"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (3)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

قال الله تعالى في سورة الرعد: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)
وفي سورة لقمان قال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)
القول الصحيح في المراد بالآية أن الله رفع السماء بغير عمد كما نراها بكل وضوح.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية.
اختلف المفسرون في قوله: (بغير عمد ترونها) على قولين:
القول الأول: أن السماوات مرفوعة بعمد ولكنها غير مرئية, فالضمير في (ترونها) يعود للعمد, أي : بلا عمد مرئية, بل بعمد غير مرئية . (مال إلى هذا القول الماتريدي* كما سيأتي)

القول الثاني: مرفوعة بغير عمد, فالضمير يعود للسماء, فمعنى (بغير عمد ترونها) أي: بلا عمد كما ترونها.
كما تقول لصاحبك: أنا بغير سيف ولا رمح تراني.
(رجح هذا القول ابن عطية*, والبغوي*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه ابن عاشور*) (وذكر القولين دون ترجيح الزمخشري*, والقرطبي*)

قال ابن عطية: "وهذا قول الحسن والناس".
وقال: "هذا المعنى أصح والجمهور عليه أنه لا عمد للسماوات البتة".
وهذا القول هو الصحيح.
وليس من العادة أن يستدل الله على عظمته وقدرته بأشياء لا ترى! بل بأشياء ترى بكل وضوح لكل الناس, كالليل والنهار والشمس والقمر والسحاب ونزول المطر والرياح والجبال والبحار والأنهار والدواب ورفع السماء بلا عمد كما نراها.
فيبعد جداً أن يريد الله بيان عظمته وقدرته للكفار ولكل الناس بوجود أعمدة للسماء لا ترى.
بل يستدل بسماء لا أعمدة لها يرونها عياناً فيعلموا قدرة الله يقيناً.

ومال الماتريدي إلى القول الأول كما أشرت, فإنه قال في سورة الرعد: "ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى, كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد, لأن في الشاهد لم يعرف ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى، لكن ما يرفع إنما يرفع بعمد ترى, فاللطف في هذا كاللطف في الآخر".

وقال في سورة لقمان: "لكن الأعجوبة فيما خلقها بعمد لا ترونها ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد, لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد, إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة".

قلت: بل الأعجوبة في رفعها بلا عمد أعظم من رفعها بعمد لا ترى خلاف ما ذكر الماتريدي رحمه الله.
فالله تبارك وتعالى يريد أن يبين كمال قدرته برفع السماء بلا عمد كما سبق بيانه.
ولو كانت مرفوعة بعمد فليس فيه إلا أنها لا ترى, ويعني ذلك أن السماء تحتاج إلى عمد لئلا تقع على الأرض فأين قدرة الله!

(وذكر الرازي* القولين دون ترجيح, لكنه قال: وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل, ثم ذكر أن العمد التي لا ترى هو قدرة الله تعالى, قال: فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى).

وكذلك ذكر الزمخشري, فقال في تفسير سورة الفرقان: "يريد بغير عمد مرئية، وهو قدرته".
وقال في سورة لقمان: "بغير عمد مرئية، يعني: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته".

ولا تظن أن قول الزمخشري والرازي هو كقول الماتريدي, كلا, فعلى قول الماتريدي لها عمد لا ترى, وعلى قول الزمخشري والرازي ليس لها عمد لكنه وصف القدرة بعمد لا ترى.
وكلا القولين بعيد.

وأما ابن جرير* رحمه الله فترجيحه غامض, فهو كالمتوقف.
فهو يقول: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى:(الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا جل ثناؤه, ولا خبر بغير ذلك".

قال ابن كثير رحمه الله: "وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد, وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فعلى هذا يكون قوله: {ترونها} تأكيدا لنفي ذلك، أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة".

وقال ابن عاشور: "وجملة {تَرَوْنَهَا} في موضع الحال من {السَّمَاوَاتِ} ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد".

وقال الشنقيطي: "وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة «الحج» أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله : (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه)".

أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
Alrajhi.sr@gmail.com