أطيبُ الكلام والعقائدِ: كلمةُ التوحيد واعتقادُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ،
وأخبثُ الكلامِ والعقائدِ: كلمةُ الشرك، وهو اتِّخاذُ إلهٍ مع الله، فإنَّ ذلك باطلٌ لا [قرار له]،
ولهذا قال سبحانه: ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٖ﴾»
. ومِنْ أَخزى كلماتِ الباطل وأخبثِها اعتبارًا وعملًا في عصرِنا الحديث:
تلك التي ينتهك المرءُ فيها رتبةَ الرُّبوبيَّةِ على أبشعِ صُوَر الانتهاك، ويتعدَّى بها على خاصيَّة التَّشريع والحاكميَّة لله تعالى، فينسب مصدرَ السُّلطةِ والتَّشريع ـ عُدوانًا وظُلمًا ـ للأمَّة أو الشَّعب الذي هو ـ عندهم ـ الحَكَمُ وإليه التَّشريعُ والحُكمُ، وكثيرًا ما ينخدع الدَّهْماء، والمُلبَّسُ عليهم، والمُنبهِرون بالحضارة الغربيَّة والمفتونون بها بهذا النَّوعِ مِنَ الحكم الذي يُسمُّونه الدِّيمقراطيَّة ، والتي بَلَغ التَّهويلُ بها والتَّعويلُ على دساتيرها وقوانينِها والغلوُّ في تعظيمِ نظامِها الأغلبيِّ إلى حدِّ العبوديَّة والتَّقديس
كما لو كانت شريعةً إلهيَّةً مُنزلةً مِنَ الحيِّ القيُّوم الذي لا يموت،
وما هي ـ في حقيقة الأمر ـ إلَّا حكمُ الأكثريَّة الموسومةِ بالجهل والنُّقصان والميلان عن سواءِ السَّبيل،
فهي حكمُ الدَّهماء
إذ أهلُ اليقين والرُّسوخِ يعلمون أنَّ رأيَ الأغلبيَّة معدومُ القيمة لا يساوي عند الله شيئًا إِنْ كانَتِ الأغلبيةُ تأمر بالباطل وتعمل بما يخالف الحق
إذ الجماعةُ ما وافق الحقَّ وطاعةَ الله وإِنْ كنتَ وَحْدَك،
ولا تُغني الأكثريَّةُ مِنَ الحقِّ شيئًا إِنْ خالفَتِ الحقَّ واتَّبعَتِ الهوى،
وقد حصلَتْ تشريعاتٌ وضعيَّةٌ قرَّرَتْها الأغلبيَّةُ البرلمانيَّةُ،
مِنْ سَنِّ قوانينَ تنزل منزلة ما نزل به الروح الامين يُبدَّلُ فيها شرعُ الله: وتغيَّر أحكام الدِّين،
وتشوه الشَّريعة، ويحل النُّظُم المُستورَدةِ مَحَلَّها،

والمعلومُ أنَّ الدِّيمقراطيَّة مبدأٌ جاهليٌّ ومفهومٌ علمانيٌّ ما له في شريعةِ الإسلام مِنْ قرارٍ، حَلَّ في بلاد المسلمين عن طريق المحاكاة العمياء للغرب مِنْ قِبَل المُولَعِين بحضارتهم الجاهليَّة والمفتونين بها، الذين جعلوا الحياةَ الغربيَّةَ مَثَلَهم الأعلى في أفكارهم وسلوكهم وغاياتِهم وآمالهم وأمانِيِّهم، ويُشيدون بها في محاولةٍ لإخضاعِ كلمة التَّوحيد ـ عقيدةً وشريعةً ـ لمسايرةِ الحياة الغربيَّة الرَّاهنة، ويعملون على إبعاد النَّاس عن دِينهم الحقِّ وصرفِهم عن التَّمسُّك بكلمة التَّقوى إلى الالتزام بالأنظمة المُستورَدةِ الجاهليَّة، يصدُّون النَّاسَ عن سبيل الله وصِرَاطِه المستقيم؛ وقد أَوضحَ اللهُ تعالى أنَّه لا حُكمَ أحسنُ مِنْ حكم الله تعالى، وأنَّه ليس بعد حُكمه إلَّا حكمُ الجاهليَّة بقوله:﴿( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )﴾ [المائدة].

وهكذا أَصبحَ هذا المبدأُ الفكريُّ الجاهليُّ بنظامه ودساتيرِه وقوانينِه له الحُرمةُ والتَّعظيمُ والقدسيَّةُ في نفوس النَّاس كأنَّه الفيصلُ في الدِّين والشَّريعة، بل هو دِينٌ آخَرُ فُرِض على المسلمين بدلًا مِنْ دِينهم الحقِّ وشريعَتِهم النَّقيَّة، فلا دَنْدَنةَ إلَّا على حكم الدِّيمقراطيَّة وإرادةِ الشَّعب والأكثريَّة، ولا حديثَ إلَّا عن تقديس البرلمان المتشرِّع، وتعظيمِ الدُّستور والتَّنويه بالقانون، وحُرمةِ المحكمة وقدسيَّة القضاء الوضعيِّ، فبِاسْمِ الشَّعب تُستفتَحُ الخطاباتُ الرَّسميَّةُ وغيرُ الرَّسميَّة، ولا اعتبارَ فوق إرادة الشَّعب، منه المبدأُ وإليه المنتهى والمصيرُ؛ وعليه، فقَدْ تَبلوَرَ جليًّا أنَّ التَّشريعَ للشَّعبِ والسِّيادةَ له وَحْدَه لا شريكَ له، فلا الْتِفاتَ إلى شرعِ الله ولا اعتبارَ لحُكمه، بل شريعةُ الإسلام خاضعةٌ عندهم للقوانين والقواعد الأساسيَّة المُولَّدةِ مِنَ الشَّعب عن طريق سُلطته التَّشريعيَّة، وما كان منها مُوافِقًا للشَّريعة فإنَّما وافقها عَرَضًا ومصادفةً، لا سلوكًا ولا اتِّباعًا لها وخضوعًا،
كما وأَوضحَ أحمد شاكررحمه الله ما عليه التَّشريعاتُ الوضعيَّة بثوبها الدِّينيِّ الجديد قائلًا بما نصُّه:
«وصار هذا الدِّينُ الجديدُ هو القواعدَ الأساسيَّة التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثرِ بلاد الإسلام
ويحكمون بها، سواءٌ منها ما وافق في بعضِ أحكامه شيئًا مِنْ أحكام الشَّريعة وما خالفها،
وكُلُّه باطلٌ وخروجٌ،
لأنَّ ما وافق الشَّريعةَ إنَّما وافقها مصادفةً، لا اتِّباعًا لها ولا طاعةً لأمرِ الله وأمرِ رسوله،
فالموافقُ والمُخالِفُ كلاهما مُرتكِسٌ في حمأة الضَّلالة، يقود صاحِبَه إلى النَّار»

فهذه التَّشريعاتُ الوضعيَّة التي يحكمون بها ويتحاكم المسلمون إليها ويرضَوْن بحكمها
فهي ـ بلا شكٍّ ـ مُنازعةٌ لله في حقِّ الأمر والنَّهي والتَّشريع بغير سلطانٍ مِنَ الله،
ومُخالَفةٌ صريحةٌ لجوهر التَّوحيد،
وتمرُّدٌ على حقيقة الإسلام التي تُوجِبُ على عباد اللهِ القَبولَ والانقيادَ والاستسلام لدِين الله تعالى.

وقد تَمكَّن حُماةُ الدِّيمقراطيَّة وسُعَاتها والمروِّجون لها ـ مِنَ المفتونين بالغرب والمُتبنِّين للطَّرح العلمانيِّ وبقيَّةِ إخوانهم في الغيِّ ـ مِنَ الوصول إلى غرسِ مبادئ الدِّيمقراطيَّة ودساتيرِها وقوانينها في نفوس المسلمين،
حتَّى أُشرِبوا في قلوبهم حُبَّها نِدًّا وعدلًا كحُبِّ الله، والرُّضوخَ لها، وطاعةَ دساتيرِها وقوانينِها، والتَّعصُّبَ لها، واتِّخاذَها دِينًا جديدًا يعتقدونه ومذهبًا ينتحلونه،
يسيطر على أهوائهم وشَهَواتِهم، لا يخضعون إلَّا له، ولا يتحرَّكون إلَّا به، فيجتمع لهم فيها جانبُ المحبَّة والتَّعظيمِ والطَّاعة، وعنصرُ الولاء والبراء، ..يتآخَوْن في ديمقراطيَّتِهم، ويتناصرون عليها، ويتحزَّبون لقوانينِها ودساتيرِها ولاءً وبراءً، فهُمْ ـ في التَّبعيَّة العمياء للغرب ـ يَصِفون الدِّيمقراطيَّة َ بصفاتٍ الربوبيَّة ويصبغونها بصبغاتٍ لا تَلِيقُ إلَّا لله تعالى مِنْ كمال الذُّلِّ والتَّعظيم والمحبَّةِ والخضوع والاستكانة، فهؤلاء ـ في اتِّخاذِهم الدِّيمقراطيَّة َ نِدًّا مع الله ـ لا يُسوُّونها بالله في الخَلْق والرَّزق والتَّدبير، وإنما يُسوُّونها به في:فى التحكم والتحليل والتحريم

.... يُسوُّون الدِّيمقراطيَّة َ بالله في التَّشريع والحكم بإثباتهما لغير الله أو معه؛ إذ لا يخفى أنَّ مَنْ نصَّب الأمَّةَ أو الشَّعبَ أو أيَّ كائنٍ آخَرَ مصدرًا للسُّلطات والتَّشريع فقَدْ وَقَع في هذا النَّوعِ مِنَ الشِّرك بالله في الرُّبوبيَّة بالأنداد في صِفَته وهو الحكمُ والتَّشريع، إذ لا يخفى ـ على عارفٍ بمُقتضَيَاتِ كلمة التَّوحيد مُوقِنٍ بها ـ أنَّ التَّشريع والحكم حقٌّ لله وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ مصدر السُّلطة التَّشريعيَّة هو الكتابُ والسُّنَّةُ، لا الشَّعبُ ولا الأمَّةُ ولا المجالسُ النِّيابيَّة ولا الزُّعَماءُ ولا الأئمَّةُ ، وقد جاءَتْ نصوصُ القرآن والسُّنَّةِ بيِّنًا حكمُها، قاضيةً بأنَّ شريعة الإسلام هي المصدرُ الوحيدُ للتَّشريع والحكم بلا مُنازِعٍ أو شريكٍ؛ قال تعالى: قال تعالى: ﴿ولا يشرك فى حكمه أحدا﴾ [الكهف]، وقال تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شركاء شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ»(٤)، وغيرها مِنَ النُّصوص الشَّرعيَّة الدَّالَّةِ دلالةً واضحةً على أنَّ مصدرَ السُّلطةِ هو الشَّرعُ الحنيف الذي يجب الإذعانُ لأمرِه، والانقيادُ لحُكمِه، والاستسلامُ له، بتحليلِ حلالِه وتحريمِ حرامه، وامتثالِ أوامره واجتنابِ نواهيه وزواجرِه دون ما سِوَاه؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فكثيرٌ مِنَ النَّاس يرضى بالله ربًّا ولا يبغي ربًّا سواه، لكنَّه لا يرضى به وَحْدَه وليًّا وناصرًا، بل يوالي مِنْ دونه أولياءَ ظنًّا منه أنَّهم يُقرِّبونه إلى الله، وأنَّ موالاتَهم كموالاةِ خواصِّ المَلِك، وهذا عينُ الشِّرك .. وكثيرٌ مِنَ النَّاس يبتغي غيرَه حَكَمًا: يتحاكم إليه ويُخاصِمُ إليه ويرضى بحكمه،
وهذه المَقاماتُ الثَّلاثُ هي أركانُ التَّوحيد: أَنْ لا يُتَّخَذ سِواهُ ربًّا ولا إلهًا، ولا غيرُه حَكَمًا»[مدارج السالكين]هذا، وإنَّ تقديسَ الأنظمةِ المُستورَدة، وتقديرَ رجالِهَا وإكبارَ رُوَّادِها، ما زادَتِ الأمَّةَ إلَّا ذُلًّا وانبطاحًا وتِيهًا وخَبالًا وانحرافًا وبُعدًا عن شرع الله تعالى وإعراضًا عنه، إذ كان مِنَ اللَّازمِ: الإذعانُ له، والانقيادُ لحُكمِه، والاستسلامُ لِشرعِه، وقيادةُ النَّاس به، يستوي في ذلك الحُكَّامُ والمحكومون، في جعلِ كلمةِ الله هي العُلْيا، وكلمةِ الباطلِ السُّفْلى،
فشريعة الله تعالى هي المصدرَ الوحيد للتَّشريع، ومُهَيْمِنةً على كافَّة الشَّرائع الباطلةِ الأخرى، لا مصادِرَ تشريعيَّةً أصليَّةً أو تبعيَّةً أو فرعيَّةً مع الأنظمة المُستورَدة، فلا ركونَ لآراء البشر وأهوائِهم المُصادِمةِ لشريعة الإسلام، ولا نزولَ على إرادة الشَّعب ولا انقيادَ لِرغبَتِه إذا كان الشَّعبُ ـ ولو بِرُمَّتِه ـ يرفض الاستسلامَ لدِين الله والرُّجوعَ لِشرعِه وحُكمِه القائمِ على كلمة التَّوحيد، واعتقادِ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في ربوبيَّتِه وأسمائِه وصِفَاته وأفعالِه وحُكمه، وفي ألوهيَّتِه وعبادَتِه؛ فكلمةُ التَّوحيد هي العُرْوةُ الوُثْقى التي مَنْ تمسَّك بها نَجَا، ومَنْ لم يتمسَّكْ بها هَلَك، وهي كلمةُ التَّقوى التي أَلزَمَها اللهُ صحابةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانوا أَحَقَّ بها، وهي الكلمةُ الباقية التي جَعَلها إبراهيمُ عليه السلام في عَقِبه لعلَّهم يرجعون، وهي الكلمةُ الطَّيِّبة والقولُ الثَّابتُ في الحياة الدُّنيا والآخرة كما في قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ*
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ*
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ
مَا لَهَا مِن قَرَارٍ*
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرةِ
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ
[للشيخ فركوس بتصرف]