الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية
- ولاية النّاظر أقوى من ولاية القاضي


عيسى القدومي






باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه، ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد الفقهية الكلية ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالولاية على الوقف ومع الضابط الخامس، وهو: ولاية النّاظر أقوى من ولاية القاضي.

معنى الضابط

ولاية النّاظر وحقّه في التصرّف لمصلحة الوقف، والأخذ باجتهاده وتقديره، الأصل أنّه مقدّم على غيره من أهل الولايات العامّة، كالقاضي فمن فوقه، وذلك ما لم يخالف نصوص الشّرع، أو شروط الواقف، أو يضرّ بمصلحة الوقف.

والولاية: «من الوَلْيِ، وهو القرب، فهي قَرَابة حكميّة حاصلةٌ من العتق أو من المُوالاة، وهي قيام العبد بالحقّ عند الفناءِ عن نفسِه، وفي الشرع: تنفيذُ القول على الآخر، شاء الآخر أو أبَى»، وهي معنىً شرعيٌّ سيأتي تعريفه، يتفرّع عنه ويُبنى عليه حقّ التصرُّف في الشيء، سواء التصرُّف المباشر في ذات الشيء، كالولاية على المال، أم الإقرار على الشيء بالنّيابة كالإقرار بجناية المجنون من وليّه، أو النّيابة عنه في الاستحقاق، كالقبض نيابة عن البنت في النّكاح، ونحو ذلك.

والوَلاية -بالفتح-: النُّصرة، والوِلاية -بالكسر-: السُّلطة والتمكُّن، وهذا المعنى هو الذي يدور عليه هذا الضابط.

والولاية في الجملة تنقسم إلى:

- الولاية الخاصّة: كولاية الأب على ابنته، وولاية وصيّ اليتيم عليه، وولاية الوكيل على ما وُكِّل فيه، أو ناظر الوقف.

- والولاية العامّة: كولاية الإمام الأعظم، ونُوَّابه، ووُكَلائه، وولاية القُضاة، ونحو ذلك، وكلاهما يكون ولاية على النّفس، أو المال، أو على كلَيْهما.

وفي هذا المجال يقول الفقهاء: الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة، وهي قاعدة مشهورة، يتفرّع عنها هذا الضّابط الخاصّ بباب الوقف، لأنّ الولاية الخاصّة نفسها يمكن أن تنقسم إلى مراتب بعضُها أقلّ اختصاصاً أو أكثر من الأخرى بالمُوَلَّى عليه، فيجري التقديم والمفاضلة بين مراتب مستحقِّي الولاية بناءً على هذا الضابط.

وتنقسم الولاية على الوقْف خاصّة، من ناحية أخرى، إلى قسمين:

- ولاية أصليّة: تثبُتُ للواقف، أو الموقوف عليه، أو القاضي.

- وولاية فرعيّة: تثبُتُ بموجب شرطٍ، أو تفويضٍ، أو توكيلٍ، أو وصيّة، أو إقرار ممّن يملكُه، ومنها ولاية النّاظر.

وقد اختلف أهل العلم اختلافاً واسعاً جدًّا في الوجه الذي تثبت به كلّ واحدةٍ من هذه الولايات، وفي سبب استحقاقها، بناءً على اختلافهم في مسائل أصليّة تتعلّق بالوقف، كالقول في العين الموقوفة، هل تخرج من ملك الواقف؟! فإن خرجت، هل تنتقل إلى ملك الله أم ملك الموقوف عليه؟ وبناءً على ذلك يتقرّر انقطاع ولاية الواقف على تلك العين أو لا ينقطع، إلى غير ذلك من الخلافات الكثيرة المؤثّرة.

إلّا أنّ من المتفق عليه بين الفقهاء، أنّ رعاية شرط الواقف لا بدّ منه، بل قد نزّلوه منزلة النّصّ من الشّارع، إلّا في صور تُستثنى كما بيّنّاه سابقاً، وعليه فإنّ الأصل في ناظر الوقْف إذا كان قد اكتسب الولاية من شرط الواقف أن لا يُزال عنها، ويبقى تصرُّفه على الوقف هو الأولى بالاعتبار والاعتماد من أيّ تصرُّف، ولو كان تصرُّف القاضي.

«وكلما كانت الولاية مرتبطة بشيء أخصّ ممّا فوقها بسبب ارتباطها به وحده، كانت أقوى تأثيراً في ذلك الشيء مما فوقها من العموم، وتكون الولاية العامّة كأنها انفكَّت عما خُصصت له الولاية الخاصة، ولم يبق لها إلا الإشراف؛ إذ القوّة بحسب الخصوصية لا الرتبة».



تطبيقات القاعدة

1- إذا أجّر الناظر شيئًا من الوقف بأجرة المثل، أو بما ليس فيه غبنٌ فاحشٌ، فليس لأحد أن يفسخ تلك الإجارة بدعوى أنّ غيرها خيرٌ منها، لأنّ ولاية الحاكم أضعف من ولاية النّاظر.

2- لا يملك القاضي عزلَ النّاظر المُوَلّى على الوقْف من قِبَل الواقف، بل ولو كان النّاظر مولًّى من قِبَل الحاكم نفسه، إلا بعد ثبوت الخيانة من النّاظر أو إضراره بالمصلحة.

3- يجوز أن يوكل الناظر من يقوم ببعض مهامّ الوقف، ويجعل له من جُعْله شيئاً، وله أن يعزل وكيله ويستبدل به غيره.

4- إذا لم يعيِّن الواقف ناظراً على وقفه ثم مات، فيحقّ للقاضي أن ينصب قيِّماً ليرعى شؤون ذلك الوقف.

5- إذا قرّر القاضي رجلاً ليكون ناظراً للوقف، ثمّ قرر السلطان العامّ رجلاً آخر لنفس المكان، فالعبرة بتقرير القاضي؛ لأنّ ولايته أخصّ من ولاية السلطان.