) تأثير القرآن في أخلاق أهله وعقولهم وقرائحهم ومعاملاتهم. فالصبغة القرآنية أو الإسلامية – كما يقول – تظهر في مؤلفات المسلمين، ولو كانت في موضوعات علمية.. كالفلسفة والفلك والحساب، فضلاً عن العلوم أو الآداب الشرعية.
وبعد أن يشير جورجي زيدان إلى تأثير القرآن في حياة المسلمين المعاشية والاجتماعية يقول: "... وهذا ما لا نراه في الأناجيل – مثلاً – فإنها كتب تعليمية لمصلحة الآخرة فقط. ولا نجد فيها شرعاً، ولا حكومة ولا أحوالاً شخصية.. أو نحو ذلك". ثم يضيف: "وبالجملة فإن للقرآن تأثيراً في آداب اللغة العربية، ليس لكتاب ديني مثله في اللغات الأخرى".
وجورجي زيدان هذا – كما نعلم – كاتب مسيحي معروف.. فاعترافه بتأثير القرآن على المُسلمين خلقاً وأدباً ولغة وثقافة، وخلو الكتب الأخرى، ومنها الأناجيل، من هذا التأثير – اعترافه هذا له قيمته الكبيرة، ودلالته الخاصة.
وفي كتاب ((اللغات السامية)) لارنست رينان تأكيد آخر لأثر الإسلام في انتشار اللغة العربية، فهو يقول: "إن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية.. حيث بدت فجأة في غاية السلامة والغنى والكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة. ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم إلى اللغة العربية ليفهمها النصارى".
كما يقول المستشرق برنارد لويس في كتابه ((العرب في التاريخ)): "إن موجات الفتح الكبرى التي تلت موت محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الخلافة على أرس الأمة الإسلامية الناشئة قد سطرت بحروف كبرى كلمة ((عرب)) على خريطة القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وجعلت منها عنواناً لفصلٍ حاسم رغم قصره، في تاريخ الفكر والأعمال البشرية".
نكتفي بهذه الآراء والنظريات الحاسمة، لبعض أئمة اللغة والأدب والتاريخ – في القديم والحديث – مسلمين وغير مسلمين.. كحجة ساطعة على مدى التلازم الوثيق والارتباط الشامل بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام، لأنها لسانه المبين، ولغته الساحرة، ولأنه هو روحها النافذ وعقلها الرشيد.
يتبع