وقالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
يقول الشيخ السعدي في تفسيره:
(قال الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم: مقبحا فعل قومه، وشناعة ما عزموا عليه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ} أي كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أن يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولا مجردا عن البيان ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} لأنه بينته اشتهرت عندهم اشتهارا علم به الصغير والكبير أي: فهذا لا يوجب قتله..... ،
ثم قال لهم مقالة عقلية، تقنع كل عاقل بأي حال قدرت
فقال: {وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} أي موسى بين الأمرين إما كاذب في دعواه أو صادقا فيها فأن كان كاذبا فكذبه عليه وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر....... ، وإن كان صادقا وقد جاءكم بالبينات وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابا في الدنيا والآخرة، فإنه لابد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم.. وهذا من حسن عقله ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائر بين تلك الحالتين وعلى تقدير فقتله سفه وجهل منكم)؛ تفسير السعدي (360/4).
*******************
الحكمة فى تحيُّن الفرص واستثمارها، وقد كان مؤمن آل فرعون حكيمًا؛ حيث أخفى وكتم إيمانه عن فرعون وقومه إلى الوقت المناسب؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾؛ أي: لا أحد يعلم أنه مؤمن، ومكث على هذه الحال إلى أن جاءت الفرصة والوقت المناسب ليُظهر إيمانه ويدافع عن المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام في بداية دعوته كانت دعوته سرًّا لمدة ثلاث سنوات؛ لأنَّ الحكمة تقتضي ذلك، ولو أظهر دعوته مباشرة لربما لم ينتشر الدَّين وكانت المفسدة أعظمَ وأكثر من المصلحة، ففي مثل هذه الحالات يجب مراعاة الحكمة، وعدم التسرع والعجلة، وضبط الغيْرة، وفي بداية الدعوة وحينما كان المؤمنون مستضعفون قلة، قد ورد عن خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ )
الثبات على طريق الحق يحتاج إلى إصرار وقوّة عزيمة.، فالفرصة لم تكن سانحة ولم تتحيَّن بعد، ولكن بعد سنوات قليلة من الدعوة انقلب الأمر، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا منتصرًا قويًّا.
***********
الذبِّ عن اهل الحق؛ حيث قال الله عز وجل عن مؤمن آل فرعون وهو مدافع عن موسى عليه السلام: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾، فقد يسمع الداعية أو غيره من يتَّهم أهل الحق، فيجب عليه الدفاع عنهم والذبِّ عن أعراضهم؛ لأنَّ الدفاع عنهم دفاع عن الدِّين؛ لأنهم هم من يُبلِّغون الدِّين وأحكامه.
*****
من صفات الداعية عدم اليأس من دعوة الآخرين، وتكرار دعوتهم بطرق ووسائل مختلفة متنوعة، فقد كرَّر مؤمن آل فرعون دعوته لقومه بطرق ووسائل متنوعة، بدأها بالإقناع العقلي: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ... وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ..﴾، ثم ذكَّرهم بنعم الله عليهم: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾، ثم خوَّفهم: ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾، وخوَّفهم كذلك: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾، ثم خوفهم بعقوبات دنيوية أصابت من كان قبلهم: ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [غافر: 31]، ثم انتقل إلى وسيلة أخرى، وهي تذكيرهم بعقوبات الآخرة: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، ثم رغَّبهم بما عند الله وحقارة الدنيا وزوالها: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)
******
من وسائل الدعوة حُسن الخطاب والتلطف والرفق واللين في القول؛ حيث كرَّر هذا المؤمن قوله:
يا قوم- ستة مرات في آيات مختلفة، وهذه الكلمة فيها لطف وشفقة وحب للآخرين ورحمة بهم، وخاطَب بها قومه وهم كفار، والله عز وجل يقول: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾
************
من وسائل الدعوة إلى الله الترغيب باستخدام أسماء الله الحسنى، فقال مؤمن آل فرعون لقومه: (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)، فلم يقل لهم أدعوكم إلى الجبار أو المتكبر أو القوي، بل ذكر لهم اسمًا من أسماء الله عز وجل يدل على مغفرة الذنوب (الغفار)؛ أي كثير المغفرة يسرف العباد في الذنوب والكفر، ويعصون خالقهم، ثم إذا تابوا ورجعوا غفر لهم سبحانه، وقد فعل مثل ذلك نوح عليه السلام مع قومه، فقال لهم: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴾
فمثل هذه الوسيلة تُرغِّب المدعو في التوبة وتُعرِّفه بخالقه جل وعلا، فيُذكَّر المدعو العاصي ولو بلغ ما بلغ من الذنوب بأن ربه غفور غفار، رحيم رحمن، تواب رحيم، بل وردت أحاديث كثيرة في السنة تبيِّن عظم رحمة الله وفضله وكريم عفوه، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي..)
*******
من صفات الداعية التوكل على الله وتفويض الأمور إليه صغيرها وكبيرها،
قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾
***********
************
أن هذا الرجل كان قويَّ الإيمان، راسخ الاعتقاد، صلباً ثابتاً، والدليل على ذلك، تقديمه الإيمان على متاع الدنيا الزائل، وعرض الحياة الرَّخيص، مقارنة بما عند الله تعالى.
تدرج المؤمن مع القوم في نصحهم وتعريفهم بما جاء به موسى عليه السلام، وهو في بداية الأمر كان مدافعا عن موسى، ساعيا لمنعهم من قتله، إلى أن كشف النقاب عن حقيقة ما في قلبه.
**************
عدم إنكار المنكر سبب لنزول العذاب يقول مؤمن آل فرعون: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]،
قال ابن كثير: (قال المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء) تفسير ابن كثير (80/4)
***************
أن الحق لن يَعْدَم له أنصاراً، حتى ولو كثر عدد المبطلين -المثال هنا مؤمن آل فرعون
********************
قصَّة مؤمن آل فرعون- مليئة بالعبر والفوائد، فيها الحكمة في الدَّعوة إلى الله تعالى وكيف أنَّ الدَّاعي إلى الله ينبغي أن يكون على علمٍ بحال المدعوِّين ثُم يعرض ما عنده ويدعوهم إلى المقارنة والموازنة وبين ما يدعوهم إليه وبين ما يُقِيمُون عليه حتَّى يتفكَّرُوا في الأمر، مفوِّضًا أمرَهُ إلى الله تعالى طالبًا توفيقه ومدَّه وعونه منه جلَّ وعلا،