مقدمة
ذكر بعض المعاصرين أن هناك فرقًا بين منهج الأئمة المتقدمين والمتأخرين في التعامل مع روايات المدلسين، وذكر أن المتقدمين يقبلون رواية المدلس إذا عنعن، حتى يتبين لهم أنه دلس في هذه الرواية بعينها، وأما المتأخرون فيردون روايات المدلسين المعنعنة مطلقًا حتى يتبين لهم السماع.
وأنا في هذه الرسالة المختصرة أبيِّن - من خلال كلام الأئمة المتقدمين وتأصيلهم - خطأ هذا الكلام، وأنه لافرق بين منهج الأئمة في ذلك.
وكتبه
الفقير إلى عفو ربه
محمد بن طه
وذلك صبيحة يوم السبت 15 رجب 1442هـ
* * *



بداية لا بد من التنبيه على أمر مهم؛ وهو أن معرفة منهج الأئمة له طريقان:
الطريق الأول: النظر في كلامهم وتقعيدهم.
الطريق الثاني: النظر في تطبيقاتهم وتصرفاتهم.
والتقعيد النظري أقوى من التصرف الفعلي.
وذلك أن الإمام إذا أصَّل أصلًا أو قعَّد قاعدة، فإنه يبوح صراحة ونصًّا عما بداخله، وعن طريقته التي يسير عليها.
وأما في التطبيق الفعلي، فقد يخطئ العالم في تطبيق القاعدة التي قعدها، أو قد لا يخطئ ولكن يُفهَم فعله على وجه الخطأ، أو قد يترك القاعدة في موطن ما لأمور لم يفصح عنها.
ولذا كان لزامًا على الناظر في كلام الأئمة وتصرفاتهم أن يجمع بينها، فإن لم يستطع الجمع، فليتهم نفسه بعدم فَهْم هذه المسألة، أو أن يذكر أن الإمام أخطأ في هذا الموطن؛ لأنه خالف تقعيده النظري، وليس أحد معصومًا من الخطأ.
ولا يُحكم على إمام بمخالفة تقعيده النظري إلا إذا كانت المخالفة في مواطن قليلة، وأما إذا كانت المخالفة في مواطن كثيرة، فلْيتَّهم الباحث نفسه بعدم الفهم، ولا يضرب كلام الأئمة وتصرفاتهم بعضها ببعض.
* * *


وأما كلام الأئمة المتقدمين في ذلك
:

فقد روى ابن الجعد في «مسنده» (1039) و (1040)، وابن معين في «رواية الدارمي» (703)، وفي «رواية ابن محرز» (1655)، وأحمد في «العلل» (5068)، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (4/ 370)، وغيرهم، من طرق، عن شعبة، قال: «أنظر إلى فم قتادة، فإذا قال: «حدثنا» كتبت، وإذا قال: «حَدَّثَ» لم أكتب».
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في «الرسالة» (ص369): «وأقبل في الحديث: «حدثني فلان عن فلان»، إذا لم يكن مدلِّسًا».
وقال الإمام الشافعي أيضًا (ص378): «وكان قول الرجل: «سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا يقول»، وقوله: «حدثني فلان عن فلان» سواء عندهم؛ لا يحدِّث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، فمن عرفناه بهذه الطريق قَبِلنا منه: «حدثني فلان عن فلان»، ومن عرفناه دلَّس مرَّة فقد أبان لنا عورته في روايته، وليس تلك العورة بكذب فنرَدُّ بها حديثه، ولا النصيحةِ في الصدق فنقبل منه ما قَبِلنا من أهل النصيحة في الصدق؛ فقلنا: لا نقبل من مدلِّس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت»اهـ.
قال الحافظ ابن رجب في «شرح العلل» (2/ 582، 583)، موضحًا كلام الشافعي: «وهذا الذي ذكره الشافعي قد حكاه يعقوب بن شيبة عن يحيى بن معين، وقال الشاذكوني: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش، ولا عن قتادة إلا ما قالا: سمعناه. وقال البرديجي: لا يُحتج من حديث حميد إلا ما قال: «حدثنا أنس».
ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي، ولا أن يغلب على حديثه، بل اعتبر ثبوت تدليسه ولو بمرة واحدة، واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل، وقالوا: إذا غلب عليه التدليس لم يُقبل حديثه حتى يقول: «حدثنا»، وهذا قول ابن المديني، حكاه يعقوب بن شيبة عنه»اهـ.
وقال الإمام مسلم في «صحيحه» (1/ 32)، في معرض كلامه عن مسألة عنعنة المعاصر: «وما علمنا أحدًا من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار، ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها؛ مثل أيوب السختياني، وابن عون، ومالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومَن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد، كما ادَّعاه الذي وصفنا قوله من قبل؛ وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عُرِف بالتدليس في الحديث، وشُهِر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه؛ كي تنزاح عنهم علة التدليس، فمن ابتغى ذلك من غير مدلِّس على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نُسَمِّ من الأئمة»اهـ.
قال الحافظ ابن رجب في «شرح العلل» (2/ 583): «وذكر مسلم في مقدمة كتابه أنه إنما يعتبر التصريح بالسماع ممن شُهر بالتدليس، وعُرف به؛ وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس في حديثه، ويحتمل أن يريد ثبوت ذلك عنه، وصحته، فيكون كقول الشافعي»اهـ.
وقال الإمام ابن جرير الطبري في «تهذيب الآثار» (2/ 816): «قتادة عندهم من أهل التدليس، معروف عندهم بذلك؛ وغير جائز عندهم أن يُحتج من راوية المدلس، وإن كان عدلًا، إلا بما قال فيه: «حدثنا»، أو «سمعت»، وما أشبه ذلك مما يدل على سماعه»اهـ.
قلت: فقوله: «وغير جائز عندهم» فيه نقل للإجماع،
أو لقول الجمهور على الأقل، وابن جرير نفسه من الأئمة المتقدمين بلا خلاف.
وقال الحاكم في «المدخل إلى الإكليل» (ص 46): «قتادة بن دعامة إمام أهل البصرة؛ إذا قال: «قال أنس»، أو «قال الحسن»، وهو مشهور بالتدليس عنهما».
والإمام ابن عبد البر المتوفى (463هـ) قد ذكر أن عنعنة المدلس لا تُحمل على الاتصال، ونقل إجماع الأئمة على ذلك.
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» (1/ 13): «أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس، فلا يُقبل حديثه حتى يقول: حدثنا أو سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه أيضًا خلافًا»اهـ.
وقال الإمام الخطيب البغدادي المتوفى (463هـ) في «الكفاية» (ص292): «لا نقبل من مدلس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني، أو سمعت».
قلت: نعم، في المسألة خلاف نقله ابن القطان.
قال أبو الحسن بن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 66): «وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلس إذا كان عمَّن قد عُلِم لقاؤه له وسماعه منه.
هاهنا يقول قوم: يُقبل ما يعنعن عنهم حتى يتبين الانقطاع في حديث حديث، فيُرَد.
ويقول آخرون: بل يُرَدُّ ما يُعنعِن عنهم حتى يتبين الاتصال في حديث حديث، فيُقبَل»اهـ.
ولكن جماهير الأئمة والمشهور بينهم - كما نقلناه - على أن رواية المدلس المعنعنة مردودة حتى يتبين السماع.
فكيف يأتي بعد ذلك من يقول بأن الأئمة كانوا يقبلون عنعنة المدلس مطلقًا إلا إذا ثبت عدم سماعه؟!
* * *


وقد استدل المفرِّقون بتصرفات الأئمة وتطبيقاتهم، ولم يفهموها على وجهها الصحيح.
من ذلك استدلالهم بصنيع الإمامين البخاري ومسلم في «الصحيحين» وتخريجهم لروايات المدلسين بالعنعنة.
والصحيح أن ما كان في «الصحيحين» من رواية المدلسين بالعنعنة لا يخرج عن خمس أحوال:
الحال الأولى: أن يكون هذا المدلس من المقلين في التدليس؛ فلا تضر عنعنته، وهي محمولة على السماع.
الحال الثانية: أن يوجد تصريحهم بالسماع في موطن آخر، سواء في «الصحيحين» أو خارجهما.
الحال الثالثة: أن يكون راوي هذا الحديث عن المدلس لا يروي عنه إلا ما سمعه، كما قال شعبة: «كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق،
وقتادة».
الحال الرابعة: أن يكون هذا المدلس ممن تُحمل روايته عن هذا الشيخ على الاتصال، كما في رواية الأعمش عن إبراهيم النخعي، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، وغيرهم من شيوخه الذين أكثر عنهم.
الحال الخامسة: أن تكون رواية هذا المدلس إنما خرجاها في غير الأصول، ويكون لحديثه من المتابعات أو الشواهد ما يقويه.
قلت: وانظر إلى أحاديث المدلسين المعنعنة في «الصحيحين» فلن تجدها تخرج عن واحدة من هذه الخمس.
وإلا فلقائل أن يقول: إن تخريج البخاري ومسلم لأحاديث بعض الضعفاء يدل على أن حديث الضعيف عندهما صحيح!
* * *