الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية - لا عبرة بالدّلالة في مقابل التصريح

عيسى القدومي




باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثم من القواعد لفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضابط الثامن من الضوابط المتعلقة بشرط الواقف وهو: لا عبرة بالدّلالة في مقابل التصريح.

معنى الضّابط

الدّلالة: غيرُ اللفظ، من حالٍ أو عُرفٍ أو إشارةٍ أو غير ذلك، والدِّلالةُ -بالكسر- في المحسوسات، وبفتحها في المعقولات، هكذا في الغالب، وهي في الجملةِ كون الشيءِ على حالٍ يفيدُ معها الآخر علمًا، والتصريح: ما كان المُرادُ منه ظاهراً ظهوراً بيِّناً وتامًّا، وهو النُّطْقُ أو الكتابة.

فالمعنى: التصريحُ أقوى من الدلالة، فإذا تعارضا فلا عمل للدلالةِ ولا اعتدادَ بها، أمَّا عندَ عدمِ التعارُضِ فيُعمَلُ بالدَّلالة. قال الشيخ أحمد الزرقا -مبيِّنًا أنواع الدّلالة وأقسامَهَا-: «وتكونُ لفظيةً وغيرَ لفظيّةٍ، وكلٌّ منهما ثلاثة أقسام؛ وضعيّة وعقليّة وطبيعية.

فاللفظيّة الوضعيّة: كدلالة الألفاظ على ما وُضعت له. واللفظية العقلية: كدلالة اللّفظ على وجود اللّافظ، كدلالة (أخّ) على مطلق الوجع. وغير اللفظية الوضعيّة: كدلالة الدَّوَالِّ الأربع على مدلولاتها. وغير اللفظية العقلية: كدلالة المصنوعات على وجود الصانع. وغير اللفظية الطبيعية: كدلالة الحُمْرة على الخجل، والصُّفْرة على الوجل. والظاهر أنّ الدلالة الوضعية اللفظية والدلالة العقلية بقسميها اللفظي وغيره غير مرادتين في القاعدة المذكورة؛ لأنّ اللفظية الوضعيّة هي التصريح الذي تُلغى الدّلالة بمقابله، ولأنّ العقليّة بقسميها إذا لم نقل إنها فوق التصريح فليست دونَه، فيبقى المراد حينئذ بالقاعدة المذكورة دلالاتٍ ثلاثة، وهي: اللّفظيّة الطبيعية، وغير اللّفظيّة الوضعية، وغير اللفظيّة الطبيعيّة.

مجال العمل بهذه القاعدة

ومجال العمل بهذه القاعدة عموماً: الأحكام المتعلّقة بالتّعبير عن الإرادة من إيجابٍ وقبولٍ، وإذنٍ ومنعٍ، ورضىً ورفضٍ وغيرِ ذلك، وممّا لا شكّ فيه أنّ تطبيقات هذه القاعدة كثيرةٌ جدًّا في عامّة أبواب الفقه، فإنّ احمرار وجه الفتاة البِكْر عند عرض الزوج نفسَه على وليّها، وإخبارها بذلك، وهو دلالة طبيعيّة غير لفظيّة بحسب التقسيم الاستقرائيّ السابق، لَدلالةٌ معتبرةٌ جاء الشّرع باعتبارها، كما في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البِكْرُ تُستأذن». قلت: إنّ البِكْر تستحيي! قال: «إذنها صُمَاتُها». ومعلومٌ عند النّاس أجمعين أنّ استحياء البِكْر حالٌ يُرى في وجهها وعلى ظاهرها، وقد نزّل الشّرع هذه الدّلالة منزلة الرّضا، وجعلها بذلك معبِّرةً عن إرادتها به، هذا إذا كان الصّمتُ والاستحياء هو كلّ ما صدر عنها، أمّا لو اقترن ذلك بتصريحها بالردِّ والرّفض، انتقضَت الدّلالةُ وعُمل بالتصريح في ذلك، وهذا هو المقصود بهذه القاعدة.

«الدَّلالة -بفتح الدال- في المعقولات، وبكسرها في المحسوسات، وهي كون الشيء بحال يفيد الآخر علماً، ودلالةُ التصريح يقينيّة، ودَلالة الحال والقرائن محلّ الشكّ، واليقين لا يزول بالشكّ، والتصريح أقوى من الدلالة، فإذا تعارض التصريح مع الدلالة فلا عبرة بالدلالة مقابل التصريح، لأنها دونَه في الإفادة وهو فوقها، فيُقَدَّم الأقوى».

وعلى هذا فهذه القاعدة في الأصل هي من فروع القاعدة الفقهيّة الكليّة الكبرى: «اليقين لا يزول بالشكّ»، وقد درج المصنّفون على إيرادها تحتها.

التطبيقات العملية للقاعدة

1- الوقْف إذا جُهِلَ مصرفُه للقاضي أو لمن تولّى النّظر عليه أخيراً، فإنّه يعملُ في غلّته بعمل القُوَّام والنُّظَّار السابقين، لأنّها دلالة الحال، فيُستصحَبُ حكمُ هذه الحال الحاضرة لاعتبار أنّها هي الحالة التي أرادها الواقف، فهذه هي الدّلالة، فلو وُجِدَت وثيقة الوقْف وظهر أنّ الواقف أراد بوقفه غير ما جرى عليه النُّظَّار، قُدِّمَ تصريحُه على دلالة الحال قطعاً.


2- معلومٌ أنّ الموقوف عليه المعيَّن يُشترطُ في استحقاقه أنْ يقبل، فإذا علم بالوقْف عليه فسكت، كان سكوتُه كافياً في الدّلالة على قبوله، فإنْ صرّح بعدم قبوله عُمل بتصريحه.