موقعة أُحُد.. حيث في الهزيمة دروس وعبر
أحمد الشجاع
الدروس والعبر
كان المسلمون قد انتصروا في غزوة بدر انتصاراً مبيناً، فرقاناً بين الحق والباطل. وبعد ذلك في معركة أحد انهزم المسلمون وقتل منهم سبعون من خيارهم، وحصلت هزيمة عظيمة، وشج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت منه الدماء، ودفع المسلمون ثمن الهزيمة باهظاً من الأرواح والمعنويات التي فقدوها في تلك الغزوة.. واشتد النفاق بعد معركة أحد بالذات ما لم يشتد قبل ذلك.
ومن هم أولئك المسلمون؟، إنهم الصفوة المختارة التي قادها أعظم نبي ظهر في البشرية على الإطلاق وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبب طبعاً: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران:152)؛ الفشل والتنازع والمعصية وحب الدنيا، أربعة أسباب رئيسية ذكرتها الآية.. أسباب لهزيمة المسلمين في معركة أحد، حسب قول
والله سبحانه وتعالى قد وعد عباده المؤمنين يوم أُحد بالنصر: }وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ{.
وقد جاء هذا الوعد على لسان نبيه في قوله للرماة:[اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم]، فقد وعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصر يومئذ إن التزموا أمره. لولا أنهم فشلوا وتنازعوا؛ فحقت عليهم الهزيمة.
وذكر ابن القيم الجوزية جملة من الدروس والعبر:
- منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم} (آل عمران: 152)، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.
- ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة؛ فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المؤمنون وغيرهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انتصر عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة. فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.
- ومنها: أن هذا من علامات الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟، قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟، قال: سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
- ومنها: أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنةً ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحاً.
وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. قال الله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} (آل عمران: 179)؛ أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أحد: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء فإنهم متميزون في غيبه وعلمه. وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة. وقوله: {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب سوى الرسل فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 27)، فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة.
- ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية
- ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبداً لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير.
- ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} (آل عمران: 123)، وقال : {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} (التوبة: 25)، فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
- ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
- ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة. وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو
- ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم. وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (آل عمران: 139، 140) فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم وإحياء عزائمهم وهممهم وبين حسن التسلية وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} (آل عمران: 140)، فقد استويتم في القرح والألم وتباينتم في الرجاء والثواب كما قال: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } (النساء: 104)، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم ذكر حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب وإنما يترتب الثواب والعقاب على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحس.
ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم وهو تمحيص الذين آمنوا وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب ومن آفات النفوس وأيضاً فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين فتميزوا منهم فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم وهو عدوهم.
قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة رغبوا في الشهادة فتمنوا قتالاً يستشهدون فيه فيلحقون إخوانهم فأراهم الله ذلك يوم أحد وسببه لهم فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}.
- ومنها: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم أن مات رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أو قتل بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا؛ فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت. فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت وما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخلد لا هو ولا هم بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقي؛ ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان: إن محمداً قد قتل فقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } (آل عمران: 144)، والشاكرون: هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد من ارتد على عقبيه وثبت الشاكرون على دينهم؛ فنصرهم الله وأعزهم وظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم.
ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلاً لا بد أن تستوفيه ثم تلحق به فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً وإن تنوعت أسبابه.
ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم فقال: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} (آل عمران: 147) لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق أو تجاوز لحد وأن النصرة منوطة بالطاعة، قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف.
ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد.
ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وهو خير الناصرين فمن والاه فهو المنصور.
ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله وعلى قدر الشرك يكون الرعب؛ فالمشرك بالله أشد خوفاً ورعباً والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح والمشرك له الخوف والضلال والشقاء.
ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين أي جادين في الهرب والذهاب في الأرض أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم، والرسول يدعوهم في أخراهم: إلي عباد الله أنا رسول الله، فأثابهم بهذا الهرب والفرار غماً بعد غم: غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمداً قد قتل.
وقيل: جازاكم غماً بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه.
ويرجح ابن القيم القول الأول لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح فنسوا بذلك السبب وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع فإنه حصل لهم غمُ فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح التي أصابتهم، ثم غم القتل، ثم غم سماعهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل، فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة بل غماً متتابعاً لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله: (بغمٍ) من تمام الثواب لا أنه سبب جزاء الثواب، والمعنى: أثابكم غماً متصلاً بغم جزاءً على ما وقع منهم من الهروب وإسلامهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وترك استجابتهم له وهو يدعوهم ومخالفتهم له في لزوم مركزهم وتنازعهم في الأمر وفشلهم.
وكل واحد من هذه الأمور يوجب غماً يخصه فترادفت عليهم الغموم كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها، ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر، ومن لطفه بهم ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من موجبات الطباع وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة فقيض لهم بلطفه أسباباً أخرجها من القوة إلى الفعل فترتب عليها آثارها المكروهة؛ فعلموا حينئذ أن التوبة منها والاحتراز من أمثالها ودفعها بأضدادها أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به فكانوا أشد حذراً بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا فكانت أعمالهم جنداً عليهم ازداد بها عدوهم قوة؛ فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه، ولا بد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه. فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله بعثه له الشيطان واستزله به.
ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها. ثم كرر عليهم سبحانه أن هذا الذي أصابهم إنما أتوا فيه من قبل أنفسهم وبسبب أعمالهم فقال: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران: 165)، وذكر هذا بعينه فيما هو أعم من ذلك في السور المكية فقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى: 30)، وقال : {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء: 79) فالحسنة والسيئة ها هنا: النعمة والمصيبة، فالنعمة من الله منّ بها عليك، والمصيبة إنما نشأت من قبل نفسك وعملك، فالأول فضله والثاني عدله. والعبد يتقلب بين فضله وعدله جار عليه فضله ماض فيه حكمه عدل فيه قضاؤه. وختم الآية الأولى بقوله: {إن الله على كل شيء قدير} بعد قوله: {قل هو من عند أنفسكم} إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادل قادر، وفى ذلك إثبات القدر والسبب، فذكر السبب وأضافه إلى نفوسهم وذكر عموم القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفي الجبر والثاني ينفي القول بإبطال القدر فهو يشاكل قوله: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} ( التكوير: 30).
ثم عزى الله تعالى نبيه وأولياءه عمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضى بما قضاه، فقال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ( آل عمران: 169 - 170)؛ فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه وأنهم عنده وجريان الرزق المستمر عليهم وفرحهم بما آتاهم من فضله وهو فوق الرضى بل هو كمال الرضى واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته. وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله إلى الهدى ومن الشقاء إلى الفلاح ومن الظلمة إلى النور ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير.
فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتكلوا ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم لئلا يتهموه في قضائه وقدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدراً وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته لينافسوهم فيه ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
وثمة دروس فقهية في هذه الغزوة، منها:
- منها: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه حتى إن من لبس لأمته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه.
- ومنها: أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم يوم أحد.
- ومنها: جواز سلوك الإمام بالعسكر في بعض أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقه وإن لم يرض المالك.
- ومنها: أنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين بل يردهم إذا خرجوا كما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر ومن معه.
- ومنها: جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن في الجهاد.
- ومنها: أن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعداً وصلوا وراءه قعوداً كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم 0 في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته.
- ومنها: جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه كما قال عبد الله بن جحش: "اللهم لقني من المشركين رجلاً عظيماً كفره شديداً حرده فأقاتله فيقتلني فيك ويسلبني ثم يجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك فقلت: يا عبد الله بن جحش فيم جدعت؟ قلت: فيك يارب.
- ومنها: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنونه كافراً فعلى الإمام ديته من بيت المال؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة فامتنع حذيفة من أخذ الدية وتصدق بها على المسلمين.
الخلاصة
هكذا نجد القوة والضعف والنصر والهزيمة بيد الله تعالى وحده، وأن الله ينصر من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
والمسلم - الذي عرف الله وآمن به – يدرك أن تحقيق النصر له شروط وضعها الله، وأهمها اللجوء إليه والتوكل عليه وطلب النصر منه.. ثم يأتي الجانب المادي المطلوب.
وفي النصر معان يجب فهم حقائقها والاستفادة منها حتى لا يتحول إلى خسران في الدنيا والآخرة.. كذلك يمكن تحويل الهزيمة من ذل وهوان إلى عزة وكرامة، وفي غزوة أحد وقبلها بدر بيان وتفصيل كل ذلك..
وكلما حرص المسلم على تحقيق تلك الشروط، وعمل بالأسباب كلما كان إلى النصر والعزة والقوة والمنعة أقرب.
أما إذا ركن المسلم إلى الجوانب المادية وغفل عن الجانب الروحي الشرعي فإن ميزان النصر والهزيمة يميل – عادة - للكفة التي ترجحها الوسائل مادية فقط.
ـــــــــــــــ ــــــــــــ
المصادر
- (جامع البيان في تأويل القرآن)، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر.
- (زاد المعاد في هدي خير العباد)، ابن القيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط.