تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل

    جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (1 يتبع)


    محمد بوقنطار


    كنت أناقش مع أحد المهتمين من المقربين قضية عصمة الأنبياء من عدمها، مستفصلين قدر الإمكان وجهد المقل في ما يجوز في حقهم عليهم صلوات الله وسلامه وما لا يجوز، وما يمتنع أو يصح أن يُضاف إلى سيرتهم من أحوال بشرية في شقها المتعلق بالخطأ، متقيّدين في هذا التجاسر والفضول المعرفي بما ساقه القرآن الكريم، وما اشتملت عليه السنة النبوية الشريفة من سياقات ـ لها وسائط نقلها من العلماء المعتبرين ـ تذهب مذهب أنهم بشر، ولكن ليس كسائر البشر، بل يوحى إليهم، وهم المصطفون الأخيار، يتفاضلون في دائرة الفضل وهم الإخوة لعلات...
    ولقد استدل صاحبي في بعض منعطفات النقاش ـ ولم يخرج استدلاله عن منطق الإخبار إلى مخرج
    المناكدة لي والموافقة لمضمون الاستدلال ـ بما جاء في بعض مداخلات السيد مصطفى بوهندي أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وقد حلّ يوما بل أياما وليالي ضيفا له اعتباره ووزنه المتماشي مع السياسة العامة، والمتماهي مع الموقف الرسمي لقناتنا الثانية من الإسلام ونبي الإسلام وقرآن المسلمين، وكذا ما خطته يمينه من سواد في الجريدة الإلكترونية "هسبريس" من أباطيل جاء مقاله المعنون بـِ "لا عصمة للأنبياء...ومحمد له أخطاء بشرية كثيرة" مشحونا بها حد الغثيان، وهي أباطيل تأتي في سياق موبوء له أدواته التي تزيد الداء غطرسة واستقواء على الجسد الذي نُعت يوما بالمتراص، ثم دارت دولة الأيام لينعت بالرجل المريض.
    لقد صار كل شيء من ديننا على أرضية مُشاع، يتم تشريحه في عبث وصفاقة على طاولة الشك الديكارتي الجرداء، حيث فقد المتعاطون بوصلة التخصص، وصار الكل من الناس يتعاطى بقلم فاقع الاحمرار مع الكل من نصوص الشرع، واقتحمت عقبة المحظور فلا مقدس أصبح له اعتبار، ولا مدنس صار له احتقار...
    يا ليت موضوع عصمة الأنبياء فُتح النقاش حوله تحت طائلة الحاجة العقدية، التي تصاحبها براءة الذمة المعرفية ولو في فضول، ولكنها أبواب ـ هذا واحد منها ـ تُطرق في إصرار ليشره وصيدها وقعر قعر داخلها أمام الوافدات التفكيكية الغربية، حتى لا تنفك بشرية الرسول عن مقام الإرسال، ومن ثم يسوغ للغائر المتهجم التصوّل بين دروب الأحكام حاملا معول هدمه ونسفه ونقضه لما يخالف المبادئ الكونية المقررة في مكر ومخادعة من ذوي سبّابة الفيتو، من أحكام شعائرية وشرائعية لا تتماشى والهوى الغربي وأنفاسه المارقة...
    لقد طُوي ملف النقاش يومها وقد تفرع بنا الحديث حتى تلبستنا، وتلبسنا بمسلاخ المؤامرة، وذهب ذلك اليوم وجاء آخر على بدء متكرر، وكاد رماد الموقد الأول يفقد سخونته، إلى أن جرّني إلى النفخ في كانونه استدراك جاءني من نسمة الصلب وقد كان الزمن، زمن إقبال على الامتحان الجهوي للسنة الأولى بكالوريا من الموسم الدراسي 2019/2020 عندما باغتتني بنيتي "فاطمة" وهي منكبة في إطار التحضير والاستعداد لاجتياز هذا الاختبار الذي صار على مشارف نوايا التلاميذ وهواجسهم، منكبة على سورة يوسف حفظا ووقوفا على معاني آياتها الكريمات، باغتتني باستدراك في ثوب استفهام مفاده، لطالما أبي سمعت منك أن الولاية لا تطلب، مذموم طالبها، فكيف يطلبها واحد من المقطوع لهم بالعصمة عليه السلام؟
    ثم استطردت قائلة أنه قد جاء في القرآن ما يفند الزعم والدعوى، ويقر بما يقابلهما من جُعل مرغوب فيه، يصدقه قوله جل في علاه على لسان يوسف عليه السلام "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
    فأجبتها موجها في لطف تقتضيه لازمة الأبوة قائلا في إقرار : إن إعمال السياق كلِّه يؤكد أن يوسف عليه السلام لم يطلب الولاية ولا اختارها، إذ لو اختارها لحظي بالامتياز ملبّيا رغبة الملك، ولكان حينها مكينا أمينا مستخلصا في ذمة الملك بين أروقة ديوانه مقربا، يُستشار في جِلِّ الأمور الملكية ودِقِّها، مصداقا لقوله تعالى : "وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي"
    إنه في مقابل هذا الطلب المغمور في بحر الامتيازات فضل عليه السلام وآثر الابتلاء والمرابطة على خزائن الأرض مستشفعا بين يدي مسألته بصفتي الحفيظ العليم، وهاتان الصفتان لهما مثيلهما من قول إحداهما عن موسى عليه السلام "يأبت استئجره فإن خير من استأجرت القوي الأمين"، وذلك الذي كان فقد مكث عليه السلام كحارس يُدير ويدبر بحكمة وحنكة وعظيم أمانة أزمة السبع العجاف الشداد، يفرق بالعدل والسوية ما زرعه الناس في سبع سنين دأبا، وقد أُمروا أن يذروا جلّه في سنبله، إلى حين مجيء ذلك اليوم الذي فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون.
    ولا جرم أن ما استدركت مستفهمة لأجله الابنة في هذا السياق الاستفساري، الذي يتناسب وسنها من عفوية وصدق إقبال وملاحظة، لَهُوَ، هو، في سياقات أخرى ومناسبات متكررة، يتم ويمرر في مناجزات سياسية، يعمد فيها السياسي غير الحفيظ ولا العليم وهو يسوِّغ لنهمه السلطوي، ويُواري عشقه حد الوله لكراسي تمثيل وإدارة الشأن المحلي أو العام ـ من نَضَارة ما بعد المهد إلى جَعَادة ما قبل اللحد ـ مستشفعا في خشوع وإنابة برغبة ومطلب سيدنا يوسف عليه السلام : "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، مقتنعا ومُقنعا نفسه وغيره، زاعما أن هذا إن كان في نبي فهو في من دونه من جهة الإقبال على الدنيا بالغ نصاب الأَوْلى والقبول، ولعله زعم لا يوافقه الشرع وقد جاء في صحيح السنة ما يذهب مذهب الكراهة بقيده، إذ ورد في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم :"يا عبد الرحمن بنَ سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكِّلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها".
    وإنّما كان من الإنصاف أن تربط الكراهة بقيدها منافاة للإطلاق في هذا الخصوص، سيما وقد جاء في السير ما يفيد على سبيل التمثيل لا الحصر أن صلاح الدين الأيوبي ـ وهو من هو في الصلاح والورع والحفظ والأمانة ـ قد تولى الوزارة في الدولة العبيدية، وهي من هي في الخبث والكيد للإسلام والمسلمين...
    إنني لست من أهل التفسير، ولا مُقام لي بينهم، ولكن ما تربّيت عليه من عقيدة صحيحة، تعلّمت من أصولها واجب توقير وتعظيم الأنبياء والمرسلين ثم الأمثل فالأمثل، فما فتئتُ أنظر من وراء منظارها الفاقع البياض، أوجس خيفة، وأستنكر استغرابا من الكثير مما شُحِنت ومُلِّئت به بعض كتب التفسير من أخبار واهية، وأباطيل منكرة تحوم حول حمى قصة يوسف مع امرأة العزيز، وهي أباطيل وخرافات بقدر ما شطّ بها قلم الأوّلين، زلت وضلت بها أقدام وأفهام وأفمام بعض المتأخرين من الخطباء والدعاة والوعاظ تبعا.
    لا تزال الاستفسارات في ضراوةِ ترادفٍ يُسابق كمُّها كيفَ أبحث وأنقب كي أجيب نفسي أولا، حتى أستريح من هذا الكمِّ المقلق الذي يحتل ناصيتي في شغب لا يُسكت أنينه ووخزه إلا مفازع وملاذات العقيدة الصافية، التي تحوِّل هذا الكم من الترهات إلى زبد، تمجه الآذان في استقباح وترده الألباب والأذهان في استنصاح فيذهب غثاؤه جفاء.
    ياللهول، يا للكارثة، كيف لبعض المفسرين أن تسوّل له نفسه ـ في غير قصد مدخول طبعا ـ نقل مشهد آثم وتجلية ظلم غاشم، يؤرخ فيه تفسيرا لخاطرة "الهمِّ" زاعما أن يوسف عليه السلام حلّ رباط سرواله ثم جلس من امرأة العزيز مجلس الرجل من زوجه، ثم ما يلبث أن يرى صورة أبيه عاضا على سبابته، فيقوم عنها ويتركها خجلا من أبيه...
    يا له من تصوّر مريض لا زمام له ولا خطام، إذ كيف لمن في قلبه ذرة توقير لمعشر الأنبياء والمرسلين، وقد نشأ على ملة من أصولها عدم التفريق بين الرسل "لا نفرق بين أحد من رسله"، كيف له أن يذهب به خياله فيتشكل عنده هذا المشهد الآثم، وقد حلّت بنفس يوسف المطمئنة ضروب من الهميان، حتى جلس من امرأة تحرم عليه بكل الشرائع محل الختان.
    لقد حضرتُ يوما صلاة جمعة عَمَدَ فيها بعض الأفاضل من خطباء مدينتي التي أقطن بها "سلا المغربية" إلى استعراض ما اجتمع من أقوال المفسرين في تصريف قضية الهمِّ، ويا ليت الاستظهار لم يتجاوز به صاحبه سقف الحكاية والطرح، ولكنه وللأسف الشديد بعد استظهار عوارض الأقوال، رجّح في حضرة مريدي خطبته ـ وهم ليسوا على نسيج واحد في العقيدة والسلوك والفقه ولا درجة واحدة في الفهم والاستماع ـ رجّح القول الذي ينتصر لمُعطى بشرية يوسف عليه السلام، فلا ضير ولا غرابة ولا عيب أن يكون قد مال إليها فيكون همّه من جنس همِّها، ناسيا أو متناسيا في غمرة هذا النوع من المغامرة والارتجالية أن الكلام هنا في مقامٍ صاحبه من الأنبياء المكرمين، وعباد الله المخلصين "والله أعلم حيث يجعل رسالته".
    ولنبدأ هذا الغيث بأول قطراته...(يتبع)










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل

    جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (2 يتبع)


    محمد بوقنطار

    ولنبدأ هذا الغيث بأول قطراته...(يتبع)
    القطرة الأولى : مناقشين ابتداء مُعطى البشرية، وازنين حظ هذا المُعطى بميزان النقل والعقل، حتى يتسنى لنا ترشيد مفهوم "الهمِّ" كي لا يكون هذا المعطى على يوسف عليه السلام يكرس التهمة ويثبت الإدانة، وإنّما المراد المحمود شرعا وكونا أن يكون هذا المعطى له ولصالحه يُعضد رصيده الأخلاقي بما يتواءم ويطرد كلازمة في مقتضى العصمة، كما لا يقدح في حكمة الاصطفاء الرباني لموضع ومحل رسالته.
    ذلك أن السياق التراتبي "الكرونولوجي" لأحداث أحسن القصص يحكي بالمتواتر قطعا غير المكرر في القرآن أن يوسف عليه السلام أسرّوه بضاعة لينتهي به المطاف منتقلا في سياق التمكين المستشرف له وعدا من ربّه ومولاه سبحانه، حيث رحلة الابتلاء في مقدماته، يبدأ من غيابات الجب، منتهيا به المطاف في قصر العزيز وزير مالية حكومة الملك الفرعون، وقد كان هذا بعدما اشتراه من السيّارة، ليحلّ ضيفا تغمر حياته ومقدمات هذا التمكين وصية هذا العزيز لامرأته : أن أكرمي مثواه رجاء وعسى أن ينفعنا، أو نتخذه ولدا، وقد كان يومها طفلا صغير السن، تواطأت روايات الكثير من المفسرين على كونه إبانها لم تتجاوز سنه الخامسة، وقد جاء في ثنايا بعض كتب التفسير وعلى حكاية بعض العلماء ما يعضد حقيقة حداثة سِنِّه، وهم يشرحون في تسويغ عقلي منطقي ذوقي إشكالية سبقه بمعرفته لإخوته لما دخلوا عليه وهم لمعرفته منكرون، ذلك أن عقل الصغر ومعه ذاكرة الطفولة هما أوثق في تخزين الصور والمعلومات، سيما وأنّهم إي إخوته كانوا أكبر منه سِنّا فلم يكن قد طرأ عليهم كبير تغيير، طيلة غربته عنهم، وبعده عنهم وعن أبيه يعقوب، في مقابل خصوصه هذا نجد أنه كصغير قد تعرض لتغييرات قد تكون استوعبت كلَّه شكلا وحجما وصورة، الأمر الذي يجعل مسألة التعرف عليه صعبة أو شبه مستحيلة.
    ولك أن تتخيّل على نحو متجرد حياة طفل صغير حباه الله بصورة ملائكية يكشف عنها السياق القرآني في إطار الانبهار الأخاذ الذي وقع لنسوة المدينة أول ما رأينه، إذ قال الله تعالى على لسانهن "وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"، يعيش بين مكامن عطف سيدة اجتمعت فيها القرائن الثلاث "المنصب والمال والجمال"، إن معطى البشرية في ظل وضع يفيض حنانا وعطفا وجميل تعلق من سيدة تجاه طفل مكفول، ليمشي (معطى البشرية) في اتجاه أن هذا الصغير ما فتئ يتربى بين جوانح وجدانه، وينمو ويكبر في فؤاده إحساس الأمومة تجاهها، فلطالما شبّ معها في خلوات تحكمها ضوابط الأمومة والبنوة، قد استمرأ في معاملتها بما لا يفرق قيد أنملة عن تعامل ومعاشرة أم لابن من أبناء بطنها.
    ولعلها إن كانت هي بعد طول أمد وقد اشتد عوده، قد نسيت أو تناست هذا الإلف المستمرأ تحت قهر وسطوة ما حباه الله به من جمال أخاذ، فحصل ما حصل منها من فعل المراودة ، فما كان له هو أن يبادلها نفس الشعور ولا أن يقايضها عين السلوك المشين، ومتى ذلك؟ بعد أن يكون في استحالة مستحيلة قد انسلخ عن، وتحلّل من، مشاعر الأمومة التي استوطنت دواخله، وعمّر إحساسها العميق الوثيق فؤاده لسنين عددا، لتتحرك فيه بغثة نوازع الشهوة وتضطرم نيران النزوة فيتعلق قلبه، وتميل نفسه إلى امرأة لا تحل له شرعا ولا عرفا ولا يقبل على فعلها ذو مروءة، فحاشاه ثم حاشاه، وهو الذي لمّا بلغ أشدّه أتاه ربه حكما وعلما وجعله من المحسنين، قال تعالى "ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين".
    ويا للعجب كيف تُحشر هذه النقيصة في سجل سيرة نبي من المخلصين فيُساق شخصه الكريم في مثل هذا الاحتمال المرجوح توهمه أو توقعه أو وقوعه من مكفول تربّى في كنف كافلته تُنظف جسده وترجل شعره، وتُقبّل جسده الصغير في براءة، وربما تكشف عن مواضع قُبُله ودُبره في ضرورة، فهل يا ترى سمعنا يوما أن مكفولا ابنا تحركت فيه نوازع الشهوة وقد ضمته أمه الكافلة إلى صدرها، أو قد تربص بما لا يحل بينما رأى من كافلته سفورا أو صادفها يوما في زينتها، أو وهي خائضة في وضع ملابسها، إنها احتمالات لا يُعمّر طيفها المقبوح طويلا في مخيلة من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
    ولذلك فمتى ما استقر بياض هذه الصور في وجدان الأنقياء الأتقياء من أيها الناس، وكان هذا البياض وجاءت تلك البراءة في المكفول وفينا كأيّها الأبناء مع أيّها الأمهات راجحة ـ ولا نبرئ النفس البشرية مطلقا، وإنّما لا تزال القواعد تؤسس في مقام الأخلاق على الجُلّ الغالب ـ إذا كان هذا مستبعدا معدومَ الاحتمال لا عين له ولا أثر، فهو في عبد من عباد الله المخلصين، ونبي من الأنبياء المحسنين وأخ كريم لسيّد الثقلين آكد ومقرر، وضده مرجوح، مستبعد، ممجوج بالفطرة، مذموم بالطبع، مستصغر الشأن، مأنوف الوزن، معارض لمقتضيات مقام النبوة، مخالف لحكمة الله في حيث يجعل رسالته اصطفاء واجتباء سبحانه وتعالى.
    إن معطى البشرية إذاً والذي قدّمه بعض المفسرين، بين أيديهم مستسيغين أو مسوّغين ـ ببراءة وحسن نية طبعا ـ رجحان احتمال وقوع الهمّ المخل وميل نفس هذا النبي الكريم لمقارفة المحظور المنافي لملة وسيرة آبائه من المصطفين الأخيار، هو مُعطى يمكن استثماره في تزكيته، والاستبراء لمقام النبوة، وهاهنا وجب التنبيه على خصيصة هذا الأمر إذا ما فزعنا إلى إسقاط واقعة مراودة امرأة العزيز، على نظيرها مِمّا وصلنا من قصص سندرجها في محلّها وأوانها المناسب من هذه السلسلة، والتي ضَارَعَتْ فيها أحداث وتفاصيل قصة يوسف وامرأة العزيز، ما وقع لبعض الأعيان من أمة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وسطّر لهم التاريخ الإنساني مواقف ضاربة في عمق العفة والخشية وجب أن تكتب بماء العيون، مع أن الطرف أو النسوة المراودات كن غريبات عن المراودين عن أنفسهم من شباب أمة الوسط، ومن تدبر هذا الإسقاط في دائرة المقارنة، تبيّن له أن يوسف عليه السلام كان له امتياز لم يكن متسنى لغيره ممن وقع في شراك المراودة والابتزاز الغرائزي، ذلك هو امتياز الإلف المستمرئ، وخصيصة الإحساس بمشاعر الأمومة تجاه من حصل منها فعل المراودة، وقد تمنت بمعيّة زوجها العزيز يوما وهي تستقبله يافعا صغيرا في قصرها أن ينفعها أو تتخذه ولدا...
    يُتْبع مع :
    ثاني القطرات : مُتناولين من خلالها لوازم السياق بين قولها "هيت لك" وقوله عليه السلام "معاذ الله..."
    ثالث القطرات : مُستقرئين عبارات السياق وإشارته المتعلقة بإحكامها لإقفال الأبواب واستباقهما الباب في لحاق محموم، وملاقاة سيدها بترتيب وتعقيب له إحالاته...
    ثم يُتبع بباقي القطرات بإذن الله تعالى، سائلين الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل

    جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (3 يتبع)


    محمد بوقنطار

    القطرة الثانية :
    ...على بدء متصل بسابقه، ورجوعا إلى السياق القرآني حيث تتسابق الأحداث في سرد تسارعي يحكي بالمقطوع أن أوّل ما قابل به يوسف عليه السلام مطلوب ورغبة امرأة العزيز، وقد أحكمت إقفال الأبواب ووضبت مسرح الجريمة ثم نبست بما يفيد أنّها صارت محروزة عن أعين الناس والمخالطين من الخدم والحشم حيث قالت "هيت لك"، هو ردّه عليه السلام في صدق استعاذة، وخشية من الله، ومخافة أن يسقط من وفد المفلحين فيكون في وِرد الظالمين، وتوقيرا منه لصاحب القصر الذي آواه وأحسن مثواه "معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون"، وفي قوله هذا لطيفة يستدل بها على أن للطبع والمروءة حظهما من الاعتبار كوازعين حاملين مساعدين على الترك للمنهي عنه بالشرع أصالة ونقاوة الفطرة تبعا، وهذا ما يشير إليه قول يوسف عليه السلام "إنه ربي أحسن مثواي"، وإنّما كان من كمالات السياقات القرآنية، وعظيم المعاني البلاغية أن يأتي وازع الطبع ذلك معطوفا رديفا للأوْلى المُقدم في الاعتبار ونقصد به الوازع الشرعي المتمثل في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام "معاذ الله"، وكيف لا والمتلفظ بهما نبي كريم يستبرئ لدينه معاداة للشهوات أولا ثم لعرضه ثانيا اتقاء للشبهات.
    كم يا ترى يحتاج هذا العبد الصالح، المخلص، الصادق، الحكيم، العليم، الحفيظ، الأمين، المحسن، كم يحتاج من الوقت والزمن حتى ينقلب ويتمرد وينسلخ عن ثوب العفة التي تنضح به تلك المقدمة الصادقة الملأى بالاستعاذة والاستجارة بالجناب الإلهي، وقد دل السياق أن سيل الأحداث كان متسارعا مهتبل اللحظات من طرفها وقد أثثت معالم اختلائها، نعم كم كان يحتاج يوسف عليه السلام من الوقت حتى يُخرج من قلبه ذلك القبس التربوي الذي هيّأه الله عليه منذ الرؤية الأولى إلى غيابات الجب وظلم الإخوة المتشاكسين في إبعاده حسدا منهم على مكانته وقرب منزلته عند والده يعقوب عليه السلام، وصولا إلى قصر العزيز...
    فهل كانت تلك البرهة من الزمن كافية لنقله من صدق الإحساس إلى زوره، ومن خشية الله إلى التجاسر على محارمه في أبشع صور الخيانة، ومن عفة الأنبياء إلى نذالة السفهاء، ومن منقبة الوفاء إلى مثلبة الشقاء.
    إنه انتهاك صارخ، وهتك صافق لعِرض السياق بين مطلعه الصفي النقي، ومزاعم مقطعه الضارب في عُرى الخيانة لله، ولحرمة سيد ربّاه وأكرم وفادته وأحسن مثواه، وقد جاء في نصوص ديننا ووحي نبيّنا عليه الصلاة والسلام ما يُستفاد منه تغليظ إباق العبد من سيّده، ففي رواية عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيّما عبد أبق، فقد برئت منه الذمة" وعنه أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام "إذا أبق العبد، لم تقبل له صلاة" وفي رواية "فقد كفر" رواهما مسلم.
    وللمسلم المنصف المتجرد للحق وطالبه أن يبسط ويُعمل فعل المقارنة في دائرة السوء، مميّزا بفطرته ودينه عن أيّهما الأسوء، هل كان العبد الآبق من سيّده؟ أم المُخاني بحليلة جاره أو حتى المتماهي في حدود الهم بفعل الفاحشة مع حليلة سيّده؟
    إن تصوير همّه مماثلا لهمّها في الحال والمقال وهي من هي؟ وهو من هو عليه السلام؟ ليُعَدُّ قدحا وخرقا لميثاق النبوة، واعتداء سافرا على مفهوم العصمة التي انطبعت بها سيرة الأنبياء والمرسلين منذ آدم عليه السلام وإلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنهم معشر الأنبياء إخوة لعلات كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد".
    ولذلك فإنها والله وبالله وتالله لعصمة يُعارضها مجرد حديث النفس، بل وتقدح في نصع بياضها خاطرة السوء، فكيف من باب الأولى ما عُلم شرعا وعرفا وطبعا أنه تناهى في الشناعة والقبح، وكان المراد به الهمّ بمواقعة الزنى وارتكاب الفاحشة وتسوّر محراب حمى الناس في بغي وخيانة، وقد علمنا من منطوق نهي النص هاهنا "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا"، ولا شك أنه نهي أبلغ في المراد وأكثر تشديدا لأنه جاء مستوعبا للمقصود والوسيلة إلى ارتكابه، وهذا له مثيل نجده في نهي الله سبحانه لأبينا آدم وأمنا حوّاء عن الأكل من الشجرة إذ قال سبحانه "ولا تقربا هذه الشجرة..."
    ولذلك كان مجرد القرب من مجال هذه الجريمة والخوض في مقدماتها فاحشة وقد عُلِم أنها ساءت سبيلا، ثم انظر إلى ضميمة ما انضاف في سياق الآية التالية من سورة النساء ونعني بها ضميمة "مقتا" التي تفيد الزيادة في الإنقاص والتحقير في شأن من نكح ما نكح أبوه ـ والنكاح هنا معناه الزواج ـ ، إذ قال الله جل في علاه "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا" فكيف بمن همّ أو مالت نفسه لمواقعة الحرام من امرأة من ربّاه وأكرم نزله وأحسن مثواه وكان في مقام والده؟؟؟
    وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أي الذنوب أعظم، فيقول عليه الصلاة والسلام :( أن تجعل لله ندّا وهو خلقك) فيسأل ثم أي؟ فيقول :( أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك) ثم أي؟ فيجيب عليه الصلاة والسلام :( أن تُزاني حليلة جارك).
    فإذا علمنا من الرواية أن حق الجار عند أيّها الناس أكبر وأعظم، وأن من اعتدى على حرماته كان ذلك عند الله أسوء وأحقر وأعظم ذنبا، فكيف بحقوق من ربى وأحسن وأبر واتخذه ولدا، وكيف في المقابل بنبي مُعظم، أمين، مخلص، محسن، كيف وأنّى له أن تتحرك فيه زغبة من خاطرة سيِّئة مُردية، وقد عرفنا أن صغيرة الرجل الذي يُقتدى به كبيرة، وقد علمنا أن هذه القدوة وذلك الرجل إنّما هو نبي من المصطفين الأخيار.
    وعليه قد ورد وجاء بالقطع ما يفيد اتفاق الشرائع السماوية حول مسألة أن الحرام الواحد قد يُغلّظ في عقوبته متى ما اجتمعت فيه أو انضافت محتفة به قرائن ومعطيات أخرى تكون هي من جنس المكروهات أو حتى نوعها، ولعل هذا بيّن واضح في ما سقناه أعلاه من أمثلة لها وزنها في القرآن الكريم، كما لها اعتبارها الوازن الثقيل في السُّنة الثابتة الصحيحة.
    يتبع مع القطرة الثالثة :
    وفيها ومن خلالها نبسط الكلام مُستقرئين عبارات السياق وإشارته المتعلقة بإحكامها لإقفال الأبواب، واستباقهما الباب في لحاق محموم، وملاقاة سيّدها بترتيب وتعقيب له إحالاته...
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •