تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين

    عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (1)


    د. زين العابدين كامل



    نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (2)

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فلعل مِن المناسب في هذا المقام، وقبل أن نشرع في الحديث عن أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- ومواقفهم خلال الفتنة، أن نقوم بقراءة مختصرة لأحوال بعض المؤرخين على اختلاف مشاربهم، وتنوع روافدهم الفكرية، وأن نسلِّط الضوء على مناهجهم في كتابة التاريخ.
    ولا شك أن هذه القراءة سيكون لها أثر طيب -بمشيئة الله-، حيث إنها ستساعد القارئ على فهم الأحداث بعمقٍ ودقةٍ وشموليةٍ؛ نظرًا لأن التاريخ بحر لا منتهى له، والمناهج في كتابته متعددة، والأسانيد المتصلة لناقليه قليلة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: “ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير”([1])، ويقول ابن خلدون: “وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها”([2])، وِمن ثَمَّ كان لا بد من ذكر بعض الملامح العامة لبعض كتب التاريخ.

    ومن هذه الكتب:
    تاريخ خليفة بن خياط: لصاحبه خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني الليثي العُصفُري البصري، وهو الإمام الحافظ، العلَّامة الأديب المؤرخ النسَّابة، المتوفى سنة (240هـ)؛ أثنى العلماء عليه، فقال ابن عدي: مستقيم الحديث، صدوق، من متيقظي رواته، له تاريخٌ حسن، وقال ابن حبان: كان متقنًا عالمـًا بأيام الناس.
    وقال عنه ابن خلكان في ترجمته: “كان حافظًا، عارفًا بالتواريخ، وأيام الناس، غزير الفضل”، وأثنى عليه ابن العماد في الشذرات، وكذلك أبو بكر بن العربي حين اعتمده ونقل عنه في كتابه: “العواصم من القواصم”.
    وقد جمع خليفة في كتابه أخبارًا وأحداثًا تاريخية حتى سنة 232هـ، وقد تأثَّر خليفة المحدِّث والفقيه بأصول مدرسة الحديث أثناء كتابته للتاريخ؛ لذا يُعد كتابه من أوثق كتب التاريخ التي يحتاج إليها الباحث؛ لا سيما وهو أقدم كتاب في التاريخ الإسلامي.

    الأخبار الطوال: لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة (282ه)، وُلد في بداية القرن الثالث الهجري، بمدينة دينور بإقليم همدان في إيران، ونشأ في أسرةٍ من أصل فارسي.
    ويعد هذا الكتاب من أهم المصادر التاريخية الأولى وفاية في سرد حوادث الحياة المعاشية والسياسية والحربية عند الفرس، وهذا الكتاب من المصادر التاريخية الأصيلة، فهو من أوائل الكتب المتكاملة التي جمعت التاريخ منذ زمن آدم -عليه السلام- وحتى وفاة الخليفة العباسي المعتصم بالله، ولقد أثنى بعض العلماء على الدينوري، قال عنه ابن النديم: “ثقة فيما يرويه ويحكيه”. وقال أبو حيان: “أبو حنيفة الدينوري من نوادر الرجال جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم”.
    وقال الذهبي: “صدوق، كبير الدائرة، طويل الباع”.ولكن المتتبع والقارئ لتاريخه يلحظ عليه تأثره بأصله الفارسي، فهو يمر سريعًا بفترة الرسالة والخلافة الراشدة؛ لكنه يطيل النفس عندما يتحدث عن الأحداث التي وقعت في أرض فارس، وكان يسرد التاريخ بطريقة تشبه طريقة سرد القصص، ولم يهتم في كتابه بمسألة الأسانيد.
    تاريخ الرسل والملوك:
    لأبى جعفر: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري -رحمه الله تعالى-، يُكنى بـأبي جعفر، وعُرف بذلك، واتفق المؤرخون على أنه لم يكن له ولد يسمى بـجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولد سنة ( 224 هـ ) وتوفي (سنة 310 هـ ).
    قال الخطيب البغدادي: “استوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته“([3]). وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدَّمه والده إلى علماء آمل، حتى قال الطبري عن نفسه: “حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة”.
    قال عنه ابن كثير -رحمه الله-: “وكان من العبادة والزهاد والورع والقيام في الحق، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان من كبار الصالحين“ ([4]).
    وكان الطبري -رحمه الله- زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وكان يمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء([5]).
    ومنهج الطبري في كتابه هو جمع الرواية التاريخية والاهتمام بسندها، فكان يجمع الروايات ويدونها مع إسنادها إلى أصحابها، ومن منهجه أيضًا الحيادية، فهو يعرض مختلف وجهات النظر دون تعصب، أما فيما يتعلق بعدالة الرواة، فإن الإمام الطبري لم يتقيد بضوابط أهل الحديث، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنه هشام، والواقدي، وسيف بن عمر، وأبي مخنف، وغيرهم من الضعفاء والمتهمين بالكذب والوضع في الحديث.
    فعلى الناقل من تاريخ الطبري أن ينتبه لهذا جيدًا، فإن الكتاب رغم منزلته وغزارة علم صاحبه إلا أن فيه أخبارًا ضعيفة لا تصح، وقد ذكرها الإمام الطبري بأسانيدها، ولكنه قد أشار في كتابه على أنه قد جمع الأحداث والمرويات، ولكن لا بد من النظر في أمر الصحة والضعف، وأنه ليس مسئولًا عن كل الأخبار التي نقلها، بل هو قد نقلها كما بلغته فقط.
    فيقول رَحِمَهُ اللهُ في مُقدِّمةِ كِتَابِه: (تَارِيْخِ الأُمُمِ والمُلُوْكِ): “فَمَا يَكُنْ في كَتابِي هَذَا مِنْ خَبَرٍ ذَكَرْنَاهُ عَنْ بَعْضِ المَاضِيْنَ مِمَّا يَسْتَنْكِرُهُ قَارِئُه، أو يَسْتَشْنِعُهُ سَامِعُهُ، مِنْ أجْلِ أنَّه لَمْ يَعْرِفْ لَهُ وَجْهًا في الصِّحَّةِ، ولا مَعْنىً في الحَقِيْقَةِ، فلْيَعْلَمْ أنَّه لَمْ يُؤتَ في ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، وإنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نَاقِلِيْهِ إلَيْنا، وأنَّا إنِّما أدَّيْنا ذَلِكَ على نَحْوِ ما أُدِّيَ إلَيْنا”([6]).
    ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.


    ([1]) رواه الخطيب في “الجامع” (2/162)

    ([2]) مقدمة ابن خلدون ص 10 .

    ([3]) تاريخ بغداد (2/ 549 (.

    ([4]) البداية والنهاية (11/166).

    ([5]) الإمام الطبري لمحمد الزحيلي، ص68.


    ([6]) المصدر السابق (1/ 8).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين


    عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (2)


    د. زين العابدين كامل




    نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (3)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فما زلنا نلقي الضوء على بعض كتب المؤرخين من حيث منهجهم في كتابة التاريخ، حيث إن منهج المؤرخ وميوله الفكرية والمذهبية لها تأثير على كتاباته التاريخية.
    المنتظم في تاريخ الأمم والملوك:
    لصاحبه: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ )، ينتهي نسبه إلى خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو عربي قرشي، ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي تكلمت في التاريخ، وقد ابتدأ مصنفه من بدء الخلق إلى أواخر القرن السادس الهجري، وقد تميز كتاب المنتظم عما سبقه من كتب التاريخ، حيث إنه يجمع بين كونه سردًا تاريخيًّا للأحداث، واحتوائه على ثلاثة آلاف وثلاثمائة ترجمة لمختلف الشخصيات، مِن: خلفاء وملوك ووزراء، وفقهاء ومحدثين، ومؤرخين، وفلاسفة وشعراء، ومصنفين، وغيرهم، ولقد استفاد ابن الجوزي في كتابه من ابن سعد في الطبقات، وتاريخ الطبري، وابن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، أكثر من غيرها من المصادر.
    ولقد كان ابن الجوزي شغوفًا محبًّا لطلب العلم مهما كلفه من عناء في طلبه، فهو يقول في ذلك: “ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى([1])، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم”([2]).
    وقد بدأ ابن الجوزي كتابه بمقدمة أوضح فيها أهمية التاريخ ومناهج المؤرخين، ثم تتبع قصة الخلق وما جرى فيها ، ثم انتقل من حديثه عن الخليقة وخلق الأرض إلى النبوات بدءًا بآدم عليه السلام وانتهاء برفع عيسى عليه السلام؛ هذا وقد أطال ابن الجوزي النَّفَس في تاريخ الفرس وملوكهم، وخصص بعد ذلك الإمام ابن الجوزي جانبًا كبيرًا من “المنتظم” للسيرة النبويّة تناول فيها مرحلة المولد وما كان فيها من أحداث، ثم مرحلة النبوة، ثم بعد ذلك مرحلة الهجرة ،وبعد الانتهاء من عصر النبوة وتقصّي أحداثها بدقة واستفاضة تناول ابن الجوزي العصر الراشدي متناولًا الأحداث السياسية والعسكرية التي حدثت خلال هذه الفترة، ثم بعد ذلك تناول العصر الأموي، ومر على جميع الأحداث السياسية، حيث تناول ثورة الحسين رضي الله عنه واستشهاده، وتناول أيضًا حركة زيد بن علي، وحركات الخوارج، وحركة صالح بن مسرح الخارجي، والحركة الزبيرية وغيرها من الحركات السياسية، ولم يغفل علاقة الدولة الأموية بالروم، ومواصلة الأمويين زحفهم لتحرير الأندلس، ومناطق كثيرة من المشرق الإسلامي، ثم تناول بعد ذلك العصر العباسي بين عام 132 هـ – إلى 574 هـ.
    وقد تناول ابن الجوزي جميع النواحي السياسية و الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، فجاء كتابه كتابًا جامعًا لا يستغني عنه دارس التاريخ، وكان ابن الجوزي يهتم بمسألة الأسانيد والجرح والتعديل؛ لذا أثنى العلماء عليه، فقال فيه الإمام الذهبي: “الواعظ المتفنن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم من: التفسير والحديث، والفقه والزهد والوعظ، والأخبار والتاريخ، والطب، وغير ذلك، ووعظ في صغره وفاق فيه الأقران، ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لا يوصف ورأى من القبول والاحترام ما لا مزيد عليه، وحكى غير مرة أن مجلسه حزر بمائة ألف وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر”([3]).
    وقال عنه ابن خلكان: “كان علاّمة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة”([4]).
    الكامل في التاريخ:
    لابن الأثير: أبو الحسن، علي بن أبي الكرم، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ/1232م)، كانت أسرة ابن الأثير معروفة بحب العلم، واستقرت أسرته في مدينة الموصل العراقية. وهو أوسط الإخوة الثلاثة الذين نبغوا في ميادين العربية والإسلامية.
    كان ابن الأثير حافظًا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيرًا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم؛ ولذا كان أكثر ما اشتهر به دارسة التاريخ، ويعتبر كتاب: (الكامل في التاريخ) أهم مؤلفات ابن الأثير في هذا المجال؛ إذ تناول فيه دراسة التاريخ العام للعالم الإسلامي، ابتداءً بالخليقة على عادة جُلّ أهل التاريخ الإسلامي، وانتهى عند آخر سنة 628ه/1230م.
    ويعتبر (الكامل في التاريخ) من أهم الكتب في التاريخ الإسلامي. والتزم المؤلف في نهجه التوازن بين الأحداث في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وعندما اقترب من عصره حاول تفصيل الأحداث([5]).
    وتجلت مواهب ابن الأثير في طريقة عرضه للحقائق، فقد أعرض عن ذكر التفاصيل التي لا فائدة منها، واهتم بفحص المصادر، وتخير من النصوص ما يناسب الحقائق، وألّف في كل ذلك خلاصة لكل ما وقع من الأحداث في السَّنَة، ويعتبر كتابه هو أحسن ما صنف من كتب التاريخ العالمي الإسلامي على نسق الحوليات([6]).
    ومن مميزاته: التمهيد للخبر بمقدمة مختصرة تربط بين ما ذكره من أحداث وبين ما سيذكره حتى يستطيع القارئ أن يجمع الحدث كله في بوتقة ذهنية واحدة، وقد خلا الكتاب من الأسانيد التي تطول أحيانًا مراعاة لقارئ الكتاب([7])، ولكتاب ابن الأثير ابتداءً من الجزء العاشر أهمية خاصة؛ نظرًا لأنه يؤرِّخ لأحداث قريبة العهد من زمنه، سمع بها وشارك فيها، وعالج في هذه الفترة الممتدة من سنة 450هـ ما وقع من صدام بين الغرب المسيحي والعالم العربي، فيما يُعرف باسم: “الحروب الصليبية”([8]).
    تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام:
    لصاحبه: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)، كان مؤرخًا ومحدثًا، وهو صاحب كتاب: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وقد تناول الذهبي في كتابه: “تاريخ الإسلام”، الأحداث التاريخية منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى عام 700 هـ، وشمل الكتاب العالم الإسلامي كله سواء بلاد العرب أو الأندلس أو المشرق الإسلامي، وقد اهتم الذهبي بالأحداث الرئيسية التي مرَّ بها المسلمون خلال سبعة قرون، وأكثر في كتابه من التراجم للشخصيات المختلفة، حتى قدر الدكتور بشار عواد عدد تراجم الكتاب بأربعين ألف ترجمة، وقد اهتم الذهبي في كتابه بالنواحي الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعلمية والثقافية، حيث اهتم بالمدارس الفكرية ومراحل تطورها، وكذا اهتم بالمدارس المذهبية، واهتم كذلك بالنواحي التعليمية وطرق التدريس وأماكن الدراسة، ونحو ذلك.
    وترجم لعددٍ كبيرٍ من العلماء، وقد قام الإمام الذهبي بتقسيم أغلب الكتاب إلى وحدات زمنية، كل عشر سنوات سماهم طبقة، ولقد استعمل الذهبي في كتابه اللغة العربية القوية، فلم يستعمل العامية، وقد ظهرت ملكته الأدبية والبلاغية أثناء كتابته، ثم سجل الذهبي بعض الأحداث التي عاشها وعاصرها بنفسه، ووصل الذهبي في تحريه للدقة إلى أنه كان ينقل أحيانًا تواريخ بعض الوفيات من لوحات المقابر، ولقد اعتمد الذهبي على مئات المؤلفات التي سبقته في كتابة التاريخ، مما جعل الكتاب يحتوي على تراثٍ فكريٍ كبيرٍ، ولقد اعتنى الذهبي بذكر الموارد والمراجع التي نقل عنها، واهتم بالمؤلفين الذين عاصروا بعض الحوادث بأنفسهم.
    ومما تميز به الذهبي أيضًا: الدقة في نقل النصوص؛ لاسيما عند نقل بعض الأشعار والأدب وأقوال العلماء في الجرح والتعديل وكذا عند نقل المرويات التاريخية المسندة إلى شيوخه، حيث إنه كان أحيانًا يروي بالمعنى، وكان يشير إلى التصرف والاختصار إذا فعل ذلك أثناء النقل.
    ومن منهجه في كتابة التاريخ: الاهتمام بالترجيح بين الروايات التاريخية عند ذكره لكثير من الروايات، ثم إنه اعتنى واهتم بانتقاء أصح النسخ؛ لاسيما التي وقع عليها المؤلف([9]).
    البداية والنهاية:
    لصاحبه ابن كثير : و هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، نشأ في دمشق، ودرس العلم على يد مجموعة من كبار الفقهاء، وقد اتجه ابن كثير إلى دراسة علم الحديث والتراجم، والسيرة النبوية والتاريخ، وسمى: “كتابه البداية والنهاية”، حيث تكلم الإمام ابن كثير في مؤلفه العظيم عن التاريخ الإسلامي الشامل مبتدئًا من بداية خلق الله سبحانه وتعالى مارًّا بقصص الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وقد جمع أخبارًا كثيرة حول سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرد سيرة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم ترجم لأشهر الأئمة والأعلام، وذلك حتى نهاية سنة 767هـ/1365م؛ ولذلك سمَّاه: “البداية والنهاية”.
    وقد اعتمد على طريقة التبويب على السنوات، ويبدأ السنة بقوله: “ثم دخلت سنة… “، ثم يسرد الأحداث التاريخية فيها، ثم يذكر أبرز مَن توفوا في هذه السنة.
    وقد قرأ ابن كثير الموسوعة التاريخية: (تاريخ الإسلام للذهبي)، ونقل عنه وحذا في كتابه البداية والنهاية، حذو ابن الأثير في الكامل، فرتب أحداثه على السنين الهجرية، ويعتبر كتاب: “البداية والنهاية” من أهم الكتب التاريخية، هذا وقد التزم ابن كثير بالرواية بالأسانيد، وبيان درجة الحديث، فسار على منهج أهل الحديث، وقام رحمه الله بمجهود عظيم وسعي حثيث في تحقيق الأخبار وتنقيح الروايات، ونقد الأسانيد.
    ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
    ([1]( يقع نهر عيسى غربي بغداد (معجم البلدان 4/ 407).
    ([2]) انظر: صيد الخاطر (153).
    ([3]) الذهبي (المتوفى: 748هـ) العِبَر في خبر مَن غبر (3/119).
    ([4]) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان (3/140).
    ([5]) السيد عبد العزيز سالم، التاريخ والمؤرخون العرب، الناشر: مؤسسة شباب الجامعة، ط 2013، (ص 103).
    ([6]) السيد عبد العزيز سالم، المرجع السابق، (ص 103).

    ([7]) السيد عبد العزيز سالم، المرجع نفسه، (ص 104).

    ([8]) يسري عبد الغنى عبد الله، معجم المؤرخين المسلمين حتى القرن الثاني عشر الهجري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1991، (ص 36).
    ([9]) للمزيد راجع: الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام: بشار عواد معروف، وهو من المتخصصين في الدراسات التاريخية



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين

    عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (3)


    د. زين العابدين كامل



    نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (4)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فما زلنا نلقي الضوء على بعض كتب المؤرخين من حيث منهجهم في كتابة التاريخ، حيث إن منهج المؤرخ وميوله الفكرية والمذهبية له تأثير بالغ على كتابته التاريخية -كما ذكرنا سابقًا-، ومِن الكتب التي نريد أن نسلِّط الضوء عليها عن طريق النقد والتمحيص، والتي يجب الحذر منها؛ لأنها ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في تشويه التاريخ الإسلامي لاسيما في مراحله الأولى:
    كتاب: “الإمامة والسياسة” المنسوب لابن قتيبة([1]):
    هذا الكتاب يعتبر من أكثر الكتب التي شَوَّهت تاريخ الإسلام، فهو يحتوي على أخطاءٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ، فهو طافح بالروايات الضعيفة والموضوعة والمكذوبة؛ لذا كان الكتاب قنطرة للمستشرقين والمنافقين الطاعنين في تاريخ الإسلام؛ لا سيما وهو يتحدث عن الفترة ما بين خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحتى خلافة هارون الرشيد.
    وللأسف لقد رأينا بعض المؤرخين المعاصرين يعتمدون عليه في بعض النقولات، دون التثبت من نسبته لابن قتيبة رحمه الله، ومِن هؤلاء: عبد الوهاب النجار في كتابه: (الخلفاء الراشدون)، والخضري في محاضراته، وحسن إبراهيم حسن في كتابه: (تاريخ الإسلام).
    هذا وفي نسبة الكتاب لابن قتيبة رحمه الله نظر، وقد ذكر بعض المهتمين بهذا الأمر عدة أدلة وبراهين تدل على كذب وزور هذه النسبة، ومنها:
    أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألَّف كتابًا في التاريخ يُدَعى: “الإمامة والسياسة”.
    أن المتصفح للكتاب المذكور يشعر وكأن ابن قتيبة رحمه الله أقام في دمشق والمغرب، في حين أنه لم يخرج من بغداد إلاّ إلى الدينور([2]).
    أن المنهج والأسلوب الذي سار عليه مؤلف الكتاب المذكور يختلف تمامًا عن منهج وأسلوب ابن قتيبة في كتبه التي بين أيدينا.
    يروي مؤلف الكتاب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة، بشكلٍ يُشعر بالتلقي عنه، والمعروف أن ابن أبي ليلى توفي سنة 148هـ، وأن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213هـ؛ أي: بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عامًا تقريبًا.
    إن الرواة والشيوخ الذين يروي عنهم ابن قتيبة عادة في كتبه لم يرد لهم ذكر في أي موضع من مواضع الكتاب.
    يقول الدكتور علي نفيع العلياني في كتابه: “عقيدة الإمام ابن قتيبة” عن كتاب الإمامة والسياسة: “بعد قراءتي لكتاب الإمامة والسياسة قراءة فاحصة، ترجَّح عندي أن مؤلف الإمامة والسياسة رافضي”.
    كتاب: “نهج البلاغة”:
    وهو أيضًا من الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه، فقد جُمع بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأكثر من ثلاثة قرون، والشيعة ينسبونه إلى الشريف الرضي، ويقال: إن الكتاب جمع فيه المُختار والمأثور من أقوال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى كل حالٍ؛ فالعلماء الثقات قد ردُّوا هذا الكتاب، ورفضوه سندًا ومتنًا.
    * قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى: “وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل جمعه؟ أم جمعه أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام عليّ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه”([3]).
    * قال الذهبي رحمه الله: “مَن طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، ففيه السبّ الصُّراح، والحط على السيدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممّن بعدهم مِن المتأخرين جزم بأنّ أكثره باطل”([4]).
    وقال ابن تيمية رحمه الله: “وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي؛ ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم، ولا لها إسناد معروف”([5]).
    * وأما ابن حجر رحمه الله، فيتّهم الشريف المرتضى بوضعه، ويقول: “ومَن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ، وأكثره باطل”([6]).
    كتاب: “الأغاني للأصفهاني”([7]):
    هذا الكتاب في الحقيقة لا يعتبر كتاب تاريخ؛ لأنه جمع بين الأخبار، والشعر والغناء، والسمر، ونحو ذلك؛ إلا أنه من الكتب التي ساهمت أيضًا في تشويه تاريخ صدر الإسلام؛ نظرًا لاحتوائه على كثيرٍ مِن الكذب والمعايب في حق آل البيت والصحابة رضي الله عنهم؛ لذا تصدَّى له العلماء.
    * قال الحسن بن الحسين النوبختي: “كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس، كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف، ثم تكون كل رواياته منها”([8]).
    * قال ابن الجوزي رحمه الله: “ومثله لا يوثق بروايته، يصّرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهّون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومَن تأمَّل كتاب الأغاني؛ رأى كلَّ قبيحٍ ومنكر”([9]).
    * قال الذهبي رحمه الله: “رأيت شيخنا تقّي الدين ابن تيميّة يضعّفه، ويتّهمه في نقله، ويستهْوِل ما يأتي به”([10]).
    كتاب: “تاريخ اليعقوبي”:
    وهو لأحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح العباسي، مِن أهل بغداد، توفي عام 290هـ وهو مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية، حتى لُقب بالكاتب العباسي، وقد استعرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه كما يعتقد الشيعة، ومِن ثَمَّ لم يعترف بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأكثر في كتابه من الطعن والسب والتشويه حول كبار الصحابة: كأم المؤمنين عائشة وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم.
    وللأسف؛ فإن هذا الكتاب يعتبر من المراجع لكثيرٍ من المستشرقين والمنافقين، مع أنه كتاب ساقط لا قيمة له من الناحية العلمية؛ إذ إنه يفتقر لقواعد كتابة التاريخ، وضوابط البحث العلمي، حيث إنه قد ملئ بالقصص والخرافات.
    كتاب: “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي:
    المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، من ولد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه([11])، توفي سنة 345 هـ. قيل: إنه كان من أهل المغرب، والصحيح أنه من أهل العراق.
    والمسعودي رجل شيعي، فقد قال فيه ابن حجر: “كتبه طافحة بأنه كان شيعيًّا معتزليًّا”([12])، وقد أطال المسعودي النَّفَس في كتابه عند ذكر الأحداث المتعلقة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أكثر من اهتمامه بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وركَّز اهتمامه بالبيت العلوي، وتتبع أخبارهم بشكلٍ واضحٍ لكل مَن يتصفح الكتاب.
    وبهذا نكون قد استعرضنا سريعًا في هذا المقال أهم الكتب التي يجب الحذر منها؛ لا سيما وقد رأينا أن بعض الكتَّاب والمؤلفين المحدثين يعتمدون مثل هذه الكتب: كطه حسين، والعقاد، وغيرهما؛ لذا كان لابد من الإشارة إليها وتسليط الضوء عليها، وإعطاء نبذة مختصرة عن منهج مؤلفيها، وذلك قبل أن نشرع بمشيئة الله تعالى في الحديث عن نفض الغبار عن تاريخ الأخيار.
    ([1]) للمزيد راجع: كتاب الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي، د. عبد الله عبد الرحيم عسيلان، وكتاب عقيدة الإمام ابن قتيبة، علي نفيع العلياني، والدولة الأموية للصلابي.
    ([2]) تقع في غرب إيران.
    ([3]) الوفيات (3/ 313).
    ([4]) ميزان الاعتدال (3/ 124)
    ([5]) منهاج السنة (4/ 24).
    ([6]) لسان الميزان (4/ 223).
    ([7]) للمزيد راجع: “السيف اليماني في نحر الأصفهاني” للأعظمي.
    ([8]) تاريخ بغداد (11/ 398).

    ([9]) المنتظم (7/ 40، 41).
    ([10]) ميزان الاعتدال (3/ 123).
    ([11]) الفهرست لابن النديم (ص 171).
    ([12]) لسان الميزان (4/ 225).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •