من محاسن الدين الإسلامي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:
«فإن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الأديان وأفضلها، وأعلاها وأجلُّها، وقد حوى من المحاسن والكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة، ما يشهد لله تعالى بالكمال المطلق وسعة العلم والحكمة، ويشهد لنبيه أنه رسول الله حقًّا، وأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

فهذا الدين الإسلامي أعظم برهان، وأجل شاهد لله بالتفرد بالكمال المطلق كله، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة والصدق؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].

ومحاسن الدين الإسلامي عامة في جميع مسائله ودلائله وفي أصوله وفروعه، وفيما دل عليه من علوم الشرع والأحكام، وما دل عليه من علوم الكون والاجتماع»[1].

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ»؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَجِبْ» [2]، وفي رواية لأبي داود قال: «لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً»[3].


وفي رواية عند أحمد أنه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ نَخْلًا، وَشَجَرًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ، أَيَسَعُنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: «أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ»؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأْتِهَا»[4].

في هذا الحديث بيان واضح أنه لا رخصة للأعمى في ترك الجماعة حتى في حال أنه لم يجد قائدًا يقودُه إلى المسجد، وقد يرى من لم يوفَّق لفَهم الحكمة من ذلك، أن فيه شيء من الشدة، والحق أن هذا من محاسن الدين الإسلامي وحكمه العظيمة،

ومن رحمة الله تعالى أنه أرسل رسوله رحمة لأمته وللعالمين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

وقال تعالى ممتنًّا على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

أقول: أرأيت لو أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص له أن يصلي في البيت كم من المنافع ستفوت عليه التي سيحصل عليها إذا حضر المسجد، سوى الفضل والأجر في صلاة الجماعة، فسلام ولقاء الإخوان وسماع الموعظة، والجلوس في حضر الذكر، وغير ذلك كثير جدًّا، فكيف سيعوض ذلك إذا صلى في بيته، وقد امتلأ التاريخ الإسلامي بمن ابتلاهم بفقد البصر، وقد أطبقت شهرتهم الأرض علمًا وعملًا، ودعوة وأمرًا بالخير، ونهيًا عن الشر، فهل سيكون لهم هذه الشهرة، وهل سيُنتفع بهم هذه المنافع العظيمة لو رُخص لهم وأخذوا بالرخصة، ولزيادة الإيضاح، فإنه لو رخَّص لهذا الأعمى أن يصلي في بيته، فسيكون حاله بين أمرين:
الأول: أن يقعد في بيته فلا يزور صديقًا، ولا يصل رحمًا، ولا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يحضر دعوة، ولا يقضي لنفسه ولا غيره غرضًا من أغراض الدين أو الدنيا؛ لأنه سيقول: كيف أفعل كل ذلك وأدع الحضور لصلاة الجماعة، وهي أسهل من بعض هذه الأفراد المذكورة، وحينئذ يكون قد حكم عليه بالموت وهو حي.

الثاني: أن يذهب ويجيء ويقضي كل ما يحتاجه من أموره الخاصة أو العامة، وهو في هذه الأحوال يمر على المساجد في ذهابه وإيابه، فهل من العقل والحكمة أن يصلي في بيته بدعوى أنه رُخِّصَ له والحال ما ذكر؛ بهذا يتبيَّن ويتضح غاية الوضوح أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى أن يحضر صلاة الجماعة ولم يرخِّص له في تركها بسبب العمى، هو عين الحكمة وكمال المصلحة، ودفع لمفاسد كثيرة تحصل بتركه الصلاة مع الجماعة.

فثبت أن هذا من محاسن الدين الإسلامي التي لا تُحصى كثرة، يعرفها ويدركها من تأمَّلها وفقِه في دين الله، ونفعه ما نفع الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] الدر المختصرة في محاسن الدين الإسلامي للشيخ ابن سعدي رحمه الله ص389.
[2] برقم 653.
[3] برقم 552، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (1 /11) برقم 516.
[4] (24 /245) برقم 15491، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.
______________________________ ______________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي