منهج ابن كثير في الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر
إن منهج ابن كثير رحمه الله في الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخِرِ شَمِلَ المنهج العاطفيَّ والعقليَّ والحسي، فيشير رحمه الله إلى أن الإيمان باليوم الآخر يَحمِل المسلمَ على فعل الطاعات وترك المعاصي؛ طمعًا في ثواب ذلك اليوم وخوفًا من عقابه، كما أنه دليل على عدل الله وحكمته؛ حيث يجازي من يستحق العذابَ بعدله، ويجازي من يستحق الثواب بفضله وكرمه، وفيه تسلية للمؤمن عما يفوته في هذه الدنيا من المحبوبات والملاذِّ، ولا يتكدر مما يصيبه من مكروه؛ لأنه يرجو العوض والأجر من الله، فيدعوه ذلك إلى الطُّمأنينة والراحة وترك التسخُّط.
وقد أشار رحمه الله إلى تفاصيل اليوم الآخر والبعث والنشور، فذكر الموت والبرزخ، وعذاب القبر ونعيمه، وكذلك أشراط الساعة، وأحوال القيامة، والحساب والميزان والحوض، والجنة والنار، ورؤية المؤمنين ربَّهم في الجنة، وغير ذلك من أحوال اليوم الآخر التي أخبر بها الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر ذلك على سبيل الإيجاز.
1. فتنة القبر:
من عقيدة أهل السُّنة الإيمانُ بفتنة القبر، وهي سؤال الملَكينِ الميتَ بعد دفنه، عن ربِّه ودينه ونبيِّه صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن كثير عدة أحاديث في عذاب القبر ونعيمه ووجوب تصديق ذلك والإيمان به، منها ما ذكره عند تفسير الآية: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]: "قال الإمام أحمد.. عن البراء بن عازب[1] قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهَيْنا إلى قبر ولمَّا يُلحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلَسْنا حوله كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزَلَ إليه ملائكةٌ من السماء بِيضُ الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة... قال: فتُعادُ روحُه في جسده، فيأتيه ملَكانِ فيُجلِسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجُلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما عِلمُك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله فآمَنتُ به وصدَّقتُ، فينادي منادٍ من السماء: أنْ صدَقَ عبدي، فأَفرِشوه من الجنة، وأَلبِسوه من الجنة... قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزَلَ إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوُجوهِ.... قال: فتُعادُ روحُه في جسده، ويأتيه ملَكانِ فيُجلِسانه ويقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أنْ كذَبَ، فأَفرِشوه من النار، وافتحوا له بابًا من النار.... الحديث"[2].
2. أشراط الساعة:
وهي من مقدِّمات اليوم الآخر، وعلامات على قيام الساعة، التي هي من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يُطلِع عليه لا ملكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلًا، كما قال سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأعراف: 187]، يقول ابن كثير: "أمر تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الساعة أن يرُدَّ عِلمَها إلى الله تعالى، فإنه هو الذي يجلِّيها لوقتها؛ أي: يعلم جليَّةَ أمرها ومتى يكون على التحديد، لا يعلم ذلك إلا هو تعالى؛ ولهذا قال: ﴿ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 187]، وقال السدي: خَفِيَتْ في السموات والأرض، فلا يعلم قيامَها حين تقوم ملَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسَل"[3].
وقد قسَّم العلماء أشراطَ الساعة وعلاماتها إلى علامات صغرى، وعلامات كبرى، وقد ذكر ابن كثير بعضَ هذه العلامات، والتي منها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: "فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمَلَ الله به الدِّين، وأقام به الحُجَّة على العالمين، وقد أخبَرَ صلوات الله وسلامه عليه بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان ذلك وأوضَحَه بما لم يؤتَه نبيٌّ قبله... قال الحسن البصري: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وهو كما قال؛ ولهذا جاء في أسمائه عليه السلام أنه نبيُّ التوبة، ونبيُّ المَلْحَمة، والحاشر الذي يُحشَر الناس على قدمَيْه، والعاقبُ الذي ليس بعده نبيٌّ"[4].
وابن كثير رحمه الله قد تعرَّض لبعض العلامات الصغرى التي وقعت ويمكن أن تتكرر في كتابه البداية والنهاية "الفتن والملاحم"، وجعل عنوانها "ذكر أنواع من الفتن وقعت وستكثر وتتفاقم في آخر الزمان"[5]، وهو بهذا يدعو إلى الإيمان باليوم الآخر عن طريق المنهج الحسي[6]، بلفت النظر إلى ما يُشاهِدُه الناس لبعض أشراط الساعة الصغرى.وأما أشراط الساعة وعلاماتها الكبرى، فهناك أشراط دالةٌ على قربها؛ مثل: المهدي المنتظر، والمسيح الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، كما أن هناك أشراطًا دالة على حصولها؛ مثل: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، والنار التي تحشُرُ الناسَ.
فمن أشراط الساعة الكبرى: المهدي المنتظر، قال ابن كثير عند تفسير الآية: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور: 55]: "هذا وعدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمَّتَه خلفاءَ الأرض، أئمة للناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد... عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وَلِيَهم اثنا عشر رجلًا))[7]....
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلًا، وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر، فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء... ثم لم يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمَّة متتابعًا ومتفرِّقًا، وقد وجد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ثم كانت بعدهم فترة بينهم، ثم وجد منهم ما شاء الله، ثم قد يوجد منهم من بقي في وقت يعلمه الله، ومنهم المهدي الذي يطابق اسمُه اسمَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكنيتُه كنيتَه، يملأ الأرض عدلًا وقسطًا، كما مُلئتْ جورًا وظلمًا"
[8].
وقال أيضًا بعد ما أورَدَ حديث جابر بن سمرة: ((لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلًا)): "والظاهر أن منهم المهديَ المبشَّرَ به في الأحاديث الواردة بذكره أنه يواطئ اسمُه اسمَ النبي صلى الله عليه وسلم، واسمُ أبيه اسمَ أبيه، فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا، كما مُلئتْ جورًا وظلمًا"[9].
وقد استخدم رحمه الله المنهج العقليَّ في الرد على مثل هذه الدعاوى، فقال: "وليس هذا بالمنتظَرِ الذي يتوهم الرافضةُ وجودَه ثم ظهوره من سرداب سامراء[10]؛ فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكليَّة، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة"، وكذلك رده على من ادعى النبوة، ومنهم المسيح الدجال الذي هو من أشراط الساعة الكبرى[11].
ومن أشراط الساعة الكبرى المسيحُ الدجال، يقول ابن كثير عند تفسير الآية: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 39]: "وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السُّنة المتواترة عنه: أنه لا نبيَّ بعده؛ ليعلموا أن كلَّ من ادعى هذا المقامَ فهو كذَّاب أفَّاك دجَّال ضالٌّ مُضِلٌّ، وكذلك كل مدَّعٍ لذلك إلى يوم القيامة، حتى يُختَموا بالمسيح الدجال"[12].
وكذلك نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وقتلُه للمسيح الدجال، يقول ابن كثير عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]: "ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم إمامًا عادلًا، وحكَمًا مُقسِطًا، فيقتُلُ المسيح الدجَّال وجنوده من اليهود، ويقتُل الخنزير، ويَكسِر الصليب، ويضع الجزية فلا يَقبَلُ إلا الإسلام"[13].
وقال عند تفسير الآية: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]:"عن أُبَيِّ بن كعب في قوله: ﴿ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأنبياء: 71] قال: الشام... وكان يقال: هي أرض المحشر، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وبها يَهلِكُ المسيحُ الدجَّال"[14].
وقال أيضًا: "ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها"[15].
وكذلك من أشراط الساعة يأجوج ومأجوج، وهم كما قال ابن كثير: "يَعِيثون في الأرض فسادًا، ويُهلِكون الحرثَ والنسل، ويأجوجُ ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين: ((إن الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعَثْ بَعْثَ النار، فيقول: ما بعثُ النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذٍ يشيب الصغير، وتضع كلُّ ذات حملٍ حمْلَها، فيقال: إن فيكم أمَّتينِ ما كانتا في شيء إلا كثَّرَتاه: يأجوج ومأجوج))[16].
وردَّ رحمه الله على من قال بأن يأجوج ومأجوج خُلِقوا من آدم وليسوا من حواء، فقال: "وقد حكى النوويُّ رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس (أن يأجوج ومأجوج خُلِقوا من منيٍّ خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخُلِقوا من ذلك، فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء)"[17] ، وقد استخدم ابن كثير المنهج العقليَّ في الردِّ على ذلك، فقال: "وهذا القول غريب جدًّا، لا دليل عليه من عقل ولا نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعضُ أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم"[18].
وأشار ابن كثير إلى أن الله تعالى سيُهلِكُهم ببركة دعاء عيسى بن مريم عليه السلام، فقال عند تفسير الآية: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159]: "يعني بعيسى... وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال، فيقتُلُه الله على يديه، كما ثبت في الصحيح: ((أن الله لم يخلُقْ داء، إلا أنزل له شفاء))[19] ، ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج، فيُهلِكهم الله ببركة دعائه"[20].
وكذلك طلوع الشمس من مغربها، كما قال تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]، يقول ابن كثير: "يقول تعالى متوعدًا للكافرين، والمخالفين رسلَه، والمكذِّبين بآياته، والصادِّين عن سبيله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾... وذلك كائن يوم القيامة، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾، وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية:....... حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمَنَ مَن عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمَنتْ مِن قبلُ))"[21].
وغير ذلك مما أورده ابن كثير عن علامات الساعة وأشراطها، حيث إننا نلاحظ أنه رحمه الله استخدم المناهج الدعويَّة المختلفة في الدعوة إلى الإيمان بها وتصديقها.
3. البعث:من حكمة الله تعالى أنْ جعل للناس معادًا يجازيهم فيه على أعمالهم، والإقرار بالبعث داخلٌ ضمن الإيمان باليوم الآخر، وإنكاره كفرٌ بالله عز وجل، فيجب الإيمان بالبعث وأن الله سبحانه يبعث الناس من قبورهم، "ويُعيدهم بعدما صاروا في قبورهم رممًا[22]، ويوجدهم من العدم"[23].
ولقد كذَّب الذين كفروا بالبعث واستبعدوا الميعاد، وقالوا كما حكى الله عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [النمل: 67، 68]، فرَدَّ الله عليهم وأَكْذَبَهم، وأمَرَهم أن ينظُروا في عاقبة مَن قبلهم ممن كذَّب بالرسل وما جاؤوا به من أمر المعاد وغيره، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [النمل: 69]، يقول ابن كثير: "أي المكذِّبين بالرسل وما جاؤوا به من أمر المعاد وغيره، كيف حلَّت بهم نِقَمُ الله وعذابه ونَكالُه، ونجَّى الله من بينهم رسلَه الكرام ومن اتبَعَهم من المؤمنين، فدلَّ ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحتِه"[24].
وقد قرَّر رحمه الله أن من عدل الله وحكمته ألا يساويَ بين الفجار والأبرار، كما قال سبحانه: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28].
يقول ابن كثير: "أي لا نفعل ذلك، ولا يَسْتوُون عند الله، وإن كان الأمر كذلك، فلا بد من دارٍ أخرى يثاب فيها هذا المطيع، ويعاقَب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السلمية والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء؛ فإنَّا نرى الظالم الباغيَ يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يَظلِمُ مثقالَ ذرَّة من إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتَعيَّن دار أخرى لهذا الجزاء والمواساة"[25].
وهكذا نجد ابن كثير رحمه الله استخدَم المنهج العقليَّ في تقرير البعث، والدعوةِ إلى تصديقه والإيمان به.4. الجنة والنار:الجنة هي دار النعيم التي أعَدَّها الله في الدار الآخرة للمؤمنين المتقين، المخلصين لله، المتبِعين لرسله، والنار هي دار العذاب التي أعَدَّها الله في الآخرة للكافرين بالله وعصَوْا رسلَه[26].
والله سبحانه وتعالى كثيرًا ما يقرن بين صفة الجنة وصفة النار؛ ليرغِّب في الجنة، ويحذِّر من النار، كما قال سبحانه: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾ [الرعد: 35].
وقد أورَدَ ابن كثير رحمه الله في مواضعَ متعددة من تفسيره حالَ أهل الجنة وحال أهل النار، وما منزلة كل منهم، وما أعَدَّ الله للمؤمنين من المآكل والمشارب والملذَّات، وللكافرين من الذُّلِّ والهوان والعذاب الأليم[27]، ولا شك أن الفارق بين الحالين كبيرٌ، فكما يقول ابن كثير: "أين هذا من هذا؟ أين من هو في العَرَصاتِ في الذلِّ والهوان والخوف المحقَّق بظلمه، عمن هو في رَوْضات الجنات فيما يشاء مِن مآكلَ ومشارب، وملابسَ ومناظر، ومَناكِحَ وملاذَّ، فيما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر؟"[28]، وغيرها من المواطن الكثيرة التي استخدَم فيها ابن كثير المنهج العاطفيَّ؛ للترغيب في الجنة، والترهيب من النار.
[1] البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي، أبو عمارة، قائد صحابي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيرًا، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، أولها غزوة الخندق، ولما ولي عثمان الخلافة جعله أميرًا على الري (بفارس) سنة 24هـ، فغزا أبهر وفتحها، ثم قزوين فملكها، وانتقل إلى زنجان فافتتحها عنوة، وعاش إلى أيام مصعب بن الزبير، فسكن الكوفة واعتزل الأعمال، وتوفي زمنه سنة 71هـ. الأعلام 2/ 46.
[2] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 655 - 656، والحديث متفق عليه، وأخرجه البخاري كتاب التفسير، باب الجنائز رقم (4699)، ومسلم، كتاب الجنة ونعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه رقم (2871)، وأبو داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر رقم (4750)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة إبراهيم رقم (3120)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى رقم (4269).
[3] المرجع نفسه 2/ 340-341.
[4] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 209 عند تفسير الآية: (محمد 18).
[5] انظر البداية والنهاية 19/ 67.
[6] انظر سليمان عبدالله، الدعوة إلى الله بالمنهج الحسي، ص 22.
[7] متفق عليه، وأخرجه البخاري بلفظ: ((يكون اثنا عشر أميرًا، كلهم من قريش))، كتاب الأحكام، باب حدثنا محمد بن المثنى حدثنا غندر رقم (7222) (7223)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش رقم (1821).
[8] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 374-375، عند تفسير الآية: (المائدة 12).
[9] المرجع نفسه 2/ 44 عند تفسير الآية: 12 من سورة المائدة.
[10] وهو السرداب الذي تزعم الرافضة أن محمد بن حسن العسكري المنتظر من ولد الحسين بن علي الحاضر في الأمصار، والغائب عن الأبصار، دخل سرداب سامراء طفلًا صغيًرا من أكثر من خمسمائة سنة، فلم تره بعد ذلك عين، ولم يُحَسَّ فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كل يوم! يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرُجَ إليهم. انظر المنار المنيف في الصحيح والضعيف. شمس الدين محمد بن أبي بكر بن القيم ص 140-141 طبعة دار الكتب العلمية بيروت 1408هـ.
[11] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 44 عند تفسير الآية: (المائدة 12).
[12] المرجع نفسه 3/ 607، 608.
[13] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 99.
[14] المرجع نفسه 3/ 233.
[15] المرجع نفسه 1/ 230 عند تفسير الآية: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129].
[16] المرجع نفسه 3/ 132 عند تفسير الآية: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف: 93]، والحديث متفق عليه، وأخرجه البخاري كتاب الرقائق، باب إن زلزلة الساعة شيء عظيم رقم (6530) ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أَخرِجْ من بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، رقم (222).
[17] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 132.
[18] المرجع نفسه 3/ 132.
[19] أخرجه البخاري بلفظ: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء))، كتاب المرضى، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم (5678)، وأخرجه ابن ماجه بلفظ: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء))، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم (3438) (3439).
[20] المرجع نفسه 1/ 711.
[21] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 245. والحديث متفق عليه، وأخرجه البخاري كتاب التفسير، باب "لا ينفع نفسًا إيمانها" رقم (4635) (4636)، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم (157)، وأبو داود، كتاب الملاحم، باب أمارات الساعة رقم (4312) وابن ماجه، كتاب الفتن، باب طلوع الشمس من مغربها رقم (4068).
[22] الرميم: البالي، المعجم الوسيط ص 374.
[23] المرجع نفسه 3/ 262، عند تفسير الآية (7) من سورة الحج.
[24] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 462.
[25] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 41.
[26] انظر لمعة الاعتقاد؛ لابن قدامة المقدسي ص 26 الناشر وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية ط2، 1420هـ.
[27] انظر مثلًا 1/ 495، 2/ 205، 2/ 257، 2/ 273، 2/ 637، 2/ 544، 3/ 164، 3/ 202، 3/ 388، 3،545، 4/ 12، 4/ 159.
[28] المرجع نفسه 4/ 131 عند تفسير الآية: ﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [الشورى: 22].


رابط الموضوع:
https://www.alukah.net/sharia/0/145786/#ixzz6q1RbYC8l