التمذهب دراسة تأصيلية واقعية
عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران الآية 102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء الآية 1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا سورة الأحزاب الآية 71 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[سورة الأحزاب الآية 70]
أما بعد:
فإن من نعم الله التي لا تنكر، وآلائه التي هي أحق ما يشكر: نعمة الإسلام التي كسانا بها ونشأنا عليها.
لكن شكر هذه النعمة كغيرها من نعم الله لا يتم إلا بتحقيق توحيده، والتزام سنة عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلزام النفس طوعا، أو كرهاً السير في الطريق الذي يوجبه الإسلام ويقتضيه، حسب الجهد وقدر الطاقة.
وحيث إن تعاليم الإسلام عديدة، وأحكامه كثيرة، فإن على المسلم أن يحرص كل الحرص على تعلم ما يمكنه تعلمه منها، وأن يجد كل الجد في معرفة ما استطاعه منها، وما لم يصل إلى علمه، أو قصر فكره وجهده عن معرفته، فإنه يجب عليه أن يتبع فيه عالما ممن يثق بعلمه وأمانته ودينه، على هذا سار أهل الإسلام منذ ظهور نوره إلى الآن، وهو ما سيسار عليه إن شاء الله إلى يوم القيامة.
ولما كان التقليد مما تنوعت فيه طرائق المقلدين، واختلفت فيه أنظار ومناهج الباحثين قديما وحديثا، وبخاصة ما يتعلق بتقليد المعين، أو ما يسمى بالتمذهب.
رغبت بعد أن أشار علي بعض ذوي الفضل المساهمة في لم شمل هذا الموضوع والكتابة في بعض جوانبه المهمة، وإني لأرى الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان لقيام معركة حامية بين أنصاره ومعارضيه في هذا الزمان، ولكنها وللأسف طغى على الجانب العلمي فيها جوانب أخرى أخرجت البحث عن دائرته الصحيحة، مما أضاع على القراء فوائد كان يمكن أن يجنوها مما سطره علماء لهم مكانتهم في العلم والفضل في العالم الإسلامي.
ولعلي في هذا البحث أن أصل إلى بعض الحقائق، سواء تلك التي وجدت في كتب الفريقين وأخفتها موجات الغضب، أو التي ذكرها علماء آخرون متقدمون أو متأخرون، هذا مع علمي بمكانتي وقيمتي العلمية، حيث لا أستطيع أن أكون إلا طالبا في آخر الصفوف لبعض هؤلاء العلماء، لكن طلب الحق ونشدان الحقيقة دعتني إلى خوض هذا البحر والتعلق بركب هذا الموكب، والله المستعان.
وقبل أن أبدأ مسائل هذا البحث ألفت نظر القارئ إلى نقطتين مهمتين:
أولهما: أن أكثر الخلاف الدائر في هذه المسألة خلاف في التطبيق وليس خلافاً في التنظير؛ لأن معظم أرباب المذاهب يتبرمون من التعصب للمذاهب، ويدعون إلى العمل بالكتاب والسنة إذا خالف المذهب، لكن أحدهم إذا رأى حديثا صحيحاً يخالف مذهبه تحرج من مخالفة المذهب؛ استثقالا لترك أمر تعوده، ورأي استقر في نفسه.
كما أنك تجد بعض الداعين إلى عدم الالتزام بالمذاهب يقول بالتقليد ويقره ويرى أنه ضرورة للعوام وأشباههم، لكنه إذا رأى من يقلد إماما معتبرا محتجاً بقوله في أمر مختلف فيه يخالف ما يراه هو أنكر على المقلد ونسبه إلى الجمود والتعصب.
ولا حاجة لنا في ضرب الأمثلة من الواقع، أو الاستشهاد بالحوادث؛ لأن الأمر يعلمه كل من قرأ في كتب القوم، أو نظر إلى واقع الناس.
أما النقطة الثانية: فهي أن تعلم أن البحث لتحقيق مسألة التمذهب، ولكي تتضح صورة المسألة قدمت لها بمقدمتين، أولاهما في الاجتهاد وبعض مسائله، والثانية في التقليد، ثم أعقبت مسألة التمذهب بمسألة لها علاقة بها، وهي مسألة حكم الاستدلال في الفتوى.
أسأل الله الكريم أن يأخذ بيدي، وأن يلهمني الصواب، وأن يرزقني العدل والتوفيق، وأن يكفيني شر نفسي وهواي، إنه - سبحانه - خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
المقدمة الأولى: في تعريف الاجتهاد وبعض أحكامه:
تعريف الاجتهاد:
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة، مأخوذ من الجهد بفتح الجيم بمعنى المشقة، وبضمها بمعنى الطاقة. [انظر معجم مقاييس اللغة، والقاموس المحيط، والمصباح المنير،مادة 'جهد'.]
أما في الاصطلاح: فعبارات الأصوليين في حده كثيرة، وليس المقام مقام استقصاء؛ لأنها متقاربة المعنى، ومن أجمعها قول الجرجاني في التعريفات إنه: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له الظن بحكم شرعي.[انظر التعريفات للجرجاني (5)،وانظر أيضًا المستصفى (2350) ، والإحكام للآمدي (4162) ، والتقرير والتحبير (3291) ، وإرشاد الفحول (250).]
شروط المجتهد: [انظر شروط المجتهد في المستصفى (2350) ، وإرشاد الفحول (250)] .
أسرف بعض العلماء في تقييد المجتهد بشروط كثيرة يستحيل معها أن يوجد مجتهد، كما قابلهم قوم قللوا من شأن هذه الشروط حتى دلف من باب الاجتهاد من ليس بأهله، فأحل ما حرم الله.
والموقف الوسط في هذا هو أن يشترط فيمن يخوض بحر الاجتهاد ما اشترطه جمهور الأصوليين، من معرفة آيات الأحكام وأحاديثها، ومواضع الإجماع، وما يحتاج إليه من لغة العرب، وأصول الفقه وقواعده، وقواعد الاستنباط، والناسخ والمنسوخ، والعلم بحال الرواة ونحو ذلك، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف حاجات المسائل وتنوعها. [انظر المستصفى (2353)]
فقد يشترط في مسألة ما هذه الشروط جميعا، بل وغيرها كالحساب، أو الطب، أو نحوهما، وقد لا يشترط في مسألة أخرى إلا بعض الشروط.
وثمة شرطان مهمان ينبغي أن يشترطا للنظر في أي مسألة، وهما: العدالة، وفقه النفس، فإذا توفرا نظر في بقية الشروط، وإلا فلا. والله أعلم.
مسألة تجزؤ الاجتهاد: [انظر لهذه المسألة إرشاد الفحول (254)، وأصول مذهب الإمام أحمد (629).]
معنى تجزؤ الاجتهاد: أي انقسامه، أي جواز حصوله من المجتهد في باب من أبواب الفقه، كباب المواريث دون سائر الأبواب، أو في مسألة من مسائل الفقه دون غيرها كمسألة بيع ما لا يملك.
جمهور العلماء على جواز ذلك، وإن كان حصول الاجتهاد في مسألة واحدة مما يبعد تصور وقوعه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. [مجموع الفتاوى (20204) ]
لأن الاجتهاد لا بد له من أدوات عامة تشترط لكل المسائل، كما يشترط فقه النفس، فيبعد أن يحصل له ذلك ثم لا يجتهد إلا في مسألة واحدة.
والقول الآخر في المسألة المنع من التجزؤ؛ لأنه لا بد للمجتهد أن يكون محيطا بكافة مسائل الدين، وهذا القول قد يقرب من المحال من حيث تعسر هذا الشرط وصعوبة تحصيله، بالإضافة إلى أن واقع علماء الإسلام منذ ظهر إلى الآن يشهد للقول الأول، فهذا مالك بن أنس وغيره من علماء الإسلام يسألون عن عدد من المسائل فيقولون في بعضها: لا ندري، قال ابن فرحون في الديباج المذهب: [الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (1112)] قال الهيثم ابن جبيل: شهدت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين: لا أدري. ولا يمكن أن يقال إن مالكا لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
وغرضنا من إيراد هذه النقطة: التنبيه إلى أن اختلاف الآراء فيها من أسباب الاختلاف في مسألة الاجتهاد والتمذهب، فمن منع الاجتهاد وألزم الناس بالتمذهب فقد فعل هذا بناء على أن المجتهد هو المطلق وهذا في أحد أقوال العلماء قد انقطع منذ قرون.
ومن أجاز الاجتهاد فبناه على جواز حصوله في بعض الأبواب وبعض المسائل، وعلى هذا يمكن لبعض العلماء الاجتهاد في إحدى المسائل إذا جمع أدواتها. [مجموع الفتاوى (20204)]
مسألة انقطاع الاجتهاد:
هذه المسألة أيضا مؤثرة في موضوع التمذهب ولهذه المسألة جانبان.
أحدهما: في الخلاف القائم بين علماء الأصول في خلو العصر من مجتهد.
والآخر: في الدعوة التي أطلقها بعض المتأخرين لإغلاق باب الاجتهاد، وشاعت بين أهل العصور المتأخرة.
وكلا الجانبين من أهم الأسباب التي أدت لقيام الصراع بين أنصار التمذهب ومعارضيه.
فأما الجانب الأول وهو مسألة خلو العصر من مجتهد، فإنها مسألة قديمة الخلاف بين علماء الأمة.[ انظر المسألة: إرشاد الفحول (253)، وأصول مذهب الإمام أحمد (635)]
حيث يقول الجمهور: بجواز خلو العصر من المجتهدين، ويقول قوم على رأسهم علماء الحنابلة بمنع ذلك.
ولكلا الفريقين حجج يضيق المقام عنها؛ لأنها ليست من صلب بحثنا، ومعظم هذه الأدلة أخذ بعمومات ومفاهيم للأدلة الشرعية.
والذي عليه جمهور المحققين أن الاجتهاد منصب شريف، وأحد مزايا التشريع الإسلامي التي تملك خاصية الديمومة ومسايرة الحياة، فلا ينبغي أن يفتى بانقطاعه، ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذا الخلاف محصور في المجتهد المطلق، أو ما يسمى بالمستقل، أما المجتهد في دائرة المذهب والاجتهاد الجزئي فلا قائل بانقطاعه.
أما الجانب الثاني من جوانب الموضوع المتعلق بالدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد [انظر كتاب الاجتهاد للأفغاني (91 94)]
فقد بدأت هذه الدعوة في القرن الرابع الهجري، ثم أخذت تنتشر في المجتمع المسلم حتى استحكمت في القرن الثامن.
ولعل الدافع الرئيس الذي دعا علماء تلك القرون إلى هذا المسلك، ما رأوه من تسنم قوم دون المستوى المطلوب لرتبة الاجتهاد، بالإضافة إلى تعصب الولاة والعامة للمذاهب، مما جعل كثيرا من الطلاب يقبلون على ما يرغب فيه الولاة من المذاهب، وجعل العلماء يبتعدون عما يثير العامة ضدهم، فضعفت الهمم وكثر الحسد والتعصب بين أرباب العلم، ومع هذا فقد عرف التاريخ من قرع أبواب الاجتهاد وولج غير مبال بلوم لائم، أو حسد حاسد، كابن تيمية، وابن دقيق العيد، والسيوطي، والشوكاني وغيرهم.
والدعوة إلى سد باب الاجتهاد دعوى لا ينبغي أن تأخذ من بحثنا كثيرا؛ لأنها مجرد صيحات أطلقها بعض الكسالى من المنتسبين للعلم؛ لرد شر من عجزوا عن مناجزته، أو لحفظ مكانتهم العلمية.
لكن الذي ينبغي أن يقف عنده الواقف، إعراض كثير من العلماء عن منصب الاجتهاد خلال أكثر من عشرة قرون، ومن هنا نخلص إلى القول بأنه ليس لمن يرجع إلى هذه الدعوة سبب جمود الفكر الإسلامي خلال عشرة قرون مستمسك؛ لأن هذه الدعوة ما قال بها إلا شواذ من العلماء نحن مع من يلومهم عليها، لكن المسألة مسألة واقع، فلنقرأ أوراق هذا الواقع ونكشف أسبابه، ثم نبحث عن علاجه؛ لأننا مع قولنا بعدم انقطاع الاجتهاد، وبإمكان وجود المجتهد المطلق، إذا استعرضنا اثني عشر قرنا لا نجد بعد الأئمة الأربعة من جاء وأثر في حياة المجتمع الإسلامي تأثيرهم، ولا نجد من فرض نفسه على واقع الناس مثلهم إلا ما ندر. والله المستعان.
المقدمة الثانية: في التقليد:
درج بعض أهل العلم على إطلاق مصطلح الاتباع بدلاً من التقليد فراراً من المعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة، لكن لكون مصطلح التقليد هو الشائع في كتب العلماء المتقدمين فلا ضير من استعماله ولو شوش عليه من شوش، وإن مصطلح الاتباع كما سنشير إليه قد يعد مرتبة وسطى فوق التقليد ودون الاجتهاد.
تعريف التقليد:
التقليد لغة: مأخوذ من القلد، وهو تعليق شيء على شيء وليه به، ومنه تقليد البدنة، وذلك أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي. [معجم مقاييس اللغة، مادة: قلد]
ومن ذلك تقليد ولاة الأمر الولايات.
وسمي تقليد العامي للعالم تقليدا؛ لأنه يجعل أمر دينه في عنق العالم، فالعالم يتحمل تبعة ما قلد فيه[ إرشاد الفحول (265)] أو لأن العامي يجعل قول العالم قلادة في عنقه [التعريفات للجرجاني (57)] تسوقه إلى العمل دون دليل، كما أن الدابة يسوقها التقليد إلى ما يراد منها من ذبح ونحوه.
تعريف التقليد اصطلاحا:
عرف الأصوليون التقليد بعبارات عديدة تكاد تتفق في المعنى، والعبارة الشائعة عندهم في ذلك أن التقليد عبارة عن: قبول قول الغير بلا حجة. [المصدر السابق]
وقد عرفه ابن همام بتعريف أدق من هذا حين قال في التحرير: بأنه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. [انظر تيسير التحرير 4241]
فالتعبير بقوله: ليس قوله إحدى الحجج، أدق من قول الأول: الغير.
حكم التقليد:
هذه المسألة من المسائل التي يبحثها علماء الأصول، ولكن الباحث يعجب منها حين يرى تباين آراء العلماء فيها، وتعصب كل قوم لرأيهم، ولعل السبب يرجع إلى أن محل الخلاف فيها غير محرر، إذ إن القارئ سيجد كثيرا من النقول عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كلها تذم التقليد وتحذر منه، وترمي صاحبه بأشنع الألقاب، لكنه أيضا سيرى أن الأصوليين إذا بحثوا هذه المسألة لا ينسبون الخلاف في جواز التقليد إلا لطائفة من المعتزلة، وهذا ما جعل الشوكاني وغيره يرمي الأصوليين بالتوهم في هذه المسألة، إذ لم ينسبوا منع التقليد إلا لبعض المعتزلة، مع أنه مروي عن عدد لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لذا فهو كما قال: كالإجماع إن لم يكن إجماعا. [إرشاد الفحول (268)] ولعل الشوكاني - رحمه الله - قد فاته أن المسألة عند الأصوليين محصورة في تقليد العامي للعالم، وهي مسألة لا يكاد يخالف فيها أحد سوى قليل من المعتزلة، فمحل النزاع عند الأصوليين محصور، أما عند غيرهم فتتسع دائرته أكثر، ولذا تباينت الآراء فيها.
ولكي يتضح المقام سنعرض هذه المسألة عند الأصوليين، ثم نعرض موقف من منع التقليد من السلف مع توجيه قولهم، ونختم المسألة بخلاصة توضح الصورة للقارئ إن شاء الله - تعالى -.
محل النزاع في هذه المسألة عند الأصوليين:
يكاد يتفق الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة وأداه اجتهاده إلى حكمها، أنه يجب عليه اتباع هذا الحكم، وليس له اتباع غيره في خلاف هذا الحكم.
أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فقد اختلف الأصوليون في حكم اتباعه، وهذه النقطة هي أم المسائل التي يبحثها الأصوليون [أصول مذهب الإمام أحمد (657)]. فيدخل في هذه المسألة العامي، كما يدخل فيها كل من لم تتوفر له آلات الاجتهاد في مسألة وإن توفرت له في غيرها بناء على القول بتجزئة الاجتهاد، كما يدخل فيها أيضا من ضاق عليه الوقت ولم يجتهد.
وأبرز آراء العلماء التي يحكيها الأصوليون في هذه المسألة أربعة:
1- قول الجمهور، وهو أنه يلزمه اتباع المجتهد والأخذ بفتواه.
2- أنه لا يجوز له الاتباع إلا بعد تبين صحة الاجتهاد ودليله.
3- قول الجبائي: يجوز في مسائل الاجتهاد دون ما يظهر، كالعبادات الخمس [المصدر السابق]
4- ما قاله بعض القدرية من وجوب النظر على العامة مطلقاً [روضة الناظر لابن قدامة (383)] ومرد هذه الأقوال الأربعة إلى قولين: جواز التقليد ومنعه؛ لأن القولين الثاني والثالث يرجعان إلى الأول.
أما الثاني فلأن معرفة العامي للدليل لا يخرجه عن التقليد؛ لأن العامي في الغالب لا يدرك طريقة أخذ الحكم من الدليل، بالإضافة إلى أن بعض العلماء قالوا إن المفتي لا يطالب ببيان الدليل، ولا يلزم العامي طلبه والسؤال عنه، كما سنرى في آخر البحث إن شاء الله - تعالى -.
وأما القول الثالث فإننا سنعرف أيضا أن العامي وغيره متى علم حكما شرعيا واستقل بمعرفته، وجب عليه العمل به ولم يقلد فيه أحدا فلا ريب أن من علم وجوب الصلاة والصوم ونحوهما لا يجب عليه أن يقلد غيره فيها، وقد نبه إلى هذا أبو الخطاب وغيره من محققي العلماء، وقالوا: إن ما علم من الدين بالضرورة لا يجب على العامي التقليد فيه [المصدر السابق (384)] بقي أن نلقي نظرة على أدلة مجيزي التقليد وأدلة ما نعيه ليكمل لنا تصور المسألة.
أدلة مجيزي التقليد:
استدل مجيزو التقليد بأدلة منها:
1- قوله - تعالى -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[سورة النحل الآية 43] فالآية صريحة في إيجاب سؤال أهل الذكر على من لا يعلم.
2- إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز استفتاء العامة للمجتهدين وتقليدهم بالعمل بما يفتون به.
3- أن العامي متعبد بالشريعة وأحكامها، ولو قيل بوجوب النظر والاجتهاد للزم الحرج على عامة الناس، بتفرغهم لذلك وتعطيل مصالحهم الضرورية وأمور معاشهم، وقد نفى الله الحرج، ولم يكلف العباد ما يشق عليهم، فكان حكم العامي التقليد.
4- أن إيجاب الاجتهاد على كل أحد غلو وإفراط وإنكار للبدهيات، فليس كل المسلمين مؤهلا لذلك، لا من حيث القدرات العقلية، ولا من حيث الوقت، إذ يحتاج الأمر إلى سنين عديدة يتفرغ فيها المكلف لإثبات الأدلة الشرعية بالنقول الموثقة، ثم الاجتهاد فيها، وبخاصة عند التعارض أو خفاء دلالتها. [القول المفيد للشوكاني (20 و35)]
أدلة منكري التقليد:
أما منكرو التقليد فاستدلوا بأدلة منها:
1- ما ورد من النصوص التي تنهى عن القول على الله بغير علم، كقوله - تعالى -: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[سورة البقرة الآية 169 ] والاعتماد على التقليد قول بلا علم، فكان منهيا عنه.
2- ما ورد من نصوص تفيد وجوب طلب العلم على جميع المسلمين، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [أخرجه أبو داود عن أنس برقم (224).]
3- أن المجتهد قد يخطئ وقد يكذب، فكيف يؤمر المقلد باتباع الخطأ والكذب.
4- الأدلة الكثيرة التي تنهى عن تقليد الآباء والرؤساء، مما ذم الله عليه الكفار كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )[سورة الزخرف الآية 23- 25 ]
قالوا: وقد احتج بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة الكفر والإيمان، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين من حيث إنه تقليد بغير حجة للمقلد، وإن اختلفت الآثام فيه. [القول السديد للشنقيطي (12) والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (59) وما بعدها.]
وقد جرت بين الفريقين مجادلات ومحاورات يقصر المقام عنها، غير أن ذا البصيرة لا يخفى عليه ما في أدلة المانعين من ضعف إذا أريد بها منع تقليد العامي للعالم، لأنه لم يقل على الله بغير علم، فأصل عمله فتوى المجتهد التي هي حكم الله، ثم إن استفتاءه للمجتهد من طلب العلم، أما الخطأ والكذب المحتملان فلا يمنعان من قبول الفتوى، إذ لو فتح هذا الباب لم يقبل حكم القاضي، ولا شهادة الشهود، ولا غير ذلك.
أما أدلة النهي عن التقليد: فإن سلمت حملت على ما يعارض نصا صريحا، أو قاعدة شرعية عامة، والله أعلم.
نظرة إلى ما ورد عن السلف من نهي عن التقليد:
إن الناظر في بعض كتب السلف - رحمهم الله - وما ورد عنهم من آثار، يجد أن فيها حملة شديدة على التقليد، ودعوة إلى نبذه والبعد عنه، سواء في ذلك الأئمة الأربعة، أو حتى غيرهم من كبار الصحابة والتابعين، ومن ذلك مثلا: ما روي عن ابن مسعود من قوله: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)، ومنه ما روي عن ربيعة أنه بكى، فلما سئل: ما يبكيك؟ قال: (رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا)، ومنها قول عبيد الله بن المعتز: (لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد) [انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2114).]
وقول الشافعي: (إنه لا يلزم قول رجل إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -)، وقول مالك: (ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك)، وقول أبي حنيفة: (لا يحل لأحد يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين أخذناه)، وقول الإمام أحمد: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) [انظر: المذهبية المتعصبة هي البدعة لمحمد عيد عباسي (55، 56).] وغير ذلك مما ورد عن السلف - رحمهم الله -.
إن من يقولون بمنع التقليد اتخذوا من هذه الأقوال حجة قوية لمنع التقليد ولزوم الاجتهاد، ولا ريب في خطأ هذا الصنيع؛ لأن هذه النصوص ونحوها لا يمكن أن يقصد بها سوى غير العامة من طلاب العلم الذين لهم يد في الخوض في مسائل العلم، ولقد أراحنا الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - في هذا المقام حيث قال بعد أن ساق نصوصا عديدة عن الأئمة: (وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة؛ لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله - تعالى -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[سورة النحل الآية 43] [جامع البيان (2114، 115)]. وقد طرد ابن عبد البر حكم العامة حتى شمل من عجز عن الوصول إلى الحكم من طلاب العلم، قال: (فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد) [المصدر السابق (281)]
فتبين أن المقصود بذم الأئمة - رحمهم الله - طالب العلم القادر على معرفة النصوص واستنباط الحكم منها، وقد ذكر الدهلوي في الإنصاف بعض الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها كلام الأئمة ونصوصهم في ذم التقليد وهي:
1- أنها تحمل على من له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة.
2- أنها تحمل على من ظهر له ظهورا بينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكذا أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ.
3- أنها تحمل على من يكون عاميا ويقلد رجلا من الفقهاء بعينه يرى أن يمتنع عن مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه ألا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه.
4- أنها تحمل على من لا يجوز استفتاء الحنفي للشافعي ونحوه. [الإنصاف (99-101).]
هذا ما ذكره الدهلوي من احتمالات، ولا يرتاب عاقل أن الأئمة ما عنوا العامي ونحوه ممن لا يستطيع أن يأخذ الحكم من مصادره، بل لا بد له من معرف ودال على الحكم، وعبارات العلماء في جواز ذلك للعامي لا تحصى، فمنها ما قاله الشاطبي في آخر ما وجد من كتاب الاعتصام حيث قال: (وإذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسطائهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه) [الاعتصام (2326)] ويقول أيضا في الكتاب نفسه:(وإذا كان مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به) [الاعتصام (2343)]
ومن هذه العبارات ما قاله الإمام ابن تيمية في المسودة: (فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر) [المسودة (52)] ويقول - رحمه الله -:(الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض، منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة أصولها وفروعها على كل أحد، ومنهم من يحرم الاستدلال الدقيق على كل أحد، وهذا في الأصول والفروع، وخيار الأمور أوسطها) [مجموع الفتاوى (2018).]
ويقول - رحمه الله - أيضا في هذا المقام: (الذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز، حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوبا ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز). ا هـ [مجموع الفتاوى (20204)] وهذا العلامة ابن القيم الذي شن حملة على المقلدين في كتابه: إعلام الموقعين، تجاوزت مائتي صفحة، يصرح في بداية بحثه بانقسام التقليد إلى أقسام، فيقول:
(ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب) ا هـ [إعلام الموقعين (2187)] ثم استطرد - رحمه الله - في القسم الممنوع ولم يذكر القسم الواجب والجائز.
والعز بن عبد السلام بين أيضا في كتابه قواعد الأحكام: (أن وظيفة العامي التقليد، لعجزه عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد) [قواعد الأحكام (2135)]
فهذه آراء بعض جهابذة العلم، وإن كانت المسألة واضحة لا تحتاج كل هذا الاستطراد، ولكن انبناء ما بعدها عليها دعاني إلى التركيز عليها.
وبقيت نقطة هامة تتعلق بهذه المسألة وهي ضوابط التقليد، حيث إن العلماء الذين أجازوا التقليد جعلوا له ضوابط يجب على المقلد مراعاتها في أثناء تقليده.
ولعل أهم هذه الضوابط ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام حيث قال: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم... لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا) [الاعتصام (2343).] فأهم نقطة ينبغي للمقلد أن ينتبه إليها أنه لا يقلد هذا العالم لكونه على مذهبه، أو لشهرته، أو غير ذلك، بل لأنه دليله إلى حكم الله - تعالى-.
ولذلك يزيد الشاطبي المسألة وضوحا فيقول: (وينبغي ألا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا، فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والرجوع عن صوب العلم الحاكم، فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا، ثم مخالفة متبوعه... لخروجه عن شرط الاتباع؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها) [الاعتصام (2345)]
فالخلاصة: أن التقليد جائز في الشريعة، وأن المقلد إنما يقلد العالم؛ لأنه دليله إلى حكم الله، ثم أيضا يجب عليه ألا يصر على تقليده إذا تبين له خطؤه، أو ترجح عنده غيره؛ لأن المجتهد بالنسبة للعامي بمثابة الدليل الظني إذا عورض بأقوى منه سقط، وقد أكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (وأما تقليد العالم حيث يجوز، فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن، كخبر الواحد والقياس، لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد، كما يغلب على ظنه صدق المخبر) [مجموع الفتاوى (2017)] فإذا تيقن المقلدون هذه الأمور والتزموا بهذه الآداب، سار التقليد سلسا طبيعيا، كما كان عليه في القرون المفضلة، أما إذا غلب عليهم التعصب والمشاحنة والتحاسد والبغضاء، فإن التقليد يفقد وظيفته السامية، حيث جعله الإسلام طريقا للعامة لمعرفة الأحكام، لا وسيلة لتجزئة الإسلام.
وبعد أن اتفق جماهير العلماء على التقليد وجوازه برز فرع آخر وهو تقليد المعين الذي تبنى عليه مسألة التمذهب، وقد كثر الخلاف فيها وتشعب، وهي كما تعلم المقصود من هذا البحث، فلنشرع مستعينين بالله في عرض ما يتعلق بهذه المسألة.
مسألة التمذهب:
هذه المسألة هي لب البحث، بل هي المقصودة به، وأما ما مضى فهو عبارة عن مقدمات لتوضيح بعض جوانب المسالة وخلفية الخلاف فيها.
وقبل أن نبدأ في تفصيل هذه المسألة أنبه إلى أمرين:
الأول: أن الخلاف في هذه المسألة وإن كان من آثار الخلاف في مسألة التقليد فهو لا يبنى على الخلاف فيها انبناء مطلقا؛ لأن جمعا ممن قال بالتقليد منع التمذهب.
الثاني: أن معظم من منع التقليد إنما منعه على غير العامة، أما العامة فيجوز لهم التقليد إلا في قول بينا ضعفه، وأما التمذهب فيمنع من قال بمنعه العامة وغيرهم من التمسك به، لأنه كما يقولون حصر للتقليد وتحديد له بغير دليل، كما سنعرف ذلك مفصلا في ثنايا المسألة إن شاء الله - تعالى -.
تعريف التمذهب واللامذهبية:
هاتان الكلمتان ترجعان إلى فعل ثلاثي هو: "ذهب" بمعنى مضى، [معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة 'ذهب'] وفي القاموس: (المذهب: المتوضأ والمعتقد الذي يذهب إليه والطريقة والأصل) ا هـ [القاموس المحيط مادة 'ذهب'] وقال صاحب المصباح: (ذهب مذهب فلان: قصد قصده وطريقته وذهب في الدين مذهبا رأى فيه رأيا). ا هـ [المصباح المنير مادة 'ذهب']
وقال الحطاب: (المذهب لغة: الطريق ومكان الذهاب، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية) [القول السديد للشنقيطي (5)]
ومما مر يتبين أن معنى اللامذهبية هي عدم سلوك طريق أي إمام من الأئمة المجتهدين، والاستقلال بمعرفة الأحكام.
كما تبين أن معنى التمذهب: اتباع أحد هؤلاء الأئمة.
والنقطة التي دار فيها الإشكال أن من قلد عددا من العلماء في مسائل عدة كلا منهم في مسألة هل يعد متمذهبا؟
أنصار التمذهب يرون أنه متمذهب؛ لأنه تبع مذهب كل منهم فيما تابعه فيه، كما قرر في رسالة حول هذا الموضوع. [اللامذهبية (11)]
أما أنصار اللامذهبية فيقولون: ليس بمتمذهب؛ لأن التمذهب سلوك طريق واحدة ومذهب واحد لا يحيد عنه سالكه، فلو كان فاعل هذه المسألة متمذهبا، لم يعد هناك أحد لم يتمذهب.
والقول الحسن في هذا أن اللغة لا تمنع من إطلاق التمذهب على هذه الحالة، لكن العرف الفقهي عند العلماء قيدها بالتزام مذهب واحد، كما قال الحطاب، أما إذا لم يتبع أحدا بعينه في كل أقواله فإنه لا يكون ملتزما بمذهب، وعلى هذا فلا يكون متمذهبا. والله أعلم.
نشأة التقليد والتمذهب وتطورهما: [انظر لهذا: تاريخ المذاهب لأبي زهرة (301) وما بعدها، والاجتهاد للأيوبي (147)]
يمكن أن يقال: إن التقليد قد وجد مع وجود البشر على هذه الأرض، فالأبناء يقلدون الآباء، والصغار يقلدون الكبار في أخلاقهم وعاداتهم وطرق حياتهم.
ولما جاء الإسلام وعرفت الأحكام كان من بين الناس في القرون المفضلة مقلدون يأخذون الأحكام وما يتعلق بها من علمائهم، ويسألونهم عما يعرض لهم، والمحفوظ من فتاوى الصحابة والتابعين شاهد على هذا الأمر الذي لا مجال فيه للشك فضلا عن الإنكار.
ولما كثر الإقبال على تعلم العلم، وانصرف عدد من الناس إلى الاهتمام به ودراسته، برز جمع من العلماء ممن بلغوا في العلم منزلة عالية، فتصدروا للتدريس والإفتاء، فقصدهم الطلاب والتفوا حولهم، وأخذوا ينهلون من موردهم ويقيدون ما يأخذونه عنهم، حتى إذا ذهب الجيل الأول أخذ الجيل الثاني جيل التلاميذ مكان الصدارة، وكان من الطبيعي أن ينهج كل تلميذ منهج شيخه وطريقته في التأصيل والتفريع غالبا، وكان من الطبيعي أيضا أن يستشهد بأقوال شيخه ويوليها اهتماما في تدريسه، وذلك لما لشيخه من المكانة في قلبه، إضافة إلى ذلك فإن الإنسان يألف الأفكار والتصورات التي تأتيه ابتداء ويطمئن لها ويعتقد صحتها، خصوصا إذا جاءته من ثقة عنده، فيسخر جميع إمكاناته لتأييدها ونصرها ورد ما يخالفها.
ولعل في واقعنا ما يقارب هذا المسلك، فإنك ترى الجماعات الإسلامية وضعت لها هدفا محددا هو الدعوة إلى الله وقد اتخذت كل جماعة منها منهجا رأته الصواب، فهي تؤيده وتدافع عنه، حتى حدث بسبب ذلك صراع بينها ومشاحنات مع أنها تدعو إلى هدف واحد.
كذلك مشجعو الكرة، فإن الفرد منهم إذا ما ألف فريقا معينا اشتد حماسه له، حتى يصل الحد ببعضهم إلى المعاداة والموالاة في الكرة، وهي أمر دنيوي تافه، فكيف بأمور الدين التي هي أساس ما لدى المسلم؟.
ولذلك فإن تلاميذ هؤلاء الأئمة ألفوهم، فاتبعوهم، ثم اتبع هؤلاء تلاميذهم، وهكذا تسلسل الاتباع جيلا بعد جيل، كلما جاء جيل جديد قوى اتباع ما قبله، فكان القدم يضفي على أقوال السابقين نوعا من التقدير، حتى شاع بين الناس ما يعرف بالتمذهب، وهو اتباع كل فئة من المسلمين مذهبا من المذاهب الأربعة المعروفة اليوم، فاندرس ما عداها من المدارس الفقهية، أو قل أتباعه جدا، وأصبح أرباب كل مذهب يدرسون الأحكام على ضوء ما سطره علماؤهم السابقون، ويقرون ذلك ويرجحونه، ويضعفون ما سواه، حتى جاء عصر لم يعد فيه للعلماء أثر من حيث إضافة شيء جديد، بل غلب عليهم دراسة كتب السابقين وشرحها واختصارها والدفاع عنها بالتأليف والمناظرات.
وهذا الواقع الذي لا يستطيع الباحث إنكاره، بل يقف أمامه مشدوها بتساؤل: كيف ركن علماء أجلاء فطاحل إلى التمذهب والتقليد واستساغوه؟
يتبع