"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (49)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الجمعة": (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

المراد بالأميين: العرب.
وصفوا بذلك لأنهم كانوا أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.

(وملخص معنى الآية والله أعلم: هو الذي بعث في العرب رسولاً منهم وبعثه في أمم آخرين من غير العرب سيلحقون بهم وسيؤمنون وسيكون منهم في الأخوة والدين).

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
قد اختلف المفسرون في هذه الآية في أربعة مواضع (في المراد بقوله: "وآخرين") (وفي إعرابها) (وفي قوله: "منهم") (وفي قوله: "لما يلحقوا بهم")

فأولاً: اختلفوا في المراد بقوله: (وَآخَرِينَ) على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهم الأعاجم.
(كلهم ذكر هذا القول إلا الماتريدي*) (وأشار إليه الزمخشري*) (وقواه القرطبي*) (ورجحه ابن عاشور*) (واقتصر عليه ابن كثير*) لكنه ذكر حديث سهل بن سعد الآتي, والحديث يدل على العموم).


ويستدل لهذا القول بما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثُّرَيَّا لناله رجال من هؤلاء).

والأقرب أنه ليس المراد الحصر بفارس, بل هو كالمثال على غير العرب.
قال ابن عاشور: "والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس".

القول الثاني: أنهم التابعون.
(ذكره البغوي*, والزمخشري*, وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*, وابن عاشور*)


القول الثالث: أنهم جميع من دخل في الإسلام من بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. (من العرب والعجم)
(كلهم ذكر هذا القول سوى الماتريدي*, وابن كثير*) (ورجحه ابن جرير*, والرازي*) (ورجحه الشنقيطي* كما ذكر مكمل أضواء البيان)


وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بإسناد جيد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب, ثم قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}.

والقول بأنهم العجم قول قوي ويؤيده حديث أبي هريرة السابق, والقول الثالث أيضاً يؤيده حديث سهل بن سعد, والله أعلم.
وعلى أي حال فمؤدى القولين واحد, وهو عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لكل الناس عربهم وعجمهم.

وذكر الماتريدي* قولاً رابعاً انفرد به وضعفه فقال: "وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا في أهل النفاق, فيكون معناه: هو الذي بعث في الأميين رسولاً فيصيرون علماء حكماء مؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن، وآخرين من هؤلاء الأميين في الظاهر لما يلحقوا بهم في الباطن, والتأويل الأول أصح وأقرب".

وأما إعراب (وآخرين) فذكر المفسرون فيه احتمالين:
الأول: أنها مجرورة عطفاً على (الأميين) (اقتصر عليه ابن جرير*)
قال ابن جرير: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، وفي آخرين منهم لما يلحقوا بهم، فآخرون في موضع خفض عطفاً على الأميين".

والثاني: أنها منصوبة عطفاً على الضمير في (ويزكيهم) و(يعلمهم) (ذكر الاحتمالين الماتريدي*, والبغوي*, والزمخشري* وابن عطية*, والرازي*, والقرطبي*)

قال الماتريدي: "وإن كان معناه النصب فهو منسوق على قوله: (ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) فيكون فيه بشارة أنه يكون في الآخرين علماء أتقياء حكماء كما كان في هؤلاء".

ولكن قال ابن عاشور: "لا يجوز أن يكون {وآخرين} عطفاً على {الأميين}, لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين، أي غير العرب.
فهو إما معطوف على الضمير في {عليهم} من قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ} وإما أن يجعل {وآخرين} مفعولاً معه".

قلت: ما قاله ابن عاشور رحمه الله فيه بعض النظر, فإنه لا يظهر مانع من عطفه على الأميين مع اقتضائه للمغايرة, فالمعنى أن الله تعالى بعث في الأميين وفي آخرين غير الأميين سيكونون منهم في الأمة والدين.
وأياً كان الأمر فالمؤدى واحد, وهو أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليست خاصة بالعرب, بل لهم ولآخرين غيرهم يتلون آيات الله فيتزكون ويتعلمون الكتاب والحكمة.

واختلف المفسرون في قوله: (منهم) على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد بـ(منهم) أي: من الأميين (اقتصر عليه الزمخشري*, والرازي*) (وضعفه ابن عاشور* كما سبق)

قال الزمخشري: "يعنى: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم".
وقال الرازي: "أي: من الأميين, وجعلهم منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة".

القول الثاني: أن المراد بـ(منهم) أي: من المؤمنين الذين يدينون بدينهم، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم. (اقتصر عليه البغوي*, والقرطبي*)

(وذكره ابن عطية*) لكنه قال: "أي: منهم في البشرية والإيمان كأنه قال: وفي آخرين من الناس"اهـ

وهذا القول الثاني أقرب, فيكون المعنى (بعث في الأميين رسولاً وفي آخرين يلتحقون بهم فيكونون منهم)

القول الثالث: أن المراد بـ (منهم) أي: من الضالين الذين يتلو عليهم آيات الله. فالضمير المجرور بـ(من) يعود إلى ما عاد إليه ضمير (كانوا) في قوله: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (ذكره ابن عاشور)

قال ابن عاشور: "ولنا أن نجعل (من) اتصالية كالتي في قوله تعالى: (لست منهم في شيء).
والمعنى وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم، ويكون قوله: (منهم) موضع الحال، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى: (لما يلحقوا بهم), لأن اللحوق هو معنى الاتصال".

واختلف في قوله: (لما يلحقوا بهم) على قولين:
الأول: أن المعنى: لم يأتوا بعد. (اقتصر عليه ابن جرير*, والزمخشري*, وابن عطية*, والقرطبي*, وابن عاشور*)

القول الثاني: لما يلحقوا بهم في الفضل والسابقة. (ذكر القولين البغوي*)

قال ابن عاشور*: "وموضع جملة {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم، وينشأ منه أيضاً رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ أمماً ليسوا من العرب وهم فارس. والأرمن. والأكراد. والبربر. والسودان. والروم. والترك. والتتار. والمغول. والصين. والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات".

قال ابن عطية: "(لما يلحقوا) نفي لما قرب من الحال، والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا".
وقال ابن عاشور: "والنفي بـ(لما) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت".

وأخيراً:
قال ابن كثير: "هذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة، على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام.
ولهذا قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}
وذلك أن العرب كانوا متمسكين بدين إبراهيم عليه السلام فبدلوه وغيروه، وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمداً صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة، ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله. حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع.
وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين، ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/