وقفات مع سورة (ق)


فالح عبدالله العجمي

عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان -رضي الله عنهما- قالت: «ما أخذتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (ق: 1) إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»؛ رواه مسلم. وقد نزلت سورة (ق) على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وتلاها على الناس وعدًا ووعيدًا قال -تعالى-: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ....}، أي كذب كفار مكة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذبوا بالقرآن «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» أي في أمر مضطرب، فمرة يقولون عن رسول الله: ساحر، ومرة يقولون عنه: كاهن، ومرة يقولون عنه: شاعر.

أفلا يعتبرون بخلق السماء؟!

قال -تعالى- {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا» أي: أفلا يعتبروا بخلق السماء «وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ «أي: من شقوق تعيبها، «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} أي: رجاع إلى الله -عز وجل- بالتوبة، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)} أي ثمار النخل متراكبًا بعضه فوق بعض، {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)}، فكما خلقنا السماء وأنزلنا المطر أنبتنا النبات، كذلك يعيد الله الناس ويبعثهم إلى النشور، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)} وأصحاب الرس هم أصحاب نبي بعث إليهم، وكانوا على بئر مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، فبعث الله نبيا لهم فكذبوه وألقوه في البئر وقتلوه، {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} وأصحاب الأيكة: أي الأشجار الملتفة وهم قوم شعيب، وقوم تبع: هو ملك كان باليمن وكان صالحا أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه.

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ

وقال -تعالى-:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} يخبرهم الله -تعالى- يقول: أعجزنا وضعفت قدرتنا عن إعادة الخلق الأول؟! لا وكلا، بل هم في شك وريب، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَا نِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} الملائكة الموكلة بكتابة الحسنات والسيئات، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} أي: تفزع وتهرب.

غفلة الإنسان عن أهوال الآخرة

وقال -تعالى-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} كل نفس معها ملك يسوقها إلى المحشر وملك يشهد على أعمالها، وقال -تعالى-: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)}، لقد كنت يا ابن آدم في غفلة في الدنيا من يوم الحساب ويوم القيامة؛ فكشفنا عنك غطاءك فتنظر وترى ما كنت تنكره في الدنيا.

قرين الإنسان في الدنيا

وقال -تعالى-: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} والقرين هنا هو ملك من الملائكة، أتى بأعمال هذا العبد وألقاها يوم القيامة حتى يحاسبه الله عليها، عتيد: أي حاضر أمامك، وقال -تعالى-: {(23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)} أي: شاك في قدرة الله، وقال -تعالى-: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)}، والقرين هنا: هو الشيطان الموكل بالعبد الذي لا يفارقه ويوسوس له في دنياه، قال قرينه ربنا ما أطغيته، بل كان ضالا في الدنيا، أضل مني، فلا يلومني فإنه كان ضالا قبل أن أضله، وقال -تعالى-: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)} أي: في الدنيا جاءتكم النذر والرسل.

الجزاء يوم القيامة

وقال -تعالى-: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)}، أي: قربت الجنة للمتقين غير بعيد يرونها قريبة منهم، وقال -تعالى-: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)}، أي: رجاع إلى الله بالتوبة، {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34(} هذا جزاء المتقين أن يدخلوا جنة رب العالمين بسلام، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} لهم ما يطلبون فيها وزيادة علي ذلك وهي رؤية الله -عز وجل- في الجنة.

عظة وعبرة

وقال -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)} أشد منهم بطشا: أي قوة، فنقبوا في البلاد: أي عمروا وخلدوا فيها، هل من محيص: هل لهم من هروب من العذاب والموت؟ لا وكلا، وقال -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} أي: من تعب ونصب.

يوم البعث والنشور

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)} المنادي: أي الملك الموكل بالصور، من مكان قريب: يسمعه كل أحد، وقال -تعالى-: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)}، أي: النفخة، يوم الخروج: أي يوم الخروج من القبور إلى البعث والنشور.

فذكر بالقرآن

وقال -تعالى-: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} وما أنت عليهم بجبار: أي يا محمد ما أنت عليهم بمجبر على الإيمان والإسلام، ولكن ذكر بالقرآن من يخاف وعيد.