أنَّ أهلَ السنةِ والجماعةِ تميزوا عن غيرِهم بالتَّسليمِ لما جاءَ به الرَّسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ-
من القرآنِ العظيمِ ومن سنّتِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

فسنَّةُ النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- وحيٌ،
والقرآنُ كلامُ اللهِ -جلَّ وعلا-
فما أَتانا في الكتابِ والسّنَّةِ وجب اعتقادُهُ والتّسليمُ له وتصديقُهُ في الأخبارِ،
واتّباعُهُ في الأمرِ والنّهيِ والأحكامِ.

...أهلَ السّنّةِ والجماعة قالوا:
إنَّ النصوصَ -نصوصَ الكتابِ والسنةِ- واضحةٌ بيّنةٌ؛ لأنَّ اللهَ -جلّ وعلا- أنزل كتابَه وجعله واضحاً بَيِّناً بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وجعلَه محكَماً كما
قال جلَّ وعلا: {الر (1) كتابٌ أُحكِمَتْ آياتُهُ ثمَّ فُصِّلَتْ من لَدُنْ حكيمٍ خبيرٍ}
فجعل -جلّ وعلا- كتابَه كلَّه محكَماً، يعني: بيِّناً واضحاً لا يستبهمُ معناه، ولا يغمضُ ما دلّ عليه على النَّاسِ.

كذلك هو -جلّ وعلا-
ذكر أنَّ كتابه متشابهٌ فقال جلَّ وعلا: {اللهُ نَزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً متشابهاً} فجعله كلَّه متشابها، ومعنى ذلك أنَّه يشبه بعضُهُ بعضاً.

وفي آية آلِ عمرانَ جعل جلَّ وعلا:
{منهُ آياتٌ محكماتٌ هنَّ أمُّ الكتابِ وأخرُ متشابهاتٍ}
وهذا يعني: أنَّه منه ما هو واضحٌ بيّنٌ، ومنه ما هو متشابهٌ مشتبهٌ،
فكيف نجمع بين هذه الآياتِ الثلاثِ؟.

نقولُ: القرآنُ محكَمٌ كلُّه ومتشابهٌ كلُّه، ومنه محكمٌ ومنه متشابهٌ.
- فالإحكامُ بمعنى: الوضوحِ والبيانِ، فهو كلّه واضحٌ بيّنٌ على جنسِ الأمَّةِ، قد لا يكونُ واضحاً بيّناً لكلّ أحدٍ، ولكنّه واضحٌ بيّنٌ لجنسِ الأمّةِ.
- كذلك وصفَه بأنَّه متشابهٌ بقوله: {اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كتاباً متشابهاً} يعني: يشبه بعضُه بعضاً، فهذا أمرٌ وهذا أمرٌ، وهذا نهيٌ وهذا نهيٌ، وهذا خبرٌ وهذا خبرٌ، وهذا وصفٌ للجنَّةِ وذاك وصفٌ للجنَّةِ، وهذه قصَّةٌ لنبيٍّ من الأنبياءِ، وهذه قصة للنبيِّ نفسِه، وهكذا … فبعضُهُ يشبهُ بعضاً.
أمَّا الثَّالثُ: يعني: القسم الثَّالث، فهو ما ذُكر في آية آلِ عمرانَ بقوله: {منه آياتٌ محكماتٌ} يعني: بعضُه محكَمٌ واضحُ المعنى، بيّنُ الدِّلالةِ، وبعضُهُ ليس كذلك، مشتبهُ المعنى ومشتبهُ الدِّلالةِ، وهذا المشتبهُ المعنى والمشتبهُ الدّلالةِ لا يوجدُ في القرآنِ ولا في السنَّةِ عند أهلِ السنةِ والجماعةِ بمعنى التشابه المطلق، يعني: أنَّ قوله تعالى: {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٍ} يُعنى به: التشابه النّسبي الإضافي، يعني: أنَّهُ يشتبه على بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ.
أمَّا التشابه المطلقُ بحيثُ يقال: هذه الآيةُ من المتشابِهِ، أو يُقالُ {ألم} هذا من المتشابهِ
-يعني: لا أحدَ يعلمُ معناه- فهذا من الخطأ، ولا يقولُ به أهلُ السنةِ،
بل أهلُ السُّنَّة يقولون:
إنَّه يمكنُ أن توجدَ آياتٌ تشتبه على بعض أهلِ العلمِ فلا يعلمُ معناها، لا يُعلم معناها من جهةِ هذا المُطالعِ،
لكنْ ليس من جهةِ الأمَّةِ بأجمعها،
فيعلمُ بعضُ أهلِ العلمِ المعنى،
والبعضُ الآخرُ لا يعلمُ المعنى،
ولهذا ابنُ عبَّاسٍ لمّا تلا هذه الآيةَ قال: (أنا ممَّن يعلمون تأويلَهُ).

فإذاً؛ التشابهُ، أو يقالُ هذه الآيةُ من المتشابهِ،
لا يوجدُ المتشابه المطلقُ -
يعني الَّذي لا يعلمُ أحدٌ معناه-
بل لا بدَّ أن يوجدَ في الأمَّةِ من يعلمُ معنى كلِّ نصٍّ،
فالقرآنُ نزل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، نزل ليهتديَ به النَّاسُ، كذلك السّنّة، فلا يوجدُ نصٌّ يستبهمُ على جميعِ أهلِ العلمِ وعلى الأمّةِ.

وهذا القولُ بأنَّه هناك ما يشتبه على الجميعِ، ولا يفهمُ معناه الجميعُ،
هذا إنَّما هو قول أهلِ البدعِ.

فإذاً:
المؤلِّف هنا قسم إلى قسمين باعتبارِ بعضِ النَّاسِ لا باعتبارِ الجميعِ،
فقال: (النُّصوصُ نتلقَّاها بالتَّسليمِ والاعتقادِ من غير أن نردَّهَا أو نشبِّهَ أو نمثِّلَ)
وهذا هو في القسمِ الأوَّلِ،
يعني: الآياتِ المحكَماتِ الواضحاتِ.

ما اشتبهَ عليك:
قال: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) وهذا اللفظُ الَّذي ذكرَهُ في قولِهِ: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) ممَّا انتُقدَ على الإمامِ موفَّقِ الدِّينِ ابنِ قدامةَ، فإنَّه في هذه العقيدةِ الموجزةِ انتُقدَت عليه ثلاثُ مسائلَ، هذه أوَّلُهَا، وهي قولُهُ: (وجبَ الإيمانُ به لفظاً) ويمكنُ أن يُخَرَّجَ كلامُه -يعني: أن يُحْمَلَ- على محملٍ صحيحٍ.

أمَّا الانتقادُ فهو أن يُقالَ: إنَّ الواجبَ أن نؤمنَ به لفظاً ومعنىً، لكن إذا جهلنا المعنى نؤمنُ بالمعنى على مرادِ اللهِ -جلَّ وعلا- أو على مرادِ رسولِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كما سيأتينا من كلمةِ الإمامِ الشَّافعيِّ أنَّه قال: (آمنتُ باللهِ، وبما جاء عن اللهِ على مراد اللهِ، وآمنت برسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وبما جاء عن رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- على مرادِ رسولِ اللهِ) يعني: إذا جهلَ المعنى.
فإذا جهلْتَ المعنى تؤمنُ باللفظِ والمعنى، لكن المعنى على مرادِ من تكلَّمَ به.
ووجهُ الانتقادِ الَّذي انتُقِدَ به الإمامُ ابنُ قدامةَ في هذه اللفظةِ:
أنَّهُ يجبُ الإيمانُ باللفظِ والمعنى، أمَّا الإيمانُ بلفظٍ مجرَّدٍ عن المعنى فهذا هو قولُ أهلِ البدعِ الَّذين يقولون: (نحن نؤمنُ بألفاظِ الكتابِ والسّنَّةِ دونَ إيمانٍ بمعانيها؛ لأنَّ معانيَهَا قد تختلفُ).
والجوابُ: أنَّ هذا غلطٌ؛ بل معاني الكتابِ والسّنَّةِ هي على المعنى العربيِّ، فالقرآنُ نزل بلسانٍ عربيٍّ، والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- تكلَّمَ بلسانٍ عربيٍّ، فلهذا وجب أن يؤمَنَ بالكتابِ والسّنَّةِ على ما تقتضيه لغةُ العربِ، وعلى ما يدلّ عليه اللسانُ العربيُّ، وهذا أصلٌ من الأصولِ.
لكنْ إذا اشتبه عليك المعنى، كلمة في القرآنِ ما علمْتَ معناها، حديثاً إمَّا في الصِّفاتِ أو في الغيبيَّاتِ لم تعلم معناه، نقولُ: نؤمن به لفظاً ومعنًى، يعني: معناهُ مفهومٌ، لكنْ على مرادِ اللهِ ومرادِ رسولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وهذا هو الَّذي جاء في الآيةِ، حيثُ قال جلَّ وعلا: {فأمَّا الَّذين في قلوبِهِم زيغٌ فيتَّبعون ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِهِ وما يعلَمُ تأويلَهُ إلا اللهُ والرَّاسخُونَ في العلمِ يقولون آمنا به كلٌّ من عندِ ربِّنَا} هنا قال: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ماذا يُعنى بهذا التَّأويلِ؟
إذا قلنا: إنَّ كلَّ آيةٍ لا بد أن نعلمَ معناها، وكل حديثٍ لا بدَّ أن يوجدَ في الأمةِ منْ يعلمُ معناهُ، فما معنى قولِه تعالى: {وما يعلَمُ تأويلَهُ إلا اللهُ}؟
الجوابُ: أنَّ ما أنزلَ اللهُ -جلّ وعلا- على قسمين:
- إمَّا أن يكونَ أخباراً.
- وإمَّا أن يكونَ أحكاماً.
وتأويلُ الأخبارِ يكون بوقوعِهَا، وتأويلُ الأحكامِ (الأمرِ والنَّهيِ) يكون بإيقاعِها.
فقولُهُ تعالى هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} يعني: تلك الأخبارَ ما يعلم تأويلَهَا إلا اللهُ؛ لأنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- هو الذي يعلمُ حقيقةَ ما تَؤُولُ إليه، أو يعلمُ ما تَؤَُولُ إليه حقيقةُ تلك الألفاظِ وتلك الآياتِ.
وذلك أنَّ التَّأويلَ في القرآنِ أتى بمعنيين لا ثالثَ لهما:
الأوَّلِ: التَّأويلُ بمعنى ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الشَّيءِ، وهذا كما في قولِهِ تعالى: {هل ينظرُونَ إلا تأويلَهُ يومَ يأتي تأويلُهُ يقولُ الَّذينَ نسوهُ من قبلُ…} الآية.
{هل ينظرون إلا تأويلَهُ} يعني: ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ أخبارِهِ وأحكامِهِ، فحقيقةُ الأخبارِ تَؤُولُ إلى ظهورِهَا من الصّفاتِ والغيبيَّاتِ، كذلك الأحكامُ حقيقتُهَا تَؤُولُ إلى ظهورِ أثر من تمسَّكَ بها وامتثلها ممَّنْ عصى وخالَفَ، هذا المعنى الأوَّلُ.
المعنى الثَّاني: وهو فرعٌ عن هذا، التَّأويلِ: بمعنى التَّفسيرِ، قالَ: {أنا أنبِّئُكم بتأويلِهِ فأرسلُونَ} بتأويلِهِ: يعني بتفسيرِ الرُّؤيا، وهذا مرتبطٌ بالمعنى الأوَّلِ؛ يعني: الحقيقةَ الَّتي تَؤُولُ إليها الرُّؤيا في الواقعِ المشاهدِ.
فإذاً: قولُهُ تعالى هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ليس هو التَّأويلَ الحادثَ الَّذي يقوله بعضُ أهلِ الأصولِ وهو: (صرفُ اللفظِ عن ظاهرِهِ المتبادرِ منه إلى غيرِهِ لمرجِّحٍ أو لقرينةٍ تدلّ عليه) لا، هذا إنَّمَا هو اصطلاحٌ حادثٌ، أمَّا التَّأويلُ فهو في القرآنِ والسّنَّةِ له معنيان لا غيرُ.
فإذاً: قولُهُ هنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} إذا كان في آياتِ الصّفاتِ ووقفنا على هذه الآيةِ وقلنا: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ووقفنا، فنريدُ بالتَّأويلِ ما تَؤُولُ إليه حقيقةُ الأسماءِ والصِّفاتِ، يعني: الكيفيَّة، لا يعلم الكيفيَّةَ وهي الحقيقةُ الَّتي تؤولُ إليها آياتُ الأسماءِ والصِّفاتِ والأحاديثِ الَّتي فيها الأسماءُ والصّفاتُ، لا يعلم كيفيَّةَ اتّصافَ اللهِ -جلَّ وعلا- بها إلا هو سبحانه.
وإذا أُرِيدَ بالتَّأويلِ معنى التَّفسيرِ، لا الكيفيَّةِ، فإنَّ الرَّاسخين في العلمِ يعلمون، ولهذا طائفةٌ من السَّلفِ يرون الوقفَ على كلمةِ {العلم} يقولون: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ والرَّاسخون في العلمِ} ويقف؛ لأنَّ الرَّاسخين في العلمِ يعلمون المعنى لكنْ لا يعلمون الكيفيَّةَ، فإذا كان الاشتباهُ واقعاً في المعنى كان الرَّاسخون في العلمِ ممَّنْ يعلمون، وإذا كان الاشتباهُ وقع في الكيفيَّةِ كان العلمُ مقصورا على ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ، وهذا معنى قولِهِ: {وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ} ولهذا قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (أنا ممَّنْ يعلمُ تأويلَهُ)
شرح لمعة الاعتقاد للشيخ صالح ال الشيخ