رمضان وتربية النفس




د. ياسر حسين محمود






الله -تعالى- أرحم الراحمين، شرع للناس أكمل الشرائع التي تهذب نفوسهم وتصلح قلوبهم، وتجعلهم يتذكرون حقيقة رغباتهم، وأنها جُعلت فيهم لكي تكون مُعِيْنة لهم على الوصول إلى الغايات المطلوبة، وشرع لهم الله -تعالى- ترك الفضول مِن كل هذه الشهوات؛ حتى لا يَشغل الإنسان نفسه بغير حاجته وقدر كفايته، ولو أن الناس رغبوا في ذلك لما شقوا في دنياهم، ولما تنافسوا عليها، واهتموا باكتنازها؛ وهل يأكل الغني الذي جمع الملايين أكثر مِن ملء معدته؟! ولو زاد لكان ذلك تخمة مضرة عليه، وكذلك في الملابس، وفي الأموال، وفي كل الشهوات.

أكمل الشرائع

ولذلك نقول: إن الله -تعالى- شرع لنا أكمل الشرائع التي تجعلنا نتحكم في شهواتنا، ونوجهها وليس هي التي توجهنا، فكان صيام شهر رمضان جامعًا لكل خصال الخير في تهذيب النفس، وقد ذكر أهل العلم في مسالك التهذيب أنه لابد أن يتخلص الإنسان مِن فضول الطعام والشراب، وفضول الكلام، والخلطة، ومِن فضول المال، ومِن فضول الشهوة الجنسية، ومِن فضول المنام؛ فهذه ستة أشياء، انشغال الإنسان بها يجعله يضيع عمره فيما لا فائدة فيه.

التحكم في الشهوات

وفي رمضان شرع الله لنا أن نتحكم في كل هذه الشهوات؛ فأنتَ لستَ تأكل حين تجوع، بل لكَ وقت محدد تمنع نفسك فيه، وتهذبها وتحكمها، وهذا يجعلها طيعة منقادة لأمر الله-تعالى-؛ ولهذا يسهل على الإنسان في رمضان -وعمومًا أثناء الصيام- مِن العبادات والطاعات ما لا يقدر عليه في غيره؛ فييسر الله له غض بصره، وكف أذنه، وحبس لسانه، والقيام كما يسَّر له الصيام.

شأن عجيب


شأن عجيب حقـًّا! لأن النفس تريد أن تنال رغباتها، والعاقل يريد أن يحكمها ويكون هو الملِك عليها، فإن الناس مع نفوسهم على مراتب، وأحوال القلوب مع النفوس الأمارة بالسوء، الراغبة في الشهوات على درجات متفاوتة، فمِن الناس مَن ملَك قلبُه نفسَه فصار هو الذي يتحكم فيها ويقهرها، وبعد حين مِن الحبس والتحكم فيها أزال ما بها مِن ضرر، وصار الحبس لها إصلاحًا، وصار منعها مِن رغباتها تهذيبًا، فصارت وزير صدق لذلك الملِك، ولابد أن يبدأ الأمر بذلك، ولا يمكن أن تكون النفس الإنسانية مِن البداية مطيعة منقادة، محبة للطاعة، كارهة للمعصية، بل بدايتها أمارة بالسوء، متكاسلة عن الطاعة، مائلة إلى المعصية والشهوة؛ فذلك القلب الذي غلب النفس يستطيع بعد حين أن يعلمها ويهذبها حتى تمتلئ إيمانًا، بدلاً مِن أنه يرغم نفسه على قيام الليل، وصيام النهار، والإنفاق.

فبعد تهذيبها يجدها هي السباقة إلى هذه الأعمال الصالحات، وعندما يأتيها الوسواس الخناس، ويقول لها: «انظري إلى هذه الصورة المحرمة، أو اسمعي إلى هذه الأغنية والموسيقى»، فتقول: «أعوذ بالله!»؛ فصارت هذه النفس مطمئنة إلى ذكر الله، وأسعد شيء عندها هو الشوق إلى الله، والتعبد والتقرب إليه -سبحانه-، كما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بقوله: «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» (رواه النسائي، وصححه الألباني).

صراع مع النفس

وهناك مِن الناس مَن هو مع نفسه في صراع وفي معركة، قلبه الذي هو محل العلم والإيمان يغلب أحيانًا وينتصر، ويصبح هو صاحب الكلمة، وأحياناً تغلبه النفس؛ فمرة يطيع ومرة يعصي، فهو مع نفسه في صراع دائم، يغلبها مرة وتغلبه مرة.

من غلبته نفسه

وهناك مِن الناس مَن غلبتهم نفوسهم، فغلبت القلب وأسرَته وألقته في السجن، فيظل متحسرًا على ما يرى ويعلم، ولا يستطيع إنفاذ هذا الأمر في أرجاء المملكة، القلب الذي هو محل العلم والإيمان أصبح أسيرًا في السجن، ولذلك قالوا: «المأسور مَن أسره هواه، وحبس قلبه عن الله»، وإذا تمكَّنت الدنيا مِن قلبه سجنت الإيمان، فصار مجرد شيء في القلب، لا يستطيع أن يخرج، ولا أن يسيطر على الجوارح، يعلم أن هذه الأشياء محرمات، وينهى الجوارح عنها، ولكن الجوارح لا تطيعه، فالنفس الأمارة بالسوء تأمر وتنهى وتتحكم في المملكة، فتستجيب لها الجوارح، وهذا العبد يرى نفسه ويعلم أنه مقصِّر، ويرتكب منكرًا ومعصية، ومع ذلك هو عاجز قد أدمن المعاصي، فهو إذا قلتَ له: اتقِ الله، يقول لك: لا أستطيع أن أترك هذه المعصية، ونفسه تغلبه دائمًا!

انتكاس القلب

ثم مع طول الحبس ينقلب الحال مِن أنه كان يقاوم ويعرف الحق مِن الباطل، وكان -رغم أسره- رافضًا للهزيمة، يصبح بعد ذلك عنده المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، انتكس القلب، فصار كما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلبَ المنافق «أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رواه مسلم)، صار لا يرى الحق حقـًّا ولا الباطل باطلاً، بل انقلب الأمر إلى أن صار ما تأمر به النفس هو الحق، وهذا هو الخطر الحقيقي؛ لأن الانتكاس ليس بأن يرى الحق حقـًّا ولو عجز عنه، فإنه يوشك أن تنهض همته إليه يومًا، ولكن إذا رآه باطلاً، إذا رأى أن الالتزام بالدين هو منكر مِن المنكرات، وأن القراءة في المصحف وكتب العلم كل ذلك ضرر، فماذا عساه أن يفعل؟! هذا هو الضلال المبين حقـًّا، هذه قلوب قد انتكست؛ فصارت ترى الحق باطلاً والباطل حقـًّا.

فرصة عظيمة

فهذه فرصة عظيمة شرعها الله في رمضان لكي نتحكم في نفوسنا، ولو سأل كل واحد نفسه: أين أنتَ مِن هذه الطبقات؟ هل أنت ممن تحكم في نفسه الأمارة بالسوء؟ هل وجدت لذة العبادة؟ أم ما زلت تُكره نفسك عليها؟ أم أنك في الحقيقة إذا قمتَ ليلة لم تقم عشرًا؟! وإذا صمتَ يومًا لم تصم شهرًا؟! فهكذا تغلبك نفسك دائمًا على ذلك، فلا تنفق شيئًا في مرضاة الله، ولا تتعب بدنك في العمل لله تعلمًا وتعليمًا ودعوة وعبادة لله، وهكذا كل واحد منا بالتأكيد عرف نفسه في أي المراتب هو؟ ومَن الغالب في المعركة؟

فرصة للانتصار على النفس

وأنتَ مقبل على فرصة عظيمة حتى تنتصر على نفسك، وتتحكم في هذه الشهوات كلها، شرع الله لنا الصيام الذي هو أنفع أنواع التهذيب، أن تمتنع مِن طلوع الفجر إلى غروب الشمس مِن الطعام والشراب والشهوة، وأحل الله لنا ذلك فيما بيْن المغرب إلى طلوع الفجر الصادق، وهذه هي الوسطية المطلوبة التي فقدها الرهبان الذين كانوا على الرهبانية المبتدعة، كما وصف لله -تعالى-: {وَرَهْبانية ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد:27)، حرَّموا على أنفسهم ما أحلَّ الله؛ ولذا قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة:87).

والحقيقة أن الوسطية أمر مطلوب، أما أن يأكل الإنسان كلما جاع، ويشرب كلما عطش، ولا يتحكم في نفسه طول السَّنة؛ فهذا أمر مذموم، ولا شك أنه سوف تغلبه نفسه.

وقد شرع الله لنا القيام لترك فضول المنام، فلم يكن مِن عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يحيي الليل كله دون أن ينام جزءًا منه طول السَّنة إلا في العشر الأواخر مِن رمضان، وذلك السهر خير أنواع السهر وأوسطه؛ إذ لا يغلب على الإنسان فلا ينام بالكلية فيحصل له الخلل في فكره وشعوره؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (متفق عليه).

ولم يحرم الجماع بالكلية، ولكن حدد له وقتًا معينًا، وجعل الإنسان هو الذي يتحكم فيه، وفرض كفارة غليظة مشددة على مَن جامع عمدًا في نهار رمضان، بأن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا؛ فهذا التشديد حتى يستطيع التحكم في نفسه.

ترك فضول الكلام

وشرع لنا ترك فضول الكلام الذي لا حاجة إليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ» (رواه البخاري ومسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» (رواه مسلم). (يَرْفُثْ): لا يقول الرفث، وهو الفاحش مِن القول. (يَصْخَبْ): لا يصيح. (وَلَا يَجْهَلْ): لا يقول الكلام السفيه الجاهل.

التحفظ مِن الغيبة والنميمة

وشرع لنا مزيد التحفظ مِن الغيبة والنميمة، والزور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (رواه البخاري)؛ ولذا فارتكاب الكبائر أثناء نهار رمضان يذهب بأجر الصيام، ويجعل الصوم غير مقبول؛ لأن الصوم شرع لتحقيق التقوى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ} (البقرة:183)، فإذا ارتكب الكبائر أثناء صومه كان ذلك دلالة على أن صومه ليس هو الصوم المشروع؛ ولذا كان بلا ثواب وكان غير مقبول، ولم يكن لله حاجة في أن يَدع طعامه وشرابه.

إفطار القلب

ومَن يترك الصلاة مثلاً أو مَن تخرج متبرجة في نهار رمضان، أو مَن يسب ويلعن؛ فهذا مفطر بقلبه وإن لم يكن مفطرًا بفمه وبطنه، ولا ثواب له، وصومه غير مقبول، وإن كان يسقط عنه الفريضة ولا يؤمر بالإعادة؛ إلا أنه لا ثواب فيه، وإن جاع وعطش «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فعليك أن تكون منتبهًا لصومك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، فإذا كنتَ تحفظ لسانك في سائر الأوقات؛ فليكن حفظك له في رمضان أشد.

ترك فضول المخالطة

وكذلك ترك فضول المخالطة: فالغرض مِن خلطة الناس تحصيل ما ينفع الخلق، فالخلطة مع أصحاب اللعب واللهو مِن أعظم الضرر، فهؤلاء يجر بعضهم بعضًا إلى المنكرات والفواحش مِن الإدمان والسرقة، والزنا، والتدخين، وخلطة الصالحين خير خلطة، وهي تقلل مِن الاختلاط بأهل الفساد، وقد أصبح الاختلاط في زماننا له مفهوم أوسع منه في الزمن الماضي، فقد صارت الخلطة مِن خلال وسائل الإعلام ولو كان في حجرة مغلقة «مِن المذياع والتلفزيون، وغيرهما»؛ فحاول أن تكون على مقاطعة تامة لوسائل الإفساد في رمضان، لتكون مهتمًّا بشغل نفسك بطاعة الله وبصحبة الصالحين، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، كما قال ربنا في العبد الخطاء الذي جلس مع الصالحين لحاجةٍ وهو ليس منهم، قال الله -تعالى-: «وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»، فمجرد وجودك في المساجد مع أهل البر والتقوى والصلاح يعد مِن أسباب السعادة والمغفرة، وحذار أن تجعل المساجد سبيلاً إلى الخلطة المحرمة مِن الرياء والسمعة، وطلب الوجاهة والمنزلة بيْن الناس، فهذا هو الخطر على إخواننا، وإنما تخالِط مَن يذكرك بالله، وتذكره بالله.