"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (42)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "الطور": (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)

القول الأقرب والله أعلم أن المراد بالإلحاق إدخالهم الجنة مثل ما دخل آباؤهم, وليس المراد إلحاقهم بهم في نفس المنزلة.
فإن الآية لم تذكر أن الذرية يلحقون بدرجة الآباء نفسها.
وهذا الفهم للآية لا يوجد ما يمنعه والله أعلم وإن كنت لم أر قائلاً به من المفسرين, وله قرائن تقويه كما سيأتي.
فإن لم يصح هذا القول فالقول الثاني من الأقوال هو الأقرب.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد أن الأولاد يرفعون إلى درجات الآباء والأمهات، وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم, تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم. (ذكره الماتريدي*, والبغوي*, والقرطبي*) (ورجحه ابن جرير*, وابن عطية*) (واقتصر عليه الزمخشري*, والرازي*, وابن كثير*, وابن عاشور*) (واقتصر عليه أيضاً الشنقيطي* عند تفسير قوله تعالى في سورة "النجم": (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

قال ابن عطية: "هذا أرجح الأقوال لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة, فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء. ولفظة (أَلْحَقْنا) تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال".

ولكن يَرِدُ على هذا القول إشكال معروف, وهو أنه يلزم منه استواء المؤمنين في الدرجات, فإن كل الناس آباء وفي الوقت نفسه هم ذريات فلهم آباء أيضاً.


وقد وضح هذا الإشكال ابن القيم رحمه الله في كتابه "حادي الأرواح" فقال وهو ممن يرجح أن الآية في الصغار:
"(قالوا): ويدل على صحة هذا القول أن البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب, فإنهم مستقلون بأنفسهم ليسوا تابعين الآباء في شيء من أحكام الدنيا ولا أحكام الثواب والعقاب لاستقلالهم بأنفسهم.

ولو كان المراد بالذرية البالغين لكن أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم وتكون أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم وهلم جرا إلى يوم القيامة فيكون الآخرون في درجة السابقين.

(قالوا): ويدل عليه أيضاً أنه سبحانه جعلهم معهم تبعاً في الدرجة كما جعلهم تبعاً معهم في الإيمان ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعاً بل إيمان استقلال.

(قالوا): ويدل عليه إن الله سبحانه وتعالى جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين وأما الإتباع فان الله سبحانه وتعالى يرفعهم إلى درجة أهليهم وإن لم يكن لهم أعمالهم كما تقدم"

ثم قال ابن القيم: "قلت: واختصاص الذرية هاهنا بالصغار أظهر, لئلا يلزم استواء المتأخرين بالسابقين في الدرجات, ولا يلزم مثل هذا في الصغار, فان أطفال كل رجل وذريته معه في درجته والله اعلم".

وقال ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (10/431): "لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم فلا يعاقبون، وليس من الإيمان بالله وتقواه باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين}".

القول الثاني: أن المراد بالذرية الصغار وغير المكلفين, فهم وإن لم يبلغوا مبلغاً يكون منهم الإيمان، فإنهم يلحقون بآبائهم وأمهاتهم في إيمانهم. (فهي ليست في الكبار المكلفين).
(ذكره ابن جرير*, والماتريدي* والبغوي* وابن عطية*, والقرطبي*)

القول الثالث: أن المراد بهم الذرية الذين التقنوا الإيمان من آبائهم وأمهاتهم، وأخذوه منهم، ولم يبحثوا عن حجته وبرهانه حتى يكون أخذهم وقبولهم عن البحث عن الحجة والبرهان، فهم وإن كانوا مقلدين آباءهم في الإيمان، متلقنين منهم فإنهم يلحقون بآبائهم. (انفرد بذكره الماتريدي*)

قلت: لم تذكر الآية أن الذرية يلحقون بدرجة الآباء نفسها, فالأقرب أن المراد بالإلحاق إدخالهم الجنة مثل ما دخل آباؤهم.
فتكون هذه الآية كقوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ )
وقوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ)
فيكون قوله في الآيتين: (وَمَنْ صَلَحَ) بمعنى قوله هنا: (واتبعتهم ذريتهم بإيمان)

وهذا الفهم للآية لا يوجد ما يمنعه والله أعلم وإن كنت لم أر قائلاً به من المفسرين, ويؤيده قوله: (كل امرئ بما كسب رهين) أي: كل مرتهن بعمله وتكون منزلته على حسب عمله.
ويكون المراد بقوله: (وما ألتناهم من عملهم من شيء) أن كل أهل الجنة يعطون أجرهم كاملاً ولا ينقصون من عملهم.

ومما يؤيده أيضاً أن الآية نصت على أن الذين يلحقون هم الذرية, وأن كل ذرية اتبعوا آباءهم بالإيمان يلحقون بآبائهم.
ومن المعلوم أنه في أحيان كثيرة تكون الذرية أفضل في الإيمان والمنزلة في الجنة من الآباء! فكيف يتم ذلك!

وفي سورة غافر قال تعالى عن الملائكة: (وَيَسْتَغْفِرُ نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)
ثم ذكر من دعائهم: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ)
فقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يدخل في هذا الجميع الآباء والذريات ومع ذلك قال: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِ مْ)
وآية الطور كذلك لما ذكر المؤمنين وثوابهم ـ ويدخل في ذلك الجميع الآباء والذريات ـ قال: (وَاتَّبَعَتْهُ ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

وأما ما أخرجه البزار وابن عدي من حديث ابن عباس مرفوعاً (إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه, ثم قرأ: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء}).
فالصحيح في هذا الحديث أنه موقوف ولا يصح رفعه.
هكذا رواه سفيان الثوري.
قال البزار: وقد رواه الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد, عن ابن عباس موقوفاً. (انظر: "السلسة الضعيفة" للألباني (5/647)

وأما ما ذكر ابن كثير من الحديث الذي أخرجه الطبراني عن الحسين بن إسحاق التستري، عن محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم-قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك. فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم. فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} الآية.
فقد حكم الشيخ الألباني بأنه موضوع.
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/