بَراءةُ النِّسْبَةِ
(حولَ خبرِ وَأْدِ عمرَ بن الخطّاب رضي اللّهُ عنه لِابنتِه في الجاهليَّة
وظاهرةِ الوَأْدِ عندَ العربِ)
* ممَِّن أحيا الموءودة في الجاهليّة :
‏كانت بعضُ قبائل العرب تكرهُ هذه العادةَ،بل كان فيهم مَن يأخذُ البناتِ مِن ‏آبائهم،‏ويعتن ي بهنّ،ويَحميهنّ من الوأدِ.ثبتَ[1] ذلك عن زيد بن عَمرو بن نُفيل القُريشيّ،فقد روى ‏‏البخاريّ في صحيحه قال:(وقال اللَّيْثُ: كَتَبَ إلَيَّ هِشَامٌ عنْ أبِيهِ عنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي ‏الله ‏عنهُما ‏قالَتْ:رأيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ قائِمَاً مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الكَعْبَةِ ‏‏يقُولُ:يَا مَعَاشِرَ ‏قُرَيْشٍ، وَاللهِ مَا مِنْكُمْ على دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي،وكانَ يُحْيى ‏المَوؤُدَةَ،‏ يقُولُ لِلرَّجُلِ إذَا ‏أرَادَ أنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لاَ تَقْتُلْهَا،أنَ ا أَكْفِيكَ مَؤُنَتَها، ‏فيَأخُذُها، فإذَا ‏تَرَعْرَعَتْ قالَ لِأبِيهَا:‏إنْ شِئْتَ دَفَعْتُها إلَيْكَ،وإنْ شِئْتَ ‏كَفَيْتُكَ مَؤُونَتها).‏‎
ورُوي[2] أيضا عن صَعْصَعَة بْنِ ناجِيَةَ التَّمِيميّ[3] جَدِّ الفَرَزْدَقِ الشّاعر الملقَّب بمُحْيِي المَوْءوداتِ؛لِ فِدائِه خَلْقًا من ‏البنات،فقد كان ‏يَفْتَدِي مَن يَعْلَمُ أنَّهُ يُرِيد وأدَ ابْنَتِه مِن قَوْمِهِ بِناقَتَيْنِ عُشَراوَيْنِ وجَمَلٍ،فَقِيلَ :‏إنَّهُ افْتَدى ‏ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ مَوْءُودَةً،وقِ يلَ:وسَبْعِينَ.و فِي الأغانِي [21/ 194 دار صاد]:وقِيلَ:أرْبَعَم ِائَةٍ.‏‎وفِي تَفْسِيرِ ‏القُرْطُبِيِّ [22/ 102 سورة التّكوير]:فَجاءَ الإسْلامُ وقَدْ أحْيا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً. ومِثْلُ هَذا فِي ‏‏«كِتابِ الشُّعَراءِ» لِابْنِ قُتَيْبَةَ، ‏وبَيْنَ العَدَدَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ فَلَعَلَّ فِي أحَدِهِما تَحْرِيفًا[4]).‏
وحين بعثَ الله عزّ وجلّ نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم كان (عنده مِائةُ جاريةٍ وأربعُ جوارٍ ‏‏أخذهُنَّ مِن آبائِهنّ لِئلاّ يُوءَدْنَ ... وله يقولُ الفرزدقُ:‏
جَدِّي الّذي منعَ الوائداتِ ... وأَحيا الوَئِيدَ فلم يُوءَدِ)[5].
(ويُروى[6] أنّ ‏الفرزدقَ كان يفتخرُ بجدِّه صَعْصَعَة،وكانَ قدِمَ على رسولِ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأسلمَ،‏وقال:يا رسولَ اللّه،عملتُ أعمالًا في الجاهليّة فهل لي فيها مِن أجرٍ؟. فقال:وما عمِلْتَ ؟.‏قال:قد أحييتُ ثلاثا وستّين موؤدةً أشتري الواحدةَ منهنّ بناقتين عشراويتين وجَمَل.‏فقال صلّى اللّه عليه وسلّم:هذا بابٌ مِن البرِّ،ولكَ أجرُه إذ مَنَّ اللّهُ عليكَ بالإسلامِ).وعن ذلك يقولُ ‏الفَرزدقُ في جَدَّه صَعْصعَةَ بنَ نَاجِيَةَ،الّذي كانَ مِن أَشرافِ بني تميم:‎
وَعَمِّي الّذي مَنَعَ الوَائِدَا *** تِ وَأَحْيَا الوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ‏[7]
وحين جاءَ اللّهُ بالإسلامِ:(نَهَى عن وَأْدِ البَناتِ)[8]. ‏
* أسبابُ الوَأْدِ[9] :
(‏فإن قلتَ:ما حملَهم على وَأْدِ البنات ؟.قلت:الخوفُ مِن لُحوقِ العارِ بهم مِن أجلِهنّ.أو الخوفُ مِن الإملاقِ،كما قال اللّه تعالى:] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [.‏وفئةٌ منهم قالت:إنّ الملائكةَ الكِرامَ [إناثٌ] بناتُ اللّه،فأَلحَقُو ا البناتِ به،فهو أَحَقُّ بهِنَّ)[10].قال جَلَّ ‏ثناؤُه:] ويَجْعَلُونَ لِلّهِ البَنَاتِ ‏سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [ النّحل/57.
فهما سببان أساسيّانِ:
فمنهم[11] مَن ‏كان يَئِدُ البناتِ خوفًا مِن كَلَب الزّمان فيمسّه الضُّرُّ وتَأسِره الحاجةُ والمَؤونةُ،ويقص ِمُ ظهرَه الفقرُ والإملاقُ في ‏سِنِيِّ ‏الْجَدْبِ[12]؛لِأَنَّ الذَّكَرَ يَحْتَالُ لِلْكَسْبِ بِالْغَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْأُنْثَى عَالَةٌ عَلَى ‏أَهْلِهَا.
ومنهم مَن كان يَئِدُهنّ لأنّه كانَ شديدَ الغَيرة[13]‏ والأَنَفَة لا يَرضى لِعِرضِه وشَرفِه المهانةَ والدَّنَسَ،يفعل ُ ذلك لِمجرّدِ تَوقُّع حُدُوثهِ.كأنْ تُساقَ في السَّبْي ‏بناتُهم ونِساؤُهم رقيقًا مع الغنائمِ إبّانَ الحرب والغزو،وفي ذلك منتهى الذُّلِّ ‏والعارِ،وقد قيل:إنّ بني تميمٍ وكِندة مِن أشهرِ القبائلِ الّتي تَئِدُ بناتِها خوفاً لمزيدِ ‏الغَيرةِ.‎ثمّ جاءَ الإسلامُ ‏فأقَرَّ ‏الغَيرةَ، وحرَّمَ وَأْدَ البناتِ.‏(قال قتادة:كان مُضَرُ وخُزاعةُ يدفِنون البناتِ أَحياءً،وأشدُّه م في هذا تَميم،زعموا ‏خوفَ القهرِ عليهم،وطمعِ غيرِ الأَكْفاءِ فيهنَّ)[14]. ‏
وفريقٌ ثالثٌ[15] كَانواَ يقتلون أَولادَهم مطلقًا،إمّا سَفَهًا،وإمّا حَميَّةً،و(‏إِم َّا نَفاسَةً مِنْهُ على مَا ينقصهُ ‏مِن مَاله،وَإِمَّا مِن عدم مَا يُنْفِقهُ عَلَيْهِ)[16].هذا مع ما جُبِلَتْ عليه أَنفسُهم مِن تفضيلِهم الذّكورَ ‏على الإناثِ لِاعتمادِهم على الذّكورِ في الصّيدِ والغزوِ والحربِ ‏والتّجارةِ وغيرها.أمّا الإناثُ ‏فلم يكونوا يعتمدون عليهنّ في ذلك.وقد ذكرَ الله عزّ وجلّ ‏كراهيتَهم للإناثِ في قولِه تعالى:(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ‏يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ‏أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا ‏يَحْكُمُونَ) النّحل/58 - 59. ‏
وَزعمَ بعضُ ‏الْعَرَب: (أَنّهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك غَيرَة على الْبَنَات،وَقَو لُ الله ‏عزّ وَجلّ ‏هُوَ الحَقُّ:" وَلَا ‏تقتلُوا أَوْلَادكُم مِن إِمْلاقٍ "،أَي:خشيَة إِملاقٍ،أَي: فقرٍ وَقِلَّةٍ)[17].
ومِن القبائل مَن كانت تَئِدُ البناتِ لا لِغَيرةٍ أو خوفٍ مِن عارٍ،بل لوجودِ عاهَةٍ مِن نقصٍ أو ‏تشويهٍ في الموءودةِ أو مرضٍ أو قُبحٍ،كأنْ تكونَ زرقاء أَو ‏هرشاء أَو شيماء ‏أَو كشحاء‏ أو برشاء. ويُمسِكون ‏مِن البناتِ مَن كانت على غيرِ تلك الصّفاتِ،لكن مع ذُلٍّ ،وعلى كُرهٍ منهم‎؛فقد (‎ذكرَ النّقّاش ‏فِي تَفْسِيره ‏أَنّهم كَانُوا يئِدون مِن الْبَنَات مَن كَانَت مِنْهُنَّ زرقاء أَو ‏هرشاء أَو شيماء ‏أَو كشحاء ‏تَشاؤُماً مِنْهُم بِهَذِهِ الصِّفَات)[18].
يتبع ...
الهوامش:

[1] - صحيح البخاريّ (7/ 525 رقم 3828 فتح)،عمدة القاري (16/ 394 - 395 رقم 3828).
[2] - التّحرير والتّنوير (30/ 146 التّكوير)‏.
[3] - هو صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمّد بن سفيان بن مُجاشع بن دارم جدّ الفرزدق.‎
[4] - نعم،لأنّ الّذي في الشّعر والشّعراء (1/ 381):(ثلاثين) بدل (سبعين).
[5] - المُحَبَّر (ص141 أجواد الجاهليّة)، الصّحاح (ص1223 وأد)،وفيه (ومِنّا) بدل (جدّي).
[6] - ضعيف:كشف الأستار (1/ 55 – 56 رقم 72)،إتحاف المهرة (6/ 290 – 291)،لسان الميزان (4/ 352 – 353 رقم 3994)،مجمع الزّوائد (1/ 276 – 277 رقم 338 بغية الرّائد‏)،ميزان الاعتدال (2/ 337 رقم 3993)،المعجم الكبير للطّبرانيّ (8/ 91 – 92 رقم 7412)،الدُّرّ المنثور (15/ 267 سورة التّكوير)،أسد الغابة (3 /22 – 23 رقم 2507)،معرفة الصّحابة لأبي نعيم (3/ 1528 – 1529 رقم 3877).
وسكتَ عنه الذّهبيّ في تلخيص المستدرك (3/ 610)،وعزاه الحافظ ابن حجر في الإصابة (2/ 179 – 180 رقم 4068) إلى ابن أبي عاصم،وابن السّكن،والطّبرا نيّ.وقال في:تخريج الأحاديث المرفوعة المسندة في كتاب التّاريخ الكبير للبخاريّ (1/ 3/ 1197 - 1198رقم 1021):إسناده ضعيف.
[7] - ديوانه (1/ 173 هذا سبابي لكم)،تهذيب اللّغة (14/ 243 وأد)،معجم مقاييس اللّغة (6/ 78 وأد)،تاج العروس (9/ 246 وأد)‏.
[8] - النّهاية (5/ 143 وأد)،لسان العرب (3/ 442 وأد)،تاج ‏العروس (9/ 246 وأد).‏
[9] - قال جواد عليّ في المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام (9/ 97):(ولستُ أستبعِدُ ما ذكرَه أهلُ الأخبار مِن وجودِ دافعٍ دينيّ حمَلَ الجاهليِّين على قتلِ الأولادِ وعلى الوَأْدِ،بأَنْ يكونَ ذلك مِن بقايا ‏الشّعائر الدّينيّة الّتي كانت في القديم،وتقديمُ الضّحايا البشريّة إلى الآلِهَة لِخير المجتمعِ وسَلامتِه،وإرضا ءُ الآلِهَة هي شعيرةٌ مِن ‏الشّعائر الدّينية المعروفة.فليس بمُستبعَدٍ أنّ الوأدَ والقتلَ مِن بقايا تلك الشّعائر،والغري بُ في الوَأْدِ أنّه يكونُ بالدّفن،بينما العادةُ في ‏الضّحايا الّتي تُقدَّم إلى الآلِهَة ‏‏أنْ تكونَ بالذّبحِ أو بالطّعنِ وبأَمثالِ ذلك،كي يَسيلَ الدّمُ مِن الضّحيّة،والدّم ُ هو الغايةُ مِن كلّ ضحيّةٍ،لأنّه الجزءُ المُهِمُّ مِن الضّحايا المُخَصَّص بالآلِهَة).
[10] - الكَشَّافِ (4/ 708 سورة التّكوير)‏،تفسي ر القرطبيّ (9/ 48 – 49 سورة الأنعام/140).
[11] - القرطبيّ (9/ 48 – 49 سورة الأنعام/140).
[12] - كانَتِ العَرَبُ فِي الجاهِلِيَّةِ - سِيَما الفقراء منهم - تأْكلُ (العِلْهِزَ) فِي الجَدْب.قال في اللّسان:(5/ 381):(العِلْهِزُ: وبَرٌ يُخْلَطُ بدماءِ الحَلَمِ [القِرْدان]).
[13] - فتح الباري (7/ 529).وهي صفةٌ نبيلةٌ تكادُ تكونُ غالبةً في العرب كلِّهم آنذاكَ.
[14] - تفسير القرطبيّ (12/ 431 النّحل)‏.
[15] - تفسير القرطبيّ (9/ 48 – 49 سورة الأنعام/140).‏
[16] - عمدة القاري (22/ 136 رقم 5975)‏.
[17] - عمدة القاري (16/ 395).‏
[18] - عمدة القاري (16/ 395):(قلت:هرشاء مِن التّهريش ‏وَهُوَ مقاتَلَة ‏الكِلاب، والشّيماء ‏مِن التّشاؤم،والكَش ْحاء مِن ‏الكشاحة وَهُوَ إِضْمَارُ ‏الْعَدَاوَة).