السؤال:
♦ الملخص:
طالب علم شرعي كان يدرُس في مؤسسة تابعة لتيار الديوبوند الصوفي، ذكر لهم الأستاذ عن وجود سلسلة متصلة بالنبي لكل شيخ صوفي، وأنه لا بد من مبايعة شيخ صوفي لتزكية النفس، ويسأل عن صحة ذلك.
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا طالب علمٍ شرعي من بريطانيا، تخرجتُ مؤخرًا في إحدى مؤسسات دار العلوم الإسلامية الحنفية في بريطانيا، تابعة لتيار الديوبوند في الهند، تعلمتُ الفقه الحنفي والحديث، وبعد تخرجي لا أزال أريد أن أُطَوِّرَ نفسي في العلم الشرعي بالقراءة، وأنوي السفر لطلب العلم أكثر من شيوخ الإسلام.
في أثناء الدرس لصحيح البخاري، ذكر لنا الأستاذ أنه كما يتصل سند الحديث من الإمام البخاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم - علماء الديبوندية - لهم سند متصل يصل لرسول الله، وذكر أن ملازمة ومبايعة شيخ صوفي لازم لتزكية النفس، هذا الشيخ متصل في تربيته في سلسلة بالنبي؛ تمامًا كسلسلة رواة الحديث، وذكر لنا شروطًا للشيخ الصوفي الذي يُبايع؛ وهي: أن يكون شيخًا صوفيًّا متبعًا السنة ظاهرُا غير مبتدع، صحيح العقيدة عقيدته عقيدة أهل السنة، أن يكون قد تلقى تربيته على يد شيخ آخر في سلسلة متصلة بالنبي، فإذا خالف ذاك الشيخ الشرعَ، فإن المريد ينقض البيعة، باحثًا عن شيخ صوفي آخر بالوصف المذكور ويبايعه.
فبدأ لنا الأستاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم الحسن البصري، ثم عبدالواحد بن زيد، ثم الفضيل بن عياض، ثم إبراهيم بن أدهم، ثم حذيفة المراشي، ثم تستمر السلسلة بشيوخ حتى يصل إلى الشيخ الحاضر.
وذكر لنا أن تلك البيعة لها أساس من الكتاب والسنة؛ فأما الكتاب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ﴾ [الفاتحة: 12]، ومن السنة: ((بايعنا رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم))، وتلك بيعة للأعمال، وبيعة المريد للشيخ من هذا الباب، وذكر أيضًا أنه لا يقصد طريق الصوفية المبتدعة، بل الطرق الصوفية المعتبرة.
مع العلم أن علماء الديوبوند يتصل سند حديثهم بمحدث الهند شاه ولي الله الدهلوي، ومنه لعلماء الحديث الكبار، وكذلك سند شيوخ الصوفية، فقد علَّم ونشر شاه ولي الله الدهلوي الحديث وطرق الصوفية، وأنشأ طلابه جامعة إسلامية في الديوبوند في الهند، وهم لا يأتون البدع كغيرهم من الصوفية؛ كالموالد، والبناء على القبور، والنداء بالغيب مثل: يا رسول الله، لكنهم يتفقون معهم في الأذكار والأوراد الغريبة، ولا أعلم كل شيء عنهم؛ لأنني لم أبايع على الطريق، ولا يهمني سوى صوفية الديوبوند.
لديَّ عدة أسئلة: ما صحة كل هذا؟ وهل هذا كله له أصل من السنة؟ هل كان الصحابة أو التابعون يبايعون بعضهم أو شخصًا معينًا لمدة خاصة لأخذ التربية وإصلاح النفس؟ وإن لم يكن، فمتى ظهرت أول بيعة على شيخ طريقة صوفي؟ وهل أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا خاصًّا بالوراثة لعليٍّ رضي الله عنه، ومنه للحسن البصري؟ وهل صحت ملاقاة عليٍّ رضي الله عنه مع الحسن البصري في أي رواية؟ وهل الحسن البصري بدأ طرق الصوفية، وأعطى وراثة لعبدالواحد بن زيد؟
كل شيخ صوفي له سند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لهذا من صحة؟ وإن لم يصح شيء من هذا، فمن الذي حملهم على ذلك إن لم يكن لهم أصل؟ ولماذا لم يردَّ العلماء منهم هذا إن لم يصح؟ إذا أمكن أن تبسطوا الكلام في كل شبهة، فخيرٌ، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فبداية أخي الكريم، فإن المسلم لا بد أن يكون انتماؤه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا لأي جماعة من الجماعات؛ لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159].
وإنما على المسلم أن يسلك طريق الكتاب والسنة بفَهم السلف الصالح، وهم أصحاب القرون الفاضلة؛ الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يتخلف من بعدهم خَلَفٌ تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته))[1]، وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثِنْتَيْنِ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة))[2]، وفي لفظ: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي))[3].
بوَّب الإمام ابن أبي عاصم رحمه الله المتوفى سنة (287 هـ) على هذا الحديث بقوله: "باب فيما أخبر به النبي عليه السلام أن أمته ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، وذمه الفرقَ كلها إلا واحدة".
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله المتوفى سنة (387 هـ): "أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة، والأهواء المتبعة، والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتاتٍ، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنْس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غشٍّ ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة"؛ ا.هـ[4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها، بل مَن لم يعرف ما قالوه، فهو الجاهل بالحق فيها، وبأقوال السلف، وبما دَلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، والصواب في جميع مسائل النزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسُّنَّة والعقل الصريح"؛ ا.هـ[5].
وقال الإمام شمس الدين السفاريني رحمه الله: "المراد بمذهب السلف: ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شُهِد له بالإمامة، وعُرِف عِظَمُ شأنه في الدين، وتلقَّى الناس كلامهم خَلَف عن سلف"؛ ا.هـ[6].
وقال الإمام اللالكائي رحمه الله المتوفى (418 هـ): "فإنَّ أوجبَ ما على المرء معرفةُ اعتقاد الدين، وما كلَّف الله به عباده من فَهْمِ توحيده وصفاته، وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين.
وكان من أعظم مَقُول، وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأخيار المتقين، ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلُّون.
فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون، ومَن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين، ثم مَن اقتدى بهم مِنَ الأئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين، واجتهد في سلوك سبيل المتقين، وكان مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فمن أخذ في مثل هذه المحجة، وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة؛ أَمِن في دينه التَّبِعة في العاجلة والآجلة، وتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، واتقى بالجُنَّةِ التي يُتَّقى بمثلها؛ ليتحصن بجملتها، ويستعجل بركتها، ويحمد عاقبتها في المعاد والمآب إن شاء الله.
ومَن أعرَض عنها، وابتغى الحق في غيرها مما يهواه، أو يروم سواها مما تعدَّاه، أخطأ في اختيار بُغيته وأغواه، وسلكه سبيل الضلالة وأرداه"؛ ا.هـ[7].
ثانيًا: أخي الكريم، ليست العِبرة بهذه الأسانيد المتأخرة التي لا يُعلم حال أغلب رجالها، وإنما العبرة بالأسانيد المبثوثة في كتب السنة المشهورة، فهذه التي عليها المُعتمَد بعد النظر في أحوال رجالها، والتبيُّن من كونهم من الذين يُقبل حديثهم، وأما هذه الأسانيد المتأخرة، فلا يُعتبر بها؛ لكثرة ما فيها من مجاهيل.
ثم أنت لو نظرت في الأسانيد الصحيحة المبثوثة في كتب السنة المشهورة، فلن تجد أحدًا من الصحابة أو من التابعين أو من تابعي التابعين منتسبًا إلى ما يسمى بالمذهب الصوفي، ولم يكن هذا المذهب له وجود عندهم أصلًا، وليس لهذه الأوراد التي يتناقلونها أصل في هذه الكتب المشهورة والأسانيد المعتبرة، مما يدل دلالة واضحة على أن هذه الأمور لا أصلَ لها، ولو كانت هذه الأمور خيرًا لسبقنا إليها السلف الصالح أصحاب القرون الخيرية، ولتناقلوها برواية الثقات في كتب الآثار؛ نصحًا للأمة، وحثًّا على العمل بها.
وعليه أخي الكريم، فلا تغترَّ بكل من يجيئك ويقول لك: إن كلامنا له إسناد، وإنما عليك أن تنظر إلى أمرين:
الأمر الأول: هل هذا الإسناد منقول في كتب الأئمة المشهورة، أو لا؟
الأمر الثاني: هل هذا الإسناد صححه أئمة الحديث المعتبرين، أو لا؟
فإن توفر في الإسناد هذان الشرطان، فإنه يُعمل به، وإلا فهو إسناد مطَّرح لا عبرةَ به.
ثالثًا: أخي الكريم، لا تلتفت لقول من قال: "نحن من الصوفية غير المبتدعة"، وغير ذلك، بل دَعْ تلك المسميات كلها، والزم طريقة الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.
رابعًا: أنصحك بالقراءة في كتب علماء السنة المشهورين المُشار إليهم بالبَنَان؛ سواء من المعاصرين أو القدامى، وأن تنظر في بلادكم إلى شيخ ملتزم بالكتاب والسنة، ثم تلزمه، وتتعلم العلم الشرعي على يديه.
وفَّقنا الله وإياك إلى كل خير.
-----------------
[1] متفق عليه: أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533).
[2] أخرجه أحمد (12208)، وابن ماجه (3993)، وابن أبي عاصم في "السنة" (64).
[3] هذا اللفظ عند الترمذي (2641)، والآجري في "الشريعة" (24)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1)، والحاكم في "المستدرك" (444).
[4] "الإبانة الكبرى" (1/ 366).
[5] "مجموع الفتاوى" (17/ 205).
[6] "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية" (1/ 20).
[7] "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 7، 8).
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6swDjnkiH