هل أصَّل النبي للعنصرية؟


أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

السؤال:
الملخص:
شاب استوقف تفكيره حادثةُ مقتل المواطن ذي الأصول الأمريكية، وتفكَّر قليلًا فيما يعاني منه العالم الإسلامي من عنصرية، وأرجع جذورها لحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأل عن معنى هذا الحديث.
التفاصيل:
استوقفتني المظاهرات المناهضة للعنصرية والمنادية بإسقاط رموزها بعواصم الدول الغربية، وذلك في إثر حادثة الشرطي الأمريكي والمواطن الأمريكي ذي الأصول الإفريقية، وقمت بمقارنتها بما يحدث في عالمنا الإسلامي من تنمُّرٍ وتحقير لأصحاب البشرة السمراء، فحاولت جاهدًا معرفة جذور المشكلة، فقادني البحث إلى حديث صحيح ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وابن رمح، قالا: أخبرنا الليث، ح وحدثنيه قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث عن أبي الزبير عن جابر قال: ((جاءَ عبدٌ فبايَعَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الهِجرةِ، ولم يَشعُرْ أنَّه عبدٌ، فجاءَ سيِّدُه يُريدُه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بِعْنيهِ، فاشتَراه بعَبدَينِ أَسْودينِ، قال: ولم يبايِعْ أحدًا حتى يسأَلَه: أَعَبدٌ هو؟))، أرجو أن تعينوني على فهم هذا الحديث وأن تجيبوا عن سؤالاتي الآتية:
1- هل امتلك الرسول عبيدًا؟ ولماذا إذا كان يدعو لإعتاقهم؟
2- مقايضة العبد العربي بعبدين أسودين يُعَدَّ مفاضلة بين الأعراق.
3- هل يتم استخدام الحديث دليلًا على جواز بيع الحيوان بالحيوان، ففي هذا تشبيه للإنسان بالحيوان؟
وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: من الشبهات التي تُثار بين الحين والآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ بالعبودية والرِّق، والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المُخلِّص من الرق، والمحرر من العبودية، ويكفيك في هذا أن قانون الرق كان مرسخًا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وحجَّم منه، وقلَّل من شأنه، فقد كان للنبي صلى عليه وسلم عبيدٌ وموالٍ، ولكنه حرَّرهم وحثَّ على تحريرهم، كما سترى.فقد حث الإسلام على الرفق بالعبيد، ومعاملتهم المعاملة الحسنة، وعدم سبِّهم، وإطعامهم مما يأكلون، وإلباسهم مما يلبَسون، وإعانتهم على الأمور التي تشُقُّ عليهم؛ كما في الحديث المعروف، قال: ((لقيتُ أبا ذرٍّ بالرَّبَذَةِ، وعليه حُلَّةٌ، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني سابَبْتُ رجلًا، فعَيَّرتُهُ بأمِّه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمْهُ مما يأكل، وليُلْبِسْه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم))؛ [البخاري: (30)، ومسلم (1661)].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يُجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين، أو أكلةً، أو أكلتين؛ فإنه وَلِيَ علاجه))؛ [البخاري (2557)، ومسلم (1663)].
ولحث الإسلام على حريتهم بالعتق؛ كما في حديث الباب الذي معنا، وهذا ردٌّ على أعداء الإسلام الذين يقولون: إن الإسلام حبس حرية البشر بالرق.
ولمزيد الرد على هذه الشبهة نقول:
أولًا: تقدير الوضع الاجتماعي السائد قبل الإسلام:
جاء الإسلام ونظام الرق سائدٌ في حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، فلو أنه فرض عليهم إطلاق الرقيق فجأةً وحتمًا عليهم، لكان ذلك الأمر يبوء بالفشل، ولعرَّض أوامره للمخالفة والامتهان وعدم القبول، فإقرار الإسلام للرق كان تحت هذه الظروف، وهي عدم تعرض الحياة الاجتماعية لهزَّةٍ عنيفة تؤدي إلى أضرار بالغة.
ثانيًا: تشريع الوسائل التي تساعد على العتق تدريجيًّا؛ وذلك يتلخص في طريقتين:
1- تضييق منافذ الرق:
بأن وضع قيودًا على بعض مناهج الرق التي كانت سائدةً قبل الإسلام؛ منها: تحريم رق الحر: كان الحر إذا اختُطف يُباع، ويكون عبدًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يُعْطِهِ أجره))؛ [البخاري (2227)، (2270)، وابن ماجه (2442)].
تحريم رق مَن ارتكب بعض الجرائم:
كان من سرق أو قتل يجعلونه عبدًا لمصلحة الدولة، أو لمصلحة المجني عليه، وكرق المَدين إذا عجز عن دفع الدَّين، وكذلك حرم الإسلام أن يبيع الإنسان نفسه، وحرَّم أن يبيع الرجل بعض أولاده.
تحريم رق أولاد الجواري: كان قبل الإسلام أبناءُ الإماء عبيدًا، فحرَّم ذلك الإسلام، وجعل أولاد الإماء أحرارًا، بل تصير أمُّه حرةً إذا مات سيدها، ويُقال لها: أم ولد، وهذا مفخرة للإسلام والمسلمين.
فنلاحظ أن الإسلام أقرَّ نوعين فقط من الرق: وهو بيع وشراء العبيد والجواري الأصليين، أو ما كان من أسرى الحرب، ومع ذلك فقد فتح أبواب الترغيب في العتق.
2- فتح منافذ العتق:
كان النظام قبل الإسلام يمنع العتق إلا في حالة واحدة فقط، وهي إذا رغِبَ السيد في عتق عبده، بل في بعض المجتمعات يفرضون على السيد غرامةً ماليةً إذا أعتق عبده، أما الإسلام ففتح العتق على مِصراعيه؛ فمن ذلك:
العتق بمجرد صدور كلمة العتق من السيد، ولو كان هازلًا، ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزلهن جِدٌّ: النكاح، والطلاق، والعتق))؛ [الترمذي (1184)، وأبو داود (2194)، وابن ماجه (2039)، وحسنه الألباني في الإرواء (1826)].
الوصية بالعتق بعد موت السيد، وعليه فلا يجوز بيعه أو هِبَتُه أو رهنه.
العتق بسبب أن تحمل منه الجارية، وتسمى أم ولد.
نظام المكاتبة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33].
وذلك أن يتفق السيد مع عبده بأن يدفع له مبلغًا لينالَ حريته، وحثَّت الآية على مساعدتهم والتصدق عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33].
وظاهر الآية: أنه يجب على السيد قَبول المكاتبة مع العبد، إذا رغِب العبد في ذلك؛ لأن الله أمرهم بذلك؛ قال تعالى: ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ ﴾ [النور: 33].
العتق: ككفارة من المعاصي؛ ككفارة القتل الخطأ، وفي كفارة الجماع في نهار رمضان.
العتق في كفارة الأيمان: ككفارة يمين الظهار، وكفارة الحِنث في يمين الحلف.
حبَّب الإسلام في العتق تطوُّعًا؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 13].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أعتق عبدًا، أعتق الله به بكل عضوٍ منه عضوًا من النار))؛ [البخاري (6715)، ومسلم (1509)، والترمذي (1541)].
خصص الإسلام سهمًا من الزكاة لتحرير الأرِقَّاء، وبهذا تعلم أن الإسلام أسهم إسهامًا كبيرًا في تحرير الأرقاء؛ [نقلًا من كتابي: (تنبيه الهمام فيمن لهم أجران: ص: (60 – 64)]، وبهذا نعلم من الذي حبَس حرية البشر.
ثانيًا: من قولك: "مقايضة العبد العربي بالعبدين الأسودين"، فليس في الحديث كما سترى أن العبد عربي أو ليس بعربي، وليس فيه أيضًا أن العبيد السود من العرب أو العجم.والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه: (1602) حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وابن رمح، قالا: أخبرنا الليث، ح وحدثنيه قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: ((جاء عبدٌ فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بِعْنِيه، فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدًا بعد حتى يسأله: أعبدٌ هو؟)).
فلما استقر إسلام هذا العبد وهو ملكٌ لسيده، ومن حق سيده أن يسترده، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرضَ بنقض بيعته وردِّه لسيده؛ فاشتراه بضعف ثمنه، وهذا إن دلَّ فيدل على حرصه صلى الله عليه وسلم بعتقه وحريته.
قال النووي: "وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والإحسان العام؛ فإنه كره أن يردَّ ذلك العبد خائبًا بما قصده من الهجرة وملازمة الصحبة، فاشتراه ليتمَّ له ما أراد، وفيه جوازُ بيعِ عبدٍ بعبدين؛ سواء كانت القيمة متفقة أو مختلفة، وهذا مُجمَعٌ عليه إذا بِيع نقدًا، وكذا حكم سائر الحيوان، فإن باع عبدًا بعبدين، أو بعيرًا ببعيرين إلى أَجَلٍ، فمذهب الشافعي والجمهور جوازه، وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يجوز، وفيه مذاهب لغيرهم، والله أعلم"؛ [شرح مسلم (11/ 39)].
ثالثًا: أما قولك: "الحديث من باب جواز بيع الحيوان بالحيوان"، فهذا ما بوَّب به على الحديث في صحيح مسلم، ومعلوم أن التبويبات ليس للإمام مسلم، فقيل: إنها للنووي، وقيل: إنها للقاضي عياض، وقيل: لغيرهما، فضلًا على أنها ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم هذا ليس تشبيهًا للعبد بالحيوان في خِلقته أو في صفته، لكنه قياس عليه في البيع، فلما كان العبد قيمةً تُباع وتُشترى، وكذا الحيوان وغيرها من الأشياء، فاستدلَّ المُبوِّب على الحديث بجواز التفاضل وبيع الحيوان بالحيوانين؛ قياسًا على بيع العبد بالعبدين.
ثم هذا من باب التشبيه في عدم المماثلة في البيع كما تبيَّن، والتشبيه لا يلزم منه أن يكون المشبه مساويًا للمشبه به من كل وجه، فالتشبيه لا يستلزم مماثلة أو مساواة؛ فهل يُفهم من قوله تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5]
- أن اليهود والنصارى حمير، ولهم أربع أرجل وذيل؟ أو يفهم من قوله تعالى: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 176]
- أن الذي يترك الهدى سار كلبًا حقيقة يلهث وينبح؟
قال ابن تيميَّة: "وليس من شرط التشبيه التساوي من كل وجه"؛ [جامع المسائل، (ص: 322)].
وقال ابن القيم: "والمقصود: أنه لا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء مساواته له"؛ [المنار المنيف في الصحيح والضعيف، (ص: 22)].
وقال أحمد بن إسماعيل بن عثمان بن محمد الكوراني: "التشبيه لا يقتضي التساوي، بل المشبه ناقص عن المشبه به في وجه الشبه"؛ [الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري: (1/ 309)].
وقال المناوي: "والمشابهة في بعض الصفات كافية؛ إذ التشبيه إنما يُصار إليه للمبالغة، ولا يُقصد به المساواة ولا بد"؛ [فيض القدير: (6/ 353)].
وقال الألوسي: "وفَهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة"؛ [مختصر التحفة الاثني عشرية: (ص: 166)].
وأخيرًا: ينبغي أن تعلم أيها الأخ الفاضل أن الشيطان وحزبه لا يرضَون لأحدٍ أن يفوز بهذه النعمة دونهم، فقد أخذ الشيطان على نفسه عهدًا أنه سيقعد للناس على الطريق يصدهم عن سبيل الله؛ كما قال سبحانه عنه: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرُقِهِ، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تُسلِم وتَذَرُ دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتَدَع أرضك وسماءك؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد... إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك - أي: عصى الشيطان في كل مرة - كان حقًّا على الله عز وجل أن يُدخله الجنة))؛ [رواه النسائي].
وللشيطان وأعوانه طرقٌ في صدِّ الناس عن دين الله، تتغيَّر بتغيُّر الظروف والبيئات، وتتلوَّن بتلوُّن الثقافات والمجتمعات، ومن ذلك ما يُثار من شُبُهات حول الإسلام وتشريعاته، وعلى المسلم أن يكون على حذرٍ من مكايد الشيطان وأعوانه، ولقد أحسنتَ أيها الأخ السائل لَمَّا أرجعت الأمر إلى أهله، واستعنتَ بمن يُزيل عنك هذه الشبهة، وهذا هو الواجب في مثل هذا المقام، وما أكثر الشُّبَهَ!
ولكن ما أسرع أن تذهب جميعًا في أدراج الرياح!
هذا، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6s0m2P8q3