مولده ـ نشأته
ولد الشيخ رحمه الله في حي “دُخنة” من مدينة الرياض في شهر الله المحرم سنة (1311هـ)، نشأ هذا المولود في
بيت علم وفضل، فأبوه وأعمامه أهل علم ودعوة وجهاد.
وصَف ذلك الشيخ عبد الله بن بسام فقال:
“كان مولده في بيت علم وفضل وزعامة دينية، فنشأ على عادة أهله وآبائه محبًا للعلم طموحًا إلى الفضل”.
وينشأ الناشئ يقتبس من أخلاق وأوصاف مَن حوله؛ فوالد الشيخ هو الشيخ الورع “إبراهيم ابن عبد اللطيف” قاضي مدينة الرياض، وله رسائل وفتاوى كان رحمه الله متميزًا بالعدل الظاهر في قضائه ومقابلة الخصوم، وكان ناظمًا للشعر مجيدًا له كأبيه “عبد اللطيف”.
وأما أعمام الشيخ محمد فأكبرهم الشيخ “عبد الله بن عبد اللطيف” عالم نجد بعد أبيه وكذلك بقية أعمامه كانوا أهل علم وفضل كالمشايخ “محمد بن عبد اللطيف” و”عبد العزيز” و”عبد الرحمن” و”عمر”. ولهم أخبار وأحوال كالعبير رحيقًا، وصَفهم الواصفون بنعوت أشبهوا بها الأوائل سمتًا وهَديًا وعبادة وصلاحًا وعلمًا، رحمهم الله ووفَّق ذرياتهم.

ولما بلغ قريبًا من السادسة عشرة مرض بالرمد في عينيه، وطال معه إلى قرابة سنة، إلى أن كفَّ بصره.. عوضه الله الجنة.
نشأ الشيخ في هذه الأسرة فلا غرو أن أثرت فيه، وقد نهل منها واحتذى حذوها، فتوجه بتوفيق الله من أثر هذه البيئة والمجتمع الذي حوله إلى العلم قابسًا من عقل ذوي العقل، وتُقى ذوي التُقى، وغيرة ذوي الغيرة؛ وكلهم ذاك الرجل. فطلب العلم على قاعدة الدين والعمل والعقل والغيرة لله فكان ذلك معلمًا بارزًا لنبوغه وتهيُّؤه للقيادة والريادة .
بعد هذا الأساس الأول لمن يريد طلب العلم الشرعي بحق ـ أعني حفظ القرآن ـ شرع يقرأ على مشايخه فكان أولهم والده الشيخ إبراهيم، وعمه علامة نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والعلامة محدِّث نجد الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والعلامة الشيخ حمد بن فارس وغيرهم كثير.


أخلاقه وصفاته:
كان يتمتع بأخلاق عالية، جعلت له مكانة في قلوب الخاصة والعامة. ولقد وهبه الله صفات كثيرة كانت سبباً في نبوغه . فمن صفاته البارزة حافظته النادرة التي كانت سبباً لتحصيله ثروة علمية واسعة. فهو يحفظ كثيراً من المتون، والقصائد المطولة، وكان وهو في أخريات حياته يصف مشاهداته قبل أن يكف بصره مع أنه عمي في السادسة عشرة من عمره. وكان يحفظ المتن للقراءة الثالثة، وربما الثانية، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأ عليه، ثم يملي ما يراه مستحضراً كل ما فيها من الجزئيات. ولم يكن غريباً منه أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ذاكراً رقم الصفحة أحياناً. ومما كان يتميز به طهارة القلب، فكان لا يحمل ضغينة على أحد أساء إليه، بل كان ديدنه الصفح والتجاوز، بل والمحافظة على سمعة من آذاه، والدفاع عنه من أن ينال بباطل. ولا غرو في ذلك، فهذه أخلاق العلماء والعظماء. لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب فهو من أولى من يأخذ بقوله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وكان على قدر عظيم من التأمل، وبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي تجد تباعاً، ولم يكن يتعجل الأمر حتى يمعن في الدرس، والتأمل، والنظر في عواقب الأمور. أما شجاعته فحدث ولا حرج فلقد كان وافر الشجاعة، قوي الشكيمة، لا يخشى أحداً، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يتردد في إعلان الحق والصدع به أيَّاً كان المخاطب به. ودافعه في ذلك مخافة الله، والحرص على إبراء الذمة، فمكانته تحتم عليه نبذ التخاذل، وله في ذلك مواقف محفوظة. ومن السمات البارزة فيه ما آتاه الله من هيبة في نفوس الناس، وهو أمر يرجع إلى إجلاله، وتوقيره، ومعرفة الناس بصرامته في الحق، ولهذا يحسب محدثه حساباً شديداً إذا أراد أن يكلمه، خشية أن يزل بكلمة. وكان مع ذلك أنيساً عند مخالطته ألوفاً لمعاشرته، لا يتصف بشيء من الغلظة أو الجفاء أو الفظاظة وكان يحسن الفرق بين مجالس الجد والعمل ومجالس الراحة والإجمام. ومن عظيم أخلاقه أنه كان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون وعرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا. وكان متورعاً متعففاً عن أخذ ما ليس له، أو ما يرى فيه شبهة، وكان حريصاً على أن لا يدخل نفسه في مداخل مشتبهة، ولم يعهد عنه أنه اشتغل بالبيع أو الشراء، لا بالاستقلال ولا بالمشاركة. وكان معروفاً بالبذل والسخاء وبالأخص ما يتعلق بإكرام العلماء والقضاة وطلاب العلم، وكان لا يترك مناسبة مهمة إلا أقام لها الوليمة الكبيرة ودعاهم إليها. ج. خشيته لله: كان من أكثر الناس خشية لله، واستحضاراً لعظمته عز وجل فكثيراً ما يسمع وهو يلهج بذكر الله، واستغفاره، ثم يرى وعيناه تغرورقان بالدموع، وذلك حينما يكون في موقف مناجاة لله، أو حين يسمع بعض ما يحرك القلوب. قال الشيخ محمد بن قاسم: "وكان ذلك يتجلى كثيراً فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواظب عليها في إقامته وسفره، وقد لا يعرف هذا كثير من الناس الذين لم يتصلوا به، وقد صحبته زمناً طويلاً، وهو يقوم ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك"

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فكثيراً ما كان يبكي إذا ذَكَره، وقال في بعض اللقاءات المسجَّلة المشهورة وهو يبكي: كان من أعلم الناس في زمانه، ومن أحسنهم تعليماً وتفقيهاً وعناية بالطالب وإلقاء الأسئلة وحرصاً على استنباط ما عند الطالب، وبيان الجواب، والتنبيه على الخطأ، وكان مَهيباً رحمه الله، قوياً في التعليم، وكان حريصاً على حفظ الطالب وتأديبه بالكلام الذي يناسب إذا حاد عن الطريق السوي، وجزاه الله خير الجزاء، ورحمه رحمة واسعة، له فضل كبير علينا -رحمة الله عليه- وعناية عظيمة بالطالب بتفقيهه وتوجيهه في جميع الأوقات، رحمه الله، وأصلح الله ذريته وإخوانه، واللهِ لا أعلم رأت عيناي قبل ذهاب البصر، ولا وقع في قلبي من هو أحسن منه تعليماً وأكثر فقهاً رحمة الله عليه.

• وقال أيضاً في كتابه تحفة الأعيان: وكان رحمه الله باذلاً وسعه - من حين مات عمُّه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عام (1339هـ) - في التعليم والتوجيه والفتوى، وكان لديه حلقات كبيرة في مسجده وبيته في أنواع الفنون، وتخرَّج عليه جمعٌ كثير من العلماء من القُضاة وغيرهم، وكان ذا غيرة عظيمة، وهمَّة عالية رفيعة، وكان كهفاً منيعاً لأهل الحق من دعاة الهدى، وكان ذا حزم وصبر وقوة في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
ثم تولَّىٰ رئاسة القضاء، والنظر في مشاكل الدولة والمسلمين، فلم يألُ جهداً في إجراء الأمور على السداد والخير، وبذل الوسع في حل المشاكل وإيصال الحق إلى مستحقه.
وقد أسندت إليه الحكومة الفتوىٰ، فقام بأعبائها مع قيامه برئاسة القضاء، وكان قد قسم وقته بين محل رئاسة القضاء ودار الإفتاء، علاوة على ما ينظر فيه من المشاكل في البيت.
وكان يعتني بالدليل، ويرجِّح به ما اختلف فيه العلماء من المسائل، وكان ذا حكمة في توجيه الطلبة وتعليمهم، وكان يرفق بهم في محل الرفق، ويقوى عليهم في محل القوة، ويوجههم إلى الآداب الصالحة والأخلاق المرضية
لم يتهيب -رحمه الله- من ريادة أمر يرى أن فيه مصلحة للمسلمين والإسلام . بل إن كل ما يعزز رسالة الإسلام في النفوس تجد أن للشيخ مبادرة في تشجيعه والاهتمام به. ومن مبادراته -رحمه الله- إنشاء المكتبة السعودية وإصدار مجلة الدعوة السعودية وهذه الأخيرة ريادة تنم عن وعي وإدراك ورؤية مستقبلية لما سيكون للإعلام من أهمية في حياة الناس أجمعين.

له رحمه الله جهود كثيرة فى بيان حقيقة توحيد الانبياء والمرسلين فقد شرح رحمه الله كثيرا من رسائل الامام محمد ابن عبد الوهاب وكتب كثير من المسائل والرسائل فى ابواب التوحيد وابواب الايمان- وجمعها الامام عبد الرحمن ابن قاسم وأُدرجت مع مجموع فتاواه ورسائله
رأى الشيخ محمد ابن ابراهيم أن تعليم أصول الشريعة وما يلحق بها من علوم ينبغي أن تواكب ما يجري من تحديث في أنحاء المملكة، فانبرى إلى إنشاء معاهد علمية شرعية.. هي نواة لأكبر جامعة إسلامية في المملكة العربية السعودية مهمتها تخريج القضاة والدعاة ومعلمي الشريعة واللغة العربية، والمشتغلين في الحسبة وما يلحق بها... واستعان في ذلك بكفاءات متميزة استطاعت بعد توفيق الله إلى السير بهذه المعاهد لتتبوأ الصدارة والريادة في سلم التعليم في المملكة
جهوده رحمه الله في مسألة الحكم بما أنزل الله وحكم من أزاح الشريعة بقوانين وضعية
مسألة الحكم بما أنزل الله هي من أعظم مسائل الإيمان، وهي سبب سعادة الدارين. وضدُها وهو الحكم بغير ما أنزل الله بل بأفكار البشر أو ما أوحته إليهم شياطين الجن والإنس من القوانين الوضعية أو غيرها، أعظم المسائل التي سبّبت شقاء البشر وضعْف ووهن الأمة الإسلامية منذ قرون. فإذا ما أرادت الأمة إصلاح وضعها ورفع الظلم والذل والفقر والدين عنها فبالحكم بما أنزل الله لا بغيره.
وكان للشيخ جهود عظيمة في هذا الجانب خاصة، وقد أوْلاه عناية كبرى. وفي جهوده في هذا الجانب معرفة كيف يجب أن يكون العلماء الربانيون، وكيف يجب أن يصدعوا بالحق، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، وكيف يستندون في ردهم على الكتاب والسنة والمعقول الصريح.
يقول رحمه الله:
“إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾”.
تلامذته
لقد كان الشيخ رحمة الله عليه أمةً في قلب رجل، وكان جامعةً متعددة الكليات فلا غرو ـ إذن ـ أن تخرَّج به المحدث والفقيه والأديب واللغوي، والقاضي والداعي، صدروا عن رجلٍ واحد لأنه ـ بتوفيق الله له ولهم ـ بذَل علمه لهم ليله ونهاره؛ وهكذا فليكن الرجال.
ولقد تلمذ للشيخ عدد لا يحصون كثرة، تولوا التدريس في المعاهد والكليات، وولوا القضاء، وولوا الفتيا، وولوا التوجيه والإرشاد، وولوا الدعوة والإصلاح.. هؤلاء لا يمكن أن يُحصَوا كثرة ، ولا يمكن تعدادهم جميعًا؛ وإن كان قد أحصي من أبرزهم قرابة مائة وتسعين تلميذًا.
لكن نذكر هنا بعض أكابر طلبته، كإشارة لا حصرٍ، التسعة الأول على ترتيب العلامة الشيخ ابن بسام لهم:

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز رحمه الله.
عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله.
عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله.
الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، الداعية المشهور، رحمه الله.
عبد العزيز بن ناصر الرشيد، رحمه الله.
عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله.
صالح بن غصون رحمه الله.
صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله.
وغيرهم كثير، وقد وصفه الشيخ “عبد الفتاح أبو غدة الحلبي” في (فقهاء معاصرون) بقوله: “كان الشيخ أمة في جسد رجل، وكان مسجده جامعة في قلب نجد ، ملأت بلاد نجد وغيرها علمًا، وأنارتها بعلوم الشريعة، قبل أن تُبنى مدارس التعليم والمعاهد والكليات والجامعات، التي هي أثر من آثار نهضة الشيخ العلمية رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم والدين والإسلام خيرًا.
مؤلفاته
أملى الشيخ رحمه الله كتبًا ورسائل وفتاوى متنوعة، وكانت حياته مليئة بالتعليم والدعوة والمهمات الكبار التي أنيطت به من فتوى ومتابعة القضاء، وتمييز الأحكام، ومع هذا فقد كان له آثارٌ علمية منها:
1- فتاواه التي طُبعت مع رسائله في ثلاثة عشر جزءًا قام بجمعها وإعدادها للطبع وترتيبها الشيخ محمد بن قاسم أثابه الله، قمتُ بتحقيقها والتعليق عليها، يسَّر الله طبعها.
2- رسائل متنوعة طُبعت في حياته ثم أُدرجت مع مجموع فتاواه ورسائله، ومنها:

الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم.
تحكيم القوانين.
نصيحة الإخوان في الرد على الشيخ ابن حمدان.
الجواب المستقيم في نقل مقام إبراهيم.
كتاب تحفة الحفاظ ومرجع القضاة والمفتين والوعاظ. وهو كتاب في الحديث.

قال الشيخ عبد العزيز بن باز، في كتابه تحفة الأعيان:
“في شعبان من عام (89 هـ) ألَمَّ به رحمه الله مرض في المعدة، ولم يزل به حتى أُدخل المستشفى المركزي بالرياض للفحص والعلاج في أول رمضان، ثم في (4) منه سافر إلى لندن للعلاج، واشتدَّ به المرض هناك، ورأىٰ الأطباء أنه لا مصلحه في إجراء العملية، فرجع إلى الرياض في ليلة الجمعة الموافق (19/9/89هـ) وهو ثقيل جداً وضعيف الشعور، ولم يزل في غيبوبة إلى أن وافته المنية في ضحوة يوم الأربعاء الموافق (24/9/89)، رحمه الله رحمة واسعة.
وكان لمرضه ثم موته رحمه الله الأثر العظيم في نفوس المسلمين في المملكة وغيرها، وقد حزِن المسلمون عليه حزناً عظيماً،
رحم الله الامام محمد ابن ابراهيم