تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: التمذهب دراسة تأصيلية واقعية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي التمذهب دراسة تأصيلية واقعية

    التمذهب دراسة تأصيلية واقعية
    عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران الآية 102]
    (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء الآية 1]
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا سورة الأحزاب الآية 71 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[سورة الأحزاب الآية 70]
    أما بعد:
    فإن من نعم الله التي لا تنكر، وآلائه التي هي أحق ما يشكر: نعمة الإسلام التي كسانا بها ونشأنا عليها.
    لكن شكر هذه النعمة كغيرها من نعم الله لا يتم إلا بتحقيق توحيده، والتزام سنة عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلزام النفس طوعا، أو كرهاً السير في الطريق الذي يوجبه الإسلام ويقتضيه، حسب الجهد وقدر الطاقة.
    وحيث إن تعاليم الإسلام عديدة، وأحكامه كثيرة، فإن على المسلم أن يحرص كل الحرص على تعلم ما يمكنه تعلمه منها، وأن يجد كل الجد في معرفة ما استطاعه منها، وما لم يصل إلى علمه، أو قصر فكره وجهده عن معرفته، فإنه يجب عليه أن يتبع فيه عالما ممن يثق بعلمه وأمانته ودينه، على هذا سار أهل الإسلام منذ ظهور نوره إلى الآن، وهو ما سيسار عليه إن شاء الله إلى يوم القيامة.
    ولما كان التقليد مما تنوعت فيه طرائق المقلدين، واختلفت فيه أنظار ومناهج الباحثين قديما وحديثا، وبخاصة ما يتعلق بتقليد المعين، أو ما يسمى بالتمذهب.
    رغبت بعد أن أشار علي بعض ذوي الفضل المساهمة في لم شمل هذا الموضوع والكتابة في بعض جوانبه المهمة، وإني لأرى الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان لقيام معركة حامية بين أنصاره ومعارضيه في هذا الزمان، ولكنها وللأسف طغى على الجانب العلمي فيها جوانب أخرى أخرجت البحث عن دائرته الصحيحة، مما أضاع على القراء فوائد كان يمكن أن يجنوها مما سطره علماء لهم مكانتهم في العلم والفضل في العالم الإسلامي.
    ولعلي في هذا البحث أن أصل إلى بعض الحقائق، سواء تلك التي وجدت في كتب الفريقين وأخفتها موجات الغضب، أو التي ذكرها علماء آخرون متقدمون أو متأخرون، هذا مع علمي بمكانتي وقيمتي العلمية، حيث لا أستطيع أن أكون إلا طالبا في آخر الصفوف لبعض هؤلاء العلماء، لكن طلب الحق ونشدان الحقيقة دعتني إلى خوض هذا البحر والتعلق بركب هذا الموكب، والله المستعان.
    وقبل أن أبدأ مسائل هذا البحث ألفت نظر القارئ إلى نقطتين مهمتين:
    أولهما: أن أكثر الخلاف الدائر في هذه المسألة خلاف في التطبيق وليس خلافاً في التنظير؛ لأن معظم أرباب المذاهب يتبرمون من التعصب للمذاهب، ويدعون إلى العمل بالكتاب والسنة إذا خالف المذهب، لكن أحدهم إذا رأى حديثا صحيحاً يخالف مذهبه تحرج من مخالفة المذهب؛ استثقالا لترك أمر تعوده، ورأي استقر في نفسه.
    كما أنك تجد بعض الداعين إلى عدم الالتزام بالمذاهب يقول بالتقليد ويقره ويرى أنه ضرورة للعوام وأشباههم، لكنه إذا رأى من يقلد إماما معتبرا محتجاً بقوله في أمر مختلف فيه يخالف ما يراه هو أنكر على المقلد ونسبه إلى الجمود والتعصب.
    ولا حاجة لنا في ضرب الأمثلة من الواقع، أو الاستشهاد بالحوادث؛ لأن الأمر يعلمه كل من قرأ في كتب القوم، أو نظر إلى واقع الناس.
    أما النقطة الثانية: فهي أن تعلم أن البحث لتحقيق مسألة التمذهب، ولكي تتضح صورة المسألة قدمت لها بمقدمتين، أولاهما في الاجتهاد وبعض مسائله، والثانية في التقليد، ثم أعقبت مسألة التمذهب بمسألة لها علاقة بها، وهي مسألة حكم الاستدلال في الفتوى.
    أسأل الله الكريم أن يأخذ بيدي، وأن يلهمني الصواب، وأن يرزقني العدل والتوفيق، وأن يكفيني شر نفسي وهواي، إنه - سبحانه - خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
    المقدمة الأولى: في تعريف الاجتهاد وبعض أحكامه:
    تعريف الاجتهاد:
    الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة، مأخوذ من الجهد بفتح الجيم بمعنى المشقة، وبضمها بمعنى الطاقة. [انظر معجم مقاييس اللغة، والقاموس المحيط، والمصباح المنير،مادة 'جهد'.]
    أما في الاصطلاح: فعبارات الأصوليين في حده كثيرة، وليس المقام مقام استقصاء؛ لأنها متقاربة المعنى، ومن أجمعها قول الجرجاني في التعريفات إنه: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له الظن بحكم شرعي.[انظر التعريفات للجرجاني (5)،وانظر أيضًا المستصفى (2350) ، والإحكام للآمدي (4162) ، والتقرير والتحبير (3291) ، وإرشاد الفحول (250).]
    شروط المجتهد: [انظر شروط المجتهد في المستصفى (2350) ، وإرشاد الفحول (250)] .
    أسرف بعض العلماء في تقييد المجتهد بشروط كثيرة يستحيل معها أن يوجد مجتهد، كما قابلهم قوم قللوا من شأن هذه الشروط حتى دلف من باب الاجتهاد من ليس بأهله، فأحل ما حرم الله.
    والموقف الوسط في هذا هو أن يشترط فيمن يخوض بحر الاجتهاد ما اشترطه جمهور الأصوليين، من معرفة آيات الأحكام وأحاديثها، ومواضع الإجماع، وما يحتاج إليه من لغة العرب، وأصول الفقه وقواعده، وقواعد الاستنباط، والناسخ والمنسوخ، والعلم بحال الرواة ونحو ذلك، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف حاجات المسائل وتنوعها. [انظر المستصفى (2353)]
    فقد يشترط في مسألة ما هذه الشروط جميعا، بل وغيرها كالحساب، أو الطب، أو نحوهما، وقد لا يشترط في مسألة أخرى إلا بعض الشروط.
    وثمة شرطان مهمان ينبغي أن يشترطا للنظر في أي مسألة، وهما: العدالة، وفقه النفس، فإذا توفرا نظر في بقية الشروط، وإلا فلا. والله أعلم.
    مسألة تجزؤ الاجتهاد: [انظر لهذه المسألة إرشاد الفحول (254)، وأصول مذهب الإمام أحمد (629).]
    معنى تجزؤ الاجتهاد: أي انقسامه، أي جواز حصوله من المجتهد في باب من أبواب الفقه، كباب المواريث دون سائر الأبواب، أو في مسألة من مسائل الفقه دون غيرها كمسألة بيع ما لا يملك.
    جمهور العلماء على جواز ذلك، وإن كان حصول الاجتهاد في مسألة واحدة مما يبعد تصور وقوعه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. [مجموع الفتاوى (20204) ]
    لأن الاجتهاد لا بد له من أدوات عامة تشترط لكل المسائل، كما يشترط فقه النفس، فيبعد أن يحصل له ذلك ثم لا يجتهد إلا في مسألة واحدة.
    والقول الآخر في المسألة المنع من التجزؤ؛ لأنه لا بد للمجتهد أن يكون محيطا بكافة مسائل الدين، وهذا القول قد يقرب من المحال من حيث تعسر هذا الشرط وصعوبة تحصيله، بالإضافة إلى أن واقع علماء الإسلام منذ ظهر إلى الآن يشهد للقول الأول، فهذا مالك بن أنس وغيره من علماء الإسلام يسألون عن عدد من المسائل فيقولون في بعضها: لا ندري، قال ابن فرحون في الديباج المذهب: [الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (1112)] قال الهيثم ابن جبيل: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين: لا أدري. ولا يمكن أن يقال إن مالكا لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
    وغرضنا من إيراد هذه النقطة: التنبيه إلى أن اختلاف الآراء فيها من أسباب الاختلاف في مسألة الاجتهاد والتمذهب، فمن منع الاجتهاد وألزم الناس بالتمذهب فقد فعل هذا بناء على أن المجتهد هو المطلق وهذا في أحد أقوال العلماء قد انقطع منذ قرون.
    ومن أجاز الاجتهاد فبناه على جواز حصوله في بعض الأبواب وبعض المسائل، وعلى هذا يمكن لبعض العلماء الاجتهاد في إحدى المسائل إذا جمع أدواتها. [مجموع الفتاوى (20204)]
    مسألة انقطاع الاجتهاد:
    هذه المسألة أيضا مؤثرة في موضوع التمذهب ولهذه المسألة جانبان.
    أحدهما: في الخلاف القائم بين علماء الأصول في خلو العصر من مجتهد.
    والآخر: في الدعوة التي أطلقها بعض المتأخرين لإغلاق باب الاجتهاد، وشاعت بين أهل العصور المتأخرة.
    وكلا الجانبين من أهم الأسباب التي أدت لقيام الصراع بين أنصار التمذهب ومعارضيه.
    فأما الجانب الأول وهو مسألة خلو العصر من مجتهد، فإنها مسألة قديمة الخلاف بين علماء الأمة.[ انظر المسألة: إرشاد الفحول (253)، وأصول مذهب الإمام أحمد (635)]
    حيث يقول الجمهور: بجواز خلو العصر من المجتهدين، ويقول قوم على رأسهم علماء الحنابلة بمنع ذلك.
    ولكلا الفريقين حجج يضيق المقام عنها؛ لأنها ليست من صلب بحثنا، ومعظم هذه الأدلة أخذ بعمومات ومفاهيم للأدلة الشرعية.
    والذي عليه جمهور المحققين أن الاجتهاد منصب شريف، وأحد مزايا التشريع الإسلامي التي تملك خاصية الديمومة ومسايرة الحياة، فلا ينبغي أن يفتى بانقطاعه، ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذا الخلاف محصور في المجتهد المطلق، أو ما يسمى بالمستقل، أما المجتهد في دائرة المذهب والاجتهاد الجزئي فلا قائل بانقطاعه.
    أما الجانب الثاني من جوانب الموضوع المتعلق بالدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد [انظر كتاب الاجتهاد للأفغاني (91 94)]
    فقد بدأت هذه الدعوة في القرن الرابع الهجري، ثم أخذت تنتشر في المجتمع المسلم حتى استحكمت في القرن الثامن.
    ولعل الدافع الرئيس الذي دعا علماء تلك القرون إلى هذا المسلك، ما رأوه من تسنم قوم دون المستوى المطلوب لرتبة الاجتهاد، بالإضافة إلى تعصب الولاة والعامة للمذاهب، مما جعل كثيرا من الطلاب يقبلون على ما يرغب فيه الولاة من المذاهب، وجعل العلماء يبتعدون عما يثير العامة ضدهم، فضعفت الهمم وكثر الحسد والتعصب بين أرباب العلم، ومع هذا فقد عرف التاريخ من قرع أبواب الاجتهاد وولج غير مبال بلوم لائم، أو حسد حاسد، كابن تيمية، وابن دقيق العيد، والسيوطي، والشوكاني وغيرهم.
    والدعوة إلى سد باب الاجتهاد دعوى لا ينبغي أن تأخذ من بحثنا كثيرا؛ لأنها مجرد صيحات أطلقها بعض الكسالى من المنتسبين للعلم؛ لرد شر من عجزوا عن مناجزته، أو لحفظ مكانتهم العلمية.
    لكن الذي ينبغي أن يقف عنده الواقف، إعراض كثير من العلماء عن منصب الاجتهاد خلال أكثر من عشرة قرون، ومن هنا نخلص إلى القول بأنه ليس لمن يرجع إلى هذه الدعوة سبب جمود الفكر الإسلامي خلال عشرة قرون مستمسك؛ لأن هذه الدعوة ما قال بها إلا شواذ من العلماء نحن مع من يلومهم عليها، لكن المسألة مسألة واقع، فلنقرأ أوراق هذا الواقع ونكشف أسبابه، ثم نبحث عن علاجه؛ لأننا مع قولنا بعدم انقطاع الاجتهاد، وبإمكان وجود المجتهد المطلق، إذا استعرضنا اثني عشر قرنا لا نجد بعد الأئمة الأربعة من جاء وأثر في حياة المجتمع الإسلامي تأثيرهم، ولا نجد من فرض نفسه على واقع الناس مثلهم إلا ما ندر. والله المستعان.
    المقدمة الثانية: في التقليد:
    درج بعض أهل العلم على إطلاق مصطلح الاتباع بدلاً من التقليد فراراً من المعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة، لكن لكون مصطلح التقليد هو الشائع في كتب العلماء المتقدمين فلا ضير من استعماله ولو شوش عليه من شوش، وإن مصطلح الاتباع كما سنشير إليه قد يعد مرتبة وسطى فوق التقليد ودون الاجتهاد.
    تعريف التقليد:
    التقليد لغة: مأخوذ من القلد، وهو تعليق شيء على شيء وليه به، ومنه تقليد البدنة، وذلك أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي. [معجم مقاييس اللغة، مادة: قلد]
    ومن ذلك تقليد ولاة الأمر الولايات.
    وسمي تقليد العامي للعالم تقليدا؛ لأنه يجعل أمر دينه في عنق العالم، فالعالم يتحمل تبعة ما قلد فيه[ إرشاد الفحول (265)] أو لأن العامي يجعل قول العالم قلادة في عنقه [التعريفات للجرجاني (57)] تسوقه إلى العمل دون دليل، كما أن الدابة يسوقها التقليد إلى ما يراد منها من ذبح ونحوه.
    تعريف التقليد اصطلاحا:
    عرف الأصوليون التقليد بعبارات عديدة تكاد تتفق في المعنى، والعبارة الشائعة عندهم في ذلك أن التقليد عبارة عن: قبول قول الغير بلا حجة. [المصدر السابق]
    وقد عرفه ابن همام بتعريف أدق من هذا حين قال في التحرير: بأنه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. [انظر تيسير التحرير 4241]
    فالتعبير بقوله: ليس قوله إحدى الحجج، أدق من قول الأول: الغير.
    حكم التقليد:
    هذه المسألة من المسائل التي يبحثها علماء الأصول، ولكن الباحث يعجب منها حين يرى تباين آراء العلماء فيها، وتعصب كل قوم لرأيهم، ولعل السبب يرجع إلى أن محل الخلاف فيها غير محرر، إذ إن القارئ سيجد كثيرا من النقول عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كلها تذم التقليد وتحذر منه، وترمي صاحبه بأشنع الألقاب، لكنه أيضا سيرى أن الأصوليين إذا بحثوا هذه المسألة لا ينسبون الخلاف في جواز التقليد إلا لطائفة من المعتزلة، وهذا ما جعل الشوكاني وغيره يرمي الأصوليين بالتوهم في هذه المسألة، إذ لم ينسبوا منع التقليد إلا لبعض المعتزلة، مع أنه مروي عن عدد لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لذا فهو كما قال: كالإجماع إن لم يكن إجماعا. [إرشاد الفحول (268)] ولعل الشوكاني - رحمه الله - قد فاته أن المسألة عند الأصوليين محصورة في تقليد العامي للعالم، وهي مسألة لا يكاد يخالف فيها أحد سوى قليل من المعتزلة، فمحل النزاع عند الأصوليين محصور، أما عند غيرهم فتتسع دائرته أكثر، ولذا تباينت الآراء فيها.
    ولكي يتضح المقام سنعرض هذه المسألة عند الأصوليين، ثم نعرض موقف من منع التقليد من السلف مع توجيه قولهم، ونختم المسألة بخلاصة توضح الصورة للقارئ إن شاء الله - تعالى -.
    محل النزاع في هذه المسألة عند الأصوليين:
    يكاد يتفق الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة وأداه اجتهاده إلى حكمها، أنه يجب عليه اتباع هذا الحكم، وليس له اتباع غيره في خلاف هذا الحكم.
    أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فقد اختلف الأصوليون في حكم اتباعه، وهذه النقطة هي أم المسائل التي يبحثها الأصوليون [أصول مذهب الإمام أحمد (657)]. فيدخل في هذه المسألة العامي، كما يدخل فيها كل من لم تتوفر له آلات الاجتهاد في مسألة وإن توفرت له في غيرها بناء على القول بتجزئة الاجتهاد، كما يدخل فيها أيضا من ضاق عليه الوقت ولم يجتهد.
    وأبرز آراء العلماء التي يحكيها الأصوليون في هذه المسألة أربعة:
    1- قول الجمهور، وهو أنه يلزمه اتباع المجتهد والأخذ بفتواه.
    2- أنه لا يجوز له الاتباع إلا بعد تبين صحة الاجتهاد ودليله.
    3- قول الجبائي: يجوز في مسائل الاجتهاد دون ما يظهر، كالعبادات الخمس [المصدر السابق]
    4- ما قاله بعض القدرية من وجوب النظر على العامة مطلقاً [روضة الناظر لابن قدامة (383)] ومرد هذه الأقوال الأربعة إلى قولين: جواز التقليد ومنعه؛ لأن القولين الثاني والثالث يرجعان إلى الأول.
    أما الثاني فلأن معرفة العامي للدليل لا يخرجه عن التقليد؛ لأن العامي في الغالب لا يدرك طريقة أخذ الحكم من الدليل، بالإضافة إلى أن بعض العلماء قالوا إن المفتي لا يطالب ببيان الدليل، ولا يلزم العامي طلبه والسؤال عنه، كما سنرى في آخر البحث إن شاء الله - تعالى -.
    وأما القول الثالث فإننا سنعرف أيضا أن العامي وغيره متى علم حكما شرعيا واستقل بمعرفته، وجب عليه العمل به ولم يقلد فيه أحدا فلا ريب أن من علم وجوب الصلاة والصوم ونحوهما لا يجب عليه أن يقلد غيره فيها، وقد نبه إلى هذا أبو الخطاب وغيره من محققي العلماء، وقالوا: إن ما علم من الدين بالضرورة لا يجب على العامي التقليد فيه [المصدر السابق (384)] بقي أن نلقي نظرة على أدلة مجيزي التقليد وأدلة ما نعيه ليكمل لنا تصور المسألة.
    أدلة مجيزي التقليد:
    استدل مجيزو التقليد بأدلة منها:
    1- قوله - تعالى -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[سورة النحل الآية 43] فالآية صريحة في إيجاب سؤال أهل الذكر على من لا يعلم.
    2- إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز استفتاء العامة للمجتهدين وتقليدهم بالعمل بما يفتون به.
    3- أن العامي متعبد بالشريعة وأحكامها، ولو قيل بوجوب النظر والاجتهاد للزم الحرج على عامة الناس، بتفرغهم لذلك وتعطيل مصالحهم الضرورية وأمور معاشهم، وقد نفى الله الحرج، ولم يكلف العباد ما يشق عليهم، فكان حكم العامي التقليد.
    4- أن إيجاب الاجتهاد على كل أحد غلو وإفراط وإنكار للبدهيات، فليس كل المسلمين مؤهلا لذلك، لا من حيث القدرات العقلية، ولا من حيث الوقت، إذ يحتاج الأمر إلى سنين عديدة يتفرغ فيها المكلف لإثبات الأدلة الشرعية بالنقول الموثقة، ثم الاجتهاد فيها، وبخاصة عند التعارض أو خفاء دلالتها. [القول المفيد للشوكاني (20 و35)]
    أدلة منكري التقليد:
    أما منكرو التقليد فاستدلوا بأدلة منها:
    1- ما ورد من النصوص التي تنهى عن القول على الله بغير علم، كقوله - تعالى -: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[سورة البقرة الآية 169 ] والاعتماد على التقليد قول بلا علم، فكان منهيا عنه.
    2- ما ورد من نصوص تفيد وجوب طلب العلم على جميع المسلمين، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [أخرجه أبو داود عن أنس برقم (224).]
    3- أن المجتهد قد يخطئ وقد يكذب، فكيف يؤمر المقلد باتباع الخطأ والكذب.
    4- الأدلة الكثيرة التي تنهى عن تقليد الآباء والرؤساء، مما ذم الله عليه الكفار كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )[سورة الزخرف الآية 23- 25 ]
    قالوا: وقد احتج بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة الكفر والإيمان، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين من حيث إنه تقليد بغير حجة للمقلد، وإن اختلفت الآثام فيه. [القول السديد للشنقيطي (12) والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (59) وما بعدها.]
    وقد جرت بين الفريقين مجادلات ومحاورات يقصر المقام عنها، غير أن ذا البصيرة لا يخفى عليه ما في أدلة المانعين من ضعف إذا أريد بها منع تقليد العامي للعالم، لأنه لم يقل على الله بغير علم، فأصل عمله فتوى المجتهد التي هي حكم الله، ثم إن استفتاءه للمجتهد من طلب العلم، أما الخطأ والكذب المحتملان فلا يمنعان من قبول الفتوى، إذ لو فتح هذا الباب لم يقبل حكم القاضي، ولا شهادة الشهود، ولا غير ذلك.
    أما أدلة النهي عن التقليد: فإن سلمت حملت على ما يعارض نصا صريحا، أو قاعدة شرعية عامة، والله أعلم.
    نظرة إلى ما ورد عن السلف من نهي عن التقليد:
    إن الناظر في بعض كتب السلف - رحمهم الله - وما ورد عنهم من آثار، يجد أن فيها حملة شديدة على التقليد، ودعوة إلى نبذه والبعد عنه، سواء في ذلك الأئمة الأربعة، أو حتى غيرهم من كبار الصحابة والتابعين، ومن ذلك مثلا: ما روي عن ابن مسعود من قوله: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)، ومنه ما روي عن ربيعة أنه بكى، فلما سئل: ما يبكيك؟ قال: (رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا)، ومنها قول عبيد الله بن المعتز: (لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد) [انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2114).]
    وقول الشافعي: (إنه لا يلزم قول رجل إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -)، وقول مالك: (ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك)، وقول أبي حنيفة: (لا يحل لأحد يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين أخذناه)، وقول الإمام أحمد: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) [انظر: المذهبية المتعصبة هي البدعة لمحمد عيد عباسي (55، 56).] وغير ذلك مما ورد عن السلف - رحمهم الله -.
    إن من يقولون بمنع التقليد اتخذوا من هذه الأقوال حجة قوية لمنع التقليد ولزوم الاجتهاد، ولا ريب في خطأ هذا الصنيع؛ لأن هذه النصوص ونحوها لا يمكن أن يقصد بها سوى غير العامة من طلاب العلم الذين لهم يد في الخوض في مسائل العلم، ولقد أراحنا الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - في هذا المقام حيث قال بعد أن ساق نصوصا عديدة عن الأئمة: (وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة؛ لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله - تعالى -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[سورة النحل الآية 43] [جامع البيان (2114، 115)]. وقد طرد ابن عبد البر حكم العامة حتى شمل من عجز عن الوصول إلى الحكم من طلاب العلم، قال: (فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد) [المصدر السابق (281)]
    فتبين أن المقصود بذم الأئمة - رحمهم الله - طالب العلم القادر على معرفة النصوص واستنباط الحكم منها، وقد ذكر الدهلوي في الإنصاف بعض الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها كلام الأئمة ونصوصهم في ذم التقليد وهي:
    1- أنها تحمل على من له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة.
    2- أنها تحمل على من ظهر له ظهورا بينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكذا أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ.
    3- أنها تحمل على من يكون عاميا ويقلد رجلا من الفقهاء بعينه يرى أن يمتنع عن مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه ألا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه.
    4- أنها تحمل على من لا يجوز استفتاء الحنفي للشافعي ونحوه. [الإنصاف (99-101).]
    هذا ما ذكره الدهلوي من احتمالات، ولا يرتاب عاقل أن الأئمة ما عنوا العامي ونحوه ممن لا يستطيع أن يأخذ الحكم من مصادره، بل لا بد له من معرف ودال على الحكم، وعبارات العلماء في جواز ذلك للعامي لا تحصى، فمنها ما قاله الشاطبي في آخر ما وجد من كتاب الاعتصام حيث قال: (وإذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسطائهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه) [الاعتصام (2326)] ويقول أيضا في الكتاب نفسه:(وإذا كان مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به) [الاعتصام (2343)]
    ومن هذه العبارات ما قاله الإمام ابن تيمية في المسودة: (فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر) [المسودة (52)] ويقول - رحمه الله -:(الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض، منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة أصولها وفروعها على كل أحد، ومنهم من يحرم الاستدلال الدقيق على كل أحد، وهذا في الأصول والفروع، وخيار الأمور أوسطها) [مجموع الفتاوى (2018).]
    ويقول - رحمه الله - أيضا في هذا المقام: (الذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز، حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوبا ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز). ا هـ [مجموع الفتاوى (20204)] وهذا العلامة ابن القيم الذي شن حملة على المقلدين في كتابه: إعلام الموقعين، تجاوزت مائتي صفحة، يصرح في بداية بحثه بانقسام التقليد إلى أقسام، فيقول:
    (ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب) ا هـ [إعلام الموقعين (2187)] ثم استطرد - رحمه الله - في القسم الممنوع ولم يذكر القسم الواجب والجائز.
    والعز بن عبد السلام بين أيضا في كتابه قواعد الأحكام: (أن وظيفة العامي التقليد، لعجزه عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد) [قواعد الأحكام (2135)]
    فهذه آراء بعض جهابذة العلم، وإن كانت المسألة واضحة لا تحتاج كل هذا الاستطراد، ولكن انبناء ما بعدها عليها دعاني إلى التركيز عليها.
    وبقيت نقطة هامة تتعلق بهذه المسألة وهي ضوابط التقليد، حيث إن العلماء الذين أجازوا التقليد جعلوا له ضوابط يجب على المقلد مراعاتها في أثناء تقليده.
    ولعل أهم هذه الضوابط ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام حيث قال: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم... لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا) [الاعتصام (2343).] فأهم نقطة ينبغي للمقلد أن ينتبه إليها أنه لا يقلد هذا العالم لكونه على مذهبه، أو لشهرته، أو غير ذلك، بل لأنه دليله إلى حكم الله - تعالى-.
    ولذلك يزيد الشاطبي المسألة وضوحا فيقول: (وينبغي ألا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا، فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والرجوع عن صوب العلم الحاكم، فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا، ثم مخالفة متبوعه... لخروجه عن شرط الاتباع؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها) [الاعتصام (2345)]
    فالخلاصة: أن التقليد جائز في الشريعة، وأن المقلد إنما يقلد العالم؛ لأنه دليله إلى حكم الله، ثم أيضا يجب عليه ألا يصر على تقليده إذا تبين له خطؤه، أو ترجح عنده غيره؛ لأن المجتهد بالنسبة للعامي بمثابة الدليل الظني إذا عورض بأقوى منه سقط، وقد أكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (وأما تقليد العالم حيث يجوز، فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن، كخبر الواحد والقياس، لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد، كما يغلب على ظنه صدق المخبر) [مجموع الفتاوى (2017)] فإذا تيقن المقلدون هذه الأمور والتزموا بهذه الآداب، سار التقليد سلسا طبيعيا، كما كان عليه في القرون المفضلة، أما إذا غلب عليهم التعصب والمشاحنة والتحاسد والبغضاء، فإن التقليد يفقد وظيفته السامية، حيث جعله الإسلام طريقا للعامة لمعرفة الأحكام، لا وسيلة لتجزئة الإسلام.
    وبعد أن اتفق جماهير العلماء على التقليد وجوازه برز فرع آخر وهو تقليد المعين الذي تبنى عليه مسألة التمذهب، وقد كثر الخلاف فيها وتشعب، وهي كما تعلم المقصود من هذا البحث، فلنشرع مستعينين بالله في عرض ما يتعلق بهذه المسألة.
    مسألة التمذهب:
    هذه المسألة هي لب البحث، بل هي المقصودة به، وأما ما مضى فهو عبارة عن مقدمات لتوضيح بعض جوانب المسالة وخلفية الخلاف فيها.
    وقبل أن نبدأ في تفصيل هذه المسألة أنبه إلى أمرين:
    الأول: أن الخلاف في هذه المسألة وإن كان من آثار الخلاف في مسألة التقليد فهو لا يبنى على الخلاف فيها انبناء مطلقا؛ لأن جمعا ممن قال بالتقليد منع التمذهب.
    الثاني: أن معظم من منع التقليد إنما منعه على غير العامة، أما العامة فيجوز لهم التقليد إلا في قول بينا ضعفه، وأما التمذهب فيمنع من قال بمنعه العامة وغيرهم من التمسك به، لأنه كما يقولون حصر للتقليد وتحديد له بغير دليل، كما سنعرف ذلك مفصلا في ثنايا المسألة إن شاء الله - تعالى -.
    تعريف التمذهب واللامذهبية:
    هاتان الكلمتان ترجعان إلى فعل ثلاثي هو: "ذهب" بمعنى مضى، [معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة 'ذهب'] وفي القاموس: (المذهب: المتوضأ والمعتقد الذي يذهب إليه والطريقة والأصل) ا هـ [القاموس المحيط مادة 'ذهب'] وقال صاحب المصباح: (ذهب مذهب فلان: قصد قصده وطريقته وذهب في الدين مذهبا رأى فيه رأيا). ا هـ [المصباح المنير مادة 'ذهب']
    وقال الحطاب: (المذهب لغة: الطريق ومكان الذهاب، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية) [القول السديد للشنقيطي (5)]
    ومما مر يتبين أن معنى اللامذهبية هي عدم سلوك طريق أي إمام من الأئمة المجتهدين، والاستقلال بمعرفة الأحكام.
    كما تبين أن معنى التمذهب: اتباع أحد هؤلاء الأئمة.
    والنقطة التي دار فيها الإشكال أن من قلد عددا من العلماء في مسائل عدة كلا منهم في مسألة هل يعد متمذهبا؟
    أنصار التمذهب يرون أنه متمذهب؛ لأنه تبع مذهب كل منهم فيما تابعه فيه، كما قرر في رسالة حول هذا الموضوع. [اللامذهبية (11)]
    أما أنصار اللامذهبية فيقولون: ليس بمتمذهب؛ لأن التمذهب سلوك طريق واحدة ومذهب واحد لا يحيد عنه سالكه، فلو كان فاعل هذه المسألة متمذهبا، لم يعد هناك أحد لم يتمذهب.
    والقول الحسن في هذا أن اللغة لا تمنع من إطلاق التمذهب على هذه الحالة، لكن العرف الفقهي عند العلماء قيدها بالتزام مذهب واحد، كما قال الحطاب، أما إذا لم يتبع أحدا بعينه في كل أقواله فإنه لا يكون ملتزما بمذهب، وعلى هذا فلا يكون متمذهبا. والله أعلم.
    نشأة التقليد والتمذهب وتطورهما: [انظر لهذا: تاريخ المذاهب لأبي زهرة (301) وما بعدها، والاجتهاد للأيوبي (147)]
    يمكن أن يقال: إن التقليد قد وجد مع وجود البشر على هذه الأرض، فالأبناء يقلدون الآباء، والصغار يقلدون الكبار في أخلاقهم وعاداتهم وطرق حياتهم.
    ولما جاء الإسلام وعرفت الأحكام كان من بين الناس في القرون المفضلة مقلدون يأخذون الأحكام وما يتعلق بها من علمائهم، ويسألونهم عما يعرض لهم، والمحفوظ من فتاوى الصحابة والتابعين شاهد على هذا الأمر الذي لا مجال فيه للشك فضلا عن الإنكار.
    ولما كثر الإقبال على تعلم العلم، وانصرف عدد من الناس إلى الاهتمام به ودراسته، برز جمع من العلماء ممن بلغوا في العلم منزلة عالية، فتصدروا للتدريس والإفتاء، فقصدهم الطلاب والتفوا حولهم، وأخذوا ينهلون من موردهم ويقيدون ما يأخذونه عنهم، حتى إذا ذهب الجيل الأول أخذ الجيل الثاني جيل التلاميذ مكان الصدارة، وكان من الطبيعي أن ينهج كل تلميذ منهج شيخه وطريقته في التأصيل والتفريع غالبا، وكان من الطبيعي أيضا أن يستشهد بأقوال شيخه ويوليها اهتماما في تدريسه، وذلك لما لشيخه من المكانة في قلبه، إضافة إلى ذلك فإن الإنسان يألف الأفكار والتصورات التي تأتيه ابتداء ويطمئن لها ويعتقد صحتها، خصوصا إذا جاءته من ثقة عنده، فيسخر جميع إمكاناته لتأييدها ونصرها ورد ما يخالفها.
    ولعل في واقعنا ما يقارب هذا المسلك، فإنك ترى الجماعات الإسلامية وضعت لها هدفا محددا هو الدعوة إلى الله وقد اتخذت كل جماعة منها منهجا رأته الصواب، فهي تؤيده وتدافع عنه، حتى حدث بسبب ذلك صراع بينها ومشاحنات مع أنها تدعو إلى هدف واحد.
    كذلك مشجعو الكرة، فإن الفرد منهم إذا ما ألف فريقا معينا اشتد حماسه له، حتى يصل الحد ببعضهم إلى المعاداة والموالاة في الكرة، وهي أمر دنيوي تافه، فكيف بأمور الدين التي هي أساس ما لدى المسلم؟.
    ولذلك فإن تلاميذ هؤلاء الأئمة ألفوهم، فاتبعوهم، ثم اتبع هؤلاء تلاميذهم، وهكذا تسلسل الاتباع جيلا بعد جيل، كلما جاء جيل جديد قوى اتباع ما قبله، فكان القدم يضفي على أقوال السابقين نوعا من التقدير، حتى شاع بين الناس ما يعرف بالتمذهب، وهو اتباع كل فئة من المسلمين مذهبا من المذاهب الأربعة المعروفة اليوم، فاندرس ما عداها من المدارس الفقهية، أو قل أتباعه جدا، وأصبح أرباب كل مذهب يدرسون الأحكام على ضوء ما سطره علماؤهم السابقون، ويقرون ذلك ويرجحونه، ويضعفون ما سواه، حتى جاء عصر لم يعد فيه للعلماء أثر من حيث إضافة شيء جديد، بل غلب عليهم دراسة كتب السابقين وشرحها واختصارها والدفاع عنها بالتأليف والمناظرات.
    وهذا الواقع الذي لا يستطيع الباحث إنكاره، بل يقف أمامه مشدوها بتساؤل: كيف ركن علماء أجلاء فطاحل إلى التمذهب والتقليد واستساغوه؟
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: التمذهب دراسة تأصيلية واقعية

    التمذهب دراسة تأصيلية واقعية
    عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين

    وللإجابة عن هذا السؤال أعرض هذه النقاط:

    أولا: لم يكن علماء المذاهب بل لم يكن علماء المذهب الواحد على قدر واحد من حيث التقليد والتمذهب، بل كان هذا الأمر فيهم على مراتب، أدناها الانتماء المجرد، وأعلاها التعصب المقيت وتحريم الصلاة خلف المخالف للمذهب، ولبيان ذلك أقول: إن المذهب الواحد ينسب إليه عدة طبقات، يختلف تناولهم للمذهب من طبقة إلى طبقة، ومن فرد إلى فرد، ولنضرب لذلك مثلا:
    فالإمام أحمد - رحمه الله - يفتخر به الحنابلة ويوردون أقواله على أنها آراء مذهب الحنابلة، فهي من المذهب وهو إمام المذهب.
    وتلاميذ الإمام يأخذ علماء المذهب اختياراتهم وترجيحاتهم بين الروايات على أنها من مذهب الحنابلة، وعلى أنهم أئمة الحنابلة.
    ثم هناك فئة تابعت الإمام في أصوله وخرجت عليها فروعا، فما خرجوه يعده الحنابلة المتأخرون من مذهبهم، ويصنفون هؤلاء العلماء مع الحنابلة، وفئة أخرى تابعت الإمام ومتقدمي الأصحاب في بعض الفروع، وانفردوا بفروع أخرى، فنسب الجميع إلى المذهب، وإن كانت هذه الفئة لم تصرح بالانتساب إلى المذهب.
    ثم إن هناك فئة انتمت انتماء إلى المذهب مع قولها بفروع عديدة مخالفة لما في المذهب، فكما رأيت فإن هذه الفئات كلها نسبت للمذهب، مع أنها في التحقيق لم تلتزم بالمذهب، مما يجعلنا نقول: إن التزام المتقدمين بالمذهب إنما هو التزام انتساب وولاء بحكم تعلمهم وبداية تحصيلهم على هذا المذهب، قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (فأما المجتهد من أصحابه فإنه تتبع دليله من غير تقليد له، ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى، وربما اختار ما ليس في المذهب أصلا، لأنه تابع للدليل، وإنما ينسب إلى عموم مذهبه لميله لعموم أقواله). ا هـ [المدخل لابن بدران (39)]
    وقال ابن بدران الدمشقي: (المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره على الطريقة التي سنبينها فيما بعد إن شاء الله - تعالى -، وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته... الخ) [المصدر السابق (40)]
    قلت: وهذا هو الصواب إن شاء الله في هذا المقام، فإن ابن حامد وأبا يعلى وأبا الخطاب والموفق وابن تيمية وأضرابهم من الحنابلة لا يمكن أن يكونوا مقلدين بكل ما نفهمه من كلمة تقليد، وهناك أمثالهم من المذاهب الأخرى، كأبي بكر الباقلاني وابن عبد البر من المالكية، وكالشيرازي والجويني والغزالي من الشافعية، وكالسرخسي والنسفي وابن همام من الحنفية.
    ويؤيد ما ذهبنا إليه هنا ما قاله ابن عبد البر في مقدمة كتابه: الكافي، حيث قال: (اعتمدت فيه على علم أهل المدينة، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس - رحمه الله -) [مقدمة كتاب الكافي لابن عبد البر]
    فينبغي أن يتنبه الباحث لهذه الحقيقة، بل أن يبحث باحثون كيف تدرج التمذهب من التتلمذ إلى الانتماء إلى الاتباع إلى التقليد إلى التعصب، ولعلي فيما بقي من نقاط هذا البحث آتي بشيء يضيف فائدة إلى هذه المسألة.
    ثانيا: إن مما مكن لشيوع التمذهب في بدايته وتمكنه من علماء المذاهب وحماس علماء كل مذهب لمذهبهم أمرين:
    الأول سياسي: حيث تبنت الدولة العباسية مدرسة الرأي التي يمثلها الحنفية، وقربت رجالها، فكانوا يولون القضاء والمناصب الدينية لمن هو على منهجهم، ولذا توجه كثير من الطلاب لدراسة هذا المذهب رغبة في الفوز بالمناصب، كما دعا هذا الصنيع الفريق المقابل وأبرزهم الشافعية إلى التعصب لمذهبهم ومحاولة الدعوة إليه والدفاع عنه، وهكذا نشأت بذرة التمذهب، وقد كان للمالكية في المغرب المهمة نفسها التي قام بها الحنفية في المشرق، حيث نصر مذهبهم بالأندلس هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. [ترتيب المدارك لعياض (115)]
    والأمر الثاني عقدي: ذلك أن الحنابلة في الجملة- كانوا يتبنون المذهب السلفي في الصفات وبعض العقائد التي يخالفهم فيها الأشاعرة والمعتزلة، وهذا جعل أرباب المذاهب الأخرى يتعصبون ضدهم ويحاربون مذهبهم، فكان رد الفعل من الحنابلة التعصب لمذهبهم والدعوة إليه والرد على مخالفيه، وقد حدث بسبب ذلك عدة فتن في عدد من البلدان الإسلامية، كان أغلب من يثيرها العامة من الحنابلة وغيرهم.
    ثالثا: مما مكن للتمذهب بل لاختفاء الاجتهاد خصوصا فيما بعد القرن الخامس، إحجام كثير من العلماء عن الاجتهاد، إما رغبة في مطمع دنيوي، أو رهبة وخوفا من الحاسدين والأعداء العامة، ومما يوضح هذا أن أبا زرعة سأله شيخه البلقيني قائلا: ما تقصير تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قد رتبت للفقهاء الأربعة على المذاهب الأربعة، وإن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من ذلك، وحرم القضاء وامتنع الناس عن استفتائه، ونسبت إليه البدعة. فتبسم البلقيني ووافقه على ذلك. [الاجتهاد للأيوبي (152)]
    واقعنا الذي نعيشه والآراء في هذه المسألة: [انظر الاجتهاد (147).]
    تعتبر مسألة التمذهب من المسائل القديمة الجديدة، فهي وإن كانت قد بحثت قديما منذ ظهور المذاهب، إلا أنها لا تزال في قائمة المسائل المهمة التي يكثر حولها الجدال، والناظر إلى واقعنا يجد أن المسلمين ينقسمون حيال هذه المسألة إلى ثلاث فئات هي:
    الفئة الأولى: طائفة من المنتسبين لأهل الحديث يريدون اطراح المذاهب والعودة بالناس إلى الكتاب والسنة، وهم لا يطالبون بهذه الفكرة دفعة واحدة، وإنما يطالبون بأن يتفقه الناس عبر المذاهب بعيدا عن التعصب، ثم توحد المذاهب ويطرح غثها، ثم يرجع بالناس إلى الكتاب والسنة مباشرة. [ملحق كتاب المذهبية للعباسي (112)] لكن بعضهم في أثناء حماس المناقشات ينسون هذا التدرج، ويحملون على المذاهب جملة وتفصيلا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
    الفئة الثانية: المذهبيون وهم علماء كثر، كان أغلب من دعا للفكرة منهم في القرن الماضي الشيخ محمد الحامد وأضرابه، وهؤلاء يدعون إلى وجوب اتباع المذاهب حسما للفوضى الدينية، كما يقول عنوان رسالة للشيخ محمد الحامد في هذا الشأن، ولعله أبرز من مثل هذا المنهج في هذا العصر، ولا بأس بعرض بعض أفكاره من تلك الرسالة لكي تتضح الفكرة:
    يقول: والذي علينا علمه والعمل به هو ما قرره فقهاؤنا - رحمهم الله - تعالى -من أن الاجتهاد المطلق في الأحكام ممنوع بعد أن مضت أربعمائة سنة من هجرة مولانا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [ص9]
    ويقول: نعم قد تعرض بعض الحوادث في زماننا هذا مما لا يعهده الناس من قبل، فيتشوفون إلى معرفة أحكامها، والمخلص من الحيرة هو النظر في فروع الفقه وقواعده الكلية، فإنه كفيل بتعريفنا بحكم الجديد من هذه الحوادث، على أنه لا مانع من الاجتهاد للتعرف على أحكام جزئية فردية طارئة... الخ. [ص12]
    ويقول - رحمه الله -: وبعد فنحن ملتزمون مذاهبنا فيما عدا الحوادث الفاذة، ولسنا مجتهدين حتى نفتي من الأحاديث الشريفة ابتداء. ا هـ [ص13]
    أقول: وهذه الفئة أعني المتمذهبين- هي الشائعة في العالم الإسلامي في غربه وشرقه، وأغلبهم من العامة، أو من العلماء الذين لم ينالوا حظا كبيرا من العلم، أو لم يدرسوا العلم بطريقته الحديثة في المدارس والجامعات، أو غلبت عليهم عاطفة المذهب فتحرجوا من خلافها.
    ولعلي قبل أن أترك هذا الفريق أبين أن هذا القول هو أحد الوجهين للحنابلة والشافعية، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في الفتاوى، غير أنه قال: (إن الجمهور منهم لا يوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه. [مجموع الفتاوى (20222).]
    وتتبين نظرة الحنابلة من كلام ابن حمدان في أثناء حديثه عن مذاهب الحنابلة في هذه المسألة، فهو يقول: (والثاني يلزمه ذلك أي التمذهب لأنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى ذلك إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه... الخ). [صفة الفتوى لابن حمدان (72).]
    وكلام ابن حمدان هذا يمثل أيضا نظرة الشافعية الموجبين للالتزام إلى هذه المسألة، لأن أصل هذا الكلام لابن الصلاح في أدب المفتي [ص162] وقد نقله عنه النووي وصدره بقوله: (فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين). [المجموع (155)]
    وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى ابن الصلاح نقل الإجماع على عدم تقليد غير الأئمة الأربعة، وقبله قال الجويني في البرهان: (أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة - رضي الله عنهم -، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين). [البرهان (31146)]
    وقال أحد متأخري مذهب المالكية: (قد منع جميع العلماء اتباع مذاهب غير الأئمة الأربعة من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داود إلى هذا الزمان، سواء كان اتباع التزام أو مجرد تقليد) [الاجتهاد للأفغاني (93)]
    وإنما سقت لك هذه الأقوال والنقول لتعلم أن فكرة إيجاب التمذهب شائعة بين الفقهاء، حتى لا تقول إنك هونت من هذه الفكرة وحقرت شأنها، ولم تنسبها إلا إلى شرذمة قليلة من أتباع المذاهب.
    ولعلي أزيد الأمر إيضاحا فأقول: إن العلماء - رحمهم الله - يطلقون القول بوجوب التمذهب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ولكنهم لا يتفقون على ما نفهمه من هذه الكلمة من كون المقلد يجب عليه أن يلتزم مذهبا لا يحيد عنه قدر أنملة، وإنما لهم في ذلك إطلاقات نذكر منها من باب التمثيل ما يلي:
    1- أنهم قد يقصدون بوجوب التمذهب وجوب التقليد عموما، وهذا لا ينازع أحد في وجوبه على العامة.
    2- قد يريدون عدم تقليد الصحابة والتابعين، وحصر التقليد فيمن نقلت أقوالهم وضبطت؛ لأن العامي قد لا يفهم ما يريده الصحابي، فيحمله على غير محمله، أو يكون قول الصحابي منسوخا أو مجمعا على خلافه، ولعل عبارة صاحب البرهان موحية بهذا.
    3- أنهم قد يريدون بالتمذهب الانتماء للمذهب مع جواز تركه إذا ترجح غيره، ويدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وعليه أيضا يحمل قول ابن حمدان وابن الصلاح وأضرابهم من كبار العلماء، فقد سئل الإمام ابن تيمية عن معنى قول ابن حمدان: (من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر)، فأجاب: (هذا يراد به شيئان: أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر... وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها، لكنا نتكلم عليها على تقدير إرادتها، وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه...... ولا ريب أن التزام الناس المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر....... وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني...... فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه). [مجموع الفتاوى 20220-223]
    4- قد يريدون به أخيرا كل ما تدل عليه الكلمة من معنى من إيجاب الالتزام بالمذاهب وعدم الحياد عنها ونحو ذلك، وللأسف إن هذا المعنى غلب على العامة ومتوسطي طلاب العلم وذوي العاطفة المذهبية وبخاصة في العصور الأخيرة وهو يمثل الواقع أكثر من تمثيله الفكر.
    الفئة الثالثة: فئة متوسطة بين الفريقين يرون أن أهل المذاهب ومن يلتزم بها على حق وفي خير، ومن تركها وأعرض عنها والتمس لنفسه طريقا آخر في حدود الشرع فهو كذلك.
    وأغلب هذه الفئة تنتسب إلى المذاهب لكنها لا تلزم نفسها بكل ما في مذهبها، بل إذا رأت ما هو ضعيف في المذهب اعتمدت فيه على غيره.
    وكأن هذه الفئة تحاكي فقهاء الأمة وفضلاءها في القرون الماضية ممن سلكوا هذا المنهج وساروا عليه، وبخاصة الإمام ابن تيمية وابن القيم والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد وأضرابهم ممن سبقهم أو تلاهم.
    وهذه الفئة اليوم تتمثل في أتباع الدعوات الإصلاحية، بالإضافة إلى كثير من طلاب العلم وأساتذته في الجامعات والمدارس الذين اطرحوا التعصب، ولم يزهدوا في المذاهب.
    وهذه الآراء الثلاثة هي المطروحة على ساحة الواقع في هذه المسألة، ولعلنا قبل أن ننتقل إلى أدلة كل فئة أعرض بعض النقاط التي ينبغي أن يعرفها الباحث في هذه المسألة، وهي أشبه ما تكون بتحرير محل النزاع من خلال أقوال بعض الخائضين في هذه المسألة.
    أولا: يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية: (هناك أمور لا خلاف فيها لا بد من إبعادها عن دائرة البحث في أصل الدعوى الخطيرة)، ثم عد من هذه الأمور ما يأتي:
    1- أن المقلد لأحد هذه المذاهب ليس ثمة ما يلزمه شرعا بالاستمرار في تقليده، وليس ثمة ما يمنعه من التحول عنه إلى غيره.
    2- أن المقلد إذا ما تمرس في فهم مسألة من المسائل وتبصر بأدلتها من الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، وجب عليه أن يتحرر من الأخذ بها من مذهب إمامه وحرم عليه التقليد فيها.
    3- أن جميع الأئمة الأربعة على حق، ومن هنا فاتباع المقلد لمن شاء منهم اتباع للحق وتمسك بهدي. [اللامذهبية (34- 38).]
    ثانيا: دعاة اللامذهبية وأبرزهم الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - محدث الشام وأتباعه، قد صدر لهم كتب ومباحث في كتب، ولعل أبرز كتبهم ما كتبه محمد عيد عباسي بعنوان: المذهبية المتعصبة هي البدعة، أو التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين، وقد شرح المؤلف ما يدعون إليه، وقرره في أكثر من خمسمائة صفحة، وبين أنهم لا ينكرون التقليد على العامة، ولا يطالبونهم بالاجتهاد، وإنما يطلبون الاجتهاد من المشايخ، يقول: (إن موضوع دعوتنا عن الاجتهاد والتقليد بالدرجة الأولى الذين يدعون العلم الآن علماء الدين والمشايخ) [المذهبية للعباسي (117)]
    ويحصر الخلاف أيضا بقوله في التقليد: (إنه لا ضرورة لا محيص عنها، وقد أقرها الإسلام بشروط، منها ألا يكون المقلد مستطيعا للاجتهاد أو الاتباع، ومنها: ألا يكون يقلد رأيا بلغه مصادمته للكتاب والسنة، ومنها: ألا يلتزم تقليد مذهب إمام معين، وإنما يقلد من اتفق). ا هـ [المذهبية للعباسي (328)]
    ويزيد الكاتب المسألة قربا من الفريق الآخر حين ينقل في ملحق الكتاب عن الشيخ الألباني - رحمه الله - قوله: (إن الواجب على الناس في زماننا هذا أن يبدؤوا بتعلم الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ويدرسوا الدين من كتبها، ثم يتدرجوا في طريق العلم الصحيح بأن يختاروا كتابا من كتب مذاهبهم، ككتاب المجموع للنووي عند الشافعية وكتاب فتح القدير عند الحنفية، وغيرها من الكتب التي تبين الأدلة وتشرح طريقة الاستنباط، ثم يتركوا كل قول ظهر لهم ضعف دليله وخطأ استنباطه، ثم يتدرجوا خطوة ثالثة بأن ينظروا في كتب المذاهب الأخرى التي تناقش الأدلة أيضا وتبين طريق الاحتجاج بها ويأخذوا من هذه الكتب ما ظهر لهم صحته وصوابه وهكذا). ا هـ [ملحق المذهبية للعباسي (112)]
    ثم يضيف الكاتب إلى هذا الكلام بعد فقرة: (بأن هذا لا يجوز إلا لمن لم يتوفر له الجو العلمي الصحيح القائم على دراسة الفقه من الكتاب والسنة، وأما من توفر له هذا المناخ الصحي العلمي المناسب، كسلفيي دمشق فلا حاجة لهم إلى ذلك، كما أنه لا بد من بيان أن ما أجزناه من دراسة الفقه عن طريق أحد المذاهب إنما جاز بوصفه مرحلة مؤقتة وفترة انتقالية). ا هـ [الملحق لكتاب المذهبية للعباسي (113)، وانظر أصل الكتاب (62)]
    ثالثا: أستطيع القول بعد أن استعرضت نماذج من كتابات الفريقين اللذين يدور بينهما الصراع في هذه المسألة في العصر الحاضر إن الخلاف في المسألة يكاد ينحصر في تقليد المعين، حيث ينكره دعاة اللامذهبية، ويقول المذهبيون بجوازه بالإضافة إلى مسائل جزئية كالخلاف في مرتبة الاتباع وطلب الدليل من المفتي، ولعلي أعرض لبعضها في آخر البحث.
    أما طلب اللامذهبيين الاجتهاد من المشايخ والمفتين، فلا أرى أنها مسألة خلاف من حيث التنظير، فإن المذهبيين يطالبون المفتي إذا تبين له خطأ مسألة أو مخالفتها لنص أو قياس أو قاعدة، أن يتبع الصواب فيها، ولا يعني هذا أن عليهم نبذ المذاهب وكتبها وترك قراءتها لأنها تراث الأمة وإرثها، وإنما يقرأ العالم أو طالب العلم هذه الكتب ببصيرة، فما كان حقا أخذه، وما كان خطأ بين خطأه.
    ولا أظن أن اللامذهبيين يخالفون في هذا القدر كما مر في كلام الشيخ الألباني - رحمه الله -، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: (لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى الشرعية ويعرف مذاهبهم). [الإنصاف للدهلوي (105)]
    أما ما ذكره العباسي من أن دراسة المذاهب مرحلة مؤقتة وضربه المثل بسلفيي دمشق، فأرى أن في الأمر مبالغة؛ لأن هذه الكتب فيه الصواب وفيها الخطأ، فلم يترك صوابها مع غلبته لوجود الخطأ.
    ثم هل هي إلا ثمرة استنباط واجتهاد على ضوء الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأدلة الشريعة الأخرى قام بها علماء لهم مكانتهم وقدرهم، فلم لا يدرسها من يطالب بتركها ويعرف صحيحها فيأخذه، فيكون متبعا على القول بوجود مرتبة الاتباع، إذ إن المذاهب لا تموت بموت أصحابها على الصحيح.
    وحينئذ لا حاجة بنا إلى أن نبدأ من حيث بدأ السابقون؛ لأننا حينئذ ندعو إلى ظهور مذاهب جديدة، وهل نشأت المذاهب إلا بإمام مشهور تجمع حوله التلاميذ فأعجبوا بطريقته، ثم التف حولهم العامة حتى سمي مذهب فلان.
    ولنعد الآن إلى استعراض الأدلة التي استدل بها أصحاب الأقوال الثلاثة في مسألة التمذهب:
    أدلة القائلين بمنع التمذهب والإجابة عنها:
    استدل هذا الفريق لرأيه بعدة أدلة أبرزها ثلاثة هي:
    1- أن عدم الالتزام بمذهب هو الأصل وهو الأيسر والأقرب للفهم الصحيح لمراد الله - تعالى -لأن الله - سبحانه - حين أمر الجاهل بسؤال أهل الذكر لم يحدد واحدا معينا منهم بل أطلق ذلك، ومن المعروف أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده. [المذهبية لعباسي (91)]
    والجواب عن هذا الدليل: أن الأمر للإطلاق كما ذكر في الدليل والمستدل قد قيد هذا الإطلاق بإلزام المستفتي بعدم تقليد شخص بعينه، إذ الأمر بسؤال أهل الذكر لم يتعرض لكون المسؤول واحدا أو متعددا، فيكون إيجاب تقليد المعين أو إيجاب تقليد أكثر من واحد زائدا على الأصل الذي لم يتعرض لشيء من ذلك، فيكون تقليد المعين جائزا، وتقليد غير المعين جائزا أيضا. [اللامذهبية (77)، وانظر مجموع الفتاوى (20209)] والأمر في هذا واسع بحمد الله.
    2- أن من التزم مذهبا معينا يكون قد سوى في واقع الأمر بين اتباع النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وبين اتباع الفقيه غير المعصوم. [المذهبية لعباسي (91)]
    والجواب عن هذا: أن المقلد سواء قلد معينا أو لم يقلد معينا، فهو إنما يتبع غير معصوم، لكن لما دل الدليل على أن المجتهد يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده، وإن خالفه غيره، كان على المقلد أن يتبعه ولو كان غير معصوم؛ لأن هذا طريقه لمعرفة الأحكام.
    وهل المقلد إذا تنقل بين المفتين ولم يلتزم واحدا منهم يسلم من الخطأ ويجلب له هذا الصنيع العصمة التي لم تثبت إلا للمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟.
    وقد جبلت النفوس على اتباع وتقليد من تثق به وتطمئن له ولا ريب أن العامي لا يدري هل أصاب هذا العالم الحق في المسألة أو لا؟، لكنه إنما اتبعه لثقته فيه لا لاعتقاد عصمته.
    3- استدلوا بأن فعل الصحابة والسلف الصالح في القرون المفضلة هو عدم الالتزام، فثبت أن الالتزام غير جائز. [المذهبية لعباسي (92)]
    وأجيب عن هذا: بأن المروي خلافه، فقد قال ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين: (والدين والفقه انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم عامة الناس عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله ابن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود) ا هـ [أعلام الموقعين (121).]
    وأورد ابن القيم - رحمه الله - أيضا أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال: (من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني) [المصدر السابق (121).] وكان منادي بني أمية ينادي على مسمع من الصحابة والتابعين في أيام منى ألا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح [البداية والنهاية (9306)] ؛ لأنه كان من أعلم الناس بالمناسك. [تهذيب التهذيب (7201).]
    فهذه النصوص والشواهد تدل على أن القرون المفضلة عرفت شيئا من التعيين، فالحكم بأن فعلهم هو عدم الالتزام هو حكم بعدم الدليل، لا بدليل العدم، وعدم الدليل لا يدل على عدم الوجود، إذ قد يكون موجودا ولم ينقل، وبخاصة بعدما سقنا شيئا من النصوص تدل على بعض ذلك.
    أدلة القول بوجوب التمذهب والإجابة عنها:
    عمدة أدلتهم الاستدلال على وجوب الالتزام بالمذهب أنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى ذلك إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا لهواه، وهذا انحلال عن التكليف وسبب للفوضى الدينية. [لم أجد دليلا ذا شأن يدل على الوجوب سوى هذا الدليل، وقد بيَّنَّا ضعفه، أما أدلتهم الأخرى فلا يفهم منها إلا الجواز، فذكرها مع أدلة المجيزين أولى].
    ويجاب عن هذا: بأن التزامه بمذهب واحد لا يتجاوزه مع اشتمال هذا المذهب على الخطأ أمر لا تقره الشريعة، وإنما يسوغ له اتباع المذهب إذا اطمأنت نفسه إليه، ويجب عليه تركه فيما بان له ضعفه، ولا يؤدي هذا الصنيع إلى تتبع الرخص والفوضى، لأن جواز الترك مقيد بظهور الرجحان وتتبع الدليل، أما الانتقال الفاقد لهذا القيد فإنا نمنعه حسما للفوضى، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقلنا عنه أولا.
    أدلة القائلين بجواز التمذهب:
    إن هذا القول هو الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، ولقد قررت هذا المذهب من قبل وبينته، وأحب هنا أن أزيد الأمر توضيحا قبل عرض الأدلة، فلقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عرض هذا القول في الفتاوى وفي كتبه الأخرى ومال إليه، ومن أقواله التي تدل على ميله لهذا القول قوله في الفتاوى: (ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول...... واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما سوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد). ا هـ [مجموع الفتاوى (20209)]
    ومنها قوله: (وأكثر الناس إنما اتبعوا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم، فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده.... ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت..... وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله، وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله، فهو محمود، يثاب ولا يذم على ذلك ولا يعاقب) ا هـ. [مجموع الفتاوى (20224، 225).]
    ومنها قوله في المسودة نقلا عن ابن هبيرة: (كل من هذه المذاهب إذا أخذ به آخذ ساغ له ذلك) ا هـ. [المصدر السابق (20292).]
    هذه بعض أقوال شيخ الإسلام في هذا المقام، وإنما حرصت على التقديم بها لأدلة هذا الفريق؛ لأن بعض المانعين من التمذهب ومن تقليد المعين ينسبون المنع لشيخ الإسلام، فأحببت ذكر شيء من أقواله ليعلم رأيه في هذه المسألة.
    ولنعد الآن إلى ذكر أدلة القائلين بجواز التمذهب وهي كثير وأبرزها ما يأتي:
    1- أن الأدلة على جواز التقليد جاءت مطلقة، فلم تطلب من المقلد عدم تقليد معين، فتقييدها بهذا القيد تقييد بغير دليل، فلا يقبل. [المذهبية (77)]
    2- أن الأمة منذ عهد الصحابة وعلى مر عصورها الزاهرة لم ينقل عن أحد يعتد بقوله منع المقلدين من استفتاء شيخ بعينه، بل قد عرف كما بينا سابقا عن قوم بأنهم أصحاب ابن عباس، وعن آخرين بأنهم أصحاب ابن مسعود، وكان منادي بني أمية ينادي ألا يفتي الناس إلا عطاء، ولم ينكر ذلك أحد ممن حضر من الصحابة والتابعين، ثم إن علماء الإسلام والأئمة الأعلام على مر العصور لم ينكروا هذا الأمر، ولم يأنفوا منه أعني الانتساب إلى المذاهب فهذا الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - يؤلف في فضائل الثلاثة، ولعلك تسأل لم خصهم دون غيرهم من فقهاء الإسلام مع استواء الجميع في العلم والفضل؟، وألف أيضا الكافي في فقه المالكية جامعا له من كتبهم، وهذا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لا يأنفون من ذكر آراء الأصحاب والاعتناء بأقوالهم والثناء على الحنابلة ومذهبهم.
    وأمثال هؤلاء من الأئمة كثير، وإنما أردنا مجرد التمثيل، ولأن ابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم ممن شن حملة على التقليد، فظن ظان أنها ضد ما نحن بصدده.
    بل قد نقل كثير من العلماء الإجماع على جواز اتباع هذه المذاهب المدونة، فقد نقله شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتاب مسودة بني تيمية عن الوزير ابن هبيرة [المسودة (538-541)] كما ذكرناه آنفا، كما نقله قبله صاحب البرهان فيه [البرهان (21146)] وابن الصلاح [تيسير التحرير(4256)] وأخيرا الدهلوي في الإنصاف [الإنصاف (97، 104)]
    3- أن الأمة قد أجمعت على عدم الإنكار في مسائل الاجتهاد، ولا ريب أن أقل ما يقال في المذاهب أنها من هذا الباب، فلم التشنيع والإنكار. [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20207)]
    4- أنه لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، وقد سارت الأمة على هذا، فكانت الفتوى زمن الصحابة والتابعين للفاضل والمفضول [قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2135)] فليكن تقليد المذاهب على الأقل من هذا الباب، ثم أخيرا فهو القول الوسط الذي يتمشى مع سماحة الإسلام ويسره، فلا إفراط ولا تفريط، ويوافق فطر الناس كما ذكرنا، فإن قلب العامي متى وثق بشخص واطمأن له لم يقتنع بسواه، فهو لا يعرف الراجح من المرجوح، فلا يمكن أن يقتنع بفتوى غير مفتيه إلا بعد لأي، وحيث إن الشرع قد أباح العمل بكل اجتهاد سار في مساره الصحيح، فلم نحجر واسعا. والله أعلم.
    معالم رئيسة في مسألة التمذهب:
    عرفنا أن الرأي الوسط في مسألة التمذهب هو القول بجواز التمذهب وعدم الإنكار على من ترك التمذهب، وبقي بعض الأمور التي ينبغي أن ينتبه لها كل مسلم عموما، ومن أراد التمذهب بأحد مذاهب الأئمة خصوصا، فمن هذه الأمور ما يأتي:
    1- أن المقلد يجب عليه أن يوقن بأن متابعته لعالم ما أو لمذهب ما إنما هي لكون هذا العالم أو هذا المذهب هو طريقه إلى معرفه حكم الله - تعالى -، يقول الشاطبي: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم، لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع فيها خلاف عقلا ولا شرعا). ا هـ [الاعتصام للشاطبي (2343).]
    2- ألا يصر المقلد على تقليد من تبين له خطؤه، بل على المقلد إذا بان له خطأ متبوعه أن يقلع من ساعته ويتبع الصواب الذي ظهر له، فإن أصر على متابعته والتعصب له فقد خالف أمر الشارع وخالف أمر متبوعه؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بترك قوله إذا بان للمتبع خطؤه كما نقلناه عن الشاطبي. [الاعتصام (2345)، والإنصاف (101، 102)]
    يقول القرافي - رحمه الله -: (يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي) [شرح تنقيح الفصول (432)]
    فإذا رأى متبع المذهب رأيا في مذهبه مخالفا لدليل شرعي، أو قاعدة شرعية، أو قياس صحيح أو إجماع الأمة، وجب عليه تركه لما ترجح عنده.
    3- أنه لا يلزم الشخص أن يتقيد بمذهب ما، لا يتجاوز ما فيه، وإنما التزامه بمذهب ما، مما يسوغ له ويجوز [مجموع الفتاوى (20209)] وعلى هذا يجوز أن يستمر في تقليده ويجوز أن ينتقل إلى غيره إذا كان قصده من الانتقال أمرا دينيا قال القرافي في التنقيح: (قال الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط:
    أ- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن كل عالم يقول ببطلان النكاح في هذه الصورة المجموعة.
    ب- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميا في عماية.
    ج. أن لا يتتبع رخص المذاهب). ا هـ [شرح تنقيح الفصول (432)]
    ومعنى هذا أن يكون قائده في التمذهب وفي الانتقال البحث عن حكم الله ونشدان الحق وطلب الخير، لا أغراض النفس وشهواتها.
    4- يجب على مريد اتباع أحد من مذاهب الأئمة - رحمهم الله - أن يعرف للأئمة غير إمامه وللفقهاء غير فقهاء مذهبه حقهم وفضلهم، فلا ينال منهم، ولا يتعرض لهم بسوء، بل عليه أن يرى الجميع أئمة فضلاء، وأن كلا منهم سالك في الطريق المكلف به، وألا يتعصب لمتبوعه على غيره، فإن هذا يؤدي إلى تحكيم الرجال في الحق والإعراض عن أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. [الاعتصام (2348)]
    وعليه أن يعلم أن هذا الخلاف القائم بين العلماء لا ينبغي أن يكون سببا للخصومة والقطيعة، وقدوتنا في هذا الموقف الأئمة الأربعة ومن بعدهم من علماء الإسلام.
    فهذا الشافعي يصلي قريبا من مقبرة أبي حنيفة فلا يقنت تأدبا معه ويقول: (ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق).
    والإمام أحمد - رحمه الله - يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ قال: (كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟) [رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (1097)] وأخبار السلف في هذا كثيرة، فالأئمة - رحمهم الله - لا يرون أنهم خير من مخالفيهم، أو أن مخالفيهم على غير هدى، بل كل يعرف لصاحبه حقه ويعمل بما أداه إليه اجتهاده، ويعلم أن هذا الاختلاف كما قال ابن العربي: (اختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع إلى الرفق) ا هـ [أحكام القرآن لابن العربي (3322)] ، أو كما قال قبله عمر بن عبد العزيز: (ما أحب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة) [جامع بيان العلم وفضله (280)]
    5- أن على العلماء وطلبة العلم من أرباب المذاهب الابتعاد عن المناظرات والمجادلات في كل مسألة لا يطمع فيها أحد الطرفين أن يرجع صاحبه إلى الحق إذا ظهر له، وليس فيها فائدة ترجع إلى استجلاب مودة ولا إلى توطئة القلوب لوعي الحق، بل هي كما نقل الإمام ابن تيمية على الضد من ذلك كله، فإن مثل هذا مما قد تكلم فيه العلماء، وأظهروا من عوره ما أظهروا، ولا يتمارى في أنه محدث متجدد. [المسودة (541)]
    وعلى هذا فينبغي لكل من اطلع على قول ضعيف في مذهبه أو مذهب غيره ألا يعمل به في خاصة نفسه، وأن يخبر من رآه يعمل به بشيء من اللطف واتباع الحسنى من غير تعرض للمذهب أو المذاهب بتخطئة أو تسفيه، ويجعل بين عينيه أنه بعمله هذا ينتصر للحق لا ينتصر لنفسه، وعليه أن يعلم القاعدة الشرعية، وهي أن المنكر إذا خشي منكره من ترتب منكر أكبر على إنكاره، وجب عليه الكف عن الإنكار، فكيف بقول له عاضد من اجتهاد أئمة الإسلام ولعلهم رأوا ما لم نر، فإن الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان ونحوها كما هو معلوم.
    وليعلم أيضا أن البعد عن إثارة الضغائن والأحقاد من أهداف الإسلام، فلذا يجب كما قلنا ترك الأفضل والعمل بالمفضول إذا خشي ترتب مفسدة أو ذهاب مصلحة عند العمل بالأفضل، وهذه قاعدة لا إشكال فيها عند أئمة الإسلام، وأصلها قوله - تعالى -: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)[سورة الأنعام الآية 108 ]
    6- ليعلم الملتزم بالمذهب وغيره من المسلمين أنه قد حدثت عبر العصور الإسلامية فتن ومحن وتعصبات بين المذاهب الإسلامية كانت سببا لفساد كبير، وعلى المسلم إزاء هذه الأحداث أن يعلم أنها ليست من خلق الإسلام ثم إنها من فعل العامة وبعض طلاب العلم المبتدئين ونحوهم، وكلها ليس دافعها دينيا بحتا، بل أكثرها ردود فعل لمواقف شخصية وأغراض خاصة، أو هي من صنع الولاة والحكام لغرض ما، وعلى المسلم أن يعتبرها من الهفوات والعثرات التي يجب سترها كسائر العيوب، وأن لا تشاع وتذكر على أنها من عيوب التمذهب، وقد بينا فيما سبق بعض أسبابها وخلفياتها التي كانت سببا لفساد كبير.
    هذه بعض المعالم التي أحببت التنبيه إليها في نهاية الكلام على مسألة التمذهب، ليلقي المسلم سمعه ونظره إليها، ويمرن عقله وقلبه وجوارحه على العمل بها والله المستعان.
    مسائل تكميلية تحسن الإشارة إليها:
    أريد أن أتحدث تحت هذا العنوان عن ثلاث مسائل تتعلق بمسألة التمذهب، هي الخلاف في مرتبة المتبع، ومسألة مطالبة المفتي بذكر دليل الفتوى معها، والثالث إلزام العامي بسؤال المفتي عن دليل الفتوى، ولكونها من مكملات البحث لا من صلبه فسأكتفي بإشارات يسيرة تجلي بعض الغموض حولها.
    فأما مرتبة المتبع فإن اللامذهبيين يقسمون الناس إلى مجتهد ومتبع ومقلد، وأما المذهبيون فلا يعترفون إلا بقسمين: المجتهد والمقلد، وهذا الخلاف بالإضافة إلى أنه خلاف في الألفاظ لا حظ للعمل فيه، فإنه مسألة اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح، مع العلم بأن معظم الخائضين في علم أصول الفقه وهو مظنة المسألة لا يذكرون إلا القسمين، أما مرتبة المتبع فقد قال بها أفذاذ من العلماء نقل كلامهم ابن القيم في أعلام الموقعين [أعلام الموقعين (3464) ط دار ابن الجوزي بتحقيق مشهور أل سلمان] وحيث إن المسألة كما ذكرنا ترجع إلى اللفظ والاصطلاح، فلا داعي لذكر الحجاج والمناقشات.
    وأما مسألتا مطالبة المفتي بإيراد دليل المسألة، وكذا إلزام العامي بالسؤال عن الدليل، فإنه لا يشك أحد في أن اعتضاد الفتوى بالدليل أفضل من تجردها عنه، أما أن يصل الأمر إلى درجة الإيجاب أو المنع فأرى أن المسألة أهون من ذلك، إذ إن ثقة العامي بالمفتي تقوم مقام سؤاله عن الدليل، ولا ريب أنه إن أراد بسؤاله الفائدة بمعرفة الدليل أو أراد توطين نفسه للعمل بالحكم، أو نحو ذلك، فلا ينبغي أن يقال بمنعه، وبخاصة إذا ساد هذه المعاملة بين المقلد ومفتيه الأدب والاحترام، لا أسلوب المحاجة والمناظرة، كما يفعله بعض جهله العوام الذين سمعوا القول بوجوب السؤال، فأخذوه دون الاستفسار عن ضوابطه، ولا ريب أن له ضوابط تقوم على الاحترام والأدب وحسن الخلق.
    هذا آخر ما تيسر كتابته والله الموفق.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •