الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية
- الشرط والاستثناء بعد المفردات المتعاطفة




عيسى القدومي



باب الوقف من الأبواب المهمة التي ينبغي تقرير ضوابطه؛ ذلك أن عامة أحكام الوقف اجتهادية؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامة الضابطة لباب المصالح والمنافع خصوصا، ثم من القواعد الفقهية الكلية، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصة في باب الوقف، وهذا ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضابط السابع من الضوابط المتعلقة بشرط الواقف وهو: (الشرط والاستثناء بعد المفردات المتعاطفة يرجعان إلى الكلّ).

هذا الضابط مكمّلٌ للّذي قبلَه، وقد كان من الممكن جعل مادّتيهما واحدةً، لكنّنا فرّقنا بينهما لجريان جماعةٍ من أهل العلم على التفريق بين مرجع الوصف من جهةٍ، ومرجع الاستثناء والشرط من جهةٍ أخرى، وقد بينّا لمحةً لمذاهبهم في الضابط السابق، والآن نتكلّم عن الاستثناء والشرط، فما القول فيهما؟

محلّ الخلاف

وقبل التعرّض لنقل الأقوال، ينبغي الإشارة في هذه المسألة إلى أنّ «محلّ الخلاف في هذه المسألة إذا لم يكن هناك قرينة تدلّ على إرادة الجميع، أو قرينة تدلّ على أنّ المراد الجملة الأخيرة أو الأولى، فإنْ كان هناك قرينة وجب العمل بما تقتضي تلك القرينة».

وأيضاً فإنّ «النّزاع واقع في الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو، أما إذا كان العاطف غيرها كالفاء، وثمّ، فإنّ الاستثناء يختصّ بالأخيرة، حيث إنّ الفاء وثمّ يقتضيان الترتيب...أما الواو فلا تقتضي ذلك»، ولبيان القول في الشرط والاستثناء نفصّل القول في كلٍّ منهما وحده، ليكون أوضح للفهم -إن شاء الله.

القول في الشرط

قال جمال الدّين بن مالك: «واتفق العلماء على تعليق الشرط بالجميع في نحو: لا تصحبْ زيداً ولا تَزُرْه ولا تُكلِّمْه إنْ ظَلمني، واختُلف في الاستثناء نحو: لا تصحبْ زيداً ولا تزره ولا تكلمه إلا تائباً من الظلم، فمذهب مالك والشافعي تساوي الاستثناء والشرط في التعليق بالجميع، وهو الصحيح، للإجماع على سدّ كلٍّ منهما مَسَدَّ الآخر في نحو: اقْتُل الكافرَ إنْ لم يُسْلم، واقتلْهُ إلّا أن يُسْلِم».

هذا الذي يقرّره رئيسُ النُّحاة وشيخُ العربيّة وحاملُ لوائها في وقته، ويسوقُه اتّفاقاً لعلماء اللُّغة، قد حكاه البعض اتّفاقاً للأصوليِّين أيضاً! والحقُّ أنّه عند التدقيق في كلام أعلامهم وأفرادهم نطّلع على من يرى رأياً آخر، وإنْ كان المصرَّح به في المذاهب الأربعة قولاً واحداً، وهو عَوْدُ الشرط إلى جميع الجمل المتعاطفة، ففي هذه المسألة خلافٌ يسيرٌ، أهون من الخلاف في مسألة الصفة السابقة، ومسألة الاستثناء اللاحقة.

الشرط الداخل على الجمل

قال القرافي: «اختلفوا في الشرط الداخل على الجمل، هل يرجع إلى جملتها أم لا؟ فاتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة -رحمهما الله- على رجوع حكمه إلى جميع الجمل، وإن كان أبو حنيفة قد منع في عَوْد الاستثناء إلى الجمل، وخصَّه بالجملة الأخيرة، وقال بعض العلماء: تختص بالجملة التي تليه، حتى إنه إن كان متأخرًا اختصّ بالأخيرة، وإن كان متقدمًا اختص بالأولى، واختار الإمام فخر الدين التوقف، كما اختاره في الاستثناء»، فهو يشير إلى وجود الخلاف، كما أشار إليه الزركشيُّ أيضاً بقوله: «اختلفوا في الجمل المتعاطفة إذا تعقّبها شرطٌ، هل يرجع إلى الجميع أو يختصّ بالأخيرة؟ على طريقين...».

وهذان الطريقان هما:

مذهب الجمهور

- الأوّل: ما ذهب إليه الجمهور، واستقرّت عليه الكلمة في المذاهب الأربعة، وهو أنّ الشرط إذا تعقّب جملاً متعاطفةً يرجع إلى الكلّ، بمعنى أنّ كلَّ جملةٍ منها تكون مشروطةً بالشرط المذكور في آخرها، كقوله: نسائي طوالقُ وعبيدي أحرارٌ إن كلَّمْتُ زيداً، فإنّ الطّلاق والعتق كلاهما معلّقٌ بتكليمه زيداً، لا العتق وحده، قال ابن نُجيم: «والحاصلُ أنَّ الشرط إذا تعقّب جملاً متعاطفةً متّصلاً بها فإنّه للكلّ».

وقال المحلّي: «وقيل: يجب اتصالُ الشّرط اتفاقاً...(وأَوْل ى) من الاستثناء (بالعَوْدِ إلى الكلّ) أي: كل الجمل المتقدمة عليه، نحو: أكرِمْ بني تميم، وأحْسِنْ إلى ربيعة، واخْلَعْ على مُضَرَ إنْ جاؤوك، (على الأصحّ)، وقيل: يعود إلى الكلِّ اتفاقاً...».

وقال ابن النجّار: «... وأنّ الشرط إذا تعقّب جملاً متعاطفةً عاد إلى الكلّ عند الأربعة وغيرهم...وعلى كلِّ حالٍ هو أولى بالعَوْدِ إلى الكلّ من الاستثناء، بدليلِ موافقةِ أبي حنيفةَ عليه».

التعليقَ بالشرط

ولا شكّ أنّ التعليقَ بالشرط من الأساليب التي يعبّر بها المتكلّم عن إرادته، على نحوٍ يحتّم أخذَ الشرط بعين الاعتبار، وإعماله حيث استحقّ الإعمال، قال القرافي -وهو يشرح الفرق بين دلالة الشرط والاستثناء عند من فرّق بينهما في الحكم-: «والفرقُ على قول أبي حنيفةَ بين الاستثناء والشرط: أنّ التّعاليق اللُّغويّة أسبابٌ، والأسباب مَظَانُّ الحِكَم والمصالح والمقاصد، فيتعيّن تعميمُه تكثيرًا للمصلحة والحِكْمَة، والاستثناءُ إنّما هو إخراجٌ لما هو غيرُ مراد، ولعلّه لو بقي لم يُخِلّ بحكمةِ المذكور الذي هو مراد، فأمرُ الاستثناء ضعيف، وهو يَكِرُّ على اللّفظ بالتخصيص، فيختصُّ بالأخيرة، تقليلًا لمفسدةِ التخصيص»، ولا نشكُّ بعد اعتماد المذاهب الأربعة لهذا القول، مع قوّة مأخذه، بأنّه هو الراجح الذي لا ينبغي العُدول عنه، لا سيما وقد ألمح القرافيُّ بأنّ المخالِفين في ذلك لم ينتظمهم مذهبٌ ناهضٌ، بل لم يُعَدُّوا في الفقهاء! فقال: «وإذا دخلَ الشرط على جُمَل رجع إليها عند إمام الحرمين، وإلى ما يليه عند بعض الأُدَباء!».

القول في الاستثناء

- القول الأوّل: أنّ الاستثناء يعود إلى جميع المتعاطفات، وهو قول جمهور أهل العلم، من المالكيّة والشافعيّة والحنابلة، وبعض الحنفيّة.

- القول الثاني: أنّ الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، وهو المشهور في مذهب الحنفيّة.

قال أبو الوليد الباجي: «الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوفٌ بعضُها على بعض، يجب رجوعه إلى جميعها عند جماعةِ أصحابنا، وقال القاضي أبو بكر فيه بمذهبه بالوقف.

وقال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة: يرجع إلى أقرب مذكورٍ إليه».

ترجيح مذهب الجمهور

ورجّح جماعةٌ من المحقّقين مذهب الجمهور لقوّة مآخذهم واستدلالهم، ومن وجوه استدلال الجمهور:

1- اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كلِّ جملة يعتبر نوعاً من العَيِّ والرّكاكة فيما لو أراد إرجاعه إلى الجميع، كما لو قال: إنْ شرب زيدٌ الخمر فاضربه إلا أنْ يتوب، وإنْ زنى فاضربه إلا أن يتوب، فإذا ثبت استقباحُ ذلك، فلم يبق للتخلُّص منه إلا أن يُجعل استثناءً واحداً في آخر الجُمَل، ويعود إلى جميعها، فيقول: إن شرب زيد الخمر فاضربه، وإن زنى فاضربه إلا أن يتوب.

2- القياس على الشرط، وبيانه: كما أنّ الشرط إذا تعقّب جُمَلاً فإنّه يرجع إلى جميع الجُمَل، فتقول: نسائي طوالق، وعبيدي أحرارٌ إنْ كلَّمْتُ زيداً، فكذلك الاستثناء فإنّه يرجع إلى جميعها، ولا فرق بينهما، والجامع أنَّ كلًّا منهما لا يستقلّ بنفسِه، وأنهما يتعلّقان بغيرهما من الكلام، ولا بدّ من اتصالهما، فإذا ثبت شيءٌ لأحدهما ثبت في الآخر.

3- أنّ الجُمَل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، ولهذا فلا فرق بين قوله: اضرب الجماعة التي منها قَتَلَةٌ وسُرَّاقٌ وزُناة إلا من تاب، وبين قوله: اضرب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب، فوجب اشتراكُهما في عَوْد الاستثناء إلى الجميع.

4- أنّ الاستثناء صالحٌ لأنْ يعود إلى كلِّ واحدةٍ من الجُمَل، وليس البعض أَوْلى من البعض، فوجب العَوْد إلى الجميع، كالعامّ.

ومع وضوح هذه الوجوه وقوّتها وظهورها، فإنّ مذهب أصحاب أبي حنيفة لم يكن هُجْراً من القول -وحاشاهم-، بل له حظٌّ كبيرٌ من النّظر، وعلى كلِّ حالٍ فإنّه يندُر أن يخلو الكلام خلُوًّا تامًّا عن القرائن، فلا يكون العمل بأحد هذين القولَيْن اعتمادًا مجرّدًا على أحدهما، بل يُستفاد المراد من قرائن وأسباب وأدوات كثيرة، كالعُرف الخاصّ أو العامّ، وغرض الواقف، ونحو ذلك، ممّا يندُر خلوُّ الحال عنه.

تطبيقات القاعدة


1- إذا قال: وقفت على أولادي وأولاد أولادي إن لازَمُوا طلبَ العلمِ، فالشرطُ عائدٌ إلى الأولاد وأولادهم جميعاً.

2- إذا قال: وقفتُ على طلبة الحديث وحفظة القرآن والمشتغلين بالفقه إلّا من عاونَ ظالماً على ظلمه، كان هذا الاستثناء راجعاً إلى جميع الموقوف عليهم لا إلى المشتغلين بالفقه فقط، على الأصحّ من أقوال أهل العلم كما تقدّم.