وما بعد الاستعمار إلا الدمار
احمد الشجاع
قال تعالى: [قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] (النمل، الآية 34).
يقول علماء التفسير - هنا - إن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها، وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها، وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة؛ وذلك لأنهم يريدون مُلْكاً، فينهبون كل ما يمرُّون به بل ويُخربون ويفسدون لأنهم ساعةَ يصل الملِك المغير لا يضمن النصر؛ لذلك يُخرِّب كل شيء.
ولأن الملْك يقوم على أنقاض مُلْك قديم، فيكون أصحاب العزة والسيادة هم أول مَنْ يُبدأ بهم؛ لأن الأمر أُخِذ من أيديهم، وسوف يسعَوْن لاستعادته، ولا بُدَّ أنْ يكون عندهم غَيْظ ولَدَد في الخصومة.
أما قوله تعالى: {وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ} فيقول بعض العلماء إنه من كلام ملكة سبأ، وكأنه تذييل لكلامها السابق.. والراجح عند المفسرين أن هذه العبارة من الحق سبحانه وتعالى ليُصدِّق على كلامها، وأنها أصابت في رأيها: فكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية.
والمقصود هنا هو دخول الملوك لغرض السيطرة والاستيلاء حيث تكون النتيجة إفساداً ودماراً وإذلال أبناء البلد المحتل.. وهذا الذي ينطبق على دخول جيوش أوروبا إلى دول العالم الثالث - ومن ضمنه العالم الإسلامي - حيث عاثت فيه فساداً ونهبت الأرض وهتكت العرض ومزقت البلاد ودمرت الأخلاق، وزرعت البلاء والوباء.. ولا زالت آثار كل ذلك باقية إلى اليوم.
وتكون آثار الدمار والتدمير أسوأ عندما يكون مصدرها حضارة لا تعرف للأخلاق طريقاً ولا للإنسانية منهجاً كالحضارة الغربية.. بأنها حضارة لا ضمير لها ولا قلب، إنها حضارة قطعان استغلت تفوقها العسكري لتملأ الحياة فساداً ونذالة.
ولذلك تساءل الغزالي: "وقد منحت أوروبا حق الحياة لبعض الأقطار المتخلفة، فهل منحتها هذا الحق لتسعد به؟ كلا".
"إنه كما استبقى فرعون نساء بني إسرائيل بعد أن قتل ذكرانهم. إنه استبقاء لمصلحة السادة ومتعتهم لا خير فيه للعبيد أبداً".
ووضع الغزالي هذه الحالة في ظاهرتين مقترنتين:
الأولى: "الأثرة الشرهة الماكرة المشربة بالفظاظة، والذاهلة عن حقوق الآخرين. ينظر اللص إلى متاع أعجبه، فأول ما يفكر فيه: كيف يسطو عليه ليستأثر به؟. وربما لم تكن للاستعمار حاجة عاجلة إلى هذه الصفقة الحرام، ومع ذلك يختلسها ويدخرها للمستقبل". وضعف المالك هو وحده الذي يحرك شهية المعتدي للغصب والنهب..
والظاهرة الأخرى: "إلباس هذه القذارة النفسية ثوب العفة والترفع، ومداراة البراثن الملوثة في قفازات من الحرير".
الظاهرة الثانية التي ذكرها الغزالي تدثر بها الغرب كثيراً وحاول إبرازها ليخدع الناس بها؛ فيظهر على غير حقيقته..
وقد جاء بالموسوعة العربية أن الأسباب المعلنة لحربٍ ما قد لا تكون نفسها بالضرورة هي دواعي الحرب. فمثلاً، أبرزت روسيا الاضطهاد التركي للنصارى الأرثوذكس الذين كانوا يعيشون في الإمبراطورية العثمانية باعتباره سبباً لهجومها على الأتراك عام 1853م؛ وهو ما أدى إلى نشوب حرب (القرم) (1853- 1856م). غير أن دواعي هذه الحرب - التي لم تعلن - كانت ترجع لرغبة الروس في التوسع في منطقة البحر الأسود على حساب الدولة العثمانية الضعيفة.
وقد درج الغرب على هذه السياسة منذ ظهور الإسكندر الأكبر الذي قاد جيوشه المقدونية من بلاده للسيطرة على الشرق الأوسط حتى إمبراطورية فارس؛ بذريعة أنه يريد نشر المدنية الإغريقية في العالم القديم، وتوحيده تحت مظلة تلك المدنية.
وقام بالفعل بتدمير إمبراطورية الفرس وبناء إمبراطورية اليونان مكانها في سائر أنحاء الشرق الأوسط، وأصبح الإغريق هم الشعب الذي ينعم بالثروات على حساب الآخرين.
ولعل من أهم الحروب التي نشبت بين الشرق المسلم والغرب النصراني هي تلك الحروب التي شنها الصليبيون بحجة تحرير بيت المقدس.
وشارك فيها إنجليز وألمان وفرنجة وغيرهم، ونزلوا إلى الأراضي الإسلامية بالشام الكبير وحاولوا القضاء على الإسلام والمسلمين في الفترة 585 - 590هـ، 1189 - 1193م والتي كانت رداً على استرداد صلاح الدين بيت المقدس وإعادته للمسلمين.
وعموماً إذا انخدع الناس بما يظهر الاحتلال ويدعيه فإن النتائج هي التي تكشف الحقائق وتزيل الغشاوة عن أعين كثيرة.
وفي التقرير التالي محاولة للتذكير ببعض الكوارث التي نتجت عن فترة الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي طوال أكثر من ثلاثة قرون.
فمعرفة نتائج الأحداث الماضية تعين على فهم الأحداث الحالية وتوقع ما سيأتي.
وأختم هذه المقدمة بما قاله المفكر الأمريكي صمويل هنتنجتون – صاحب نظرية (صراع الحضارات) -: "لم يربح الغرب العالم بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، وإنما ربحه بسبب تفوّقه في استعماله للعنف المنظم، والغربيون غالباً ما ينسون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسونها أبداً".
إشكالية مفهوم "الاستِعْمار"
من الإشكاليات التي وقعت فيها الثقافة الإسلامية - في العصور الأخيرة - اعتماد مفاهيم مستوردة تخالف معناها في ثقافتنا وتعارض مدلولها على أرض الواقع.. والمشكلة أن هذه المفاهيم أصبحت مقبولة ومتداولة بتناقضاتها.
ومفهوم (الاستعمار) واحد من بين هذه المفاهيم التي أصبحنا نستخدمها في غير مرادها، ونفهما فهماً يضاد معناها.
فكلمة (استعمار) في اللغة العربية محْمدة لا مذمة ومنقبة لا نقيصة كما يقول الباحثون، فهي تدل على الإعمار والبناء.. وهذا ما دل عليه القرآن الكريم بقول الله تعالى: [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا] (هود، الآية 61).. وعلى هذا المعنى اتفقت المعاجم العربية.
ومع هذا أصبحت كلمة (استعمار) في الثقافة المعاصرة تدل على الاحتلال.. ويرى بعض الباحثين أن الانقلاب في مفهوم (الاستعمار) حدث خلال حقبة السيطرة العسكرية الأوروبية على العالم الثالث؛ لأغراض احتلالية غربية، حيث لم يكن هذا المفهوم المعكوس مستخدماً من قبل.
ومن ثم كان الخلط - في عمليات الترجمة - بين مصطلح (احتلال) (ocation) ومصطلح (استعمار) (onization).
ويقول رئيس (مركز التراث والبحوث اليمني) زيد بن علي الوزير - في دراسة له - إن استخدام كلمة الاستعمار بمعنى الاحتلال خديعة واضحة للمعنى العربي، وأن هذه الترجمة مكيدة القصد منها التمويه وتقديم الاحتلال في كلمات مستساغة.
ويقول الوزير أيضاً إن القبول بهذه التسمية يكشف غبشاً متمكناً عند المتلقي، ووصفها بالتخدير اللفظي.
وقال أيضاً إن التعامل مع هذه الترجمة "المكائدة" يكشف طبيعة التعامل مع فعل قبيح بصيغة تغطي قبحه.
والعجيب أن المفهوم الجديد للاستعمار أصبح مقبولاً في المصادر اللغوية العربية الحديثة، فقد نقل الوزير عن (المعجم الوجيز) الصادر عن (مجمع اللغة العربية) هذا التعريف: "استعمره في المكان: جعله يعمره، وفي القرآن الكريم [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا]، واستعمر الأرض أمدها بما يعوزها من الأيدي العاملة. واستعمرت دولةٌ دولةً أخرى: فرضت عليها سيادتها واستغلتها".
يعلق الوزير على التعريف بأن فيه تناقض "بين استعمرت دولة دولة أخرى أي عمّرتها، وبين فرضت عليها سيادتها واستغلتها!!".
ويرى الوزير خطأ ترجمة الكلمة الإنجليزية (onization) إلى العربية بأنها "استعمار"؛ لأن هذه الكلمة الإنجليزية تحمل نفس مفهوم مصطلح (ocation) (احتلال)؛ ولهذا يرى أن أفضل ترجمة لكلمة استعمار إلى اللغة الإنجليزية هي (thrive) ومعناها: ينمو بقوة، يزدهر، ينجح. وهذه هي الترجمة التي قدمها المفكر الراحل محمد أسد (الذي كان من كبار المفكرين المسلمين في أوروبا وكان له تأثير كبير جداً داخل أوروبا، وتوفي تقريباً عام 1992م).
ورغم هذا الخلط في المفاهيم وإخراجها عن مدلولها إلا أننا في هذا التقرير سنضطر لاستخدام مصطلح "الاستعمار" لأن كل المصادر التي اعتمدنا عليها تستخدم هذا المصطلح ومشتقاته فيصعب تغيير كثير من النصوص.. واكتفيت بالتنبيه السابق للفت نظر القارئ إلى هذه الإشكالية.
نبذة عنالاحتلال
للاحتلال تاريخٌ طويلٌ يعود إلى العصور القديمة: فالرومان، مثلاً، حكموا عدداً من المستعمرات في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.
وبدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي، بدأت الدول الأوروبية في بناء إمبراطوريات استعماريةٍ ضخمة في كلٍّ من أفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية، وكذلك في أمريكا الجنوبية.
ومن أهم القوى الاستعمارية الأوروبية: فرنسا، بريطانيا، هولندا، البرتغال، أسبانيا. وبحلول سبعينيات القرن العشرين، تَفكَّكت معظم هذه الإمبراطوريات.
وتُعزى أهمية المستعمَرات للعوائد الاقتصادية التي تُدِرُّها. فالدول تحصل على سلع ٍ نادرةٍ مثل الماس والتوابل من هذه المستعمرات. كما تسعى الدول إلى توسيع صناعاتها وتجارتها مع المُستعمرات؛ لأنَّ هذه المُستعمرات قد تكون مصدراً للمواد الخام أو سوقاً للسلع أو مصدراً لسلع قابلة للتصدير لبلدان أخرى أو مناطق استثمارية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الدول تستخدم المستعمرات أيضاً لزيادة مكانتها وسمعتها بين الأمم، كما تستفيد من مواقعها الحيوية لأغراضٍ عسكرية، أو تستفيد منها لنشر دينها ومذهبها.
والاستعمار لم يَمُت، فهو موجود بأشكالٍ أخرى من أشكال الظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
ومن هنا يستخدم آخرون مصطلح الاستعمار الجديد لتعريف السيطرة غير المباشرة للدول الغنية على الدول النامية. وبحسب هذا المصطلح فإن الدول النامية تعتمد على الدول الغنية في مجال استثمار رأس المال، مع أن هذا الاعتماد يدفع الدول الغنية إلى الاستفادة من الدول النامية.
تاريخالاستعمار
تُعدّ الإمبراطورية الرومانية أكبر دولة استعماريةٍ في التاريخ القديم، فقد بدأت روما توسُّعَهَا فيما وراء البحار نحو عام 264ق.م. وفي أوج مجدها، كانت الإمبراطورية الرومانية تمتد من شمالي بريطانيا إلى البحر الأحمر والخليج العربيّ. وفي عام 476م، سقطت تلك الإمبراطورية.
الاحتلال الأوروبي
بدأت البرتغال وإسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي بإرسال مستكشفين للبحث عن طرق بحرية جديدة إلى الهند والشرق الأقصى، حيث كان المسلمون يهيمنون على الطرق البرية ويسيطرون على التجارة بين آسيا وأوروبا.وكان الأوروبيون يطمعون إلى السيطرة على تلك التجارة، فقد نجحت البرتغال في السيطرة على البرازيل، وأنشأت مراكز تجاريةً في كل من غربي أفريقيا والهند وجنوب شرقي آسيا. كما نجحت إسبانيا في السيطرة على أجزاء مما يعرف اليوم بالولايات المتحدة، واحتلت معظم أجزاء أمريكا اللاتينية.
وفي القرن السابع عشر الميلادي انتزع الهولنديون والبريطانيون التجارة الآسيوية من البرتغاليين، وذلك بعد أن نجحوا في احتلال جزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا) وأصبح للإنجليز نفوذٌ قويُّ في الهند. وتمكَّن الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون من احتلال بعض المناطق في أمريكا اللاتينية.
وساهمت الثورة الصناعية إلى حد كبير في قيام حركة التوسُّع الاستعماري في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد أدت الحاجة إلى مزيد من المواد الخام للمصانع، ومزيد من الأسواق لمنتجات تلك المصانع، إلى ذلك التوسع الاستعماري، فاقتسمت أوروبا دول أفريقيا وآسيا..
وقد ظهرت في هذه الفترة آثار الاستعمار السلبية، مثل نهبه لخيرات تلك المستعمرات. وعدم الاهتمام بأهلها وبعاداتهم وثقافاتهم؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور حركات مقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال.
ففي قارتي آسيا وأفريقيا سعت الدول الصناعية إلى الحصول على المواد الخام لمصانعها، والأسواق لمنتجاتها الصناعية، كما سعت إلى هاتين القارتين بوصفهما مناطق استثمار جديدة، وللبحث عن أقطار جديدة تقويها في منافستها للأقطار الأوروبية الأخرى.
واقتسم أفريقيا كلٌّ من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وأسبانيا.
أما بريطانيا، فقد سيطرت بدورها على الهند وبورما وما يُعرف الآن بماليزيا. كما احتلت فرنسا الهند الصينية. وكانت الهند الصينية الفرنسية تضم كلاّ من كمبوتشيا (كمبوديا ولاوس وفيتنام). وتوسَّع الهولنديون في الهند الصينية الشرقية. أما الولايات المتحدة، فقد احتلت الفلبين.
وكان هناك تنافسٌ كبير بين فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والولايات المتحدة للسيطرة على جزر المحيط الهادئ.
السياساتالاستعمارية
قام عددٌ من المُستعمرين بفرض أسلوب حياتهم على المستعمرات.. فقد كانوا يؤمنون بتدنّي مستوى ثقافة المناطق المُستعمَرة قياساً إلى ثقافتهم. وحاول بعض هؤلاء الحكام أن يُغيّروا من ديانة المناطق التي يَستعمِرونها، كما عَمَدوا إلى جعل لغتهم الأجنبية اللغة الرسمية في تلك المستعمرات. وفي عدد من الحالات، حاول الحكام المستعمرون أن يحلوا ثقافتهم الخاصة محلَّ الثقافة المحلية.
السياسةالاقتصادية
عَمدت الدول الاستعمارية إلى الاستفادة من العوائد الاقتصادية للمستعمرات. وفي العصور القديمة، كانت هذه القوى تزيد من ثروتها عن طريق السُّخْرة (العمل بدون أجر)، كما فُرضت الإتاوات على الشعوب المُستعمَرة بدعوى حماية هذه الشعوب من الدول الأخرى.
وفيما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلاديين، ظهر نظام اقتصادي في أوروبا يُدعى (المركنتالية) أي النزعة التجارية. وفي ظلِّ هذا النظام، قامت القوى الأوروبية بتشكيل اقتصاد المناطق المستعمرة حسب حاجاتها التجارية.
واختلفت طرق الحكم في المستعمرات بشكلٍ كبير، فبعض الدول الحاكمة عمدت إلى جعل المستعمرات مستقلةً بشكلٍ كامل على حين أنَّها أعطت دولاً أخرى شيئاً من الحكم الذاتيّ. وإذا نظرنا في سياسات بلجيكا وفرنسا وبريطانيا والبرتغال في كلٍّ من أفريقيا وآسيا، فإننا نجد تباينًا في نظم الحكم.
والواقع أنَّ أكبر مستعمرة بلجيكية في أفريقيا كانت في الكونغو البلجيكي (الكونغو الديمقراطية الآن). وقد حكمت بلجيكا الكونغو منذ عام 1885م، وكانت تديرها بشكلٍ مركزيّ من بروكسل (العاصمة البلجيكية). ولم يُشرك البلجيك شعب الكونغو في الحكم، ولذلك فقد حدثت عدة انتفاضات في الكونغو عام 1959م، مما اضطر بلجيكا إلى إعطائها الاستقلال عام 1960م.
وكانت سياسة الحكم الفرنسيّ للمستعمرات شبيهة بهذا، فقد كان يتم حكمها بشكلٍ مركزيّ من باريس، وكان المتوقَّع من عِلْيَة القوم في المستعمرات أن يُصبحوا كالفرنسيين ثقافيًّا واقتصاديّا. لكن الفرنسيين لم يكونوا يفكرون في إنهاء استعمارهم.
وفى عام 1946م، قامت ثورةٌ في الهند الصينية لم تنته إلا عام 1954م، حينما أُجْبِر الفرنسيون على الانسحاب بعد تعرضهم لخسائر جسيمة. وفي عام 1954م، قامت ثورة مماثلة في الجزائر، إحدى المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، واستمر الجهاد والنضال هناك حتى عام 1962م حين انتزعت الجزائر استقلالها. وبعد ذلك، مَنحت فرنسا الاستقلال بشكل سلمي لمعظم مُستعمراتها.
أما بريطانيا، فقد حَكمت معظم مستعمراتها عن طريق الوكلاء البريطانيين (والوكيل حاكم عام يكون مقره عاصمة المستعمرة). وخلال استعمارها، أعطت بريطانيا لمُستعمرَاتها صلاحيات أوسع في المحاكم المحلية والمجالس التشريعية والخدمات العامة.
عوامل إنهاء الاستعمار
هناك عوامل أسهمت في إنهاء عصر الاستعمار في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين: منها أنَّ القوى الأوروبية أُضعفت في الحرب وبدأ عددٌ كبيرٌ من الناس يعارضون الاستعمار لأسباب أخلاقية، كما أنَّ الحركات القومية والمطالبة بحقِّ تقرير المصير قد زادت ازديادًا كبيرًا في مستعمرات أفريقيا وآسيا. وقد حصلت بعض هذه المستعمرات على استقلالها بشكل سلميّ، لكنَّ مستعمرات أخرى لم تحصل على استقلالها إلا عن طريق الحرب. وكانت البرتغال من أواخر الدول التي منحت مستعمراتها الاستقلال في منتصف السبعينيّات.
ولا تزال كل من فرنسا وبريطانيا والبرتغال وأسبانيا تحتفظ ببعض مستعمراتها إلى اليوم، ولكنها لا تسميها مستعمرات.. وعلى سبيل المثال، فإن بريطانيا تُسمي هذه المناطق البلاد التابعة. كما أنَّ الولايات المتحدة تحكم بعض المناطق البعيدة، مثل: ساموا الأمريكية وغوام وعددًا من الجزر في المحيط الهادئ، وكذلك بورتوريكو وفيرجين آيلاندز الأمريكية. كما لا تزال إسرائيل تحتل أرض فلسطين منذ عام 1948م.
آثار الاستعمار
رغم ما يقال عن وجود آثار إيجابية للاستعمار الغربي إلا أن آثاره السلبية وكوارثه أكبر وأعظم، ولا توجد آثار إيجابية إنما هي مخلفات وفضلات نتجت عن استهلاك غربي في مناطق الاحتلال، وبحسب الباحث الوزير لم تكن الإنجازات - التي يصفها البعض بالإيجابية - بفعل هدف إنساني ومن أجل صالح البلاد المحتل، وإنما كان بفعل دوافع خاصة بالاحتلال اقتضت تشييدها مصالحه الاقتصادية المستأثرة.
ولا يعقل أن يكون للاحتلال غرض إيجابي بينما هو قائم على التدمير والنهب والسلب.. وهناك قاعدة غير معلنة ولكنها عملية مضمونها إبقاء البلد المحتل دائماً أضعف من الاحتلال في كل شيء، وقد نجحت قوى الاحتلال الغربية في تطبيق هذه القاعدة.
فقد أدى الاحتلال الغربي لهدم قيم المجتمعات واستبدلها بقيمه.. وهو - كما يقول الباحث الوزير - عملية تحويل رديئة للمجتمع من حالة مستقل إلى حالة تابع، ومن حالة منتج إلى حالة مستهلك..
وقامت القوى الاستعمارية باستغلال مستعمراتها واستفادت منها اقتصادياً.. وفي عدد من المستعمرات، قامت القوى الحاكمة بتعطيل الهياكل الاقتصادية التقليدية وتغييرها. فقد ألزموا المستعمرات بإنتاج المواد الخام وشراء معظم السلع المصنَّعة من الدول الحاكمة. وبهذه الطريقة، حطَّم المستعمِرون الأنشطة التجارية والصناعية في المستعمرات.
وفقدت شعوب تلك المستعمَرات القدرة على التحكم في مقدَّراتها الاقتصادية..
اومن مساوئ الاستعمار بروز ظاهرة الاستشراق التي ارتبطًت عضويًا بظاهرة الاستعمار؛ فلكل الدول الاستعمارية الغربية مؤسسات استشراقية.
فعندما فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها الدينية والسياسية في العصور الوسطى، عاد الأوروبيون مرة أخرى إلى الشرق في ثوب الاستعمار، واتجهوا إلى دراسة كل شؤون البلاد الشرقية ليتعرفوا مواطن القوة فيها فيقضوا عليها، ومواطن الضعف فيغتنموها.
وكان كثير من المستشرقين ـ وما زالوا ـ يعملون مستشارين لحكوماتهم في التخطيط لسياساتها الاستعمارية في الشرق الإسلامي، وعلى سبيل المثال: كان المستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه يعمل مستشاراً لحكومته في تخطيط سياستها ضد إندونيسيا المسلمة.
وكان المستشرقان البريطانيان ماكدونالد وجِبْ يعملان مستشاريْن لحكومتهما في تخطيط سياستها ضد المسلمين في شبه القارة الهندية وغيرها، وعمل ماسينيون مستشارًا للحكومة الفرنسية في تخطيط سياستها ضد المسلمين في شمالي أفريقيا.
وما زال المستشرق اليهودي الأمريكي برنارد لويس يعمل مستشارًا للحكومة الإسرائيلية في تخطيط سياستها ضد العرب والمسلمين.
ولا تكاد تخلو سفارة من سفارات الدول الغربية لدى الدول الإسلامية من سكرتير أو ملحق ثقافي يجيد اللغة العربية يتمكن من الاتصال برجال الفكر والسياسة فيتعرف على أفكارهم ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته.
تمزيقالمسلمين
في الوقت الذي غفلنا فيه عن ماضينا وتركنا تاريخنا وراء ظهورنا كان الغرب يستفيد ويتعلم منه ويحاول فهم حقيقة صراعه مع العالم الإسلامي منذ بداية عصر الإسلام، وحاول معرفة نقاط القوة والضعف لدى المسلمين عبر التاريخ؛ فقام باستغلال نقاط ضعفنا ليمنعنا من المحافظة على نقاط قوتنا.
وكان من أهم الأمور التي أدركها الغرب هو أن السيطرة على العالم الإسلامي وقهره لا يمكن تحقيقه في ظل تكتل كل المسلمين داخل دولة إسلامية واحدة قوية تجمعهم وتحميهم.. ولهم من الماضي عبر ودروس عندما كان للمسلمين دول عظمى كالأموية العباسية والأيوبية.. ثم العثمانية.
وخوفاً من تكرار تلك التجارب الإسلامية العظيمة كانت عملية تجزئة العالم الإسلامي من أولويات الغرب بعد سقوط الخلافة العثمانية على طريقة (فرّق تسُد) التي اشتهرت بها السياسة البريطانية في المناطق التي كانت تحتلها..
ورغم التنافس والتسابق بين قوى الاحتلال الأوروبي على بلاد المسلمين إلا أن ذلك لم يمنع وجود تفاهم حول تقسيم العالم الإسلامي كاتفاقية (سايكس بيكو) الشهيرة.
وعندما يخرج احتلال من بلاد مسلمة وتحصل على استقلالها كان غالباً ما يغرس فيها بذور الشقاق - طويلة الأمد وعصية على الحل - بين أبناء البلد أو بين البلدان المتجاورة أو يجمع بين الحالتين، كالقيام بدعم طرف محلي ضد آخر وتسليم سلطة البلد له على حساب طرف منافس، أو ترسيم الحدود بطريقة تؤدي إلى ظهور نزاع وصراع مستقبلي بين الدول المتجاورة.
يتبع