علم تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية النشأة والتطور

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فعلم تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية شأنه شأن أي علمٍ آخرَ، يمر بمراحلَ مختلفة إلى أن يَكمُلَ ويَنضَجَ، ويَستويَ على سُوقه، وقد كان لهذا العلم مراحلُ ثلاث مرَّ بها إلى أن اكتمل وصار ناضجًا.
أولى هذه المراحل: مرحلة المناظرات والمحاورات التي كانت تُعقَد بين النحاة والفقهاء في حضرة الخلفاء وفي المجالس العامة.
وثانيها: مرحلة إيراد الفقهاء مسائلَ فقهية مبعثرة في كتبهم مخرَّجة على القواعد النحوية.
وثالثها: مرحلة ظهور الكتب المخصصة لتخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية.
يأتي هذا التقسيم اجتهادًا من الباحث، وليس بناءً على تسلسل زمني لهذه المراحل؛ ذلك أن تقسيم مراحل نشأة هذا العلم وَفْق التسلسل الزمني، يَستلزم فصلًا تاريخيًّا بينها؛ كي تتحدَّد وتتَّضح من بعضها، وهذا أمر عسير جدًّا؛ إذ إن هذه المراحل متداخلة جدًّا فيما بينها، ولا يمكن فصلها؛ لأنه في الوقت الذي كانت تُعقَد فيها المناظرات بين العلماء، كان هناك فقهاء يُضمِّنون كتبَهم بعضَ المسائل الفقهية المخرجة على القواعد النحوية، فعلى حين دارت المنازعات والمناقشات بين الكسائي وأبي يوسف، كان محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) يُضمِّن كتابه (الجامع الكبير) مسائلَ فقهية مخرَّجة على القواعد النحوية، وفي الوقت الذي كان النووي (ت676هـ) يُضمِّن كتابَيْه (الروضة، والمجموع)، وابن شاس (ت 616هـ) يُضمِّن كتابه (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة)
- مسائل فقهية مخرَّجة على القواعد النحوية، كان ابن العربي (ت 543هـ) قد ألَّف كتابه (ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين)؛ لذا لَمَّا رأى الباحث صعوبة الفصل بين مراحل نشأة هذا العلم، اجتهد وقسَّمها هذا التقسيم؛ بُغية وضع تصوُّر شامل لمراحل نشأة وتطوُّر علم تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية.
المرحلة الأولى: المناظرات والمحاورات التي كانت تُعقَد بين النحاة والفقهاء في حضرة الخلفاء وفي المجالس العامة:تَذكُر كتبُ الطبقات والتراجم والأدب أخبارًا كثيرة عن تلك المحاورات والمناظرات التي كانت تُعقَد في قصور الخلفاء والمجالس العامة بين النحاة والفقهاء، فقد كان النحاة يُخرِّجون فيها الكثير من المسائل الفقهية على القواعد النحوية، ومن أمثلة ذلك: المناظرة المعروفة التي دارت بين الكسائي (ت 189هـ)، وأبي يوسف (ت 182هـ) تلميذ أبي حنيفة في حضرة هارون الرشيد، وكان أبو يوسف يُقلل من قيمة النحو والنحاة؛ يقول الزُّبيدي (ت379هـ): "دخل أبو يوسف القاضي على الرشيد وعنده الكسائي يُحدثه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد سعِد بك هذا الكوفي وشغَلك، فقال الرشيد: النحو يَستفرغني؛ لأنني أستدلُّ به على القرآن والشعر، فقال أبو يوسف: إن علم النحو إذا بلَغ فيه الرجل الغايةَ صار معلِّمًا، والفقه إذا عرَف الرجل منه جملةً صار قاضيًا، فقال الكسائي: أنا أفضل منك؛ لأني أُحسن ما تُحسن، وأُحسن ما لا تُحسن، ثم التفتَ إلى الرشيد، وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يَأْذَنَ له في جوابي عن مسألةٍ من الفقه، فضحِك الرشيد، وقال: أبلغتَ يا كسائي إلى هذا، ثم قال لأبي يوسف: أَجِبْه، فقال الكسائي: ما تقول لرجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخَلتِ الدار، فقال أبو يوسف: إن دخَلت الدارَ طُلِّقتْ، فقال الكسائي: خطأٌ، إذا فتَحت (أن) فقد وجَب الأمرُ، وإذا كسَرت فإنه لم يَقَع الطلاق بعدُ، فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو"[1].
فالكسائي يذكر أن فتح الهمزة دليل على وقوع الطلاق؛ ذلك أنَّ (أنْ) مفتوحة الهمزة مصدرية، فهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مجرور بلامٍ محذوفة، والتقدير: (أنت طالق لدخولك الدارَ)، فكأنه علَّق طلاقها من قبلُ على دخول الدار، فلما دخلت الدارَ وقع الطلاق، أما كسر الهمزة فيدل على أن (إن) شرطية، والطلاق موقوف على شرطٍ، فإذا وقع الشرط وقع الطلاق، ومِن ثَمَّ فالطلاق لم يقع بعدُ، وقد جعلت هذه المسألة أبا يوسف يُعيد النظر في أهمية النحو والنحاة، ويدرك تمامًا أن النحو لا يَنفك على الفقه، وأن كثيرًا من الأحكام الفقهية متوقف على النحو، فكسرُ همزة (إن) وفتحُها، أدَّى إلى تغيير حكمٍ فقهي في باب كبير من أبواب الفقه، وهو باب الطلاق.وقد ذكر ابن هشام (ت 761هـ) أن الرشيد كتب ليلةً إلى القاضي أبي يوسف يسأله عن قول القائل:
فإنْ تَرفُقي يا هندُ فالرِّفقُ أَيْمَنُ
وإنْ تَخْرَقي يا هندُ فالخُرْقُ أَشْأمُ

فأنتِ طلاقٌ والطلاقُ عزيمةٌ
ثلاثٌ ومَن يَخْرَقْ أَعَقُّ وأَظْلَمُ
فقال: ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث وإذا نصبها؟ قال أبو يوسف: فقلت: هذه مسألة نحوية فقهية، ولا آمَنُ الخطأَ إن قلت فيها برأيي، فأتيت الكسائيَّ وهو في فراشه فسألتُه، فقال: إن رفَع ثلاثًا طُلِّقَت واحدةً؛ لأنه قال: أنت طلاق، ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث، وإن نصبها طُلِّقت ثلاثًا؛ لأن معناه أنت طالق ثلاثًا، وما بينهما جملة معترضة، فكتبتُ بذلك إلى الرشيد، فأرسل إليّ بجوائز، فوجَّهتُ بها إلى الكسائي[2].
يقول الزجاجي (ت 337هـ): "وكان أبو عمر الجرمي (ت 225هـ) يومًا في مجلسه وبحضرته جماعةٌ من الفقهاء، فقال لهم: سَلوني عما شئتُم من الفقه؛ فإني أُجيبكم على قياس النحو، فقالوا له: ما تقول في رجل سها في الصلاة فسجد سجدتي السهو، فسها؟ فقال: لا شيء عليه، قالوا له: من أين قلتَ ذلك؟ قال: أخذتُه من باب الترخيم؛ لأن المرخَّمَ لا يُرخَّمُ"[3].
كل هذه الأمثلة وغيرها تقف شاهدًا قويًّا على أن علم تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية، كان في نشأته الأولى مجرد مناظرات ومحاورات بين النحاة والفقهاء، لكن الناظر في هذه المناظرات والمحاورات يُدرك مدى حاجة الفقيه إلى النحو؛ إذ إن تغيُّر همزة (إن) من الكسر إلى الفتح قد غيَّر الحكم الفقهي، وكذلك تغيُّر علامات الإعراب، ومِن ثَم راح الفقهاء يذكرون في أثناء كتبهم مسائل فقهية تقوم أحكامها على القواعد النحوية.المرحلة الثانية: إيراد الفقهاء مسائلَ فقهية مبعثرة في كتبهم مخرَّجة على القواعد النحوية:
بعد إدراك الفقهاء حاجتَهم الماسَّةَ للنحو، من خلال ما كان يحدث معهم في مناظراتهم ومحاوراتهم مع النحاة - بدأت جهودهم في تخريج المسائل الفقهية على القواعد النحوية في كتبهم؛ كالجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ)
- الذي يُعد أول مَن ربطَ المسائل الفقهية بأصولها النحوية في باب الأيمان من كتابه هذا - والذخيرة للقرافي (ت 684هـ)، والوجيز للإمام الغزَّالي (505هـ)، وشرحه الكبير للرافعي (ت 623هـ)، والروضة والمجموع للنووي (676هـ)، والمغني والمقنع لابن قدامة (ت 620هـ)، وغيرها من المصنفات الكبيرة والصغيرة داخل المذاهب، وقد ظل هذا النوع من الجهود في هذا الميدان متناثرًا ومبعثرًا في أثناء المصادر الفقهية حينًا من الزمن؛ لذا فإن الناظر في هذه الكتب يُدرك دون معاناةٍ مسائلَ كثيرةً تقوم أحكامها الفقهية على القواعد النحوية
[4].
نماذج من المسائل التي جاءت في بعض كتب الفقه:أولًا: الجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني الحنفي (ت 189هـ):يقول ابن يعيش (ت 643هـ) متحدثًا عن محمد بن الحسن الشيباني: "وهو صاحب الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ) رضي الله عنهما، وذلك أنه ضمَّن كتابه المعروف بـ(الجامع الكبير) في كتاب الأيمان منه - مسائلَ فقه تُبتنى على أصول عربية، لا تتَّضح إلا لِمَن له قدمٌ راسخة في هذا العلم"[5].
يقول محمد بن الحسن: "إذا قال رجل: أي عبيدي ضربتَه يا فلان فهو حر، فاليمين على واحد، فإن ضربَهم متفرقين عُتِق الأول، وإن ضربَهم معًا خُيِّر المولَى في أحدهم، ولا خيار للضارب... ولو قال: أي عبيدي ضربَك فهو حر، فضربوه معًا أو متفرقين، عُتِقُوا"[6].
وقد وجَّه ابن يعيش كلام محمد بن الحسن توجيهًا ذكيًّا، فقال: "فمن مسائله الغامضة أنه إذا قال: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربه الجميع عُتِقُوا، ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضرب الجميع، لم يُعتق إلا الأول منهم، فكلام هذا الحَبْر مَسوق على كلام النحوي في هذه المسألة، وذلك أن الفعل في المسألة الأولى مسند إلى عام وهو ضمير (أي)، و(أي): كلمة عموم، وفي المسألة الثانية خاص؛ لأن الفعل فيه مسند إلى ضمير المخاطب وهو خاص؛ إذ الراجع إلى (أي) ضمير المفعول، والفعل يصير عامًّا بعموم فاعله، وذلك أن الفاعل كالجزء من الفعل، وإنما كان كذلك؛ لأن الفعل لا يَستغني عنه، وقد يَستغني عن المفعول، فكأنه أحد أجزائه التي لا يُستغنى عنها"[7].
ثانيًا: الذخيرة للقرافي المالكي (ت 684هـ):
قال القرافي - تحت عنوان الفصل العاشر: في الحصر -: "وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه بصيغة إنما ونحوها، وأدواته أربع: إنما؛ نحو: إنما الماء من الماء، وتقدُّم النفي قبل إلا؛ نحو: لا تُقبل صلاة إلا بطُهور، والمبتدأ مع الخبر؛ نحو: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ذكاةُ الجنين ذكاةُ أُمِّه) [8]، وتقديم المعمولات؛ نحو: قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5]"[9].
تحدث القرافي عن الحصر وأدواته، وأتى بأمثلة على هذه الأدوات، ومن بين هذه الأمثلة حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ذكاةُ الجنين ذكاةُ أُمِّه)، وهذا الحديث فرع فقهي اختلف فيه الفقهاء، وقد خرَّجه القرافي على قاعدة نحوية، وهو: وجوب حصر المبتدأ في الخبر، فبعد أن ذكر الخلاف الفقهي الذي في المسألة، راح يذكر الأَوجه الإعرابية التي فيها، فقال: "ومَنشأ الخلاف قوله عليه السلام: (ذكاةُ الجنين ذكاةُ أُمه)، يُروى برفع الذكاتين، وهو الأصح الكثير، وبنصب الثانية ورفع الأولى، فعلى الرفع يَحِلُّ بذكاة أُمه؛ لأن القاعدة أن المبتدأ يجب انحصاره في الخبر"[10].
فـ(ذكاة) الأولى مرفوعة؛ لأنها مبتدأ خبره (ذكاة) الثانية، فالذكاتان واحدٌ في المعنى، وتحقيق ذلك قول سيبويه: "واعلم أن المبتدأ لا بد له من أن يكون المبنى عليه شيئًا هو هو"[11]، ومِن ثَمَّ يُستفاد من كلام سيبويه أن المبتدأ هو الخبر في المعنى، وعليه فإن ذكاة الجنين حاصلة بذكاة الأم، أو هي نفسها ذكاة الأم، فيجوز أكل الجنين.وقد ذكر أبو سليمان الخطابي (ت 275هـ) أن بعضًا ممن لا يرون أكل الجنين ذكروا أن ثمة محذوفًا، والتقدير: ذكاةُ الجنين مثلُ ذكاةِ أُمه، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه، وعلى هذا التقدير، فلا يَحِل أكلُ الجنين إلا إذا ذُكِّي مثلَ أُمه، فذكاةُ أُمه لا تُغني[12].
وقد ذكر القرافي أن هناك رواية بنصب (ذكاة) الثانية، ورفع الأولى، وهذه الرواية استدل بها الذين اكتفوا بذكاة الأم، والتقدير: ذكاة الجنين بذكاةِ أُمه، فالنصب على نزع الخافض، أو على الظرفية؛ أي: وقتَ ذكاةِ أُمه، واستدل بها أيضًا الذين لا يكتفون بذكاة الأم، والتقدير عندهم: ذكاة الجنين أن يُذكَّى ذكاةً مثلَ ذكاةِ أُمِّه، وعلى ذلك يجب تذكية الجنين، ولا يُكتفى بتذكية أُمه.فالمتأمل ما سبَق يُدرك أن رواية رفع (ذكاة) الثانية، استدل بها الفقهاء على أن ذكاة الأم ذكاةٌ للجنين؛ لأن المبتدأ والخبر معنًى واحد، واستدلوا بها أيضًا على أن ذكاة الأم لا تُغني عن ذكاة الجنين، والأمر ذاته حصَل في رواية نصب (ذكاة) الثانية، فقد استدلَّ بها الفقهاء على إجزاء ذكاة الأم وعدمه، ومِن ثَمَّ فإن الحكم الفقهي قد تغيَّر تبعًا لتغيُّر علامة الإعراب.ثالثًا: روضة الطالبين للنووي الشافعي (676هـ):
قال النووي: "يُراعى مقتضى اللفظ في هاتين المسألتين ونظائرهما في تناول الماضي والمستقبل أو أحدهما، فإذا قال: لا أَلْبَسُ ما مُنَّ به عليَّ، فإنما يَحنَث بلُبْس ما تقدَّمت المنةُ به بالهبةِ وغيرها، ولا يَحنَث بما يُمَنُّ به فيما بعدُ، وإذا قال: لا أَلْبَسُ ما غزَلته فلانة، فإنما يَحنَث بما غزلتْه من قبلُ دون ما تَغزِله فيما بعدُ، ولو قال: لا أَلْبَسُ ما يُمنُّ به، أو ما تَغزله، حَنِثَ بما تحدث المنةُ به وغزله دون ما سبق، ولو قال: لا ألبس من غزلها، دخل فيه الماضي والمستقبل"[13].
في النص السابق خرَّج النووي فرعًا فقهيًّا على قاعدة نحوية، وهي أن الفعل الماضي إذا وقع صلةً أو صفةً لنكرة عامة، احتمَل المضي، وذكر ابن مالك أنه يحتمل المضي والاستقبال[14]، وقد وافَق أبو حيان (ت 745هـ) ابنَ مالك في أن الفعل الماضي إذا وقع صلةً أو صفةً لنكرة عامة، احتمَل المضي، واشترط وجود دليلٍ لاحتمال الاستقبال، فقال: "والذي يظهر الحمل على المضي لإبقاء اللفظ على موضوعه، وإنما فُهِم الاستقبال فيما مثَّل به من خارج، فإذا ورَد شيء من هذه المسائل وقفنا فيه مع الظاهر؛ حتى يقوم دليل على أنه ماض أُريد به الاستقبال"[15].
ومِن ثَمَّ فإنه لو قال قائل: لا أَلْبَسُ ما غزَلته فلانةٌ، فإنه يَحنث إذا لبِس ما غزَلته فيما مضى، لكنه لا يَحنث إذا لَبِس ما تَغزله في المستقبل؛ ذلك أن الفعل الماضي الواقع صلةً احتمل المضي حقيقةً، ولا يوجد دليل لاحتماله الاستقبالَ، وهذا يطابق قياس أبي حيان، فإذا قيست المسألة وَفْق رأي ابن مالك، فإن الحنث يقع إذا لَبِسَ مما غزَلته فيما مضى أو فيما هو آتٍ، لاحتمال الماضي الواقع صلةً أو صفةً بعد النكرة العامة المضيَّ والاستقبالَ عنده.رابعًا: المقنع لابن قدامة الحنبلي (ت 620هـ):
قال ابن قدامة - في باب الاستثناء في الطلاق -: "وإن قال: أنتِ طالق ثلاثًا، واستثنى بقلبه إلا واحدةً، وقعت الثلاث، وإن قال: نسائي طوالق، واستثنى واحدة بقلبه، لم تُطلَّق"[16].
فابن قدامة هنا يُخرج مسألة فقهية من باب الطلاق على قاعدة نحوية، وهي: الاستثناء من العدد، وقد ذهب النحاة في هذه القاعدة ثلاثة مذاهب:
الأول: لا يجوز مطلقًا، وقد نقَلَه ابن عصفور عن البصريين[17]، وقد علَّلوا عدم الجواز بأن أسماء الأعداد نصوص، والنصوص لا تَقبل التخصيص، إلا إذا كان العدد مما يُستعمل للمبالغة - كالمائة والألف والسبعين - فيجوز؛ رفعًا لتوهُّم المبالغة مجازًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ [العنكبوت: 14]، فهنا استُثْنِي من العدد؛ لئلا يَتوهَّم متوهِّمٌ أن (أَلْف السَّنةِ) جاءت على سبيل المبالغة، فجاء الاستثناء بالخمسين عامًا دفعًا لتوهُّم المبالغة مجازًا، ودليلًا على أن نبي الله نوح مكَث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنةً على التحقيق والوقوع لا المبالغة.
الثاني: الجواز مطلقًا، وهو مذهب ابن الضائع[18].
الثالث: التفصيل بين أن يكون المستثنى عقدًا فلا يجوز؛ نحو قوله: عندي عشرون إلا عشرة، أو غير عقد فيجوز؛ نحو: له عندي عشرة دراهم إلا اثنين[19].
فقد خرَّج ابن قدامة المسألة الأولى: (وإن قال: أنت طالق ثلاثًا، واستثنى بقلبه إلا واحدة، وقعت الثلاث) - على الرأي القائل بعدم جواز الاستثناء من العدد؛ لأن العدد نصٌّ لا يقبل التخصيص، ولا يرتفع بنيَّة الْمُطَلِّق في استثنائه واحدةً.
وفي المسألة الثانية: (وإن قال: نسائي طوالق، واستثنى واحدة بقلبه، لم تُطلَّق)، جاز الاستثناء؛ وعِلة ذلك أن المستثنى منه لفظ وليس عددًا؛ لذا لا يقع الطلاق على مَن استثناها بالنية.ومِن ثَمَّ فإنه بعد عرض هذه النماذجَ، اتَّضح أن هذه الكتب - في أول الأمر وآخره - كتبٌ في الفروع الفقهية، فهي تُدير كثيرًا من المسائل الفقهية على أساس القواعد النحوية، لكنها لا تَنُصُّ في كل فرع فقهي استقرَّ عليه النظر على ما يُقابله من القواعد النحوية التي استقرَّ النظر النحوي عليها، وبذلك انفصَلت الفروع الفقهية عن أساسها الذي انتُزِعت أحكامُها منه، وحُصِرت في كتب الفروع، وكذلك حُصِرت القواعد النحوية في كتب النحو، دون أي رابطٍ بينها وبين تلك الفروع[20].
وقد أقرَّ هذا القول الدكتور رضوان مختار وذكر نتيجته قائلًا: "كان هذا في النهاية عاملًا أساسًا في افتراق الفقه عن القواعد النحوية؛ مما جعل كثيرًا من الباحثين يَستصعبون عملية الربط بين الفروع الفقهية والقواعد النحوية، فكان لزامًا - بعد ظهور هذه الغُربة بين علمين مترابطين - أن يَتفطَّنَ لها النُّبغاء من فقهائنا المجتهدين، ويَعملوا على إعادة البناء إلى أصله، فكان أن بزَغ إلى الوجود العلمي فنٌّ مستقل مزَج بين الأصول والفروع في كُتلة مُوحَّدة، دلَّت على أصالة فقهِنا، ومكانة استمداد قدرته الضاربة في أعماق أصول تراثنا وثقافتنا الخالدة"[21].
المرحلة الثالثة: ظهور الكتب المخصصة لتخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية:في هذه المرحلة ظهرت مؤلفات وكتب مخصَّصة لتخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية، وقد مثَّلت هذه المؤلفات مرحلة نُضوج واكتمال هذا العلم، ومنها:1- رسالة: الادِّكار بالمسائل الفقهية؛ للزجاجي (ت 337هـ):
وهي رسالة صغيرة ذكرها السيوطي (ت 911هـ) في الجزء الثامن من كتابه (الأشباه والنظائر)؛ تحقيق الدكتور عبد العال سالم مكرم، طبعة مؤسسة الرسالة، 1406هـ - 1985م، ص 228 - 244.
وقد ذكر الزجاجي أن هذا الرسالة جمع فيها مسائل ذكرها له أبو بكر محمد بن منصور المعروف بابن الخياط النحوي (ت 320هـ)، ومسائل منثورة جمع بعضها من شيوخه شفاهًا، ومسائل مستنبطة من كتب الفقهاء، كل ذلك جمعه في رسالته هذه، وأضاف إليها ما اتَّصل بها وجانَسها.أنموذج من المسائل:
يقول الزجاجي: "إذا قال لها: إن دخلت الدار وكلَّمتُك، فأنت طالق، فهذه تطلق بوقوع الفعلين جميعًا، ولا تطلق بأحدهما دون الآخر، فإن دخل ولم يُكلمها لم تُطلق، وإن كلَّمها ولم يدخل لم تُطلَّق، وإذا جمع بينهما طُلِّقت لم يُبالِ بأيِّهما بدأ الكلام أم الدخول - وبعد أن انتهى من ذكر الفرع الفقهي راح يخرج عليه القاعدة النحوية - فقال: لأن المعطوف بالواو يجوز أن يقع آخره قبل أوله، ألا ترى أنك تقول: رأيت زيدًا وعمرًا، فيجوز أن يكون عمرو في الرؤية قبل زيد، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43]"[22]، فالمعروف أن الركوع قبل السجود، لكن العطف بالواو يجوز فيه التقديم والتأخير؛ كما قال أبو جعفر النحاس (338هـ): "وأهل العربية يُجيزون في الواو التقديم والتأخير في كل موضع"[23].
وهكذا يَسير الزجاجي في مسائله يَمزُجُ بين النحو والفقه مزجًا يَصعُبُ معه أن تَفصِلَ بينهما، فهو يجعل النحو أصلًا وأساسًا، ويَستلهم قواعدَه، والفقه فرعًا واستنتاجًا[24].
2- ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين واللغويين؛ لابن العربي المالكي (ت 543هـ):
وهو كتاب مفقود، كان ابن العربي يُخرِّج فيه المسائلَ الفقهية على القواعد النحوية، وقد استطاع الدكتور فريد بن عبد العزيز الزامل السليم أن يجمع بعض مسائله من كتب ابن العربي الأخرى، وعلى رأسها: (أحكام القرآن)؛ إذ إن ابن العربي كان كثيرًا ما يُحيل على كتاب (ملجئة المتفقهين) - في كتابَيه (أحكام القرآن)، و(عارضة الأحوذي) - عند تعرُّضه لآيةٍ أو حديثٍ فيهما حكم فقهي مبني على قاعدة نحوية، فيقول: وقد بيَّنَّاه أو حقَّقناه في ملجئة المتفقهين، كل ذلك جاء به الدكتور فريد في بحثٍ له بعنوان: "مسائل كتاب: ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين واللغويين - جمعًا ودراسةً"، وقد نُشِر هذا البحث في مجلة الدراسات اللغوية، المجلد الثامن عشر، العدد الرابع، (شوال - ذو الحجة 1437هـ) (يوليو - سبتمبر 2016م)، ص 97 - 196، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.أنموذج من مسائل الكتاب:في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 4]، قال ابن العربي: "اتَّفقت الأمة على أن الآية لم تأتِ لبيان التحليل في الْمُعلَّمِ من الجوارح الأكلَ، وإنما مَساقها تحليل صيده، وقالوا في تأويله: أُحِلَّ لكم الطيبات وصيد ما علمتُم من الجوارح، فحذَف "صيد" وهو المضاف، وأقام ما بعده وهو المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يكون معناه أُحِل لكم الطيبات، والذي علمتُم من الجوارح مبتدأ، والخبر في قوله: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 4]، وقد تدخل الفاء في خبر المبتدأ؛ كما قال الشاعر:وَقائلةٍ خَولانُ فانْكِحْ فَتاتَهم *** وأُكرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيَا[25]وقد حقَّقنا ذلك في ملجئة المتفقهين"[26].
فابن العربي هنا خرجَّ المسألة الفقهية التي في الآية الكريمة على قاعدتين نحويتين:الأولى: حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ذلك أنه بحذف المضاف - وهو (صيد) - وإقامة المضاف إليه مقامه - وهو كلمة (الجوارح) - أصبح الحكم تحليل صيد الجوارح لا تحليل أكلها.الثانية: دخول الفاء في خبر المبتدأ: ذلك أنَّ (ما) في ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ﴾ موصولة بمعنى (الذي)، وهي مبتدأ خبره جملة ﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾، وقد دخلت الفاء هنا على الخبر؛ تشبيهًا للموصول بالشرط، وقد أجاز النحاة ذلك، وذكروا أن كل مبتدأ دلَّ على الجزاء جاز دخول الفاء في خبره[27].
3- الصعقة الغضبية؛ لنجم الدين الطوفي (ت716هـ):وهو كتاب صنَعه الطوفي؛ انتصارًا للعربية، وبيانًا لفضلها، وردًّا لكيد الكائدين، وقد رتَّب الطُّوفي كتابه على الأبواب الفقهيَّة، ورتَّب هذه الأبواب على ترتيب أبواب الحنابلة في مصنَّفاتهم، ويُعد الباب الرابع في الكتاب هو جوهرة العِقْد، فقد ضمَّنه ثلاثة فصول؛ الفصل الأول: في بيان تأثير الإعراب في القرآن الكريم، والفصل الثاني: في بيان تأثيره في السنة، ثم جاء بعد ذلك بفصل ثالث طويل في ذكر جملة من المسائل الدينية المتفرعة على القواعد العربية، ولم يجعل عنوانًا لها، وقد ذكر أن أكثر المسائل الواردة متفرعة على الكلام في الحروف والأدوات، وقد رتَّب ذلك على أبواب كتاب (المحرر) في الفقه الحنبلي؛ لمجد الدين عبد السلام ابن تيميَّة (ت 652هـ) جَدِّ شيخ الإسلام ابن تيميَّة (ت728هـ)، وأخذ منه بعض المسائل المتعلقة بحروف المعاني؛ مثل: حروف العطف والجر، والاستثناء والشرط، وقد مزَج الطوفي بين النحو والفقه، وذكر بعض المسائل الفقهية الْمُشكلة، وأوجَد لها حلولًا عن طريق النحو[28].
أنموذج من مسائل الكتاب:مسألة التيمُّم: قال تعالى: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ﴾ [المائدة: 6]، في هذه الآية خرَّج الطوفي فرعًا فقهيًّا بناءً على معنى (من) في قوله تعالى: ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ﴾، فراح يذكر أن (من) حرف جر يأتي لمعانٍ؛ منها: ابتداء الغاية، والتبعيض، وبيان الجنس، وزائدة، ومثَّل لكل معنى من هذه المعاني، وذكر خلاف النحاة فيه، وبعد انتهائه من هذا، قال: إذا عرَفت ذلك، فنشأ عن هذا الأصل مسألة فرعية، وهي: أن من شرط صحة التيمم عندنا - أي الحنابلة - كون المتيمَّم به الجامد ذا غبار؛ بحيث يَعلَق باليد به جزءٌ يَصِل إلى أعضاء التيمُّم، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن في رواية، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يُشترط ذلك، حتى لو ضرَب بيديه حجرًا لا ترابَ عليه، أو على تراب نَدِيٍّ لا يَعلَق باليد منه شيء، أَجْزَأَه.ومنشأ الخلاف من الآية أنهم حملوا (من) - في قوله تعالى: ﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ﴾ - على أنها لابتداء الغاية، كأنه قال: ليكن ابتداء الفعل من الأرض، أو ضرب الأرض باليد، وانتهاؤه بالمسح باليد[29].
وعلى ذلك فمَن جعَل (من) في الآية تبعيضية، يرى اشتراط أن يكون المتيمَّم به ذا غبار يَعلَق باليد شيء منه، ومَن رأى (من) لابتداء الغاية لا يَشترط ذلك؛ إذ إنهم اشترطوا مجرد الضرب، ولو لم يَعلَق باليد شيء أصلًا.
4- الكوكب الدري فيما يتخرج على القواعد النحوية من الفروع الفقهية؛ لجمال الدين الإسنوي (ت 772هـ):
الكتاب كما وصَفه الدكتور محمد حسن عواد: "درس عملي جاد للتفاعل المثمر بين علم العربية وبين علوم الشريعة بعامة، وعلم الفقه بخاصة... وهو يجمع بين دَفَّتيه الفروع الفقهية منزَّلة على القواعد النحوية"[30].
ويُمثِّل الكوكب بحقٍّ قِمةَ نُضج علم تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية، ويتألف الكتاب من ثمان وخمسين ومائة مسألة، موزَّعة على سبعة وعشرين فصلًا وخمسة أبواب، مرتبة حسب أبواب النحو لا الفقه، يبدأ المؤلف في كل مسألة بذكر القاعدة النحوية، ثم يَشرَع في تنزيل الفروع الفقهية عليها وَفْق المذهب الشافعي، فهو يذكر أولًا المسألة النحوية مهذَّبة مُنقحة، ثم يُتبعها بذكر جملة ما يتفرَّع عليها من الفروع الفقهية؛ يقول: "فأذكر المسألة الأصولية كما هو في التمهيد، أو النحوية كما هو في الكوكب الدري - مهذَّبة منقَّحة، ثم أُتبعها بذكر جملة ما يتفرَّع عليها؛ ليكون ذلك تنبيهًا على ما لم أذكره"[31].
أنموذج من مسائل الكتاب:
يقول الإسنوي: "مسألة: الضمير إذا سبقه مضاف ومضاف إليه وأمكن عوده على كل منهما على انفراد؛ كقولك: مررتُ بغلام زيدٍ فأكرمتُه، فإنه يعود على المضاف دون المضاف إليه؛ لأن المضاف هو المحدَّث عنه، والمضاف إليه وقع ذكرُه بطريق التَّبع، وهو تعريف المضاف أو تخصيصه؛ كذا ذكره أبو حيان في تفسيره وكتبه النحوية، وأبطل به استدلال ابن حزم ومَن نحا نحوه - كالماوردي في (الحاوي) - على نجاسة الخنزير بقوله تعالى: ﴿ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [الأنعام: 145]؛ حيث زعموا أن الضمير في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُ ﴾ يعود إلى الخنزير، وعلَّلوه بأنه أقرب مذكور"[32].
وقد خرَّج الإسنوي على هذه القاعدة فرعًا فقهيًّا، هو: إذا قال رجل: له عليَّ ألفُ درهمٍ ونصفُه، فالقياس هنا أن يَلزمه ألفُ وخمسمائة درهمٍ، لا ألفُ ونصفُ درهمٍ، ذلك أن الضمير هنا يعود على المضاف (ألف)، لا المضاف إليه درهم، وإذا قِيست المسألة وَفْق استدلال ابن حزم الذي يرى أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، فإنه يلزمه ألفُ درهمٍ ونصفُ درهمٍ.5- تمهيد القواعد الأصولية والعربية لتفريع فوائد الأحكام الشرعية؛ لزين الدين علي بن أحمد الشامي العاملي الشيعي، المشهور بـ (الشهيد الثاني) (ت965هـ):كتاب التمهيد كنز ثمين، جمع الأصول وقواعد اللغة العربية والفقه، وخصوصًا المسائل النادرة التي لم يتعرض لها العلماء... وأعجب ما في هذا الكتاب الإيجاز الموجود فيه، حتى قيل: إن العاملي لَمَّا رأى كتابي التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، والكوكب الدري - وكلاهما للإسنوي الشافعي، أحدهما في القواعد الأصولية، والآخر في القواعد العربية وما يتفرع عليها، وليس لأصحابنا مثلهما - ألَّفَ هذا الكتاب، وجمع ما في الكتابين في كتاب واحد على نحو يثير الدهشة[33].
يقول العاملي: "رتَّبنا هذا الكتاب الذي قد استخرنا الله تعالى على جمعه وترتيبه على قسمين:أحدهما: في تحقيق القواعد الأصولية، وتفريع ما يلزمها من الأحكام الفرعية.ثانيهما: في تقرير المطالب العربية، وترتيب ما يناسبها من الفروع الشرعية.واخترنا من كل قسم منهما مائة قاعدة متفرقة من أبوابه، مضافة إلى مقدمات وفوائد، ومسائل يتم بها المقصود من غرضنا به؛ ليكون ذلك عونًا لطالب التفقه في تحصيل ملكة استنباط الأحكام من الموارد، ورد الفروع إلى أصولها"[34].
وقد خرَّج العاملي فروعَ كتابه الفقهية على مذهب الشيعة الإمامية، واستعان بمذاهب أهل السنة، ولا سيما المذهبُ الشافعي؛ فقد أكثر النقل عنه، ونقل كثيرًا من آراء الإسنوي النحوية والفقهية، وتأثَّر به أيَّما تأثُّرٍ، وأقرَّ له بالتقدُّم والسَّبْق في علم تخريج الفروع على الأصول.أنموذج من مسائل الكتاب:مسألة: جواز إيقاع المصدر موقع فعل الأمر:يجوز إيقاع المصدر موقع فعل الأمر؛ كقولك: ضربًا زيدًا، أي اضرب زيدًا، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ [محمد: 4]؛ أي: فاضربوا رقابهم.ومن فروع الفقهية لهذه القاعدة: أن يقول لوكيله: إعتاق عبدي وبيع داري، ونحو ذلك، قاصدًا به الأمر، وكذا ما أشبهه من العقود والإيقاعات من الطلاق وغيره، ومقتضى القاعدة وقوع الوكالة بذلك، وهذا إنما يتم لو لم يَحتمل اللفظ سواه، وإلا كان كالمشترك في توقُّفه على القرينة في الدلالة على أحد معنييه[35].
فإذا لم يحتمل اللفظ معنًى آخر كان قولك: إعتاق عبيدي وبيع داري، يفيد الأمر تمامًا مثل قولك: أعتِقْ عبيد وبِعْ داري، فإذا احتمل اللفظ معنًى آخر، تُوقِّفَ في اللفظ على القرينة الدالة على أحد المعنيين: معنى الأمر المستفاد من اللفظ، أو المعنى الآخر الذي قد تُكسبه القرينةُ أو السياقُ اللفظَ.وقد سار العاملي يُخرج الفروع الفقهية - على مذهب الشيعة الإمامية، مع الاستعانة بمذاهب أهل السنة - على القواعد النحوية، منتهجًا نهجَ الإسنوي، وسائرًا على دَرْبه، وناقلًا عنه.
[1] طبقات النحويين واللغويين؛ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دون تاريخ، دار المعارف القاهرة - مصر، ص 127.
[2] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب؛ تحقيق د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، ومراجعة الأستاذ سعيد الأفغاني، ط1، 1419هـ - 1998م، دار الفكر، بيروت - لبنان، ص 65، وقد ذكر عبد القادر البغدادي (ت 1093هـ) هذه الأبيات من طريق رواية ذكرها أبو علي الفارسي عن الشيخ أبي الحسن الكَرْخِيِّ عن يحيى بن الحَريش الرَّقِّيِّ، قال: أرسلني الكسائي إلى محمد بن الحسن أسأله عن الجواب في هذه الأبيات - فذكر الأبيات - قال: "فأتيت محمد بن الحسن بالأبيات، فقال: إن نصب الثلاث فهي ثلاث تطليقات، وإن رفع الثلاث فهي واحدة، كأنه أراد أن يخبر أن عزيمة الطلاق ثلاث؛ قال: فرجعت إلى الكسائي فأخبرته بقول محمد، فتعجب من فطنته"؛ خزانة الأدب؛ تحقيق الشيخ عبد السلام هارون، ط 4، 1418 هـ - 1997م، مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، ج3، ص 461، وعلى ذلك فالقارئ روايةَ أبي علي الفارسي يتضح له أن يحيى بن الحَريش الرَّقِّيِّ قد أُرسِل مِن قِبَل الكسائي إلى محمد بن الحسن الذي أجاب، خلافًا للرواية التي ذكرها ابن هشام التي تذكر أن الكسائي هو الذي أجاب بعد مجيء أبي يوسف إليه.
[3] مجالس العلماء؛ تحقيق الشيخ عبد السلام هارون، ط 3، 1420هـ - 1999م، الناشر مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، ص 192.
[4] مقدمة تحقيق زينة العرائس، للدكتور رضوان مختار ص 49؛ بتصرف.
[5] شرح المفصل؛ قدَّم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إميل بديع يعقوب، منشورات محمد علي بيضون، ط 1، 1422هـ - 2001م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ج 1، ص 60.
[6] الجامع الكبير؛ تحقيق رضوان محمد رضوان، عُنيت بنشره لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد - الهند، ط 1، 1365هـ، ص 39.
[7] شرح المفصل، ج 1، ص 60.
[8] رواه الترمذي في سننه، كتاب الأطعمة، باب: ما جاء في ذكاة الجنين، ج2، ص 72، حديث رقم 1476، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه، ج2، ص 1067، حديث رقم 3199.
[9] الذخيرة؛ تحقيق الدكتور محمد حجي، ط 1، 1994م، دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان،ج1، ص 64.
[10] السابق نفسه، ج4، ص 129.
[11] الكتاب؛ تحقيق الشيخ عبد السلام محمد هارون، ط3، 1408 هـ - 1988م، الناشر مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، ج2، ص 127.
[12] معالم السنن؛ تصحيح محمد راغب الطباخ، ط1، 1351هـ - 1932م، المطبعة العلمية بحلب - سوريا، ج4، ص 282.
[13] روضة الطالبين؛ تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، طبعة خاصة، 1423هـ - 2003م، دار عالم الكتب، السعودية، ج8، ص 51.
[14] التسهيل؛ تحقيق وتقديم محمد كامل بركات، ط1، 1388هـ - 1968م، دار الكاتب العربي، القاهرة - مصر، ص 6.
[15] التذييل والتكميل؛ تحقيق الدكتور حسن محمود هنداوي، ط1، 1429هـ - 2008م، دار كنوز إشبيليا - السعودية، ج1، ص 114.
[16] المقنع؛ دون تحقيق، ط1، 1399هـ - 1979م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ص 235.
[17] ارتشاف الضرب؛ لأبي حيان الأندلسي؛ تحقيق وشرح ودراسة رجب عثمان محمد، مراجعة رمضان عبد التواب، ط1، 1418 هـ - 1998م، مكتبة الخانجي القاهرة - مصر، ج3، ص 1499.
[18] السابق نفسه، ج3، ص 1499.
[19] السابق نفسه، ج3، ص 1499.
[20] مقدمة تحقيق الكوكب الدري؛ للدكتور محمد حسن عواد، ص 146، بتصرف.
[21] مقدمة تحقيق زينة العرائس، ص 49، 50.
[22] الأشباه والنظائر، ج8، ص 234، 235.
[23] إعراب القرآن؛ وضع حواشيه وعلَّق عليه عبد المنعم خليل إبراهيم، ط1، 1421هـ، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ج4، ص 98.
[24] دور النحو في العلوم الشرعية؛ للدكتور جمال عبد العزيز أحمد، رسالة ماجستير غير منشورة، إشراف الدكتور أمين علي السيد، كلية دار العلوم - جامعة القاهرة، 1410هـ - 1989م، ص 460.
[25] البيت من الطويل، وهو غير منسوب في كتاب سيبويه، ج1، ص 139، وشرح أبيات سيبويه للسيرافي، ج1، ص 273.
[26] أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه محمد عبد القادر عطا، ط3، 1424هـ - 2003م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ج2، ص 37.
[27] الكتاب؛ لسيبويه، ج 1، ص 139 وما بعدها.
[28] الصعقة الغضبية؛ تحقيق الدكتور محمد بن خالد الفاضل، ط1، 1417هـ - 1997م، مكتبة العبيكان، الرياض - السعودية، ص 187، ودور النحو في العلوم الشرعية، ص 466.
[29] الصعقة الغضبية، ص 441، 442.
[30] مقدمة تحقيق الكوكب الدري، ص 145، 146.
[31] مقدمة المؤلف في الكوكب الدري، ص 189.
[32] الكوكب الدري، ص 202، 203.
[33] مقدمة تحقيق تمهيد القواعد الأصولية والعربية؛ لمجموعة من المحققين التابعين لمكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان، المشهد المقدسة، قم - إيران، ط1، 1416ق - 1374ش، الناشر مكتب الإعلام الإسلامي، ص 20.
[34] السابق نفسه، ص 24، 25.
[35] السابق نفسه، ص 370.