الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية- يُقدّم في ولاية الوقف من عرفت قوته وأمانته

عيسى القدومي




باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه، ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص ثم من القواعد لفقهية الكلية ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلّقة بالولاية على الوقف ومع الضابط الأول وهو: (يُقدّم في ولاية الوقف من عرفت قوته وأمانته).


معنى الضابط

المستحقُّ للتقديم في توليته نظارة الوقف هو الأقدر على رعاية مصالحه والقيام بحقوقه، وذلك بتحقُّق وصف القدرة على ذلك والأمانة فيه، فتكون هذه الأوصاف هي المعيار الأوّل للتقديم، ولا يضرّه أن يكون مفضولاً في غيرهما من صفات الخير وخصال البرّ، وذلك لأنّ القيام بحقّ الوقف واجب، ورعاية شروط الواقف واجبة، ولن يقدر على ذلك إلا القويّ الأمين، وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، وهذا في الحقيقة تفريعٌ على قاعدة أعمّ تتناول جانب نظارة الوقف وغيرها من صور الولايات الخاصّة والعامّة، وهي مبدأ عامٌّ في الشريعة وأصلٌ كليٌّ فيها، أنّه يُقدَّم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدّ قُدِّم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة، فيولّى عليها شَادٌّ قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته».

المبدأ العام

وقال في تقرير المبدأ العام: «اجتماع القوة والأمانة في النّاس قليل؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: اللهمّ أشكو إليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية الأصلحُ بحسبها، فإذا تعيّن رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة؛ قُدِّم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلّهما ضررًا فيها؛ فيقدّم في إمارة الحروب الرجل القويّ الشّجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً؛ كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرَيْن في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيّهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القويّ فقوّته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأمّا الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القويّ الفاجر».

الأقوم بمصالحها

وقال العلّامة القرافي -رحمه الله-: «اعلم أنه يجب أن يقدّم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه، فيُقدّم في ولاية الحروب من هو أعرف بمكائد الحروب وسياسة الجيوش والصولة على الأعداء والهيبة عليهم، ويُقدّم في القضاء من هو أعرف بالأحكام الشرعية وأشدّ تفطُّنًا لحِجَاجِ الخصوم وخدعهم... ويُقدّم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى وتقدير أموال النفقات، وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموال الأيتام، ويُقدّم في جباية الصدقات من هو أعرف بمقادير النُّصُب وأحكام الزكاة من الخُلْطة وغيرها...».

«بل قد منع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا ذرِّ من تولِّي الإمارة بقوله: «يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف، وإنّها أمانة، وإنها يوم القيامة: خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقِّها، وأدّى الذي عليه فيها».

ضعف يتعلّق بخصوصيّة الإمارة

ونحن نتساءل هنا، هذا الرجل الصَّادق اللّهجة، الذي احتملت نفسُه الكريمة من الزّهد: أن حرَّم على نفسه أن يدّخر ما زاد على قوت يومه وليلته، وكان متين البدن حتى احتملت قوّته البدنيّة: أن يترك بعيرَه الهزيل يوم تبوك، ويحمل متاعَه على ظهره لئلا يتأخّر عن النبيّ وأصحابه، في أيِّ شيءٍ كان ضعيفًا؟!

لا شكّ أنّ هذا ضعف يتعلّق بخصوصيّة الإمارة، وما تحتاجه من الشخصيّة المتوازنة؛ التي تقف على حدود الله في الوقت الذي تمارس فيه السلطان بكلّ أبّهته وولاياته وحاكميّته، ولم ير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أبي ذرٍّ قُدرته على ذلك، في حين رآه قد قَدَرَ على أمورٍ في جوانب أخرى بَزَّ فيها أقرانَه، وتفوّق على أصحابه، وهذا هو عين النُّصح، وكمال العدل في السياسة الشرعيّة».

والسُّنَّة المطهّرة تدلُّ على أن يتولّى الواقفُ، أو القاضي، أو المكلّف برعاية الصالح العام، اختيارَ من تتوفّر فيه أوصاف القوّة والأمانة لنظر الوقف، ويجتنبوا من يتطلّع إليها ويحرص عليها ويمدُّ إليها عينيه دون أن يندُبه أحد إليها، ولا زكّاه أهل المعرفة والخبرة والتجربة، رعايةً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في باب تولية الإمارة: «إنّا لا نولِّي هذا من سأَلَه، ولا من حرصَ عليه».

تطبيقات القاعدة

- ينبغي للمؤسّسات الخيرية والوقفية اختيار موظّفيها وعامليها وكوادرها بناءً على كفاءاتهم الخاصّة المتعلّقة بالوظائف والمسؤوليات التي سيتولّونها، وليس بناءً على تزكيات عامّة، أو اختبارهم ضمن معايير ثانويّة لا علاقة لها بمجال مسؤوليّاتهم المطلوبة منهم.


- عند إنشاء المشاريع الوقفيّة في أماكن الاضطرابات، والدّول التي تعاني من ضعفٍ في مجال الأمن العام، لابدّ للمؤسّسات الخيريّة التي ترعى الأوقاف في هذه الأماكن أن تولِّي على الأوقاف من له شوكةٌ ومَنَعَة وأمانة، أو تضمّ في الولاية على الوقف عدداً ممّن يتّصفون في مجموعهم بهذه الأوصاف، لكي تتحقّق بهم المصلحة، فلا يطغى صاحب القوّة إذا انفرد، ولا يُستضعف صاحب الأمانة إذا انفرد كذلك.