وسط ظلام كونيّ داكن ذاقتْ فيه الأممُ الأمَرّين، بزغ نور الإسلام فوق جزيرة العرب، فأشرق في مكة فجْرٌ جديد، إذ أذِن الله تعالى بإخراج الناس من ظلامات الشرك والجهل، إلى أنوار التوحيد والعلم، فبعث لذلك الغرض نبيّه محمداً عليه الصلاة والسلام، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليُظْهره على الدين كلّه.
وقد فطن صلّى الله عليه وسلم إلى أهمية العلم، وأدرك بنظرٍ ثاقب ما يعانيه القومُ في أقبية الجهل المطبقة، ودياجير الظلام، فعَمَدَ إلى توجيه أنظارهم نحو طلب العلم، وإطلاق طاقة العقل، وتنشيط الذهن. وسرعان ما انتشر نور العلم، واندفع المسلمون الأوائل إلى الاستزادة من علوم الدين والدنيا النافعة، فتألّقَتْ مدرسة المعرفة الأولى على يد مؤسّسها الرسول الكريم، الذي بناها روضة زاهية بالحكمة، وجعل مَعينها نصوصاً مباركات من الكتاب والسنّة، وطُوِيَتْ بذلك صفحاتٌ من الماضي الذي سادت فيه بين القوم الخرافة، والمعتقدات الخاطئة.
يقول "توماس كارليل" Thomas Carlyle واصفاً حال العرب في كتابه "الأبطال": "ولقد أخرج اللهُ بالإسلام العربَ من الظلمات إلى النور، وأحيا به أمّة هامدة، وأرضاً هامدة، وهل كانت العرب إلا فئة من جوّالة خاملة فقيرة، تجوب الفلاة منذ بدْء العالَم، لا يُسمَع لها صوت، ولا تُحسّ منها حركة؟، فأرسل الله لهم نبيّاً بكلمة من لدنه، ورسالة من قِبَله، فإذا الخمول قد استحال شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوة، ووَسِع نورُ الإسلام الأنحاءَ، وعمّ ضوءه الأرجاءَ، وأشرقَتْ دولة الإسلام حِقَباً عديدة، ودهوراً مديدة، على نصف المعمورة، بنُور الفضل، والنّبل، والمروءة، ورونق الحقّ والهدى"[1].
من جهة أخرى فقد أمرَتْ تعاليمُ الدين الجديد بالأخذ بالأسباب، وطَلَب الدواء، بحثاً عن العافية، والشفاء من الأمراض، وحورب بذلك ما ساد بين الناس من معتقدات خاطئة، ومُنِع السّحرُ، والتنجيم، والكهانة، وعُدّ ذلك كلّه مِن ضروب الجهل الممقوت.
وفَتَحَ الإسلامُ البابَ على مصراعيه أمام التفكير، والتأمّل، والطبّ التجريبيّ المبنيّ على أسُسٍ علمية ومنهجية، وحَثّت نصوصُه على ذلك، وصَحّحَتْ مساقَ التعليم ومساره، وَدَعت إلى الإفادة من تجارب مَن سَلَف. وسارع المسلمون الأوائل، فأقبلوا على تعلّم العلوم الصحية النافعة، وعُدّ هذا ضرباً من ضروب فرض الكفاية، وحاز الإسلام بذلك قصب السبق، فكان أول دينٍ يحرّر العلمَ، والطبّ، والصيدلة من سيطرة المعتقدات الدينية الباطلة، وقَــيْد الخرافات.
وقد ظَهَر مزيدٌ من الحاجة إلى طلب التداوي، والتطبّب في صدر الإسلام. وكان من أسباب ذلك تعرّض الجنود المسلمين في أثناء غزواتهم إلى إصابات ميدانية، وجروح مختلفة، تستدعي سرعة إسعافهم. يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: "لَقِيتُ كذا وكذا زحْفاً، وما في جسدي شِبْرٌ إلا وفيه ضربة بِسَيفٍ، أو رمية بِسَهم"[2]، وهاهو طلحة رضي الله عنه يوم أحُد، وقد جُرِح أربعة وعشرين جرحاً، وقُطع نَسَاه، وشُلّت أصبعه، وكان سائر الجراح في جسده[3].
ولم تَتخلّف الصحابيات الجليلات عن اللحاق بقافلة النور، وركبها الميمون، فوقَـفْنَ ببسالة مع الرجالات، يشاركنهم في فتوحاتهم وغزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بَرَع منهنّ رضي الله عنهنّ طائفة اشتهرتْ بالتمريض، ومداواة الجرحى، بما توافر لديهنّ مِن أدوية تمّت صناعتها من أعشاب بيئة المدينة، ونباتاتها.
ومِن هؤلاء النسوة المباركات: أم سُلَيم بنت مِلحان رضي الله عنها[4] التي كانت تداوي الجرحى في غزواتها مع رسول الله عليه الصلاة والسلام. وها هي أمّ عمارة رضي الله عنها [5] وقد جُرح ابنها عبدالله بن زيد رضي الله عنهما يوم أحُد في عضده، فسارعتْ بمداواته، وتضميده بما كان معها من عصائب وخِرَق، وهي من قالت يوم خيبر: "خرجنا نغزل الشَّعر، فنعين به في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناول السهام، ونسقي السّويق"[6].
ومِن تلكم الصحابيات أيضاً: رُفَيدة[7] التي نُصِبَتْ لها خيمة كانت تداوي بها جَرحى الصحابة، ومرضاهم في أثناء الغزوات. ويرى الدكتور أحمد عيسى بِك أنّ خيمة رفيدة هذه كانت أول مستشفى حربيّ متنقّل في الإسلام[8]. ومن هؤلاء كذلك:الرُّبَــي ع بنت مُعَوّذ[9]، وحَمْنة[10]، وليلى الغِفارية[11]، رضي الله عنهنّ.
وقد اكتَسَبَت السيدة عائشة رضي الله عنها خبرة خاصة في أدوية ذلك الزمان، إذ كانت تُشْرِف على نحوٍ مباشر على ما يتناوله زوجُها عليه الصلاة والسلام مِن تلك الأدوية. تقول رضي الله عنها: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلاً مِسْقاماً، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلّم منهم"[12].
وتتابعَتْ تلك الخطوات المباركات على درب العلم، مروراً بعهد الخلفاء الراشدين، ومَن سار على نهجهم مِن التابعين وتابعيهم، خلال عهود الدولة الإسلامية. وقد أنجبَت الحضارة الإسلامية مِن رحمها الولود الكثيرَ من العلماء الأفذاذ، الذين أضاؤوا الأرضَ بنور العلم، وكانوا صورة مَثّلَتْ روحَ الحضارة التي عاشوا بين جنباتها.
ولم يَقِفْ هؤلاء عند حدود الطبّ النبوي، وما جاء فيه مِن وسائل علاجية ووقائية -مع يقينهم بنَفْعه وبَرَكته-، بل أدركوا منذ وقت باكر أنّ علم الصيدلة يحتاج إلى دوام البحث والنظر، وإلى الوقوف على ما عند الأمم الأخرى منه، ودَفَعَهم إلى ذلك دعوةُ الإسلام للاستزادة من كلّ ما هو نافع ومفيد، والبحث عن الحكمة أنّى وُجِدَتْ.
يقول د. راغب السرجاني:
"يُعَدّ الطبّ من أوسع مجالات العلوم الحياتية التي كان للمسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة. وكانت تلك الإسهامات على نحوٍ غير مسبوق شمولاً، وتميّزاً، وتصحيحاً للمسار، حتى ليخيّل للمطّلع على هذه الإسهامات الخالدة كأن لم يكن طبّ قبل حضارة المسلمين. ولم يَقتصر إبداعُ المسلمين في العلوم الطبية على علاج الأمراض فحسب، بل تعدّاه إلى تأسيس منهجٍ تجريبيّ أصيل، انعكسَتْ آثاره الراقية والرائعة على جميع جوانب الممارسة الطبية وقاية وعلاجاً، أو مرافق وأدوات، أو أبعاداً إنسانية وأخلاقية تَـحْكم الأداءَ الطبيّ"[13].
واشتهرَتْ طائفة من علماء المسلمين بترجمة الكتب المتخصّصة بعلوم الصيدلة، ومصادر الأدوية النباتية، وخصائصها، وطرق تركيبها. ومما تمّت ترجمته: كتب "أرسطو" Aristotle وتلميذه "ثيوفراستس" Theophrastus المعروف بأبي عِلْم النبات.
وأعقب ذلك مرحلة جديدة تناولَت التعليقَ على تلك الكتابات المترجمة، ونقْدها، وشرْحها، ودراستها، ليتمّ بعدها في خطوة تالية إقرار صوابها، وتصويب خطئها. وما هي إلا مدّة وجيزة، حتى انتقل المسلمون نحو أفُقٍ آخر سامٍ من الازدهار العلميّ والفكريّ، وولّوا وجوهَهم شطرَ الأصالة والتأليف والإبداع، فأضافوا الجديد والمفيد إلى عِلْم الصيدلة، تَدْفعهم حماستهم التي استشعروا بها التقرّبَ إلى الله تعالى بِطَلَب العلم، وقد عُرِفَتْ كتبهم تلك في حينها بالأقرباذِينات[14].
وكان أبو حنيفة الدينوريّ[15] أوّل مَن ألّف كتاباً عن النباتات، التي أولاها المسلمون عناية خاصة، لما علموا أنها مصدر رئيس لحاجتهم مِن الأدوية. وعُرِف مُصنَّف الدينوريّ هذا باسم "كتاب النبات"، وقد أتى فيه على ذِكْر أكثر من ألف نبتة من النباتات الطبية في الجزيرة العربية[16].
وكان أبو بكر الرازي[17] ممّن كَتب في علم الصيدلة أيضاً، واشتهر بوصْف الأدوية، وألّف الكثير من الأقرباذينيات التي عُدَّتْ مراجع أصيلة في مدارس الغرب والشرق على حدّ سواء.
ومن علماء الصيادلة المسلمين أيضاً: البيروني[18] صاحب كتاب "الصيدلة في الطب"، وابن الصّوري[19] صاحب "الأدوية المفردة"، وابن العوّام الإشبيلي[20] صاحب "الفِلاحة الأندلسية".
أمّا ابن البيطار[21] فقد ارتحل إلى مالَقة، ومرّاكش، ومصر، وسورية، وآسيا الصغرى، بحثاً عن النباتات الطبية، فكان يراها بنفسه، ويجري عليها تجاربه، ويَذْكرها في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" الذي كان المرجع الرئيس للصيادلة زمناً طويلاً، وقد جاء فيه ذِكْرُ أكثر من ألف وأربعمئة دواء من أصل نباتي، منها أربعمئة عقار لم يَسْبقه أحَدٌ إلى وَصْفها.
"وبازدهار صناعة الصيدلة، وَجَدَ الصيادلة المسلمون مجالاً خصباً للإبداع الذي انتهوا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية، ذات أوزان معلومة. وقطعوا شوطاً كبيراً عندما استفادوا مِن علم الكيمياء، في إيجاد أدوية جديدة ذات أثَرٍ في شفاء بعض الأمراض، كمركبات الزئبق، وملح النشادر، واختراع الأشربة، والمستحلبات، والخلاصات الفطرية. وقادهم البحثُ الجاد إلى تصنيف الأدوية استناداً إلى منشئها وقوّتها، كما قادتهم تجاربهم إلى اكتشاف أدوية نباتية جديدة، لم تكن معروفة من قبل، كالكافور، والحنظل، والحنّاء"[22].
وأبدع الصيادلة المسلمون في تحضير العقاقير المختلفة وتركيبها، واستخدموا في ذلك طرقاً مبتكرة عديدة، منها: طريقة التقطير لفَصْل السوائل، وطريقة التنقية لإزالة الشوائب، وطريقة التصعيد لتكثيف المواد المتصاعدة، وطريقة الترشيح لعَزْل الشوائب، والحصول على محلول نقيّ.
وكان من ابتكارات صيادلة المسلمين: مَزْجُهم للأدوية بالعسل، أو بالسكر، أو عصير الفاكهة، وإضافة مواد محبّبة كالقرنفل، ليصبح طعم الدواء مستساغاً، وجعْلهم الكثير من الأدوية في صورة أقراص مُغَلّفة، وتحضير أقراص الدواء عبر كبْسها في قوالب خاصة، وإخضاع الدواء الجديد للتجربة على الحيوان، قبل وَصْفه للمريض، للتأكّد مِن سلامته وأمانه[23].
يقول الدكتور "جورج سارتون" George Sarton: "إنّ بعض الغربيين الذين يَسْتَخِفّون بما أسداه الشرق إلى العمران، يُصَرّحون بأنّ العرب والمسلمين نقلوا العلومَ القديمة، ولم يُضيفوا إليها شيئاً. وهذا الرأي خطأ، فلو لم تَنتقل إلينا كنوزُ الحكمة اليونانية، ولولا إضافات العرب الهامّة إليها، لتوقّف سَيْر المدنيّة بضعة قرون"[24].
واهتمّ صيادلة المسلمين بزراعة النباتات الطبية، والأعشاب العلاجية في مزارع وُضِعَتْ بجوار ما بَنَوا مِن بيمارستانات[25] مُدُن الدولة المختلفة، واهتمّوا بجَلْب بذور تلك النباتات من كلّ حدب وصوب.
وخُصّصَتْ لكلّ بيمارستان منها صيدلية تُقَدّم ما يَصِفُه الطبيبُ للمريض مِن أشربة وأدوية. يقول عبد الله الدفّاع في كتابه "أعلام العرب والمسلمين في الطب": "وَضَع العلماءُ المسلمون في كلّ مستشفى صيدلية منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وهكذا فإنّ فكرة إنشاء صيدلية داخل المستشفى هي فكرة نَقَلها العالمُ عن الحضارة العربية الإسلامية، التي طبّقتْها قبل أكثر من ثمانية قرون"[26].
وفُرض على كلّ صيدليات الدولة الإسلامية أن تحوي كتبَ الأقرباذين، وأن يتوافر فيها أنواع العقاقير المفردة والمركّبة المختلفة، والمواد الخام اللازمة لتحضيرها، سواء كانت نباتية المنشأ، أو حيوانية، أو معدنية، أو كيماوية. كما وَجَب أن تحوي الصيدلية ما يلزمها مِن معدّاتٍ لتحضير الدواء، كالموازين الحساسة، والأوعية ذات المقاسات المختلفة، وقوالب صناعة الأقراص، بالإضافة إلى سجلّات خاصة لتدوين عمليات تحضير الدواء، وما يَرِدُ من وَصفات الأطباء الدوائية[27].
وقد ضَمّت البيمارستانات أيضاً مكتبات طبية حَوَت أمّات كتب الصيدلة، ومراجعها. وكان أساتذة هذا العلم يتناقشون مع طلابهم حول الداء، وما يناسبه من الدواء، في حَلَقاتٍ تسودها الأجواءُ العلمية. وأُلزم الطلبة بحضور جلسات تركيب الدواء، مما أكسبهم ثقة عِلْمية، وخبرة عَمَلية. وأصبح عِلْم الصيدلة بذلك علماً تجريبياً، قائماً على المتابعة الدقيقة، والملاحَظة[28].
تقول المستشرقة "زيغريد هونكه" Sigrid Hunke: "أين هي الدولة التي عَرفَتْ مثل هذا الجمع الكبير من الأخصائيين بشتى حقول الصحة، وتركيب الأدوية والعقاقير، كما كانت الحال عند العرب؟. وهل كان للمستشفيات الحديثة في الأصقاع العربية آنذاك مثيلٌ في أيّ طَرَف من أطراف الأرض؟. إنّ وسائل العلاج عند العرب تتحدّث ببلاغة عن عظَمة أبحاثهم، كما إنّ عِلْم الصحة عندهم لأروع مَثَل يُضرَب. ولِمَ العجب والدهشة، والوضع كان كما نعلم؟"[29].
ومِن مآثر علماء المسلمين في مجال الصيدلة أيضاً: ما أدخلوه من نظام الحُسْبة، ومراقبة الأدوية، فنَقَلوا بذلك المهنةَ من تجارة حرّة لا ضوابط لها، إلى مهنة خاضعة لرقابة الدولة. وكان مِن مهام المحتسِب إجراء جولات تفتيشٍ على حوانيت بَيْع الأدوية، والتأكد من توافر الدواء فيها، ومتابعة طريقة تحضيره بشكل آمِن، وبدون غش، والتأكد مِن أنّ الدواء لا يُباع إلا وَفْق وَصْفة طبية، ومراجعة كشوفات تحضير الأدوية، بالإضافة إلى مَنْح تصاريح العمل للصيادلة، وإيقاف عَمَل مَن تدعو الحاجة والمصلحة إلى ذلك. وقد كان للمحتسب سجلّات، يُدَوّن فيها أسماءَ أصحاب الحرف والمهن المختلفة، بما فيها أماكن حوانيت الصيادلة[30].
وكان على المحتسب أيضاً أن يُحَلّف الصيادلة ألا يعطوا أحداً دواءً مضرّاً، وألا يُركّبوا له سُمـّاً، وألا يَصِفُوا التمائمَ لأحَدٍ من العامّة، وألا يذكروا للنساء الدواءَ الذي يُسْقط الأجنّة، ولا للرجال الدواءَ الذي يَقْطع النسل. وأضيف إلى مهام المحتسب أن يخوّف الصيادلة، ويَعِظهم، ويُنذرهم بالعقوبة والتعزير، وأن يراجع عقاقيرهم في كلّ أسبوع. ويُرسل المحتسبُ رقيباً على الصيادلة خبيراً بالعقاقير، وطرق تركيبها، ووسائل غشّها؛ كي يكشف المغشوشَ منها، فيُتـْلِفه[31].
كما قامت الدولة الإسلامية بتوظيف "عميد الصيادلة"، وقد وُسّد إليه مهام الإشراف الفنيّ على صيدليات المدينة، وإجراء امتحانٍ للصيادلة، ومَنْحهم الشهادات، وتصريح العمل بممارسة صنعة الصيدلة، بالإضافة إلى إعداد سجلّات خاصة للصيادلة. وقد عُدّ عميد الصيدلة هذا المرجعَ الأعلى فيما يستجدّ في ساحة العمل من الأمور المتعلّقة بهذه المهنة[32].
وتَنقل لنا كتبُ التاريخ صُوَراً مشرقة من ضَبْط المسلمين لمهنة الصيدلة، ومن ذلك ما نراه من أحداثٍ في عهد الخليفة المأمون الذي أمَر بضَبْط هذه المهنة، وإخضاعها لمراقبة الدولة المباشرة. وقد دعاه إلى ذلك أنّ بعض المدلّسين امتهنوا الصيدلة، وعالجوا المرضى كيفما اتفق، كما غَشّ نَفَرٌ منهم الأدوية، فأمَر المأمون بعَقْد امتحان أمانة الصيادلة.
وأُلزِم الأطباءُ لاحقاً بكتابة ما يَصِفُون من أدوية لمرضاهم على ورقة خاصة، عُرفتْ في الشام باسم "الدستور"، وفي العراق باسم "الوصْفة"، وفي المغرب باسم "النسخة"، وكان ذلك مِن إسهامات المسلمين في إنشاء عِلْم الصيدلة على أسُسٍ علميّة سليمة[33].
وسَنّ الصيادلة المسلمون قواعدَ صارمة في عملية وَصْف الدواء، ومن ذلك: ألا يُوصَف أيّ دواء قبل إقرار التشخيص المؤكَّد للمرض، والتأنّي في ذلك، إذا كان في مقدور المريض تجاوز مَرَضه دون دواء. وكان على الصيدليّ أيضاً إيضاحُ جرعة الدواء لمتناوِله، وطريقة استخدامه، ومواعيد تعاطيه، وما قد يَظهر له من تأثيرات غير مرغوبة في جسمه.
كما كان لزاماً على الصيدليّ مراعاة تركيب الدواء، بالتأكد من جَودة المادة الخام قبل الشروع في ذلك، والالتزام بالمقادير المحدّدة بدقّة عالية، والعناية بحِفْظ موادّ صناعة الدواء، ووسائل تخزينها لكيلا تَفْسد، وتدوين جميع ما يُوصَف للمريض من أدوية في سجلّه، والتيقّن مِن تناوُل المريض ما وُصِفَ له تحديداً، ليَسْلم من حلول الخطأ[34].
----------------------
[1] الأبطال ص 82 - 83
[2] سِير أعلام النبلاء 1 / 382
[3] المصدر السابق 1 / 32
[4] صحابية خزرجية، أم أنس بن مالك رضي الله عنه. كانت وفاتها نحواً من سنة 30 هـ. انظر : سِيَر أعلام النبلاء 2 / 304
[5] نَسيبة بنت كعب، صحابية خزرجية، أسلمتْ قديماً، كانت وفاتها نحو سنة 13 هـ . انظر: سِيَر أعلام النبلاء 2 / 278
[6] انظر: حياة الصحابة 1 / 594
[7] رفيدة الأنصارية، صحابية كانت تداوي الجرحى. قال ابن حجر: "ولما أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل حوّلوه إلى رُفيدة". الإصابة 13 / 382
[8] انظر : تاريخ البيمارستانات في الإسلام ص 9
[9] الرّبَيّع بنت مُعَوّذ الأنصارية، صحابية بايعتْ تحت الشجرة، كانت تسقي القوم وتردّ الجرحى إلى المدينة، عاشت إلى زمن عثمان. انظر: الإصابة 13 / 375.
[10] حَمْنة بنت جحش الأسدية، أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنهما، كانت تداوي الجرحى. انظر الإصابة 13 / 291
[11] صحابية كانت تخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مغازيه، وتداوي الجرحى، وتقوم على المرضى انظر: الإصابة 14 / 186
[12] رواه الحاكم في المستدرك 4 / 218 برقم 7426، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرّجاه". والمسقام: الكثير السقم. انظر: لسان العرب مادة (سقم) 12 / 289.
[13] قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 9.
[14] الأقرباذين: كلمة يونانية تعني دراسة مركّبات الأدوية، وبيان أجزائها وتركيبها. انظر: القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل ص 28.
[15] أحمد بن داود الدينوري، بَرع في فنون عديدة، وألّف فيها. توفي سنة 282 هـ. انظر: سِير أعلام النبلاء 13 / 422.
[16] انظر: قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 122 – 124.
[17] أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب، كان إليه تدبير بيمارستان الريّ، ثمّ بيمارستان بغداد. له كتاب "الحاوي في الطب"، وكتاب "الأعصاب"، توفي سنة 311 هـ. انظر : سِير أعلام النبلاء 14 / 354.
[18] محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني، كان مصنّفاً في شتى الفنون، وعَلَت شُهرته، وتُرجمتْ بعض كتبه، توفي سنة 440 هـ. انظر: الأعلام 5 / 314.
[19] رشيد الدين بن أبي الفضل بن علي الصوري، عالم بالطب والنبات، كان رئيس الأطباء في عَصره، توفي سنة 639 هـ. انظر : الأعلام 3 / 23.
[20] يحيى بن محمد بن العوام الإشبيلي، توفي سنة 580 للهجرة. انظر: الأعلام 8 / 165.
[21] ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي النباتي الطبيب، توفي بدمشق سنة 646 هـ. انظر : سِيَر أعلام النبلاء 23 / 256.
[22] قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 117
[23] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 429 - 436 ، وقصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 118 - 119
[24] نقلاً عن الموسوعة الحرة www.wikipedia.org مادة "الطب والصيدلة في عصر الحضارة الإسلامية".
[25] البيمارستان: لفظة فارسية تعني دار المرضى. انظر: المعرَب للجواليقي ص 577.
[26] نقلاً عن الموسوعة العربية العالمية 10 / 413.
[27] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 33.
[28] انظر: الإعداد التربوي والمهني للطبيب عند المسلمين ص 121، وتنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 334 – 339.
[29] شمس العرب تسطع على الغرب ص 217.
[30] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 276 – 281 ، و: ص 445 – 446.
[31] انظر: نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 42 و: ص 98.
[32] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 446.
[33] انظر: قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية ص 115 – 116، والصيدلة في التاريخ الإسلامي ص 7.
[34] انظر: تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية الإسلامية ص 429 - 436.