قال ابن القيم:
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة الطمأنينة:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
وقال تعالى: : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}
الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه
ومنه الأثر المعروف: الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا
ومنه قوله: «البر ما اطمأن إليه القلب» أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه
.......... و ذكر الله هاهنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين
فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن
فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه
والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوها
م فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار
وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}
والصحيح: أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه: قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]
والصحيح: أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} قال: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125126]
وأما تأويل من تأوله على الحلف:
ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب
وفي قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك.
قال صاحب المنازل:
الطمأنينة: سكون يقويه أمن صحيح شبيه بالعيان وبينها وبين السكينة فرقان:
أحدهما: أن السكينة صوله تورث خمود الهيبة أحيانا
والطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس
والثاني: أن السكينة تكون نعتا وتكون حينا بعد حين
والطمأنينة لا تفارق صاحبها
الطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة
فقوله: سكون يقويه أمن أي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي لا يكون أمن غرور
فإن القلب قد يسكن إلى أمن الغرور ولكن لا يطمئن به لمفارقة ذلك السكون له
والطمأنينة لا تفارقه فإنها مأخوذة من الإقامة
يقال: اطمأن بالمكان والمنزل: إذا أقام به
وسبب صحة هذا الأمن المقوى للسكون: شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام
بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه
وأما الفرقان اللذان ذكرهما بينها وبين السكينة
فحاصل الفرق الأول: أن السكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان فيسكن القلب من انزعاج الهيبة بعض السكون وذلك في بعض الأوقات فليس حكما دائما مستمرا وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس
فإن الاستراحة في السكينة قد تكون من الخوف والهيبة فقط والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق محرد الأمن وقدر زائد عليه وحاصل
الفرق الثاني:
أن الطمأنينة ملكة ومقام لا يفارق
والسكينة تنقسم إلى سكينة هي مقام ونعت لا يزول وإلى سكينة تكون وقتا دون وقت هذا حاصل كلامه
والذي يظهر لي في الفرق بينهما أمران سوى ما ذكر:
أحدهما:
أن ظفره وفوزه بمطلوبه الذي حصل له السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روعه والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته
فللقلب ثلاثة أحوال
أحدها: الخوف والاضطراب والقلق من الوارد الذي يزعجه ويقلق.
الثاني: زوال ذلك الوارد الذي يزعجه ويقلقه عنه وعدمه
الثالث: ظفره وفوزه بمطلوبه الذي كان ذلك الوارد حائلا بينه وبينه وكل منهما يستلزم الآخر ويقارنه
فالطمأنينة تستلزم السكينة ولا تفارقها
وكذلك بالعكس
لكن استلزام الطمأنينة للسكينة أقوى من استلزام السكينة للطمأنينة
الثاني: أن الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم
ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن لما حصل لها الإيمان به ومعرفته والهداية به في ظلم الآراء والمذاهب
واكتفت به منها وحكمته عليها وعزلتها وجعلت له الولاية بأسرها
كما جعلها الله فبه خاصمت وإليه حاكمت وبه صالت وبه دفعت الشبه
وأما السكينة: فإنها ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه وزوال قلقه واضطرابه
كما يحصل لحزب الله عند مقابلة العدو وصولته والله سبحانه أعلم.
قال: وهي على ثلاث درجات
الدرجة الأولى: طمأنينة القلب بذكر الله وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء والضجر إلى الحكم والمبتلى إلى المثوبة
وقد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه
ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة:
هو من جملة الطمأنينة بذكره وهي أهم من ذلك فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به وأراد الله عز وجل أن يريحه ويحمل عنه:
أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به وسكن لهيب خوفه
وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم فالمراد بها:
أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله ولاسيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله وقطاع الطريق إليه
فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه
فلابد أن يدركه الضجر ويضعف صبره
فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه:
أنزل عليه سكينته فاطمأن إلى حكمه الديني وحكمه القدري
ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين
وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته
فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني:
علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له
وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن
فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان
فإن المحذور والمخوف:
إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر
نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة فلا ينبغي أن يضجر عنها وإن لم يكن فيها حيلة فلا ينبغي أن يضجر منها
فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم
وفي مثل هذا قال القائل:
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ** ولك الأمان من الذي لم يقدر
وتحققي أن المقدر كائن ** يجري عليك حذرت أم لم تحذري