دولة الإسلام في الأندلس نموذج في القوة والخسران
أحمد الشجاع
أهم درس في قصة الدولة الإسلامية الأندلسية هو أن الصراع الداخلي مدخل لانهيار الدولة والأمة، وأن هذا الصراع منشأه الأهواء وتغليب المصالح الذاتية على مصلحة الجميع.
فقد أثبت المسلمون هناك في البداية أنهم قادرون على بناء دولة قوية وعظيمة ولو بعيداً وفي أرض أعدائهم؛ وذلك عندما تكون الغاية والوسيلة في خدمة الإسلام، وأهم وسيلة الاعتصام بحبل الله وتوحيد الصف.
ولكنهم أثبتوا أيضاً أنهم أسرع ما يكونون إلى الضعف والسقوط عندما تنحرف الغاية عن مسارها الصحيح، وتُستغلُ الوسائل في الوصول إلى الغاية المنحرفة..وكلما تحولت المصلحة العامة إلى مصالح مجزأة وأطماع ذاتية في شخص أو فئة أو جماعة؛ فإنها بالضرورة ستؤدي إلى نزاع وصدام بين أصحاب المصالح الضيقة؛ وبالتالي إلى فرقة وشتات يكون المستفيد الأول العدو الذي لن يُعدم مِن مستعين به في عمليات الصراع الداخلي.
ويلخص هذا التقرير مسار الدولة الإسلامية في الأندلس منذ نشأتها وحتى سقوطها.. ومن السياق يمكن الخروج بنتيجة توضح أن الانقسام الداخلي كان بداية سقوط هذه الدولة بيد الأعداء.. وأن التنازع والفشل متلازمان.
فتح الأندلس
يمكن تلخيص مسار الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس على النحو التالي:
أُطلقت كلمة أندلس على شبه الجزيرة الإبيرية التي تشمل حالياً دولتي إسبانيا والبرتغال، وسماها العرب بالأندلس نسبة إلى سكانها عند الفتح الإسلامي وهم (الوندال)، فأصبحت تطلق كلمة الأندلس على المناطق التي كانت تحت الحكم الإسلامي والتي لا يفصلها عن المغرب العربي سوى جبل طارق.
تولى موسى بن نصـير عام 89هـ الموافق 707م حكم المغرب خلفاً لحسّان بن النعمان الذي عُزل لخلاف بينه وبين والي مصر..وثار البربر مع بداية حكمه، ولكنه قمع ثورتهم بعنف، وافتتح طنجة التي اعتصم بها آخر فلولهم، وولّى عليها طارق بن زياد. وانتهج سياسة حكيمة لوقف انتفاضات البربر المتكرّرة، وهي إدخالها في الإسلام. ونجح في استمالة البربر إلى الإسلام، وانضم الآلاف منهم إلى جيشه.
وأنشأ أسطولاً ضخماً لحماية الثغور من هجمات الروم، وبدأ بمهاجمة الجزر والقواعد البحرية قُبالة الساحل الأفريقي، فغزا جزائر البليْار، وهاجم صقلّية وسردينيْا. ولم يبق خارج نفوذه سوى ثغر سبتة شرقي طنجة، إذ كانت حصينة.
كانت الجزيرة الإيبيرية - قبل دخول الإسلام إليها - تعيش تحت حكم الغزاة القوط، وقد استنجدوا بالمسلمين حينما وصلوا إلى المغرب، فأنجدهم قائد الجيوش الإسلامية في المغرب موسى بن نصير بإرسال أحد قواده وهو طارق ابن زياد على رأس جيش أغلبه من المغاربة. فساند الأهالي هذا الجيش، وتحررت الجزيرة بأكملها بين عامي 711 و 713م.
وقد أصبحت المنطقة الجديدة مقاطعة تابعة لولاية المغرب في الدولة الإسلامية التي كانت القيروان عاصمتها. لكن المسلمين أهملوا منطقة صغيرة في الجبال الوعرة شمال البلاد اتخذت منطلقاً للغزو النصراني الذي قضى على دولة المسلمين في الأندلس مع مر العصور، حسب دراسة للدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني من كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي.
وكان الفتح الإسلامي للأندلس قد بدأ على يد طارق بن زياد سنة 92هـ/ 711م، ثم تبعه موسى بن نصير سنة 93هـ. واستمر العهد الأول (عهد الفتح) للفترة 92 - 95هـ/ 711 - 714م، وتم فتح أراضٍ واسعة جداً في الجزيرة الإبيرية.
وبدأ العهد الثاني، وهو عهد الولاة (95 - 138هـ/ 714 - 756م). وكانت الأندلس في هذا العهد تابعة للخلافة الأموية حتى سقوطها..
وفي بداية الفتح وقعت معركة (وادي لكة) - أواخر رمضان من عام 92هـ - بين المسلمين بقيادة طارق ابن زياد والقوط بإسبانيا (الأندلس) بقيادة ملكهم رودريك..وعرفت هذه المعركة أيضاً بمعركة شريس.
وترجع أسباب هذه المعركة إلى الآتي: عندما عين الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير والياً على أفريقيا، أخضع ساحل شمالي أفريقيا كله لسلطان المسلمين عدا مدينة سبتة التابعة للقوط الغربيين حكام أسبانيا. وبينما كان يحاول فتحها فاوضه حاكمها المسمى يوليان على الصلح، وعرض عليه أن يساعده على حرب إمبراطور إسبانيا رودريك ويسميه المسلمون لذريق.
استشار موسى الخليفة الوليد بن عبدالملك في هذا العرض، فوافق ونبه موسى إلى أهمية أخذ الحذر والاحتياط؛ خشية أن يكون في الأمر خدعة..عبر طارق بحر الزقاق الذي عرف باسمه في سفن يوليان حاكم سبتة عام 92هـ الموافق 711م، وأرسى سفنه عند صخرة الأسد التي تُعرف الآن باسم جبل طارق.
ثم أخذ في التقدم إلى الداخل حتى وصل بحيرة لاينده، وعندما علم بحشود ملك القوط رودريك لملاقاته، طلب المدد من ابن نصير فأمده بسفن وخمسة آلاف جندي ليبلغ جيشه اثني عشر ألفًاً، انضم إليهم يوليان حاكم سبتة في قوة صغيرة، وكان جيش القوط ضِعف هذا العدد.
والتقى الجيشان على ضفاف وادي لكة، ودارت المعركة على مدى ثمانية أيام، وهُزِم القوط، ويقال إن قائدهم فريدريك مات غرقاً، إذ لم يعثر له على أثر.
ونتج عن هذه المعركة أن تقدم طارق إلى الداخل بعد تقسيم جيشه إلى أربع فرق، احتلت إحداها مدينة قرطبة، واحتلت الثانية غرناطة، واحتلت الثالثة مالقة، واحتلت الفرقة الرابعة بقيادة طارق نفسه مدينة طليطلة عاصمة القوط. وتتبع حامية العاصمة التي فّرت إلى مدينة المائدة ففتحها واستولى على كنوز طليطلة المخبأة بها. وبهذا كانت معركة وادي لكة مفتاحاً لفتح بلاد الأندلس (إسبانيا).
أراد ابن نصير أن يكون له شرف فتح الأندلس ونيل نصيب من غنائمها؛ لذا طلب من طارق التوقف عن الزحف. ولكن طارقا رأى أن من الحكمة العسكرية أن يستمر في الغزو. ولم ير موسى بُدَّاً من اللحاق بالأندلس، فبدأ زحفه بالاستيلاء على مدينة شذونة ثم قرمونة ثم أشبيليَّا عاصمة الرومان القديمة وأعظم مدن أسبانيا، ثم ماردة.
والتقى البطلان في ُطليطلة، وعاقب موسى طارقًا وسجنه، وتدخل الخليفة لإطلاقه، ثم سارا بعدئذ لفتح شمالي الأندلس، مثل: أرغونة و قشتالة وكتالونيا، وسرقسطة، وبرشلونة، حتى بلغا جبال البرانس، فتم بذلك فتح الأندلس ماعدا الأقاليم الجبلية في الشمال الغربي التي لجأ إليها أشراف القوط.
هكذا – يقول الدكتور علي منتصر الكتاني - وبعد الفتح أخذت الهجرة الإسلامية تنتقل إلى الأندلس بأعداد صغيرة من المشرق العربي، وبأعداد كبيرة من شمال المغرب الأقصى المجاور..وكثرت أعداد المسلمين وارتفعت نسبتهم بين السكان باعتناق الأهالي الإيبيريين الإسلام بصفة جماعية.
وعندما قدم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس كانت نسبة المسلمين قد ارتفعت، وبذلك استطاع أن يؤسس دولة أموية قوية في الغرب اتخذ عاصمة لها مدينة قرطبة الواقعة على الوادي الكبير.
وقد أصبح المسلمون أغلبية في البلاد أيام الحكم الأموي حين وصلت الأندلس إلى أوج حضارتها وقوتها، لا تضاهيها دولة في أوروبا آنذاك.
أما النصارى فعادوا أقلية صغيرة أضاعت لغتها وتعربت واتخذت الأسماء العربية أسماءً لها. لكن هذه الأقلية بقيت كطابور خامس داخل الدولة الإسلامية مستعدة للانقضاض على البلاد في حالة ضعفها والتعاون مع كل غاز ومهاجم.
ونظم النصارى الخارجون عن الدولة أنفسهم في إمارات جبلية نائية شمال غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، ووصلت الدولة الأموية إلى أوجها أيام عبد الرحمن الناصر الذي حكم البلاد 49 سنة.
وبما أن الأندلس كانت ولاية تابعة للخلافة الأموية فقد كان بديهياً أن تتأثر بما يجري من أحداث ومتغيرات في مركز الخلافة. فكانت الأندلس قوية ما دامت الخلافة قوية متماسكة، واستمرت الأندلس على هذه الحال طيلة فترة ثلثي عهد الولاة.
ولكن ما أن دب الضعف والانحلال في الخلافة الأموية حتى انعكس ذلك على ولايات الخلافة، ومنها الأندلس الولاية البعيدة عن مركز الخلافة والمحاطة بالأعداء من عدة جوانب، حسب دراسة الدكتور خالد إسماعيل نايف الحمداني.
ففي سنة 126هـ/ 744م اجتاحت الخلافة الأموية الفتن والاضطرابات على إثر مقتل الخليفة الوليد بن يزيد في العام المذكور. وتولى الخلافة مروان بن محمد، حيث انشغل بمجابهة الفتن والاضطرابات الواسعة التي واجهته، ولم يراع ما يدور في أقاصي البلاد؛ فوقع الاضطراب بأفريقيا والاختلاف بالأندلس.
واستمرت حالة الأندلس مضطربة، بالرغم من قيام الخلافة العباسية (132هـ/ 750م) التي كانت في فترتها الأولى منشغلة بأحداث الشرق؛ فبقي الأمر بالأندلس سدى.
ازدادت الأوضاع في الأندلس تدهوراً وتهدد الوجود العربي الإسلامي فيها، إذ استغلت دولة إسبانيا الشمالية الفرصة محاولة ضم بعض المقاطعات الأندلسية، وكذلك حاولت مملكة الفرنجة التوسع على حساب الأندلس.
فرأى أهل الأندلس ضرورة جمع كلمتهم على يد زعامة قوية، فقدموا يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فاتفقوا على تقديمه بصورة مؤقتة لمدة عام ينتقل الأمر إلى حيث كان يوسف من المضرية أو يأتي أمر الخلافة العباسية، ولكن انشغال الخلافة بالمشرق لم يتح لها النظر في أمر الأندلس. فاستغل يوسف الفهري الظروف محاولاً الاستبداد بحكم الأندلس؛ فعادت الخلافة الداخلية مرة أخرى وشاع الانقسام مرة ثانية.
هروب عبد الرحمن الداخل من الشام إلى الأندلس
بعد سقوط الخلافة الأموية بيد العباسيين هرب من بلاد الشام عدد من أفراد البيت الأموي خشية الوقوع بأيدي العباسيين.
ومن الذين هربوا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان - الملقب بصقر قريش، ويعرف بـ(الداخل) لدخوله الأندلس - الذي هرب بأعجوبة من أيدي العباسيين، فاختفى برهة من الزمن في أحد بساتين الفرات.
ولما شعر بقرب العباسيين عبر الفرات، واتجه بعد ذلك إلى فلسطين وتركها متوجهاً إلى مصر ولم يمكث طويلاً إذ خشي من ملاحقة العباسيين فتركها متوجهاً إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين، فاستقر أولاً في برقة.
وكانت هناك دوافع في توجه عبد الرحمن نحو أفريقيا، منها:
- بُعدها عن العباسيين، حيث لم تمتد أيديهم؛ فكانت دار أمن للأمويين الهاربين من العباسيين.
- وقد يكون للدم دور، حيث كان في أفريقيا أخوال عبد الرحمن وهم قبيلة نفزة.
- ربما كان لنبوءة مسلمة بن عبد الملك دورٌ في دفع عبد الرحمن إلى المغرب، حيث قال عنه: "فإنه صاحب بني أمية ومحيي دولتهم بعد زوالها".
- كانت أفريقيا تموج بالفتن والخارجين، فربما رغب في استمالتهم له.
- ربما يكون قصْدُه منذ البدء الأندلس، فكانت أفريقيا محطة أولى له، إذ كان اهتمامه بالأندلس منذ خلافة هشام بن عبد الملك؛ إذ وهب له جميع أخماس الخلفاء في الأندلس. فربما ولد ذلك عند عبد الرحمن حباً وشغفاً واهتماماً بالأندلس.
وكان على أفريقيا عبد الرحمن الفهري الذي أعلن انفصاله عن العباسيين ورحب بالأمويين الهاربين في البدء؛ في سبيل اتخاذهم واجهة لمعارضته الخلافة، ولكنه بدل سياسته الترحيبية بعد كثرتهم فضيق عليهم.
فانتقل عبد الرحمن من برقة إلى قبيلة مكناسة، ومنها التحق بمليلية، ثم انتقل إلى قبيلة زناتة على شاطئ البحر، ممهداً لنفسه الوصول إلى الأندلس حيث لم يجد في أفريقيا ما يحقق حلمه.
فتوجهت أنظاره منذ 136هـ/ 753م نحو الأندلس، وبدأ خطوته العملية الأولى في سبيل تحقيق هدفه، فوجه مولاه بدراً إلى الأندلس ليضع أساس حركته، فحمله كتاباً إلى موالي الأمويين في الأندلس يخبرهم أمره وعارضاً فكرته، فاستجاب لدعوته بعض رؤساء الأمويين، وأخذوا يبثون له ذكراً مستغلين سوء حالة الأندلس سياسياً راغبين في تزعمها، فانضمت اليمنية تحت دعوة عبد الرحمن.
وبعد هذا النجاح سار أحد عشر رجلاً من أنصار بني أمية ومعهم بدر على مركبٍ نحو عبد الرحمن الذي كان بانتظار بدر على شاطئ البحر، ناقلين له الأخبار السارة ويدعونه إلى التحرك نحو الأندلس.
توجه عبد الرحمن بن معاوية على أثر عودة بدر بأخباره السارة إلى الأندلس ونزل في جنوبها، حيث توافد عليه المؤيدون والأتباع خاصة من موالي الأمويين واليمنية. وما هي إلا فترة قصيرة حتى أصبح جنوب الأندلس جميعها مؤيداً لعبد الرحمن.
بدأ عبد الرحمن على أثر ذلك التحرك السريع لاستلام الحكم في الأندلس، وعزم حاكم الأندلس يوسف الفهري والصميل على التحرك لمواجهة التحرك الأموي؛ ولكنه شعر بحالة جيشه غير المشجعة للقتال، فسلك طريق المفاوضة مع الأمير الأموي الذي دفعه موقفه القوي إلى رفض ذلك، وأصر على المنازلة العسكرية.
ودارت معركة المسارة بين الطرفين قرب قرطبة، فانكسر يوسف الفهري وجيشه وانسحب إلى غرناطة وتبعه عبد الرحمن ونازله فيها وهزمه هزيمة نكراء، فدخل عبد الرحمن بن معاوية - على أثر ذلك - قرطبة عاصمة الأندلس في عيد الأضحى 138هـ/ 755م.
بعد انتصار عبد الرحمن في معركة المسارة بويع أميراً على الأندلس فحقق بذلك حلمه وأعاد مجد الدولة الأموية من جديد، معلناً بذلك انتهاء عهد الولاة بالأندلس وبِدْء عهدٍ جديدٍ فيها، وهو عهد الإمارة الأموية الذي استمر من 138 إلى 316هـ.
العوامل التي ساعدت عبد الرحمن على النجاح
يمكن إجمال عوامل نجاح الداخل في تحقيق هدفه بما يأتي:
- نجاح بدر مولى الداخل في مهمته السرية الأولى (136 - 138هـ/ 753 - 755م)، فكان عبد الرحمن موفقاً في اختيار بدر، إذ عرف كيف يتحرك وينشر دعوته.
- وجود موالي الأمويين بكثرة في الأندلس؛ فتقبلوا الدعوة وتحمسوا لنشرها محاولين إعادة مجد الأمويين راغبين في تزعم الأندلس.
- اشتداد الصراع بين اليمنية والمضرية واستبداد يوسف الفهري بالحكم، حيث كان من المضرية؛ مما دفع اليمنية إلى الانضمام إلى حركة الداخل.
- رغبة الناس في وضع حد لفوضى الأندلس.
- ميول الناس لعبد الرحمن؛ لكونه من بيت الخلافة الأموية.
- شخصية عبد الرحمن الداخل وشجاعته وصبره وجرأته.
لقد شكل قيام الإمارة الأموية في الأندلس (138هـ/ 755م) انفصال هذا الجزء عن الخلافة العباسية (سياسياً)..ومع هذا - يقول الحمداني - فقد وردت أخبار كثيرة ومختلفة عن علاقة الأمويين (والداخل بالذات) بالخلافة العباسية. فقد جاءت رواية أكدت أن الأمراء الأمويين كانوا يدعون ويخطبون للعباسيين بدءاً من عبد الرحمن الداخل إلى أن جاء الناصر فأبطل ذلك، حيث تسمى بالخليفة أمير المؤمنين، وخطب لنفسه، وكان من تقدمه من آبائه يخطبون لبني العباس.
إلا أن هذه الرواية - والكلام للحمداني - لا نستطيع التسليم بها، إذ لم تعاضدها روايات أخرى من مصادر أندلسية أو غير أندلسية. فهذه الرواية ليس لها ما يدعمها تاريخياً. في حين يذكر ابن عذاري أن عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين نهائياً.
وعاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة.. فلما مات سنة 172هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده، فقد تولاها ابنه هشام، ثم عبد الرحمن الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم.
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان، نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الإسلام، وطلبت ودَّ الدولة المماليكُ النصرانية المحيطة بها، وأصبحت قرطبة والمدن الأندلسية الأخرى كعبة العلوم ومقصد طلاب العلم، وعواصم الثقافة العالمية الراقية.
وفي سنة 350هـ مات عبد الرحمن الناصر، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب، وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة أم الخليفة "صبح"، وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة، مكوناً خلالها الدولة المنسوبة إليه والمسماة بالدولة العامرية.
ثم عادت أمور الأمويين إليهم خلال فترات قصيرة قلقة، إلى أن قضي عليهم قضاءً أخيراً في الأندلس سنة 422هـ.
وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككاً وضعفاً وانحداراً نحو هاوية السقوط.
وهنا يقول الدكتور عبد الحليم عويس: إن هناك عاملين بارزين أديا إلى القضاء على الأمويين في الأندلس:
أولهما: أن هؤلاء الأمويين لم يفهموا طبيعة التكوين الأندلسي، أو فهموه ولم يقوموا بما تتطلبه طبيعته. وأبرز سمات هذا التكوين وجود النصارى في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم، لا يجمعها إلا أقوى وشيجة وهي الإسلام. ولم يكن هناك من حل حضاري لمواجهة طبيعة هذا التكوين إلا تعميق "الإسلامية"، وتجديدها بين الحين والحين بحركات جهاد مستمرة ضد المماليك النصرانية المتحفزة، وفي الوقت نفسه تُوقِف النصارى عند حدودهم وتجعلهم في موقف الدفاع لا الهجوم.
والعامل الثاني البارز: هو ترك بعض هؤلاء الخلفاء الأمور لحُجَّابهم أو نسائهم؛ مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد.
ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه أن الدولة التي لا تفهم طبيعة تكوينها، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية، تكون معرضة للزوال.. وهذا هو الأمر الذي آلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعد حياة دامت قريباً من ثلاثة قرون..
إعلان الخلافة الأموية في الأندلس (316هـ/ 929م)
كان عبد الرحمن الداخل ومنذ نجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس لم يتلقب بلقب أمير المؤمنين، وإنما لقب بـ "الأمير". وكذلك بـ"ابن الخلائف"، وعلى هذا سار بنوه من بعده إلى أن جاء عبد الرحمن الناصر الذي استمر يتلقب بالأمير للفترة من 300 إلى 316هـ. وبعد ذلك لقب أمير المؤمنين، وأعلن الخلافة الأموية في الأندلس.
وحول الظروف التي أحاطت بالأمير عبدالرحمن الداخل وخلفائه إلى عهد الناصر وحالت دون إعلانهم الخلافة، ذكر الدكتور الحمداني منها:
ـ عدم رغبة الداخل وخلفائه من بعده إلى عهد الناصر القيام بعمل يثير عليهم بشكل مباشر الخلافة العباسية التي كانت في أوج قوتها. وربما لم يكن هذا اللقب ضمن طموحات الداخل وخلفائه قطعاً، بالإضافة إلى خشيتهم من تقسيم العالم الإسلامي.
ـ إن ظروف العالم الإسلامي كانت تشهد قيام إمارات متعددة منفصلة أو متصلة بالخلافة العباسية ولكنها لم تشهد ظهور خلافة إسلامية ثانية، وظلت الخلافة العباسية تحافظ على سلطانها على العالم الإسلامي.
ـ عدم استعداد المسلمين في هذه المرحلة لتقبل قيام أكثر من خلافة إلى جانب الخلافة العباسية القوية، والداخل بالرغم من حزمه وطموحه كان يميل إلى مراعاة شعور الناس الذين كانوا ينظرون بأحقية الخلافة إلى من بيده الحرمان الشريفان (مكة والمدينة)، فلم يقدم الداخل على إعلان الخلافة "تأدباً مع الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب".
ولكن في عهد الناصر استجدت ظروف سمحت له بالتلقب بأمير المؤمنين وإعلان الخلافة الأموية. وقد أصدر كتاباً للأمة يبين فيه أحقيته بالخلافة، وبرر فيه أسباب تلقبه بأمير المؤمنين.
وتسمى خلفاء بني أمية في الأندلس بالخلائف بدل الخلفاء إبقاءً على وحدة العالم الإسلامي، وكان عبدالرحمن الناصر اتخذ لقب الخليفة سنة 316هـ. واستمر هذا اللقب بالأندلس إلى عهد ملوك الطوائف، حيث تلقب الظافر بن ذي النون سنة 423هـ بـ(ذي الرئاستين) ليعلو على لقب (ذي الوزارتين) الذي لقبه به الخليفة الأموي.
وكانت العاصمة مركز الخليفة ودار إقامته، كما كانت المدن والكور الأندلسية مستقلة إدارياً عن العاصمة قرطبة، إذ لم يحرص الأندلسيون على النظام المركزي؛ لأن طبيعة البلاد تتنافى مع التركيز الإداري؛ ولذلك كان الولاة والقواد لهم قسط كبير من النفوذ المحلي وحرية التصرف عملاً بنظام اللامركزية.
ويمكن إجمال أسباب إعلان الناصر الخلافة الأموية سنة 316هـ بما يأتي:
ـ ما بلغته الأندلس في عهده (300 ـ 350هـ/ 913 ـ 961م) من قوة وازدهار وتماسك، حيث كان لعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (الناصر) دور كبير في ما وصلت إليه الأندلس، وبما يملكه من قدرة إدارية وبراعة سياسية، فنجح في القضاء على الفتن والاضطرابات وقضى على المتمردين الخارجين على سلطان الإمارة.
ووضع حداً لتحرشات الدول الإسبانية على الأندلس.. وتأكيداً لقوة الأندلس هذه على الصعيدين الداخلي والخارجي رأى من المناسب إعلان الخلافة.
ـ كانت ظروف العالم الإسلامية تسمح له بمثل هذا العمل، إذ لم تعد تلك النظرة المقدسة للخلافة العباسية من قبل الناس، خصوصاً بعد ضعفها وقلة هيبتها لكثرة الإمارات المنفصلة عن الخلافة في المشرق والمغرب؛ إذ لم يعد للخليفة العباسي سلطاناً كاملاً حتى على المناطق القريبة من بغداد.
ـ ظهور الدولة الفاطمية التي أعلنت "الخلافة" بالرغم من مجيئها بعد الدولة الأموية في الأندلس وانتشر لها دعاة في المغرب، محاولين جعل المغرب الإسلامي خاضعاً بأكمله لهم؛ الأمر الذي أقلق الناصر فعزم على التصدي لهم على محورين الأول عسكري من خلال إرساله أسطولاً بحرياً إلى سبتة فاستولى عليها فدفع أمراء البربر من الأدارسة وزناتة إلى مهادنته وطاعته فامتد نفوذه إلى فاس.
والمحور الثاني كان على الصعيد السياسي، حيث تلقب بأمير المؤمنين معلناً الخلافة الأموية في الأندلس.
ـ استهدف عبد الرحمن الناصر إعطاء قرطبة دوراً أكثر مركزية، بحيث تشتد قبضتها على أطراف الدولة وإعطائها سعة أكبر خصوصاً بعد استقرارها في عهده وبلوغها درجة عالية من الازدهار الفكري والعلمي والمعماري والسياسي.
ـ طموح عبد الرحمن الناصر الشخصي في بعث الخلافة الأموية مجدداً، بالإضافة إلى كونه "أعظم بني أمية بالمغرب سلطاناً وأفهمهم في القديم والحديث شاناً".
هذه بعض العوامل والظروف – في رأي الحمداني - التي أدت إلى إعلان الخلافة الأموية بالأندلس.. ونعود إلى سياسة الأمير عبد الرحمن الداخل فقد أقدم - على أثر انتصاره في معركة المسارة ونجاحه في إقامة الإمارة الأموية في الأندلس - على قطع اتصالات الأندلس بالخلافة العباسية.
وقام بذلك بعد أن استقر ملكه في الأندلس، فما أن مضت أشهر دون السَّنَة حتى أمر بقطع الدعاء والخطبة للعباسيين. وهذا يعني انفصال الأندلس رسمياً عن الخلافة العباسية، ويعني أيضاً أن الأمير الداخل لم يعترف بسلطان العباسيين وخلافتهم عن العالم الإسلامي، كما يقول بعض المؤرخين.
ومن جانب آخر، كانت الخلافة العباسية تنظر إلى الداخل وإمارته في الأندلس نظرة الخلافة الشرعية إلى العاصي المتمرد على طاعة الخلافة، وكان خلفاء بني العباس، ولاسيما الأوائل منهم، يتمنون زوال هذه الإمارة ويسعون إلى ضم الأندلس إلى سلطانهم، ولكن ظروف الدولة ومشاكلها وبعد الأندلس عن مركز الخلافة حال دون بعث جيش عباسي لضم الأندلس.
ولكنهم لم يتأخروا في تقديم الدعم المادي والمعنوي لكل من حاول ضرب الإمارة الأموية والقضاء آملين في ضم الأندلس إلى كيانهم. وأهم الحركات التي حاولت القضاء على الأمويين ـ وكانت باسم الخلافة العباسية ـ هي:
- حركة العلاء بن مغيث
بدأ حركته في باجة غربي الأندلس (جنوب البرتغال حالياً) أو في (لقتت) أحد أعمال باجة، وكان ذلك في سنة 146هـ/ 763م.
وتذكر الروايات التاريخية أن العلاء بن مغيث اليحصبي ويقال حضرمي ثار بباجة وسود ودعا إلى طاعة أبي جعفر المنصور، وكان قد بعث إليه بلواء أسود. فيما تذكر رواية أخرى أن المنصور كان أرسل للعلاء بولاية الأندلس، فنشر الأعلام السود وقام بالدعوة العباسية بالأندلس.
وقد سادت الأندلس فترة من الهيجان الشديد، وأحرج موقف الأمير الداخل إحراجاً كبيراً لكثرة المنضمين للحركة، وكادت دولة الأمير أن تنصرف وخلافته أن تنخرم.. وكان لكثرة الناس المنضمين لحركة العلاء أسباب هي:
ـ استغلال العلاء الخلافة العباسية في حركته وأثار شعور الناس بإشاعته أن الداخل خارج عن سلطان الخلافة العباسية، الأمر الذي أوهم ودفع الكثير من الناس إلى الانضمام إلى حركته.
ـ انضم إلى حركة العلاء الذين تضررت مصالحهم بقدوم الداخل وقيام الإمارة الأموية، وخاصة الفهري الذي أبعد عن السلطة بمجيء الداخل، وانضمت كذلك القبائل اليمانية التي انقلبت على عبد الرحمن؛ لأنهم لم يجدوا في عهده النفوذ الذي كانوا ينشدونه مقابل مساعدتهم في كفاحه ضد المضرية.
حدثت مواجهات عديدة بين الحركة والداخل الذي تمكن في النهاية من القضاء عليها وقتل العلاء بن المغيث.
يتبع