رمضان شهر الجد والعطاء والبذل
د. ناظم المسباح
شهر رمضان غيث مبارك للقلوب، فيه يقوى الإيمان الصادق، الذي يدفع صاحبه لفعل الطاعات والخيرات، ويمنعه من الوقوع في المعاصي والموبقات، فرمضان حياة لأرواح المؤمنين، قال -تعالى-: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:122)، وقال -تعالى-: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج:5).
فلنحمد الله -تعالى- ونشكره على نعمة شهر رمضان المبارك، والشكر يكون بالقلب واللسان والأعمال الصالحة، قال -تعالى-: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ:13).
ولنستغل هذا الموسم العظيم كما أمركم الله -تعالى- ورسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - ولكم قدوة وأسوة بنبيكم، قال -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21).
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم
كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم الليل طول العام، ومعلوم أن القيام في حقه واجب؛ وذلك لما لهذه العبادة العظيمة من أثر عظيم على النفوس والأرواح، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه؛ فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا»! متفق عليه، وعنها قالت: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة: يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عينيَّ تنامان، ولا ينام قلبي» متفق عليه.
هذه هي صفة القيام يصلي إحدى عشرة ركعة طوالا ومن زاد على ذلك فهذا جائز والحمد لله.
مضاعفة العبادة.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يضاعف عبادته في رمضانك فكان يتحرى ليلة القدر، ولاسيما في العشر الأواخر من رمضان، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر» متفق عليه.
الترغيب في القيام
وقال - صلى الله عليه وسلم - مرغبا أمته في هذه العبادة: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، وعن عبدالله بن سلام - رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر» أخرجه مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه .
الكرم والجود
كان - صلى الله عليه وسلم - كريما جوادا، كيف لا؟ وهو من قريش من بني هاشم الذين سادوا الناس بالجود والسخاء والكرم والشجاعة ومكارم الأخلاق، وكان جوده وسخاؤه وكرمه يتضاعف في شهر رمضان، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة» متفق عليه، والريح المرسلة: المطلقة دائمة الهبوب، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - شيئا فقال «لا»، متفق عليه.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -، أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: أكسنيها ما أحسنها! فقال: «نعم» فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم - في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه: فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري.
وعن أنس -صلى الله عليه وسلم - قال: «ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمد يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا» أخرجه البخاري عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه .
فوائد الحديث
ففي هذا الحديث فوائد: منها الحث على الجود في كل وقت والزيادة منه في رمضان، قال - صلى الله عليه وسلم - مرغبا أمته بالبذل والسخاء: «من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي عن زيد بن خالد.
أهل الخير في الكويت
وهذه السنة تطبق من أهل الخير في كويت الخير والعطاء بأسلوب يفرح صدور المؤمنين، فموائد إفطار الصائم تقيمها لجان الخير في كويت الخير في أنحاء المعمورة؛ فجزاكم الله خيرا يا أهل الخير، وأخلف عليكم ما أنفقتم في سبيله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (متفق عليه).
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل» متفق عليه، الفلو هو المهر، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» متفق عليه.
ذكر الله -تعالى
كان - صلى الله عليه وسلم - لا يفتر لسانه من ذكر الله -تعالى- لا في رمضان ولا في غيره، وأفضل الذكر تلاوة القرآن الكريم ومدارسة كتاب الله -عز وجل- مع أمين الوحي جبريل -عليه السلام-، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «كان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن» متفق عليه.
فرمضان شهر القرآن، قال -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة:185)، وقال -سبحانه-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (القدر:1-2)، وليلة القدر في رمضان المبارك.
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» رواه مسلم، وعن عائشة -رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه.
والمراد بالسفرة: الرسل من الملائكة المطيعين الكرام؛ فيكون قارئ القرآن معهم في منازلهم في الآخرة.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب» «متفق عليه»، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.
حق كتاب الله -تعالى
حق كتاب الله -تعالى علينا عظيم؛ فمن حقه علينا:
تعلم قراءته
- أولا: أن نتعلم قراءته كما أمرنا -سبحانه-: {ورتل القرآن ترتيلا} (المزمل:4)، وأن نحفظ منه ما تيسر؛ فإن في حفظه فضلا عظيما، قال - صلى الله عليه وسلم -: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (أخرجه أبو داوود عن عبدالله بن عمرو بن العاص)، وعلينا أن نعلمه أبناءنا وبناتنا.
الاجتهاد في فهمه
- ثانيا: علينا أن نجتهد في فهم كتاب الله -سبحانه- وتدبر آياته كما أمرنا الله -سبحانه وتعالى-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29).
وقال -سبحانه-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82)، وقال -سبحانه-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد:24)، فتعلم قراءة القرآن وحفظه لا يكفي بل لا بد من أن نفهمه كما بينه وفسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون؛ فهم خير من فقه الكتاب الكريم.
العمل بما فيه
علينا أن نعمل بما في كتاب الله -تعالى-، فنحل حلاله، ونحرم حرامه، ونقوم بما أوجب علينا، وأن نحكمه في شؤون حياتنا جميعها الاقتصادية والتربوية، قال -تعالى-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور:51-52).
وقال -تعالى-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 49-50).
فقراءة القرآن وحفظه وفهمه للتبرك والرقية وافتتاح المحافل وقراءته على الأموات فقط دون عمل بما فيه فهذا لا يجدي ولا يعود على أمة الإسلام بالنفع الكامل والعزة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» (مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ).
تبليغه
أن نبلغ ما تيسر منه وفق قدرتنا واستطاعتنا للناس جميعا؛ فهذا الكتاب ليس لنا فقط بل هو للناس جميعا. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف:158)، وقال -سبحانه- آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ما أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67).
ومدح -سبحانه- مبلغي رسالته إلى خلقه قائلا: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب:39)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية...» أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما» (رواه مسلم).