تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: المسألة فيها خلاف!

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي المسألة فيها خلاف!

    المسألة فيها خلاف!


    علوي عبد القادر السقاف



    الحَمدُ لله القائِلِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، والصَّلاةُ والسَّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالَمينَ، القائِلِ: «مَن أطاعَنِي فقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن عَصانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ» [1].
    أمَّا بَعدُ:
    فإنَّ القُرآنَ العَظيمَ والسُّنَّةَ المُطهَّرةَ هما المرجِعُ عند الاختِلافِ والتنازُعِ في أيِّ أمْرٍ؛ يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال سُبحانَه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، فرَدَّ اللهُ التنازُعَ إلى الدَّليلِ من كلامِه وكلامِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجعَلَ القُرآنَ والسُّنةَ حاكِمَينِ عندَ الاختلافِ، ولم يجعَل الاختِلافَ حاكِمًا عليهما، وهكذا سار المسلِمون عَبْرَ قُرونٍ طويلةٍ إلَّا عند ضَعفِ سُلطانِ الحَقِّ وتغَلُّبِ سُلطانِ الباطِلِ، كما هو الحاصِلُ في زَمانِنا هذا؛ إذ انتفَشَ الباطِلُ وطَلَّ قَرنُه، وانتشرت الأهواءُ، وكَثُرت الفَتاوى المضَلِّلةُ والمُفْتُونَ المضِلُّونَ والمتساهِلون، واختلفتْ آراؤهم وفتاواهم اختلافًا بَيِّنًا، فأصبح المرجِعُ -وللأسَفِ- عندَ كثيرٍ من المسلِمين هو الاختلافَ وليس الدَّليلَ!
    وقدْ كان النَّاسُ قبل عُقودٍ -بل سَنواتٍ- قليلةٍ إذا تباحثوا في مَسألةٍ ما، قال أحدُهم: ما الدَّليلُ؟ واليومَ وبعدَ أنْ سمِع فتوى فلانٍ وفلانٍ، قال لك: المسألةُ فيها خِلافٌ! فرَدَّ التنازُعَ إلى الخِلافِ لا إلى الدَّليلِ من كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبدلًا مِن أنْ يجعَل القُرآنَ والسُّنةَ حاكِمَينِ عندَ الاختلافِ، جعَل الاختِلافَ حاكِمًا عليهما! ومردُّ ذلك إلى الجَهلِ والهوى، والتساهُلِ والتهاوُنِ في اتِّباعِ الشَّرعِ والأخذِ بالدَّليلِ.
    وليُعلَمْ أنَّ الاحتجاجَ بالخِلافِ مطلقًا واعتقادَ أنَّ للمُسلمِ الأخْذَ بأحَدِ الأقوالِ المختَلَفِ فيها؛ فيه ضياعٌ للدِّينِ ونَقضٌ للشَّريعةِ؛ لأنَّ أكثَرَ مَسائِلِ الفِقهِ مُختَلَفٌ في حُكمِها، أمَّا المسائِلِ الفِقهيَّةِ المجمَعِ عليها فإنَّها قليلةٌ؛ فهل ألزَمَنا الشَّارعُ باتِّباعِ القَليلِ فقط، وترَكَ لنا الخِيارَ في الكثيرِ؟!
    فالاحتِجاجُ بالخِلافِ وجَعْلُه نِدًّا للنَّصِّ، جَهلٌ بالشَّرعِ، ومَسلَكٌ خطيرٌ، ومَزلَقٌ كبيرٌ، ولو فُتِح هذا البابُ لانهدمتْ كثيرٌ من أصولِ الإسلامِ، وتقوَّضتْ دعائِمُه وأحكامُه وشرائِعُه. وقد نبَّه عُلماءُ الأُمَّةِ على خَطأِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ في ظنِّهم أنَّ اختِلافَ العُلَماءِ في مَسألةٍ مِن المسائِلِ حُجَّةٌ تُبيحُ لهم أنْ يختاروا منها ما يشاؤون.
    قال الإمامُ الشَّافعيُّ: (كُلُّ ما أقام اللهُ به الحُجَّةَ في كِتابِه أو على لِسانِ نبيِّه منصوصًا بَيِّنًا، لم يحِلَّ الاختلافُ فيه لِمَن عَلِمَه)[2].

    كما بيَّن العلماء أنَّ الخِلافَ ليس بحُجَّةٍ عند أحَدٍ من عُلَماءِ المسلِمين.
    قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (الاختلافُ ليس بحُجَّةٍ عند أحدٍ عَلِمْتُه من فُقَهاءِ الأمَّةِ، إلَّا مَن لا بَصَرَ له، ولا مَعرفةَ عندَه، ولا حُجَّةَ في قَولِه) [3].
    وقال الخطَّابيُّ: (ليس الاختلافُ حُجَّةً، وبيانُ السُّنةِ حُجَّةٌ على المختَلِفينَ)[4].
    وقال الشَّاطبيُّ: (صار الخِلافُ في المسائلِ معدودًا في حُجَجِ الإباحةِ،... فرُبَّما وقَع الإفتاءُ في المسألةِ بالمنعِ، فيُقالُ: لِمَ تمنَعُ والمسألةُ مختَلَفٌ فيها؟ فيَجعَلُ الخِلافَ حُجَّةً في الجوازِ لمجرَّدِ كَونِها مُختَلَفًا فيها، لا لدليلٍ يدُلُّ على صِحَّةِ مَذهَبِ الجوازِ، ولا لتقليدِ مَن هو أَوْلى بالتقليدِ مِن القائِلِ بالمنعِ! وهو عَينُ الخطَأِ على الشَّريعةِ؛ حيثُ جعَل ما ليس بمعتَمَدٍ مُعتَمَدًا، وما ليس بحُجَّةٍ حُجَّةً)[5].
    مِثالُ ذلك في زمانِنا: أنْ يُفتيَ عالمٌ ثِقةٌ في مسألةٍ ما بالتحريمِ مُستَدِلًّا بدليٍل صحيحٍ، ثمَّ يُفتيَ بحِلِّها مجهولٌ من مجاهيلِ الفَضائيَّاتِ أو طُويلِبُ عِلمٍ بدونِ دَليلٍ أو بُدونِ فَهْمٍ صَحيحٍ للأدلَّةِ، فيأتيَ المُستفتي ويَعترِضَ على العالمِ ويقولَ له: لِمَ تُفتي بالتحريمِ والمسألةُ مُختَلَفٌ فيها؟ فيشيرُ الشَّاطبيُّ إلى أنَّ مَن فعَل هذا: لا هو أخَذَ بالدَّليلِ ولا بقَولِ الأعلَمِ؛ فما هو إلَّا الهوى واتِّباعُ الشَّهَواتِ!
    والخِلافُ نوعانِ:
    خِلافٌ سائِغٌ مُعتَبَرٌ وله حظٌّ مِن النَّظرِ، وخِلافٌ غيرُ سائِغٍ وغيرُ مُعتَبَرٍ ولا حَظَّ له من النَّظَرِ. والخِلافُ السائِغُ دَرَجاتٌ، كما أنَّ غيرَ السائِغِ كذلك دَرَجاتٌ أو دَرَكاتٌ.
    فما كان مِن المسائِلِ الاجتهاديَّةِ التي لا دَليلَ عليها من كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو كانتْ أدِلَّتُها مُتكافئةً لدَى الطَّرَفينِ وتجاذَبَها دَليلانِ شَرعيَّانِ صَحيحانِ يَتعَذَّرُ الجَزْمُ بصَوابِ أحدِهما؛ فهذه من مَسائِل الخِلافِ المُعتَبَرِ، وتسمِيَتُها بالمسائِلِ الاجتِهاديَّةِ أَولى مِن تسمِيَتِها بالمَسائِلِ الخِلافِيَّةِ؛ للتَّمييزِ بينهما؛ فكُلُّ مَسألةٍ اجتِهاديَّةٍ هي مسألةٌ خِلافِيَّةٌ، وليس كُلُّ مسألةٍ خِلافِيَّةٍ هي مسألةً اجتِهاديَّةً. فإذا قيل: المسألةُ فيها خِلافٌ، يُقالُ: هل هو خِلافٌ سائغٌ مُعتَبَرٌ أم لا؟ وهل هو خِلافٌ اجتِهاديٌّ بلا نصٍّ من كِتابٍ أو سُنَّةٍ، أم خِلافٌ مع النَّصِّ؟
    وقدْ فَرَّق العُلَماءُ بينهما؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّما دخَل هذا اللَّبسُ مِن جِهةِ أنَّ القائِلَ يعتَقِدُ أنَّ مَسائِلَ الخِلافِ هي مسائِلُ الاجتهادِ، كما اعتقَد ذلك طوائِفُ من النَّاسِ. والصَّوابُ الذي عليه الأئِمَّةُ: أنَّ مسائِلَ الاجتهادِ ما لم يكُنْ فيها دَليلٌ يجبُ العَمَلُ به وُجوبًا ظاهرًا، مِثلُ حَديثٍ صحيحٍ لا مُعارِضَ له من جِنْسِه، فيسوغُ -إذا عُدِمَ ذلك فيها- الاجتهادُ؛ لتعارُضِ الأدِلَّةِ المتقارِبةِ، أو لخَفاءِ الأدِلَّةِ فيها)[6].
    والمَسائِلُ الخِلافِيَّةُ خِلافًا غَيرَ مُعتَبَرٍ ولا سائغٍ كَثيرةٌ جِدًّا ولا تُحصَى، ولا يَصِحُّ أن يُقالَ عنها: (المسألةُ فيها خِلافٌ!)، ومن ذلك:
    1- رُكنيَّةُ قِراءةِ الفاتحةِ للإمامِ والمنفَرِدِ مَسألةٌ خِلافِيَّةٌ[7]، مع وجودِ النصِّ الصريحِ: «لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[8].
    2- رُكنيَّةُ الطُّمَأنينةِ في الصَّلاة، مسألة خلافيَّة[9] ليس فيها إجماع، مع وجودِ النصِّ الصحيحِ: «ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ ساجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَسْتَوِيَ وتَطْمَئِنَّ جالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ ساجِدًا» [10].
    3- صَلاةُ الاستسقاءِ جماعةً سُنَّةٌ ثابتةٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي من مَسائِلِ الخِلافِ[11].
    4- مُدَّةُ المسحِ على الخُفَّينِ للمُقيمِ يومٌ وليلةٌ، والمسافِرِ ثلاثةُ أيَّامٍ بلياليهنَّ. مسألةٌ خِلافِيَّةٌ[12] مُصادِمةٌ لنَصِّ الحديثِ الصَّريحِ: (جعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثةَ أيَّامٍ ولياليَهنَّ للمُسافِرِ، ويومًا وليلةً للمُقيمِ)[13].
    5- تخَتُّمُ الرِّجالِ بالذَّهَبِ، ولُبسُهم الحريرَ، من مسائل الخِلاف([14]، مع وجودِ النصِّ الصريحِ.
    6- النَّبيذُ المُسكِرُ كثيرُه وإنْ كان من غيرِ عَصيرِ العِنَبِ، يَحرُمُ قَليلُه ولو لم يُسكِرْ، عِندَ جماهيرِ العُلَماءِ، وهي مسألةٌ خِلافِيَّةٌ[15] ليس فيها إجماعٌ.
    7- حُرمةُ حَلْقِ اللِّحَى، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربَعة، بل حُكيَ الإجماعُ على ذلك[16]، وهي من مَسائِلِ الخِلافِ[17])، مع أنَّ أدِلَّةَ التحريمِ صَريحةٌ، والأمرَ بإعفائِها واضِحٌ كوُضوحِ الشَّمسِ وبألْفاظٍ مُختَلِفةٍ عِندَ البُخاريِّ ومُسلمٍ[18]: «أَعْفُوا اللِّحَى»، «أَرْخُوا اللِّحى»، «وَفِّروا اللِّحَى»، «أَوْفُوا اللِّحَى»، ثم يأتي مَن يحلِقُها أو يأخُذُ منها أخذًا شديدًا يَتنافَى مع هذه الألْفاظِ المحْكَمةِ، ويقولُ: المسألةُ فيها خِلافٌ، مُستشهِدًا بقَولِ فُلانٍ وفُلانٍ!
    8- ومن مَسائِلِ الخِلافِ التي يتذَرَّعُ بها بعضُ مَن يَسعَى لهَدْمِ الأُسرةِ المُسلِمةِ: مَسألةُ ولايةِ المرأةِ، وحُكمِ الوَليِّ في النِّكاحِ؛ فجَماهيرُ المسلِمين ومِن قَبْلِهم الصَّحابةُ الكِرامُ يَرَونَ أنَّه لا يَصِحُّ النِّكاحُ بدونِ وليٍّ للمَرأةِ؛ لحَديثِ: «لا نِكاحَ إلَّا بوَلِيٍّ» [19]، وهي مَسألةٌ خِلافِيَّةٌ [20]، الخلافُ فيها غيرُ مُعْتبَرٌ.

    والمَسائِلُ الخِلافِيَّةُ كثيرةٌ جِدًّا لا حَصْرَ لها.
    كما أنَّ المسائِلَ الاجتِهاديَّةَ ذاتَ الخِلافِ السَّائِغِ المُعتَبَرِ كثيرةٌ أيضًا، ومِن ذلك:
    وَضْعُ اليُمنى على اليُسرى بعدَ الرُّكوعِ أم إرسالُهما؟ النُّزولُ على الرُّكبَتَينِ أم على اليَدينِ في السُّجودِ؟ قِراءةُ الفاتحةِ خَلْفَ الإمامِ في الجَهْريَّةِ، جِلسةُ الاستراحةِ وتَرْكُها، البَخُور هل هو مفطِّرٌ للصَّائم أم لا؟ اختِلافُ المَطالِعِ في رُؤيةِ الهِلالِ، وهلْ لكُلِّ بَلَدٍ رؤيتُهم أم يلزَمُ جميعَ البلادِ رؤيةُ بَلَدٍ واحدٍ؟ حُكمُ زكاةِ الحُلِيِّ المعَدِّ للاستخدامِ والزِّينةِ، وغيرها من المسائل..


    وإنَّ ممَّا يُؤسَفُ له ما انتشَر بيْن صُفوفِ الشَّبابِ والفَتَياتِ -حتى بعض المحافِظِينَ منهم وممَّن ظاهِرُه الاستقامةُ- مِنَ البَحثِ عن المسائِلِ المُختَلَفِ فيها للأخْذِ بالأسهَلِ منها، بِغَضِّ النَّظَرِ عن ثُبوتِها بالدَّليلِ أو مَن قال بها، وتعدَّى ذلك إلى تبَنِّيها والدِّفاعِ عنها والرَّدِّ على مَن يُنَبِّهُهم على خَطَئِها بقَولهم: ، رَغْمَ بُعْدِها عن الدَّليلِ وافتقارِها إليه؛ مِثلُ:
    عَدَمِ المواظَبةِ على صَلاةِ الجماعةِ، والأخْذِ مِنَ اللِّحيةِ أخذًا شَديدًا أشبَهَ بحَلْقِها، وسماعِ المعازِفِ، والتشَبُّهِ بالفَسَقةِ والكَفَرةِ في اللِّباسِ والزِّينةِ، وكَشْفِ الفتاةِ الشَّابَّةِ وَجْهَها وكَفَّيها أمامَ الرِّجالِ الأجانِبِ، ورُبَّما جُزءًا مِن ساعِدِها، وظُهورِ بَعْضِ الزِّينةِ منها؛ كالحُلِيِّ وغَيرِها، واختلاطِها بالرِّجالِ الأجانِبِ اختلاطًا مشِينًا، وسَفَرِها مِن غيرِ مَحْرَمٍ، وتَزيينِ البُيوتِ بالمجَسَّماتِ مِن ذواتِ الأرواحِ؛ كالحيواناتِ وغيرِها، وغيرِ ذلك مِن المَسائِلِ الخِلافِيَّةِ خِلافًا غيرَ مُعتَبَرٍ، ومخالِفًا للأدِلَّةِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ.


    وأَسوَأُ مِن ذلك أنْ يَعُدَّها مِنَ الرُّخَصِ، فإذا نبَّهْتَه قال لك: «إنَّ اللهَ يحِبُ أن تُؤتَى رُخَصُه» [21]، وهذا خلْطٌ بيْن رُخَصِ الشَّريعة واختلافِ العُلَماءِ؛ فالمقصودُ بالحديثِ رُخَصُ اللهِ لعِبادِه على لِسانِ نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كترخيصِه للمُسافِرِ الفِطرَ في رمضانَ وجَمْعَ الصَّلَواتِ وقَصْرَها، وما شابه ذلك، أمَّا ما تساهَل فيه بعضُ العُلَماءِ وحكَموا بجوازِه خِلافًا للدَّليلِ؛ فليس مِن رُخَصِ اللهِ؛ قال أبو أحمدَ الكَرَجيُّ القصَّابُ([22]): (أرى كثيرًا من النَّاسِ يَحمِلون هذا الخبَرَ على غيرِ مَحَلِّه، ويتأوَّلونَه على غيرِ جِهَتِه، فيَرَونَ أنَّ الرُّخَصَ المذكورةَ عن أهلِ العِلمِ داخِلةٌ في الخبرِ، وليس كذلك؛ لأنَّ رَسولَ اللهِ أضاف الرُّخَصَ إلى اللهِ جَلَّ وعَزَّ، فقال: «إنَّ اللهَ يحِبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يحِبُّ أن تُؤتَى عزائِمُه»، ورُخَصُه غيرُ رُخَصِ غَيرِه؛... فمَن سَمَّى رُخَصَ العُلَماءِ رُخصةً، فقدِ افترَى على اللهِ الكَذِبَ)[23]).

    أمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ العُلَماءِ وتَساهُلاتِهم فهو زَلَلٌ كبيرٌ نَبَّه العُلَماءُ على خُطورتِه على صاحِبِه؛ قال ابنُ حَزمٍ: (واتَّفَقوا أنَّ طَلَبَ رُخَصِ كُلِّ تأويلٍ بلا كِتابٍ ولا سُنَّةٍ: فِسقٌ لا يحِلُّ)([24].

    وقدْ يكون العالِمُ نفْسُه معذورًا في هذا ومأجورًا، بعكَسِ مَن تتبَّع زَلَّتَه أو رُخصتَه بالهوى والتشهِّي؛ قال الشِّنقيطيُّ: (إنْ كان من مسائِلِ الاجتهادِ فيما لا نَصَّ، فلا يُحكَمُ على أحَدِ المجتَهِدين المُختَلِفينَ بأنَّه مُرتَكِبٌ مُنكَرًا؛ فالمصيبُ منهم مأجورٌ بإصابتِه، والمخطِئُ منهم معذورٌ)[25].


    شُبهةٌ والرَّدُّ عليها:
    قدْ يُقالُ: لا خِلافَ في الأخْذِ بالدَّليلِ، لكِنْ ما تُحَرِّمُه بدليلٍ يُحِلُّه غيرُك بدليلٍ آخَرَ، وما تفهَمُه من الدَّليلِ أنت أو مَن أخَذْتَ بقَولِه يخالِفُك في فَهْمِه غَيرُك، فلا تُلزِمْني بدليلِك أو بفَهْمِك أو فَهْمِ فُلانٍ؛ فليس مَن أخذتَ بقَولِه بأَولى ممَّن أخذتُ بقَولِه، ما دام هناك خِلافٌ في المسألةِ بين العُلَماءِ، سَواءٌ في الأخذِ بالدَّليلِ أو في فَهْمِه.
    هذه الشُّبهةُ يُدَنْدِنُ حَولَها أصحابُ الأهواءِ والشَّهَواتِ، ولأنَّ طَرْحَها كَثُرَ في وسائِلِ الإعلامِ المُختَلِفةِ القَديمةِ والحديثةِ تأثَّرَ بها شَبابُ المسلِمين وفَتَياتُهم، وتلَقَّفَها بعضُ طَلَبةِ العِلمِ تحتَ الضَّغطِ الهائِلِ مِن هذه الوَسائِلِ، ووطأةِ الانهزامِ النَّفسيِّ.

    وللرَّدِّ عليها يُقالُ:
    نَعَمْ، لو كان في المسألةِ دَليلانِ صَحيحانِ صَريحَا الدَّلالةِ، وأخَذَ بكُلِّ واحدٍ منهما عُلَماءُ ثِقاتٌ، فلنْ يُلزِمَك أحدٌ بأحَدِ القَولَينِ، وهذا ما سبَق بيانُه وتسميتُه بمَسائِل الخِلافِ السَّائِغِ والمُعتَبَرِ، وكذلك لو كان هناك نَصٌّ واحِدٌ يحتَمِلُ مَعنَيَينِ ويتعذَّرُ الترجيحُ بينهما، كحديثِ: ((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بني قُرَيظةَ)[26].
    لكِنَّ الكلامَ هنا عن المسائِلِ المعارَضَةِ بالدَّليلِ الصَّحيحِ أو القِياسِ الجَلِيِّ وما عليه العُلَماءُ الثِّقاتُ مُقابِلَ أقوالٍ شَذَّ فيها بعضُ العُلَماءِ، أو أقوالٍ لأنصافِ العُلَماءِ وأَرْباعِهم، بل بَعضُهم ليس هو مِنَ العِلمِ في شَيءٍ! ثم تأتي الفَتاةُ أو الشَّابُّ ويقولُ: المسألةُ فيها خِلافٌ! ويَعني بالمخالِفِ أحَدَ هؤلاء مُقابِلَ العُلَماءِ الثِّقات، ومُقابِلَ القَولِ المُستَنِدِ إلى دَليلٍ صحيحٍ، وفَهْمٍ واضِحٍ صَريحٍ.
    وفي الخِتامِ أُذكِّرُ كُلَّ من تساهل وقدَّم الخِلافَ على الدَّليلِ، أو تتَبَّع رُخَصَ العُلَماءِ وقلَّد المُتساهِلين، وترَك منابَعةَ الرَّاسِخين في العِلمِ والثِّقاتِ مِنَ العُلَماءِ؛ أذَكِّرُهم بأنَّ الاختيارَ بالهوى والتشَهِّي مُضادٌّ للرُّجوعِ إلى اللهِ ورَسولِه المأمورين به، وأنَّ تتَبُّعَ رُخَصِ العُلَماءِ وزَلَلِهم وتَساهُلاتِهم من الاستهانةِ بالدِّينِ، واتِّباعِ الهوى. ومِن مقاصِدِ الشَّرعِ المطَّهَرِ إخراجُ الإنسانِ عن داعيَةِ هواه؛ فمَن استرسل مع هواه لم يحقِّقْ هذه المقاصِد، وكُلَّما اسْتَكْثَر الإنسانُ من ذلك كان أدعى لخروجِه مِن رِبْقةِ التَّكليفِ والعُبوديَّةِ الحَقَّةِ لله سُبحانَه، حتى يصيرَ عَبدًا لهواه، وتذهَبَ هَيبةُ الدِّينِ في قَلْبِه، ويستهينَ بالمحَرَّماتِ، وهذا ما نُشاهده اليوم من المتَسَاهلين، ما أن يبدأ أحدُهم في تساهُلاتِه وتنازُلاتِه إلا وتجده بعد مدةٍ قصِيرةِ قد ذابَ معها وانجرَف، وربما ضاعَ وانحرَف، نسألُ الله العفْوَ والسَّلامةَ، فلْيَحذَرْ أولئك المتساهِلون، ولْيُعِدُّوا جوابًا للسُّؤالِ بين يَدَيِ اللهِ الجبَّار، يومَ يُبعَثون ليَومٍ عَظيمٍ؛ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6].
    أسألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرشِ العَظيمِ أن يَهدِيَنا ويَهدِيَ شَبابَنا وفَتياتِنا للحَقِّ، وأن يَرُدَّهم إليه رَدًّا جميلًا، وأن يُرِيَنا وإيَّاهم الحَقَّ حَقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، ويُرِيَنا الباطِلَ باطِلًا ويَرزُقَنا اجتِنابَه، وأنْ يحَبِّبَ إليْنا وإليهم قَبولَ الحَقِّ، ويُكَرِّهَ إليْنا وإليهم الباطِلَ والزَّيغَ والفَسادَ.
    وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ
    يتبع....


    [1] أخرجه البخاري (7137).
    [2] ((الرسالة)) (ص: 560).
    [3] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 922).
    [4] ((أعلام الحديث)) (3/ 209).
    [5] ((الموافقات)) (5/93).
    [6] ((الفتاوى الكبرى)) (6/96).
    [7] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/22).
    [8] أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).
    [9] انظر: ((التجريد)) للقدوري (2/ 525)، ((التبصرة)) للخمي (1/ 284).
    [10] جزء من حديث أخرجه البخاري (6667)، ومسلم (397) من حديثِ أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه.
    [11] يُنظر: ((الهداية)) (1/88)، ((العناية)) للبابرتي (2/91)، ((البناية)) للعيني (3/150).
    [12] ينظر: ((التاج والإكليل)) (1/319)، ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (1/142).
    [13] أخرجه مسلم (276).
    [14] ينظر: ((شرح النووي على مُسْلِم)) (14/32)، ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض(6/604).
    [15] ينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/46)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (6/453).
    [16] يُنظر: ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 157)، ((الإقناع في مسائل الإجماع)) لابن القطان (2/299).
    [17] يُنظر: ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (2/386)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (9/375).
    [18] ينظر: البخاري (5893،5892)، ومسلم (260،259).
    [19] أخرجه أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
    [20] يُنظر: ((الهداية)) (1/196)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/117).
    [21] أخرجه أحمد (5866)، وابن حبان (2742) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
    [22] وهو مِن أعيانِ القَرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ.

    [23] ((النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام)) (2/500).
    [24] ((مراتب الإجماع)) (ص: 175).
    [25] ((أضواء البيان)) (1/464).
    [26] أخرجه البخاري (946).








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: المسألة فيها خلاف!

    المسألة فيها خلاف!(2-2)


    علوي عبد القادر السقاف

    حمدًا للهِ رَبِّ العالَمين، القائِلِ في مُحكَمِ التنزيلِ: { {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} } [الأنفال:1]، وصلاةً وسلامًا على المبعوثِ رحمةً للعالَمينَ، القائِلِ: «إنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللَّهِ مِثلُ ما حرَّمَ اللَّهُ» ([1]).
    وبعدُ؛ فإنَّ الأصلَ الذي قامت عليه الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ الغرَّاء، وأمَر اللهُ المسلمين أنْ يعتصِموا به هو الدَّليلُ من الكِتابِ والسُّنَّةِ، والواجِب عِندَ كلِّ اختلافٍ وتنازُعٍ هو الرجوعُ إلى حُكمِ اللهِ تعالَى فيه؛ يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: { {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} } [الشورى: 10]، ويقولُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومِثْلَه معه» [2].
    وقد شاع عند كَثيرٍ من النَّاس عندما تُنكر عليهم مَسألةً دليلُها ظاهِرٌ وواضِحٌ وُضوحَ الشَّمسِ في رائعةِ النَّهارِ، أنْ يقولوا: لا إنكارَ في مسائِلِ الخِلافِ!

    فهل حَقًّا لا إنكارَ في مسائِلِ الخِلافِ؟!
    الجوابُ: نعَمْ، لا إنكارَ في مَسائِلِ الخِلافِ، وأولئك الذين يُنكِرون على النَّاس كُلَّ مسألةٍ وقَع فيها خِلافٌ بيْن العُلَماءِ ويُريدون إلزامَ النَّاسِ برأيٍهم: مُخطِئون، لكِنْ أيُّ خِلافٍ ذاك الذي لا إنكارَ فيه؟ هل هو كُلُّ خِلافٍ؟!
    وقَبلَ الإجابةِ عنِ هذا السُّؤالِ أُذكِّرُ باختصارٍ بما سبَق بيانُه في الجزء الأوَّلِ من المقالِ، مِن أنَّ الخِلافَ نوعانِ: خِلافٌ سائِغٌ مُعتَبَرٌ، وخِلافٌ غيرُ سائِغٍ وغيرُ مُعتَبَرٍ ولا حَظَّ له من النَّظَرِ. وكلاهما على دَرَجاتٌ.
    فما كان مِن المسائِلِ التي لا دَليلَ عليها من كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو كانتْ أدِلَّتُها مُتكافئةً لدَى الطَّرَفينِ وتجاذَبَها دَليلانِ شَرعيَّانِ صَحيحانِ يَتعَذَّرُ الجَزْمُ بصَوابِ أحدِهما؛ فهذه من مَسائِل الخِلافِ المُعتَبَرِ، وتسمِيَتُها بالمسائِلِ الاجتِهاديَّةِ أَولى من تسمِيَتِها بالمَسائِلِ الخِلافِيَّةِ؛ للتَّمييزِ بينهما؛ وهذا هو الذي لا إنكارَ فيه.
    قال الشَّيخُ ابنُ عُثَيمين: (لو أنَّنا قُلْنا: المَسائِلُ الخِلافِيَّةُ لا يُنكَرُ فيها على الإطلاقِ، لذهب الدِّينُ كُلُّه حين تَتَبُّعِ الرُّخَصِ؛ لأنَّك لا تكادُ تجِدُ مسألةً إلَّا وفيها خِلافٌ) [3].
    وقدْ بيَّنَ ابنُ تيميَّةَ الفرقَ بين مَسائِلِ الخِلافِ ومسائِلِ الاجتهادِ؛ ومتى يجبُ الإنكارُ فيها ومتى لا يجوز، بقوله: (إذا كان القَولُ يخالِفُ سُنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجَب إنكارُه وِفاقًا،... وأمَّا العَمَلُ فإذا كان على خِلافِ سُنَّةٍ أو إجماعٍ، وجَب إنكارُه أيضًا بحسَبِ دَرَجاتِ الإنكارِ... أمَّا إذا لم يكُنْ في المسألةِ سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتهادِ فيها مَساغٌ؛ لم يُنكَرْ على مَن عَمِلَ بها مجتهدًا أو مقَلِّدًا) [4].
    وقال عن مسائِلِ الاجتهادِ أيضًا وليس الخِلاف: (مسائِلُ الاجتهادِ مَن عَمِلَ فيها بقَولِ بَعضِ العُلَماءِ، لم يُنكَرْ عليه ولم يُهجَرْ) [5].
    وقال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (الضَّابِطُ في هذا أنَّ مأخَذَ المخالِفِ إن كان في غايةِ الضَّعفِ والبُعدِ من الصَّوابِ، فلا نظَرَ إليه ولا التفاتَ عليه، إذا كان ما اعتَمَد عليه لا يصِحُّ نَصُّه دليلًا شَرْعًا) [6].
    وقال الزركشيُّ: (لم يَزَلِ الخِلافُ بين السَّلَفِ في الفُروعِ، ولا يُنكِرُ أحَدٌ على غيرِه مجتَهَدًا فيه، وإنما يُنكِرون ما خالف نصًّا أو إجماعًا قَطعيًّا أو قياسًا جَلِيًّا) [7].
    فكُلُّ هذه الأقوالِ -وغَيرُها كثيرٌ جِدًّا- تَنُصُّ على أنَّ المُختَلَفَ فيه إن كان فيه نَصٌّ أو قياسٌ جَلِيٌّ فإنَّه يُنكَرُ على فاعِلِه، بخِلافِ مَسائِلِ الاجتِهادِ التي لا نَصَّ فيها ولا إجماعَ ولا قياسَ، وهذا الذي جَعَل ابنَ تيميَّة يقول: (وقولُهم: مَسائِلُ الخِلافِ لا إنكارَ فيها، ليس بصحيحٍ) [8].
    أمَّا وُرودُ هذه العِبارةِ: (لا إنكارَ في مَسائِل الخِلافِ!) في كلامِ بَعضِ العُلماء فمرادُهم المسائِلُ التي الخِلافُ فيها خِلافٌ سائِغٌ ومُعتَبَرٌ، على ما سبَق بيانُه، وقدْ يكونونَ أوْضَحوا مرادَهم في مَواضِعَ أخرى مِن كُتُبِهم. ومِن أشهَرِ مَن نُقِلَ عنه ذلك، ويُدَنْدِنُ حولَه البعضُ: النوويُّ، بقَولِه: (العُلَماءُ إنما ينكِرون ما أُجمِعَ عليه، أمَّا المُختَلَفُ فيه فلا إنكارَ فيه) [9]، لكِنَّ كلامَه هذا أعْقَبه بعدَ بِضعةِ أسطُرٍ وضَّح مُرادَه بالمُختَلَفِ فيه -بما يوافقُ الأئمةَ الأعلام- بقَولِه: (ليس للمُفتي ولا للقاضي أنْ يعترِضَ على مَن خالَفه إذا لم يُخالِفْ نَصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جَلِيًّا. [10]؛ فهذا القيدُ من كلامِه رحمه الله يُبَيِّنُ مَقصودَه بقولِه: (أمَّا المُختَلَفُ فيه فلا إنكارَ فيه)، وهو عَدَمُ الإنكارِ فيما لم يُخالِفْ نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا، وهذه هي مَسائِلُ الاجتهادِ، أمَّا مَسائِلُ الخِلافِ التي فيها نَصٌّ من الكِتابِ أو السُّنَّةِ، فهذه يُنكَرُ على صاحِبِها بدَرَجاتِ الإنكارِ، كما سيأتي.
    كما أنَّ المسائِلَ المُختَلَفَ فيها خلافًا غير سائغٍ تتفاوَتُ من حيثُ نَكارتُها وشُذوذُها، ومِن حيثُ قُربُها وبُعدُها عن الدَّليلِ، وبحسَبِ هذا التفاوُتِ تكونُ دَرَجاتُ الإنكارِ؛ وكما أنَّ الإنكارَ يكون يكونُ بالزجْرِ والشِّدَّة وقد يكون أحيانًا باليد ممَّن تكونُ له ولايةٌ أو سُلطةٌ شرعيَّةٌ، فكذلك يكون بالنصيحةِ، والموعِظةِ، والتوجيهِ، والإرشادِ، والتذكيرِ والتنبيهِ، والكَلِمةِ الطَّيِّبةِ بالحِكمةِ والأُسلوبِ الحسَنِ، والقَول بالرِّفقِ واللِّينِ؛ كُلُّ ذلك مِن الإنكارِ، قال الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبَلٍ: (النَّاسُ يحتاجون إلى مُداراةٍ ورِفقٍ، والأمرِ بالمعروفِ بلا غِلظةٍ)[11]، وقال ابنُ مُفلحٍ: (الإنكارُ يكونُ وَعظًا، وأمرًا ونَهْيًا، وتعزيرًا وتأديبًا) [12]، فظنُّ النَّاسِ أنَّ الإنكارَ لا يكونُ إلَّا بالشِّدَّةِ والعُنفِ والزَّجرِ وربما بالضَّربِ، جَعَلَهم يتشَبَّثون بمقولةِ: (لا إنكارَ في مَسائِلِ الخِلافِ!).
    وقد كان الصَّحابةُ رضي الله عنهم يُنكِرونَ على من خالف النَّصَّ مِنَ الكِتابِ أو السُّنَّةِ كائِنًا من كان.
    فمِن ذلك ما رواه عبدُ اللهِ بن عُمَرَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ بَيْنَا هو يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمُعةِ، دَخَلَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فناداهُ عُمَرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ فقالَ: إنِّي شُغِلْتُ اليَوْمَ فلَمْ أَنْقَلِبْ إلى أَهْلِي حتَّى سَمِعْتُ النِّداءَ، فلمْ أَزِدْ على أنْ تَوضَّأْتُ. قالَ عُمَرُ: والوُضوءَ أيضًا؟! وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ)[13]. فأنكَرَ عليه تأخيره في حُضُوره لصلاةِ الجُمُعةِ، وأنكر عليه اكتفاءَه بالوُضوء دون الغُسْل.
    ومِنْه ما رواه عُبَيدُ بن عُمَيرٍ قال: (بلَغ عائِشةَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو يأمُرُ النِّساءَ إذا اغتسَلْنَ أن يَنقُضْنَ رُؤوسَهنَّ، فقالتْ: يا عَجَبًا لابنِ عَمرٍو هذا! يأمُرُ النِّساءَ إذا اغتسَلْنَ أن يَنقُضْنَ رُؤوسَهنَّ، أفلا يأمُرُهنَّ أنْ يَحلِقْنَ رُؤوسَهنَّ؟! لقدْ كنتُ أغتَسِلُ أنا ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من إناءٍ واحدٍ، ولا أَزيدُ على أنْ أُفرِغَ على رأسي ثَلاثَ إفراغاتٍ!) [14].
    ومنه إنكارُ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما على ابنِه بِلالٍ في مَنْعِه النِّساءَ مِنَ الصَّلاةِ في المساجِدِ إنكارًا شديدًا؛ فعن سالمٍ بنِ عبدِ الله أنَّ عبدَ اللهِ بنِ عُمَرَ قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «لا تَمْنَعُوا نِساءَكُمُ المساجِدَ إذا اسْتأْذنَّكُمْ إليْها»، قَالَ: فقالَ بِلالُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ: واللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ . قالَ: فأَقْبَلَ عليْه عَبْدُ اللَّهِ، فسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا ما سَمِعْتُه سَبَّهُ مِثْلَه قَطُّ! وقالَ: أُخْبِرُكَ عنْ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتقولُ: واللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ ؟ [15].
    والأمثلةُ كثيرةٌ جِدًّا.
    كما أنَّهم اختلفوا في عددٍ مِن المسائِلِ الاجتِهاديَّةِ التي لا دَليلَ عليها، أو تجاذَبَها نصَّانِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفَهِمَه كُلُّ واحدٍ منهم فهمًا مُختَلِفًا عن الآخَرِ، ولم يُنكِرْ بعضُهم على بعضٍ. والأمثلةُ في ذلك أيضا كثيرة، منها:
    عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سَافَرْنَا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في رَمَضَانَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ علَى المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ علَى الصَّائِمِ.[16].
    وعن محمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ الثَّقَفيِّ أنَّه سأل أنَسَ بنَ مالكٍ، وهما غاديانِ مِن مِنًى إلى عَرفةَ: كيف كُنتُم تَصنَعون في هذا اليومِ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: كان يُهِلُّ منا المهِلُّ فلا يُنكَرُ عليه، ويُكَبِّرُ منا المكَبِّرُ فلا يُنكَرُ عليه [17]. وهذا مع وُجودِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهم وإقرارِه للفِعلَينِ أيضًا.
    بلْ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يُنكِرُ عليهم فيما فيه اجتهادٌ من المسائِلِ؛ فعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الأحزابِ: «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُرَيظةَ»، فأدْرَك بعضَهم العَصرُ في الطَّريقِ. فقال بَعضُهم: لا نُصَلِّي العَصرَ حتى نأتِيَها، وقال بعضُهم: بلْ نصَلِّي، لم يُرِدْ مِنَّا ذلك، فَذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يُعَنِّفْ واحدًا منهم)[18] فهذه مِن مسائِلِ الاجتهادِ، والخِلافُ فيها سائِغٌ؛ فقد يكونُ مُرادُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسراعَ في المشيِ، وقدْ يكونُ يُريدُ ألَّا يُصَلُّوا إلَّا في بني قُرَيظةَ ولو أدركَهم الوَقتُ.
    وقد سبَق بَيانُ أنَّ المسائِلَ الخِلافيَّةَ خلافًا غيرَ سائغٍ كثيرةٌ لا يمكِنُ حَصْرُها؛ كتخَتُّمِ الرِّجالِ بالذَّهَبِ، ولُبسِهِمُ الحريرَ، وشُربِ ما أسكَرَ كثيرُه مِنَ النَّبيذِ، وعَدَمِ الطُّمَأنينةِ في الصَّلاةِ، وعَدَمِ قِراءةِ الفاتحةِ فيها، وولايةِ المرأةِ نَفْسَها في النِّكاحِ، وغيرُها كثيرٌ جِدًّا، فهل يَصِحُّ أن يُقالَ عن مِثلِ هذه المسائِلِ الخِلافيَّةِ: لا إنكارَ فيها لأنَّها من مَسائِلِ الخِلافِ؟!
    فعلى المُسلِمِ الصَّادِقِ أن يتَّقِيَ اللهَ تعالى، وأن يَنظُرَ فيما يُنجِيه يومَ العَرْضِ على مولاه، وألَّا يَتَّبِعَ الفتاوى الضَّعيفةَ والشَّاذَّةَ، ويَترُكَ ما أوجبَه اللهُ عليه، ولْيَكُنْ هَمُّه إرضاءَ اللهِ عزَّ وجَلَّ لا إرضاءَ نَفْسِه وهواه، ولْيَتذَكَّرِ الوُقوفَ أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ يومَ يُبعَث ليومٍ عَظيمٍ؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
    أسألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرشِ العَظيمِ أن يَهدِيَنا ويَهدِيَ شَبابَنا وفَتياتِنا للحَقِّ، وأن يَرُدَّهم إليه رَدًّا جميلًا، وأن يُرِيَنا وإيَّاهم الحَقَّ حَقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، ويُرِيَنا الباطِلَ باطِلًا ويَرزُقَنا اجتِنابَه، وأنْ يحَبِّبَ إليْنا وإليهم قَبولَ الحَقِّ، ويُكَرِّهَ إليْنا وإليهم الباطِلَ والفسْقَ والعِصْيان، إنَّه سميعٌ قريبٌ نُجِيبٌ.
    وصَلَّى اللهُ وسَلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحْبِه
    ______________________________ _______________________
    [1] أخرجه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12).
    صححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (12).
    ([2] أخرجه أحمد (17174)، وأصله في السنن عند: أبي داود (4604)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)
    ([3]) ((لقاء الباب المفتوح)) (49/192).
    ([4]) المرجع السابق.
    ([5]) ((مجموع الفتاوى(207/20) ((.
    ([6]) ((قواعد الأحكام في مصالح الأنام)) (1/ 253).
    ([7]) ((المنثور في القواعد الفقهية)) (2/140).
    ([8]) ((الفتاوى الكبرى)) (6/96).
    ([9]) ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 23).
    ([10]) المرجع السابق.
    ([11]) ((الآداب الشرعية)) (1/ 191).
    ([12]) ((الآداب الشرعية)) (1/ 166).
    ([13]) أخرجه البخاري (878)، ومسلم (845) واللفظ له.
    ([14]) أخرجه مسلم (331).
    ([15]) أخرجه مسلم (442).
    ([16]) أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118) واللفظ له.

    ([17]) أخرجه البخاري (1659) واللفظ له، ومسلم (1285).
    ([18]) أخرجه البخاري (4119) واللفظ له، ومسلم (1770).









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •