تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: تحرير القول في حقيقية الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي تحرير القول في حقيقية الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما

    تحرير القول في حقيقية الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما
    فريال بنت عبد الرحمن



    المقدمة:
    إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، سورة آل عمران: 102، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ? وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، سورة النساء: 1، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ? وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، سورة الأحزاب: 70-71.
    أما بعد
    التلفظ بالحكم على الأشخاص يكون سهلاً عند البعض منا بمجرد أن يعرف القليل مما كان من دون التثبت والبحث والتحري؛ لأننا نقول: نحن نعيش في زمانه ونرى أحواله وتعامله مع غيره، ولكن كيف بنا نحكم على من شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ونقول إن هذا مصيب وذاك مخطئ، كيف لنا أن نقول بالسوء على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم من دعا له النبي بالخير في حياته.
    بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلت أجناس كثيرة في الإسلام الغالب منها دخل الإسلام قناعة بما فيه من خير، والبعض القليل دخل الإسلام للإساءة ونشر الفرقة وتشتيت الأمة، وإن من تأمل ما حصل في آخر خلافة عثمان بن عفان من خروج عليه ومحاصرة بيته وقتله لأكبر الأدلة على هذا، وما اكتفى المنافقون بقتل الخليفة بل إنهم اندسوا في صفوف المسلمين؛ ليفرقوا جماعة الأمة إلى قسمين، ويقاتل الأخ أخاه ويحولون خروج الصحابة من المدينة إلى العراق؛ لتوحيد الصف إلى فرقة ما بعدها فرقة في تاريخ الأمة؛ ليقع السيف في نحور الصحابة، وليس بأيدي الصحابة كما تذكر بعض كتب التاريخ بل على أيد ي المنافقين أعداء الأمة.
    هدف وحدة صف الأمة الإسلامية كان لعلي بن أبي طالب ولمعاوية بن أبي سفيان، ولكن سوء من كان في جيشي الفريقين سبب القتال وأضاع الهدف في وحدة الصف، نتناول الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - بشيء من التفصيل في بحثنا هذا.
    التعريف بعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
    هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، أبو الحسن أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية، أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول الفتيان إسلاماً، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصهره وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والفصحاء والعلماء بالقضاء والفتيا، كان اللواء في يده في أكثر المشاهد، ولم يتخلف في مشهد من المشاهد إلا في غزوة تبوك ليرعى عياله، اختاره عمر بن الخطاب بعد طعنه بين الستة من أصحاب الشورى ليخلفه واحد منهم، وهم علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص.
    خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
    ذكر في كتب السير أن المدينة بعد مقتل عثمان بن عفان بقيت أربع ليال من غير خليفة، وبعد هذه الليالي أتى الناس عليًا وهو في سوق المدينة وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا، فإن عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون، فارتد الناس عن علي، ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا إلى علي، فأخذ الأشتر بيده، فقبضها علي، فقال: أبعد ثلاثة؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حينًا، فبايعته العامة، وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر. [1]
    فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، جاء علي حتى صعد المنبر فقال: " يا أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا أن أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد، فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس".
    وهذه الوقائع على بساطتها تدل على أن بيعة علي كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرهاوفي إبانها، وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها، لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية موهومة.
    وقد بايع الصحابة خاصة طلحة والزبير - رضي الله عنهما - برضاهما وليس إجباراً كما قيل بايعته يد شلاء، أي يد طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعًا. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام. [2]
    موقف علي من قتلة عثمان - رضي الله عنهما-
    بدأت خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في وقت حرج جداً تمر به الأمة الإسلامية، فقد كان المنافقين يتربصون بالأمة مع اليهود الدوائر وقد جمعوا لهم أنصاراً في مصر والعراق والشام، فكان نتاج هذا التجمع خروج مجموعة منهم إلى المدينة المنورة ومقتل عثمان بن عفان رضي الله - تعالى -عنه وأرضاه، فهذه الأوضاع كان لابد من البت فيها بروية وفكر موزون وكان هذا هو حال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله - تعالى -عنه وأرضاه.
    بعد أن تولى الخلافة عين عدد من الولاة على الأقاليم الإسلامية، وأمرهم أن يبايعوه وكان له ذلك من غالب ولاة الأقاليم إلا أن معاوية والي الشام رأى أن يقاتل قتلة عثمان بن عفان في أول الأمر ومن بعدها يبايع علي بالخلافة، فبدأ علي بن أبي طالب بتجهيز جيش للمضي إلى الشام لقتاله وأخذ البيعة منه، وفي هذا الوقت طلب عدد من الصحابة الخروج من المدينة المنورة ومنهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومعهم أم المؤمنين عائشة رضي الله - تعالى -عنهما، وسألهم علي بن أبي طالب إن كان المسير إلى الشام فقالا: لا.
    خرج الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم وفي قصدهم طلب قتلة عثمان الذين كانوا مندسين في صفوف جيش علي بن أبي طالب رضي الله - تعالى -عنه، وجمع من يؤيدهم ولم يكن خروجهم لإسقاط علي أو تأليب الناس عليه، في الوقت كان علي بن أبي طالب ينوي المسير إلى الشام لقتال معارضيه، ولما علم بأمر خروج الصاحبة إلى البصرة توجه إليهم.
    بداية موقعة الجمل:
    كانت تلك الأحداث هي البداية لوقعة الجمل بين الصحابة الكرام رضوان الله - تعالى -عليهم وبين قاتلي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقد وصل الصحابة إلى المربد قريباً من البصرة وتكلم طلحة إلى الأخذ بثأر عثمان وبعده تحدث الزبير ثم أم المؤمنين عائشة رضي الله - تعالى -عنهم جميعاً، كان أهل البصرة في قيادة عثمان بن حنيف قد تقابلوا مع الصحابة وكان من بينهم قتلة عثمان فلم يعجبهم الحديث فرموا الناس بالحجارة، وبدأ بعدها القتال الذي بدأه حكيم بن جبلة القائم على خيل عثمان بن حنيف، فكان أصحاب أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- يكفون أيديهم عن القتال إلى أن حجز الليل بنهم.
    وفي اليوم التالي كان القتال أشد فوقع الكثير من القتلى بين رجال عثمان بن حنيف فطلبوا التحكيم لوقف القتال، وأحداث كثيرة وقعت قبل خروج علي بن أبي طالب إلى الكوفة [3]
    خروج علي إلى الكوفة وما وقع في العراق قبل وصوله
    في هذا الوقت خرج علي بن أبي طالب من المدينة وهذا الخروج رفضه عدد من مؤيديه خاصة ابنه الحسن بن علي، ولما كان في طريقه إلى البصرة في منطقة الربذة لقيه عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وقال له:
    أمير المؤمنين، لا تخرج منها فو الله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً، خرج من الربذة قاصداً البصرة، وفي نيته مقابلة القوم على الإصلاح ما قبلوا، في الوقت الذي سار فيه علي - رضي الله عنه - إلى البصرة كان والي البصرة قد قابل طلحة بن عبيد الله والزبير وعائشة وهو عثمان بن حنيف، فصف معهم ولما خطبت أم المؤمنين عائشة خطبتها تحث المسلمين على وحدة الصف وعلى قتال قتلة عثمان هنا بان زارعوا الفتنة في صفوف الفريقين فظهروا ورموا الحجارة حتى تقاتلوا وفر منهم عثمان بن حنيف إلى علي بن أبي طالب. [4].
    فهنا يظهر لنا أن موقف علي بن أبي طالب رضي الله - تعالى -عنه رأي سديد في توحيد صف الدولة الإسلامية قبل البدء في قتال قاتلي عثمان بن عفان، وليس هذا تقليل من شأن قتل خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المنافقين كان لهم أثر كبير في تفريق الصف. [5].
    عسكر فريق علي وفريق طلحة والزبير وعائشة رضوان الله - تعالى -عليهم أجمعين، فأرسل علي عمار بن ياسر وابن الحسن إلى فريق الصحابة عن سبب خروجهم فكان الجواب منهم: طلب قاتلي عثمان بن عفان، فقال عمار بن ياسر: قال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق[6]، وكان القعقاع بن عمرو الواسطة بينهما فاستجاب له أصحاب الجمل وأذعن علي لذلك، وبعث علي إلى طلحة والزبير يقول: " إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه: إنا على ما فارق عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس".
    قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية:
    " فاطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى علي وعولوا جميعًا على الصلح، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك؛ خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر". [7]
    وهكذا أنشبوا الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة، فظن أصحاب الجمل أن عليًّا غدر بهم وظن علي أن إخوانه غدروا به، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية، فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن.
    وقع الكثير من الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم قتلى في موقعة الجمل على أيدي السبأيين قتلة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فما كان من أم المؤمنين عائشة رضي اله عنها إلا أن تدفع بالمصحف إلى لكعب بن سور الأزدري وقالت له: " خل يا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفا وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبله كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداماً، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ثم راموا أم المؤمنين... فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: " يا أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم " وأقبلت تدعو، وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعوا ويدعوا الناس معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل علي يدعوا وهو يقول: " اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم "[8]
    ولما اشتد الأمر عقر القعقاع بن عمرو جمل أم المؤمنين عائشة رضي الله - تعالى –عنها؛ ليقف القتال، فكان ذلك.
    قال الشعبي [9]: رأى علي بن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه ثم قال: " عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية وتحت نجوم السماء، إلى الله أشكى عجري وبجري "[10]
    فانتهت وقعة الجمل بقتل طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام الذي لما اصطف الجيشان وأخبره علي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( أنك تقاتله وأنت له ظالم))، فترك الزبير الصف وغادر ولكن المنافق ابن جرموز تبعه وقتله غيلة من خلفة، وأتى مسرعاً يحمل سيف الزبير ليخبر علي بن أبي طالب الذي قال له: (( بشروا قاتل ابن صفية بالنار)).
    حديث هذه ثم لزوم الحصر والكلام في صحة خروج عائشة
    يستشهد بعض من يرى خطأً خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله - تعالى -عنها إلى البصرة بحديث: ((هذه ثم ظهور الحصر))[11] في حجة الوداع، في هذا الحديث إشارة نبوية إلى أنه ينعى لهن نفسه، وأن هذه آخر حجة له وليس فيه أمر منه بأن لا يزيلن الحصر إلى حج أو مصلحة أو إصلاح بين الناس، فاستشهاد أعداء الصحابة بهذا الحديث على المنع مطلقًا عده القاضي ابن العربي من البهتان، لأنه استشهاد به لغير ما أراده النبي.
    قاصمة:
    حرب صفين ودعوى الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب.
    لما فرغ علي بن أبي طالب من موقعة الجمل، ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة رضي الله - تعالى -عنها إلى مكة المكرمة، بدأ علي - رضي الله عنه - من ولاته أن يأخذوا له البيعة من أقاليمهم، فأراد أن يرسل إلى معاوية بن أبي سفيان في الشام فطلب جرير بن عبد الله أن يحمل الرسالة لما كان بينه وبين معاوية من ودّ، فحمل الرسالة وكان رد معاوية - رضي الله عنه - بعد أن استشار أصحابة أن يسلموا له قتلة عثمان بن عفان أو يقاتلوه قبل أن يبايعوا علي بالخلافة.
    خرج علي بن أبي طالب إلى النخيلة وخلف على الكوفة أبو مسعود الأنصاري، ولما علم معاوية بخروج علي خرج هو على رأس جيشة لمقابلته، بدأ القتال بينهما في آخر شهر ذي الحجة، وفي أول شهر المحرم توصل الفريقان التهادن بينهما وسرعان ما عاد القتال الذي توقف في صفر؛ ليكون التحاكم في شهر رمضان والحكم في دومة الجندل.
    وقبل التهادن كان مقتل عمار بن ياسر الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية))، وكان النصر حليف علي بن أبي طالب ولكن أهل الشام رفعوا المصاحف على أسن الرماح طالبي التحاكم إلى كتاب الله - تعالى -. [12]
    عاصمة: عود إلى موقف علي من قتلة عثمان.
    أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعًا، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعًا، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب [الحق] عنده، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه، وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا.
    فكان علي يرى- بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه باباً لا يستطيع سده بعد ذلك، وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي، وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله طلحة والزبير، فأذعنوا له وعذروا علياً، ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين، فالمطالبون بإقامة حد الله على قتلة عثمان معذورون؛ لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل، أو من أهل الشام، وتقصير علي في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة، ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين، وكان سبط رسول الله الحسن بن علي كارهاً خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد والفتوح، ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة؛ استعداداً لهذا القتال لما حرك معاوية ساكناً. [13]
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء بل كان من أشد الناس حرصًا على ألا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه، وقتال صفين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهدًا مصيبًا، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول: كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين، وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتقول الكرامية: كلاهما إمام مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة، ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول طائفة منهم. ومنهم من يقول: علي هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة، وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره، ومنهم من يقول: كان الصواب ألا يكون قتال، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال قتال فتنة، ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين مع أن عليًّا كان أولى بالحق، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حصين وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة، وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -، ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم". [14]
    أما اتهام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بدم عثمان بن عفان، فهذا أمر لا تقول به السنة في جميع العصور والأزمان ولكن هذا الأمر يقول به المشككين من الشيعة، ولم يقل بهذا القول معاوية - رضي الله عنه – وأصحابه، بل قالوا: إن قتلة عثمان في صفوف علي بن أبي طالب وكانت مطالبتهم بهم.
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,475

    افتراضي رد: تحرير القول في حقيقية الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما

    قاصمــة: التحكيـــم.
    ذكر الدار قطني أنه لما خرج أهل العراق وأهل الشام إلى صفين وكان الأمر لأهل العراق رفع أهل الشام المصاحف ودعوا إلى الصلح، فاتفقوا على أن تجعل كل طائفة منهما رجلاً يحكمان بين الفريقين بالحق، فكان الاختيار على أبو موسى الأشعري من جهة علي، وعمرو بن العاص من جهة معاوية.
    ومن الأكاذيب التي انتشرت في كتب التاريخ عن تحكيم الصحابيان في هذه المسألة أن قيل:
    - اتفق أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص على أن يخلع الرجلان أي علي ومعاوية.
    - خرج أبو موسى الأشعري على الناس، وقال إنه يخلع علي عن الأمر كما يخلع سيفه عن عاتقه.
    -خرج عمرو بن العاص على الناس ورفع السيف عن الأرض، وقال: وأنا أثبت الرجل في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي.
    عاصمـــة:
    وهذا كله كذب وافتراء من أقوال المبتدعة والقصاصين، وما حصل أن عمرو بن العاص عزل معاوية عن الأمر كما فعل أبو موسى الأشعري، ويترك الأمر في اختيار خليفة للمسلمين في الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم أجمعين.
    أما ما ملئت به كتب التاريخ بدهاء عمرو بن العاص وضرب الأمثال عليه وأنه خدع أبو موسى الأشعري الذي وصف بالضعف وهذا من البهتان في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أتى الدار قطني بقول لعمرو بن العاص يدل على شدة ورعه:
    "والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما، وايم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي، ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا". [15]
    ملئ كتب التاريخ بالكذب على علي ومعاوية:
    كتب التاريخ فيها الكثير حول ما كان بين علي ومعاوية رضي الله - تعالى -عنهما، ولكن من الذي أتى بهذا التاريخ في هذه الكتب، هل هو نقل عن الثقات الفضلاء من الصحابة والتابعين؟ أو هو قول القصاصين؟ أو من هم أسوء من القصاصين بكثير وهم الشيعة الذين كانوا يشوهون تاريخ الأمة الإسلامية ويبينون أن بني أمية كانوا دوما ً على خطأ وأنهم قتلة أتوا إلى الخلافة بالقتل وليس استحقاقاً لها.
    وممن كتب في التاريخ من كان يسعى للمال، وليس الهدف لديه إثبات تاريخ الأمة بما هو صواب لتعلمه أجيال الأمة فيما بعد، وهذا الكذب كان سببا في تشويه الحقائق وخاصة صورة الصحابي معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي، وخال المسلمين وهذا كله للطعن في ولايته.
    الأدب مع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
    قول ابن العربي مؤلف العواصم من القواصم:
    فأعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين، وامسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين.
    وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد هلك من كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم – خصمه، ودعوا ما مضى فقد مضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً، ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملاً، فإن الله لا يضيع أحر من أحسن عملاً.
    ورحم الله الربيع بن خثين، فإنه لما قيل له: قتل الحسين! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم.
    فقال: (اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[16]، ولم يزد على هذا أبداً، فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين.
    وأفضل القول ما قاله عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، [17].
    ما واجب المسلم في الفتن والملاحم:
    القاعدة الأولى: وجوب الاستعاذة من الفتن.
    فعن ابن عباس - رضي الله عنه – قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ دبر كل صلاة من أربع يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، اللهم إني أعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إني أعوذ بك من الأعور الكذاب)).
    فلو كان هناك أحد معصوم من إصابة الفتن وآثارها لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وما احتاجوا إلى الاستعاذة منها.
    القاعدة الثانية: القعود في الفتن خير من القيام فيها.
    فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، من وجد منها ملجئاً أو معاذاً فليعذ به)) وفي رواية: ((النائم فيها خير من اليقظان)).
    القاعدة الثالثة: القلوب مشربة بالفتن، ومنكرة لها.
    القلوب بالنسبة لتعلق الفتن بها قلبان:
    الأول: القلب المريض: وهو قلب من أصابه قادح عقدي أو هوى في النفس، فلا يعرف الحق، أو لا يتبعه والعياذ بالله، قال - تعالى -: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [18]
    الثاني: القلب السليم: وهو قلب من سلم من أمراض الشهوات والشبهات، وعرف الحق واتبعه، قال الله - تعالى -: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [19] وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح هو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض.
    القاعدة الرابعة: الأمر بالجماعة والألفة، والنهي عن الفرقة والاختلاف.
    والجماعة المندوبة لزومها في الشريعة الإسلامية والمحرمة مفارقتها تشمل هذين الأصلين العظيمين، فالجماعة باختصار هي: الحق وأهله، وكل مخالفة للحق، أو مفارقة لأهل الحق فهو خروج عن الجماعة، ومن الأدلة الشرعية على لزوم الجماعة ونبذ الفرقة:
    من القرآن الكريم:
    قال الله - تعالى -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [20]
    من السنة النبوية:
    حديث حذيفة - رضي الله عنه -: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُون َ بِأَلْسِنَتِنَا ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
    القاعدة الخامسة: الأصل تفضيل الخلطة، والعزلة استثناء.
    حين يغلب شر المجتمع أو الفرد خيره، ويخشى المرء منهما على دينه أو دنياه شرع له أن يعتزل، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ))، بل يرخص له في ترك الأمر والنهي، والاهتمام بإصلاح نفسه وأهله فقط.
    القاعدة السادسة: من الملاحم ما مدحت، ومنها ما نهيت.
    الأمر الذي يوحي بأن من الملاحم ما مدحت وهي الأغلب، وذلك لكونها مظهرا من مظاهر مضي شريعة الجهاد إلى يوم القيامة، كما أن منها ما نهيت ولم يرد في النصوص معرض المدح ولم يسق فيها مساق الندب.
    موقف معاوية بن أبي سفيان من علي بن أبي طالب، وما قيل في معاوية:
    علمنا أن علي بن أبي طالب كان إلى الصواب أقرب من معاوية بن أبي سفيان رضي الله - تعالى -عنهما، وليس معنى هذا أن نقول أن معاوية كان مخطئ وبعيد عن الحق، بل نقول: إنهم بشر اجتهدوا في أمر، فإما أن يكون صواباً فخير على خير، وإما أن لا يكون صواباً.
    فموقف معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - من علي بن أبي طالب طلب معاوية بن أبي سفيان من ضِرار بن ضمرة أن يصف له علي - رضي الله عنه -، ولكنه رفض وطلب أن يعفيه من هذا الأمر، ولكن معاوية أصرَّ فكان هذا الوصف:
    أما إذاً فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً يتفجر العلم من جوانبه، وينطق بالحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشُن، ومن الطعام ما جَشُبَ، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقربه لنا، وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمه، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، ولا يطمع القويّ في باطله.
    ولا ييئس الضعيف من عدله، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرجى الليل سُجوفه، وغارب نجومه، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول:
    "يا دنيا يا دنيا أبي تعرّضت أم لي تشوّفت؟
    هيهات هيهات غُرّي غيري، قد بَتَتُّكِ ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير.
    آه من قلَّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق.
    فذرفت دموع معاوية - رضي الله عنه - حتى خرّت على لحيته فما يملكها، وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية:
    "رحم الله علي، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار "
    قال: "حزن من ذُبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبْرتها، ولا يسكن حزنها " [21]
    هذا خلق معاوية بن أبي سفيان عندما كان الحديث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فما كان فعله مع الحسن بن علي - رضي الله عنه -: أن معاوية - رضي الله عنه -، كان إذا لقي الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقى ابن الزبير - رضي الله عنه - فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه، ويأمر له بمئة ألف. [22]
    هذا هو معاوية بن أبي سفيان الذي سئل عنه الإمام أحمد:
    ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين فإنه أخذها بالسيف غصباً؟
    قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، و نبين أمرهم للناس. [ 24]
    قال ابن العربي عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله - تعالى -عنه أنه دخل بن العربي بغداد وأقام فيها زمن العباسيين والمعروف أن بين بني العباس وبني أمية ما لا يخفى على الناس، فوجد مكتوباً على أبواب مساجدها خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم معاوية خال المؤمنين - رضي الله عنهم - أجمعين. [25]
    ونختم بما قاله عبد الله بن المبارك عندما سئل أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبد العزيز؟
    فقال: و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا؟ [26]
    رضي الله عن معاوية بن أبي سفيان، و- رحمه الله تعالى -رحمة واسعة صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كاتب الوحي، أخ أم المؤمنين أم حبيبة " رملة " بنت أبي سفيان - رضي الله عنهما - فمن نحن لكي نخطئه.
    الخاتمة:
    إن البحث في كتب التاريخ لمعرفة ما كان بين علي بن أبي طالب في أول خلافته بعد معركة الجمل وبين معاوية بن أبي سفيان أمر ليس بالهين، فإن الفصل بين ما هو صحيح في هذه الكتب وما هو سقيم ليس بالأمر الهين، فإن من كتب التاريخ بعد ما وقع بينهما كان له غرض، إما أن يكون يكتب لتسلية الحاكم ووضع الأكاذيب، أو أن يكون قصاص يكتب ليبهر الناس بالأكاذيب، وإما أن يكون كاتب باعتقاد ديني باطل يقلب الحقائق عما كانت عليه في زمن الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم أجمعين.
    مع من كان الحق، ومن جانبه الحق في الخلاف بين علي ومعاوية أمر فرغ وحصل وليس لنا في هذا الزمان أن نأتي لنحلل الموقف كيف كان ولما كان ولما لم يكن، كل ما علينا هو الترحم على الصحابة رضوان الله - تعالى -عليهم، ونعلم أنهم اجتهدوا فالمجتهد يصيب ويخطأ، وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعد على الأرض معصوم من الخطأ.
    يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة:
    ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفرط في حبِّ أحد منهم، ولا نتبرّأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاّ بخير، وحبُّهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. أ. هـ
    فمتى كان الحديث عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فإننا نقول ابن عم رسول الله، وصهر رسول الله، وخليفة رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وكثيرة هي مناقب علي التي تحدث عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نؤمن ونقر بما قاله النبي فلا تخطيء علي ونناصبه العداء كما فعل النواصب وهم فرقة أبغضت علياً رضي الله - تعالى -عنه.
    ومتى كان الحديث عن معاوية بن أبي سفيان فإننا نترحم عليه، ونتذكر أنه خال المؤمنين وكاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى -في كتاب "لمعة الاعتقاد": ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين - رضي الله عنه -. أ. هـ
    قال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -:
    " واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروب، ولو عرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد، وقد عفا الله - تعالى -عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين"[27]
    فرحم الله صحابة رسوله صلوات ربي وسلامه عليه فإنهم من نقلوا لن الدين كاملاً واضحاً كما أخذوه عن رسول الله، رحم الله الصحابة الكرام الذين هم خير القرون كما أخبر عنهم رسولنا صلوات ربي وسلامه عليه، - رحمهم الله - تعالى -ورضي عنهم وأرضاهم.
    وفي الختام
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    الحاشية:
    =-=-==-=-==-=-==-=-==-=-==-=-==-=-=
    [1] أخرجه الطبري (5: 156).
    [2] القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة، لا على أنه رأي له.
    [3] البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -، الجزء السابع، ابتداء وقعة الجمل. بتصرف.
    [4] البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، الجزء السابع. بتصرف
    [5] ولمن أراد مزيد بسط في المسألة فليرجع إلى: كتاب البداية والنهاية: للحافظ ابن كثير، الجزء السابع، تحت عنوان: خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله - تعالى -عنه.
    [6] كان الفريقان يطلبان التفاهم وجمع الكلمة، أما الباغي فهم قتلة عثمان.
    [7] البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -، الجزء السابع، مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلا من الشام، بتصرف.
    [8] حاشية كتاب العواصم من القواصم، ص: 117.
    [9] نقل الحافظ ابن عساكر (7: 86-87).
    [10] (قال الأصمعي: أي سرائري وأحزاني التي تجول في جوفي).
    [11] مسند الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -، الجزء الثاني، ص: 446.
    [12] منقول بتصرف من كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير بتصرف.
    [13] كتاب العواصم من القواصم، لإبن العربي - رحمه الله تعالى -، ص: 124.
    [14] منهاج السنة، لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -، الجزؤ الثاني، ص: 219.
    [15] أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيرها بسيرة السلف.
    * هو من تلاميذ عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون، وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو بردة. قال له ابن مسعود: لو رآك النبي لأحبك. توفي سنة 64.
    ** قواعد عملية في فقه الفتن والملاحم، لانجوغو مبكي صمب، موقع المسلم.
    [16] سورة الزمر: 46.
    [17] سورة البقرة: 134.
    [18] سورة البقرة: 10.
    [19] سورة الشعراء: 88، 87.
    [20] سورة آل عمران: 103.
    [21]كتاب صفة الصفوة، ج2، رقم الصفحة: 142.
    [22] البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير، الجزء الثامن، ص: 137.
    [23]كتاب العواصم من القواصم لإبن العربي، ص: 229-230.
    [24]انظر: السنة للخلال، الجزء الثاني، ص: 434 بسند صحيح.
    [25] كتاب العواصم من القواصم، لإبن العربي، ص: 230، 229.
    [26]وفيات الأعيان، لابن خلكان (3 /33)، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466).
    [27] فتح الباري، الجزء الثالث عشر، ص: 34
    المراجع:
    1- القرآن الكريم.
    2- صحيح البخاري.
    3- صحيح مسلم.
    4- مسند الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -.
    5- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبن حجر العسقلاني.
    6- منهاج السنة، لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -.
    7- البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -.
    8- تاريخ الطبري.
    9- كتاب العواصم من القواصم، لإبن العربي - رحمه الله تعالى -.
    10- قواعد علمية في فقه الفتن والملاحم، لانجوغو مبكي صمب، موقع المسلم
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •