الفتوى في الشريعة الإسلامية
مجلة البحوث الفقهية المعاصرة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فهذا بحث يتضمن التعريف بالفتوى وأنواعها وأحكامها، وبيان شروط المفتي وصفاته وآدابه.
أسأل الله - جل شأنه - أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمهيد: في بيان أهمية منصب الإفتاء وخطورته.
أولاً: أن المفتي موقِعٌ عن رب العالمين (1).
قال النووي: "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله - تعالى -، وروينا عن ابن المنكدر قال: (العالم بين الله - تعالى - وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم"(2).
وقال ابن القيم: "وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال - تعالى -: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) (1).
وكفى بما تولاه الله - تعالى - بنفسه شرفاً وجلالة"(2).
ثانياً: أن المفتي قائم مقام النبي في أمته(3).
والدليل على ذلك(4):
أ- النقل الشرعي، وهو قوله: ((العلماء ورثة الأنبياء))(5).
ب- أن المفتي شارع من وجه؛ لأن ما يبلغه من الشريعة: إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول.
فالأول يكون فيه مبلغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع.
وقد انبنى على هذا الأمر أن المفتي لابد له من التحلي بأخلاق الأنبياء وصفاتهم، من الإخلاص لله والأمانة والورع والصدق(1).
وقد قيل: إن الإمام الشافعي شرط في المفتي والقاضي شروطاً لا توجد إلا في الأنبياء(2).
وقال سهل بن عبد الله التستري: "من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء - عليهم السلام - فلينظر إلى مجالس العلماء: يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؛ فيقول: طُلِّقت امرأته"(3).
ثالثاً: أن المفتي من شأنه إصدار الفتاوى من ساعته بما يحضره من القول، فلا يتهيأ له من الصواب ما يتهيأ لمن أطال النظر وتثبت؛ كالقاضي(4).
ومن توفيق الله للمفتي وتسديده له أن يكون متأنياً في فتياه، متحرياً في قوله، مجانباً للعجلة والغفلة(5).
رابعاً: أن فتوى المفتي - وإن لم تكن ملزمة - حكم عام يتعلق بالمستفتي وبغيره، فالمفتي يحكم حكماً عاماً كلياً أن من فعل كذا؛ ترتب عليه كذا، ومن قال: كذا؛ لزمه كذا(6).
قال عبد الله بن المعتز: "زلة العالم كانكسار السفينة، تغرق ويغرق فيها خلق كثير"(1).
ومن هنا قيل: زلة العالِم زلة العالَم(2).
وقد دل على هذا المعنى قوله: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))(3).
الخاتمة:
يطيب لي في نهاية المطاف أن أذكر خلاصة لهذا البحث، وذلك في النقاط التالية:
أولاً: الفتوى في الاصطلاح هي: الإخبار عن الحكم الشرعي لمعرفته بدليله.
ثانياً: المفتون على مرتبتين: المرتبة الأولى: المفتي المطلق المستقل، وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية، من غير تقليد، أو تقيد بمذهب أحد.
والمرتبة الثانية: المفتي غير المستقل، وهو المنتسب أو المقيد بمذهب من المذاهب المتبوعة، والمفتي في هذه المرتبة على أنواع.
والمقصود أنه لا يجوز للمفتي أن يتجاوز مرتبته.
ثالثاً: لا يجوز للمفتي أن يفتي في مسألة ما بغير الحق، سواء أفتى فيها بنفسه أو كان ناقلاً لفتوى غيره ممن يقلده، وكونه مقلداً ليس عذراً له في الإفتاء بما يخالف الدليل الواضح.
رابعاً: حكم الإفتاء في الأصل أنه من فروض الكفاية على هذه الأمة، ثم إن حكم الفتوى بحسب الأحوال والقرائن مما تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة.
والضابط المؤثر في حكم الإفتاء النظر إلى المصالح والمفاسد.
خامساً: يشترط في المفتي شرطان: الأول: أن يكون مجتهداً، والثاني: أن يكون عدلاً.
سادساً: هنالك صفات لابد للمفتي أن يتحلى بها في نفسه وفي سائر حاله، والمعنى الجامع لصفات المفتي: أن يكون فقيه النفس.
سابعاً: للمفتي آداب ينبغي أن يتحلى بها قبل إصدار الفتوى، وفي أثناء الفتوى، وبعدها، فمن ذلك:
- أن يتثبت المفتي من أهليته للفتوى.
- أن يتورع المفتي عن الفتوى ما أمكنه ذلك.
- يجب على المفتي أن يتورع في الفتوى، وألا يتساهل فيها.
- يجوز للمفتي بل يجب عليه أن يغير فتواه إذا تبين له أنها خطأ.
- ينبغي للمفتي إذا نزلت به المسألة أن يتوجه إلى الله بصدق وإخلاص أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد.
- من فقه المفتي: التوسط في الإفتاء بين التيسير والتشديد.
- من فقه المفتي: إرشاد المستفتي إلى البديل المناسب.
- أن يراعي المفتي في فتواه مقتضى الحال من جهة إيجاز الجواب وتفصيله والمقصود: أن يبين للسائل الجواب بياناً مزيلاً للإشكال، متضمناً لفصل الخطاب، كافياً في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يوقع السائل في الحيرة والإشكال.
- يجدر بالمفتي أن يستشير من يثق بدينه وعلمه، ولا يستقل بالجواب ذهاباً بنفسه وارتفاعاً بها.
- يتعين على المفتي أن يحفظ أسرار الناس، وأن يستر ما اطلع عليه من عوراتهم.

- الأولى بالمفتي أن يتبرع بالفتوى، ولا يجوز له أن يأخذ أجرة على فتواه من أعيان من يفتيهم، ويجوز له أن يأخذ من بيت المال قدر الكفاية إذا كان محتاجاً ولم يتعين عليه الإفتاء.