بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بَراءةُ النِّسْبَةِ
(حولَ خبرِ وَأْدِ عمرَ بن الخطّاب رضي اللّهُ عنه لِابنتِه في الجاهليَّة
وظاهرةِ الوَأْدِ عندَ العربِ)
* خَبَرُ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخَطّاب رضي الله عنه حول وَأْدِ ابنَتِهِ،وصَنَم ِ التَّمرِ في الجاهليّة :
أحسَِبُ أنّ هذا الخبرَ مِن أشهرِ الأكاذيب الّتي أُلصِقَتْ بالصّحابيّ الجليل عمرََ بنِ الخطّاب رضي الله عنه.ف (هل وَأَدَ ابنتَه؟.أَصحيحٌ أنّه وأدَ ابنتَه على ‏طريقة بعضِ ‏قبائلِ العربِ في بعضِ أماكنِهم والمجهولِ مِن أزمانِهم؟. لعلّها فِرْيَةٌ ‏كُبرى أرادَ واضِعُها – مُحِبًّا له كان أو شانِئًا - أن يُبرهِنَ على ما أحدثَه فيه الإسلامُ مِن اِنعِطافٍ،‏وما كانَ هو ‏عليه في جاهليّتِهِ مِن جهلٍ،وقَسوةٍ تكونُ ذروتُها أنْ يدفنَ الأبُ ابنتَه حَيَّةً، ‏وكأنّها ‏ظاهرةٌ يوميّةٌ،وعُرْفٌ لا تحيدُ عنه)[1].
إنّها (قصّةٌ يَعْتَوِرُها الشّكُّ مِن ناحيةِ ضَحكِها،ومِن ‏ناحيةِ بُكائِها،ومِن ناحيةِ اجتماعِهما ‏في لحظةٍ واحدةٍ؛لتَمكينِ واضِعِ القِصّةِ مِن ‏التَّفرقةِ بين عصرَيْ عمر في جاهليّتهِ ‏وإسلامِهِ ،وأَدْعى ما فيها مِن الشّكِّ تلك الخاتِمَة ‏الّتي يَِتِمُّ بها اختراعُ الفَجيعة،والبلو غُ بها إلى ‏ذروتِها،وهي نفضُ الطّفلةِ الصّغيرةِ ‏ترابَ حُفرتِها عن لحيةِ أَبيها)[2].‏
فظنّ فريقٌ بعمرَ رضي اللّه عنه - في الجاهليّة - جَفوةَ الطَّبْعِ،وقَسو ةَ القلبِ.وبعدَ إسلامِهِ تغيّرَتْ حالُه،وتَهذَّبت ْ نفسُه،وَرَقَّ قلبُه حتّى شُهِرَ ‏برِعايتِهِ لِلفقراءِ والمُعْوِزينََ.
كم هي تلك الأخبارُ الّتي يَتَناقَلُها المسلمون وهم لا يَدرون مَدى صحّتِها ؟!،وربّما تكونُ مِن ‏‏‏المرويّاتِ الباطِلَةِ المُلَفَّقَةِ الّتي لا تصِحُّ،ولكن شاعَ تناقُلُها على ألسنةِ كثيرٍ مِن الخطباءِ والوُعّاظِ على المنابرِ،وحَلقا تِ العلمِ،وفي المحاضرات ،مِن غيرِ أنْ يَستشعِرُوا عِظَمَ المسؤوليّةِ في تَرويجِها،حتّى أصبحتْ مِن المسلَّمات.
إنّها مِن أغربِ ما نُسِب للفاروقِ عمر بنِ الخطّاب رضي اللّه عنه،ولاكَتها الأَلسُنُ مِن قديمٍ؛‏‏فشاعَت وذاعَت، واستمرَأَها الروّاةُ والنَّقَلَةُ مِن غيرِ فَحْصٍ ولا بَصَرٍ،واِسْتَخ َفَّتِ العامّةَ فطَرِبوا لها حتّى كاد لا يُعلَمُ لها نَكِيرٌ،إنّها:(ق ِصَّةُ وَأْدِ ابنَتِهِ،وصَنَم ِ التَّمرِ في الجاهليّة).
قال العقّاد:(وكثيرٌ على المُصَدِّقينَ المُفْرِطِينَ في ‏التَّصديقِ أنْ يعرِفُوا هذا عن عمرَ،ثمّ يُصدِّقُوا ‏أنّه وأَدَ بنتًا في الجاهليّة على تلك ‏الصّورةِ البَشِعَةِ الّتي انتقلَتْ إِلينا في بعضِ ‏الرّواياتِ، وخُلاصتُها أنّه رضي الله عنه). ‏
وإليكَ القِصّةَ كما رَوَتْها بعضُ المصادرِ والمراجع:
1- (وقد حَكَى عمرُ بنُ الخطّاب فيما ‏رُوِيَ عنه أنّه قال أَدركَني الرِّقّةُ على ‏ابنةٍ لي في أعصارِ الجاهليّة،وذلك أنّي أمرتُ بأن يُحفرَ لها قبرٌ لِأدفِنَها ‏‏فيه،فلمّا أتيتُ بها إلى القبر،كانَ الحفّارُ يُخرِجُ التّرابَ مِن القبر فتناولتُ ‏منه التّرابَ،فعَلِق َ بعضُ التّرابِ ‏بلِحيتِه، فأخذَتِِ البنتُ تَنفضُهُ منها ‏فرَقَقتُ لها،ثمّ دفنتُها وهي حيّةٌ،فلمّا جاءَ الإسلامُ أبطلَ تلك الأمورَ ‏وعَطَّلَها)[3].
2- (أنّه رضي الله عنه كان جالِسًا مع بعضِ أصحابه،إذ ضحِكَ قليلاً،ثمّ بَكى،فسأله مَن ‏حضرَ،فقال:كُنّ ا في الجاهليّةِ نصنعُ صَنَماً مِن العَجْوَة فنعبدُهُ،ثمّ نأكلُهُ،وهذا سببُ ‏ضَحِكي،أمّا بُكائي فلِأ*نّه كانتْ لي ابنةٌ،فأَردتُ وَأْدَها، فأَخذتُها معي،وحَفَرتُ لها ‏حُفرةً،فصارتْ تَنفُضُ الغُبارَ عن لِحيَتي،فدَفنتُ ها حَيَّةً)[4].‎
3- وفي رواية[5]:(سُئِلَ عمرُ بنُ الخطّاب [رضي اللّه عنه] عن أعجبِ ما مرَّ به في حياتِهِ.فقال:هما حادِثتانِ: كُلمّا ‏تذكّرتُ الأولى ضَحِكتُ،وكُلمّا تذكّرتُ الأُخرى بَكيتُ.قيل له:فما الأُولى الّتي ‏تُضحِكُك ؟.قال:كنتُ في الجاهليّة أعبدُ صَنَماً مِن العَجْوة،فإذا دارَ العامُ أكلتُ هذا ‏الصَّنَمَ، وصنعتُ مِن البَلَحِ الجديدِ صَنَماً غيرَه!.قيل له:وما الأُخرى الّتي تُبكيكَ ‏؟.قال:بينما كنتُ أحفرُ حفرةً لِوَأْدِ ابنتي،كانَ الغُبارُ يَتناثرُ على لحيتي،فكانت ‏ابنتِي هذه تَنفضُ عن لِحيتي هذا الغُبارَ،ومع ذلك فقد وَأَدتُها).‏
4- (وقد جاءَ عن عمرَ رضي الله عنه قولُه:أَمرانِ في الجاهليّةِ .أحدُهما: يُبِْكينِي والآخرُ يضْحِكُنِي.أمّا الّذي يُبكيني:فقد ذَهبتُ بابنةٍ لي لِوَأْدِها،فكنت ُ أحفرُ لها الحُفرةَ وتَنْفُضُ التّرابَ عن لِحَْيتِي،وهي لا تَدري ماذا أُيريدُ لَها، فإذا تَذَكّرتُ ذلك بَكيتُ.والأُخرى: كنتُ أصْنَعُ إلهًا من التّمرِ أضَعُهُ عند رأسي يَحْرُسُنِي لَيلًا،فإذا أصْبَحْتُ مُعَافًى أكلتُه ،فإذا تَذَكّرتُ ذلك ضَحِكْتُ مِن نَفْسِي)[6].
5- (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ ‏الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إنّي وَأَدْتُ فِي ‏الْجَاهلِيّة. فَقَالَ: أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ مَوْؤُودٍ ‏رَقَبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كانَتْ تَحْفِرُ تَحْتَ الْحَامِلِ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ ‏حُفَيرَةً يسْقُطُ فِيهَا وَلَدُهَا إِذَا ‏وَضَعَتْهُ، فَإِنْ كانَ ذَكرًا أَخْرَجُوهُ مِنْهَا،وَإِنْ كانَ أُنْثَى ‏تُرِكتْ فِي حُفْرَتِهَا،وَط ُمَّ ‏التُّرَابُ عَلَيهَا حَتَّى تَمُوتَ،وَهَذَا قَتْل عَمْد،وَقَدْ أوجبَتْ فِيهِ ‏الَكفَّارَة)[7]. ‏
* مِن منهجِ السَّلَفِ الصّالحِ: الحِرْصُ على التّثبُّتُ في نقلِ الأخبارِ وروايتها،نطقَ بذلك القرآنُ الكريمُ،وشهدَتْ به السنّةُ النّبويّةُ.فمِن ذلك قولُ الحقِّ عزّ وجلّ في سورة الحُجُرات/06:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ ‏جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)‏،وق ولُه عزَّ مِن قائِلٍ في سورة النّساء/83:‏(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ ‏أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ ‏مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا).
فقد نهى عن العَجَلة والتّسرُّع في نشرِ الأخبار حينَ سماعِها،وأمرَ بالتّأمُّل قبل ‏الكلام والنّظرِ فيه،إنْ كانَ فيه مصلحةٌ أقدمَ عليه،وإلاّ أحجمَ عنه وأعرضَ. وشنّعَ على القاذفين لِلمُحصَناتِ مِن أهلِ البَهْتِ والنِّفاقِ في سورة النّور/15 بقوله‏:(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ ‏هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
وأكّد على ضرورةِ التَّثبُّتِ والتَّبيُّنِ وأوجبَه في أَشَدِّ المواقِفِ خُطورة واضطربًا،وذلك في ساحة الحرب،حيث قال عزّوجلَّ في سورة النّساء/94:(ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا … كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
ومِن ذلك ما رواه مسلمٌ في مقدّمةِ صحيحِه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قالَ رسولُ اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بالمرءِ كَذِبًا أَنْ يُحدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ)[8]‎.وَفِي الصَّحِيحَيْنِ[9] عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله ‏عليه وسلم:(نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ)، أَيْ:الَّذِي يُكْثِرُ مِنَ الْحَدِيثِ عَمَّا يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ‏غَيْرِ تَثبُّت،وَلَا تَبَيُّن وَلَا تَدبُّر. وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن حذيفة رضي الله عنه قال:سمعتُ رسولَ الله ‏صلَى الله عليه وسلّم يقولُ:(بئسَ مَطيَّةُ الرّجلِ زعَمُوا)[10].وقديمًا ‏‏قيلَ:آفةُ الأخبارِ رُوّاتُها.‏
الهوامش:

[1] - عمر والتّشيُّع (33 – 34) بتصرُّف.
[2] - عبقريّة عمر ‏(ص204 عمر في بيته).‏
[3] - ‏الأنوار النُّعمانيّة (3/ ‏‏31)‏ لنعمة ‏الله ‏الجزائريّ (ت:1112هـ).
[4] - عبقريّة عمر ‏(ص204 – 205 عمر في بيته).
[5] - المختار من طرائف الأمثال والأخبار لنبيه الدّاموريّ.
[6] - ‏تتمّة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 63 سورة التّكوير).
[7] - الماورديّ في الحاوي الكبير (13/ 67)‏،و‏النّوويّ في‏‎ ‎المجموع شرح المُهذَّب (21/ 21)‏.
[8] - صحيح مسلم (1/ 1/ 72 – 73 المقدّمة/نوويّ).
[9] - صحيح البخاريّ (13/ 98 رقم 6473)،صحيح مسلم (6/ 12/ 12 - 13 نوويّ).
[10] - الصّحيحة (2/ 522، 709 رقم 866 و 9- 866)‏.