بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بَراءةُ النِّسْبَةِ
(حولَ خبرِ وَأْدِ عمرَ بن الخطّاب رضي اللّهُ عنه لِابنتِه في الجاهليَّة
وظاهرةِ الوَأْدِ عندَ العربِ)
* وَأْدُ البناتِ مِن عاداتِ بعضِ العربِ[1] في الجاهليّة،ولم تكنْ ظاهرةً عامّةً فيهم:
(كَانَ الرَّجُلُ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا :ألْبَسْهَا جُبَّةً ‏مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعََرٍ تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ،وَ إِنْ أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا كَانَتْ ‏سُدَاسِيَّةً[2] فيَقُولُ لِأُمِّهَا: طَيِّبِيهَا وَزَيِّنِيهَا،ح َتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا،وَ قَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي ‏الصَّحْرَاءِ، فَيَبْلُغُ بِهَا الْبِئْرَ فَيَقُولُ لَهَا:انْظُرِي فِيهَا،ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا،‏ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ[3]:كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا أَقْرَبَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ ‏الْحُفْرَةِ؛ فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ،وَإ ِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ)[4].‏
(‏وَكَانَ مِنْ أَفْظَعِ الْإِعْتِدَاءِ عَلَى ‏إِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ مِنْ ‏أَجْسَادِهَا اعْتِدَاءُ ‏الْآبَاءِ عَلَى نُفُوسِ أَطْفَالِهِمْ بِالْوَأْدِ،فَإ ِنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي الْفِطْرَةِ حِرْصَ الْآبَاءِ ‏عَلَى اسْتِحْيَاءِ أَبْنَائِهِمْ ‏وَجَعَلَ الْأَبَوَيْنِ سَبَبَ إِيجَادِ الْأَبْنَاءِ،فَ الْوَأْدُ أَفْظَعُ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ)[5].‏
(وَإِذْ قَدْ فَشَا فِيهِمْ كَرَاهِيَةُ وِلَادَةِ الْأُنْثَى[6] فَقَدْ نَمَا فِي نُفُوسِهِمْ بُغْضُهَا فَتَحَرَّكَتْ فِيهَا ‏‏الْخَوَاطِرُ الْإِجْرَامِيَّ ةُ فَالرَّجُلُ يَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهُ أُنْثَى لِذَلِكَ،وَامْر َأَتُهُ تَكْرَهُ أَنْ تُولَدَ لَهَا ‏أُنْثَى ‏خَشْيَةً مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إِيَّاهَا،وَقَد ْ يَهْجُرُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا وَلَدَتْ أُنْثَى)[7].‏
وعادةُ وأدِ البناتِ فَوْرَ وِلادتِهِنّ أو بعدَها بقليل عُرْفٌ جَرى عليه بعضُ العربِ،‎وقد ظهرَ فيهم كحالاتٍ فرديّةٍ، ارتبطَتْ بفئاتٍ قليلةٍ ضِمنَ نطاقٍ معيَّنٍ.‎واِدَّ عى بعضُهم بأنّ ذلك كانَ سائِدًا فيهم،وواسِعَ الانتشارِ في أيّامِ الجاهليّة،وليس بصحيحٍ،فلم تكُنْ كلُّ،ولا جُلُّ القبائِلِ العربيّةِ تَئِدُ بناتِها خوفَ الإِمْلاقِ والعِوَزِ،أو أنْ يُؤسَرْنَ في الغَزوِ،‏ونحو ذلك؛لأنّ منها قبائلَ ذاتُ بأسٍ شديدٍ،وكفايةٍ مُغنِية،وقَدْرٍ ورِفعةٍ،لا تَخشى الفاقَةَ،وكَلَب َ الزّمان،ولا تركَنُ لِلذِّلَّة والهَوانِ، وتَسترخِصُ المُهَجَ إذا قَعْقَعَ السِّلاحُ بالطّارقِ المُنتابِ.
وأشارتْ بعضُ مصادر اللّغة إلى قبيلةٍ واحدةٍ فقط كانتْ تفعلُ ذلك،‏وهي قبيلةُ كِنْدَة،جاءَ فيها:(وكانتْ كِنْدَةُ تَئِدُ النَبَاتِ)[8].قال الطّاهر بن عاشور[9]:(وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ،قِ يلَ:أَوَّلُ مَنْ وَأَدَ الْبَنَاتِ مِنَ الْقَبَائِلِ رَبِيعَةُ،وَكَا نَتْ كِنْدَةُ تَئِدُ الْبَنَاتِ،وَكَ انَ بَنُو تَمِيمٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ،وَوَأَدَ قَيْسٌ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِنْ بني تَمِيم ثَمَان بَنَاتٍ لَهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْوَأْدُ فِي قُرَيْشٍ الْبَتَّةَ).
ومنهم مَن كان (يَئِدُ البَنِينَ عند المَجَاعَةِ)[10]؛وعليه ‏يكونُ القتلُ لِلأولادِ غيرَ مُختَصٍّ بالبناتِ بل شمِلَ الأولادَ الذُّكورَ أيضاً،‏‏وإليه أشارَ ‏القرآنُ الكريمُ في سورة الإسراء/31:﴿ولاَ تَقتُلُوا أَولادَكُم خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نحنُ نَرزُقُهم وإِيّاكُم إِنّ قتلَهُم كانَ خِطْئًا كَبيرًا﴾.ويُؤيّ ده – إنْ صحّ الخبرُ[11] - ما رواه القرطبيّ في تفسيره[12]،قال: (وَقِيلَ:كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ،كَمَ ا فَعَلَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ نَذَرَ *ذَبْحَ *وَلَدِهِ عَبدِ اللَّهِ).
نعم،إنّ هذا التَّصَرُّفَ كان لِبعضِ العرب،وهم القِلَّةُ النّادِرَةُ في مقابلةِ الكَثرةِ الغالِبَةِ مِن قبائلِ العربِ.و‏لو كان عامًّا فيهم،وذائعًا بينهم،لَما تكاثرَ العربُ،وأكثروا مِن النّساءِ ‏والجَواري، ولَما استطاعَ الواحِدُ منهم التّزوُّجَ بأكثرَ مِن امرأةٍ واحدةٍ؛لِقِلّة ‏النِّساءِ، وكثرةِ الرّجالِ.ولو كانتْ كلُّ القبائلِ تَئِدُ بناتِها لانقطعَ نَسْلُ العرب بعد مِئَة عامٍ على الأقلِّ،أو لَتَضاءلَ فلم يبقَ منهم إلاّ القليلُ.
ثمّ إنّ اتّهامَ جميعِ القبائلِ العربيّةِ بهذا الجُرْم الشّنيعِ،وإقرار َه فيهم كعادةٍ وعُرْفٍ جرَتْ عليه مِن قديمِ الدّهرِ؛إنّما يُرادُ به ذمُّهم،والحَطُّ مِن قَدْرِهم مِن خِلالِ تَسفيهِ عقولِهم،لِكونِه م يقتلون بناتِهم فَلذَاتِ أكبادِهم!.
(وَقَدْ تَوَارَثَتْ هَذَا الْجَهْلَ أَكْثَرُ الْأُمَمِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ ‏فِيهِ،وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ وَقَدْ ‏‏مَاتَتِ ‏ابْنَتُهُ:نِعْ مَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ)[13]؛ ولهذا كانوا يُسمُّون القبرَ صِهْرًا أي إنّي قد زوّجتُها منه،قال الرّاجز[14]:
سَمَّيتُها إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ
والقبرُ صِهْرٌ ضامِنٌ زِمِّيتُ
يا بنتَ شيخٍ مالَهُ سُبْرُوتُ
وبهذا يظهرُ أنّ وأدَ البناتِ والأولادِ في الجاهليّة كانَ مُجرَّدَ حالاتٍ فرديّةٍ نادِرَةٍ ظهرتْ عند فئةٍ قليلةٍ مِن قريشٍ، وبعضِ ‏بيوتاتِ بني تَميمٍ،وهؤلاءِ مِن مُتأخّري الجاهليّة؛أمّا سائِرُ ‏العربِ فكانوا يَستنكِرون ذلكَ،ويَرفُضُون َه؛مِمّا يُشعِرُ بأنّ الإطارَ الزّمنيّ لِهذه الظّاهرةِ إنّما كانَ قُبيلَ الإسلامِ بقليلٍ.واللّه أعلم.
وعليه،فلم يكنِ الأمرُ مشهورًا عندهم،وبالكثرةِ الّتي تجعلُ منه عُرْفًا سائِدا،وعادةً مُستحكَمَةً. وهذا ما تشيرُ إليه الواقعةُ الّتي صدمَتْ ‏صَعْصَعَةَ بنَ ناجية – وغيرَه -،وتَفاجَأَ بها،وسيأتي خبرَها قريبًا.
وممّا يُستَنكَرُ ما حكاه الميدانيّ في مجمع الأمثال[15]،قال:(قال حمزة:وذكر *الهيثمُ *بنُ *عدِيّ *أنّ *الوأدَ *كان *مُستعمَلًا *في *قبائلِ *العربِ *قاطبَةً،وكان يستعمِلُه واحدٌ ويتركُ عشرة،فجاءَ الإسلامُ وقد قلَّ ذلك فيها إلاّ مِن بني تميمٍ فإنّه تزايدَ فيهم ذلك قبل الإسلام)!.
يتبع ...
الهومش:

[1] - في المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد عليّ:(‏ولم ينفردِ العربُ بقتلِ الأولادِ وبوَأدِ البناتِ،بل نجدُ ذلك عند غيرِهم مِن الشّعوبِ كذلك،مثل المصريِّين واليونان والرّومان وشعوب أسترالية.أمّا العوامِل الّتي حملَتْ تلك الشّعوب عليها فهي عديدة،منها عوامِل دينيّة مثل الاعتقاد بحلول الأرواح،ومنها اقتصاديّة كالخشية مِن الفقر،ومنها ما يتعلّقُ بالصِّحَّة كأن يكونَ المولودُ ضعيفًا فيقضي عليها الوالدان).
[2] - ‏أي يتركُها حتّى يُصبحَ عمرُها سِتَّ سنوات‎‏. ‏
[3] - ‏ رواه عكرمة عن ابن عباس كما في تفسير البغويّ (8/ 348 سورة التّكوير).
[4] - ‏الكَشَّافِ (4/ 708 سورة التّكوير).‏
[5] - التّحرير والتّنوير (30/ 144 التّكوير)‏.‏
[6] - (ولِبُغضِ البناتِ هجرَ [الشّاعر] أبو حمزة الضّبِّيُّ خيمةَ امرأتِه،وكانَ يَقيلُ ويَبيتُ عند جيرانٍ له،حينَ ولدَتْ امرأتُه بنتًا، فمرَّ يومًا بخِبائِها وإذا هي تُرقِّصُها وتقولُ:
ما لِأَبي حمزةَ لا يَأتِينا … يظَلُّ في البيتِ الّذي يَلِينا
غضبانَ ألاّ نلِدَ البَنينا … تاللهِ ما ذلكَ في أَيدِينا
وإنّما نأخذُ ما أُعطِينا … ونحنُ كالأرضِ لِزارعِينا
نُنْبِتُ ما قد زَرعُوهُ فِينا
قال:[فلمّا سمعَ الأبياتَ] فغَدا [مرّ] الشّيخُ [نحوَهما حُضْرًا] حتّى ولَجَ [عليهما الخِباءَ] البيتَ فقَبَّلَ رأسَ امرأتِه وابنَتِها [وقال: ظَلمتُكما وربِّ الكعبة!]) - البيان والتّبيُّن (1/ 186) و (4/ 47).
[7] - التّحرير والتّنوير (30/ 145 التّكوير)‏.‏
[8] - الصّحاح (ص1222 وأد)،لسان العرب (3/ 443 وأد)،تاج العروس (9/ 246 وأد).
[9] - التّحرير والتّنوير (30/ 146 سورة التّكوير).
[10] - النّهاية (5/ 143 وأد)،المجموع المغيث (3/ 347 وأد)،‏لسان العرب (3/ 443 وأد)،تاج العروس (9/ 246 وأد) ،عون المعبود (4/ 7/ 141).
[11] - الضّعيفة (1/ 500 – 502 رقم 331) و (4/ 172 – 173 رقم 1677).
[12] - (9/ 39 **سورة الأنعام/137)،سيرة ابن هشام (1/ 1/ 151 – 155).
[13] - التّحرير والتّنوير (30/ 145 التّكوير)‏.‏وفي التّوضيح لشرح الجامع الصّحيح (15/ 459)،وعمدة القاري (12/ 346) :(قَالَ أَبُو عُبيد‏:كَانَ أحدُهم فِي الْجَاهِلِيَّة ‏‏إِذا جَاءَتْهُ الْبِنْتُ يدفِنُها حَيَّةً حِين ‏‏تُولَد،وَيَق ُولُونَ: الْقَبْرُ صِهْرٌ، وَنعمَ ‏الصِّهْرُ).
[14] - الإتباع (1/ 16)،غريب الحديث (3/ 414)،التّقفية في اللّغة (ص214).
[15] - (1/ 425 رقم **2248 أَضَلُّ مِنْ مَؤْوُدَةٍ). ‏وعنه الشَّريشيّ في شرح مقامات الحريريّ (4/ 177).