قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
(فالحُنفاء أهل التوحيد اعتزلوا هؤلاء المشركين،
لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم ، وتكفيرهم، والبراءة منهم،
كما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى ألاَّ أكون بدعاء ربي شقيا} إلى قوله:
{فلما اعتزلهم [88]وما يعبدون من دون الله} [مريم/48 , 49].
وقال {إنا بُرءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة/4].
وقال عن أهل الكهف:
{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلاَّ الله فأؤو إلى الكهف} الآية [الكهف/16].
فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلاَّ باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم،
فهم معتزلة بهذا الاعتبار، لأنهم اعتزلوا أهل الشرك،
كما اعتزلهم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام)
***********
وفى قصة فتية الكهف دروس وعبر
فهم اعتزلوا أديان أهل الأرض إلا عبادة الله،
وتبرؤوا من كل إله سوى الله،
رفضوا ما كان عليه قومُهم من عبادة غير الله، رفضوا وأنكروا ما كان عليه قومهم، وقرَّروا العزلة وترك الإقامة بين ظهراني أهل الشرك وعبادة غير الله ، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوه ُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف:16].
إنهم فتية من الشباب ذوو قوة وعزيمة، ما تجاوز عددهم العشرة وهم إلى السبعة أقرب،
نشئوا في مجتمع كفر وطغيان،
ومنّ عليهم المنان بكرامة الإيمان، وزادهم من هداه، وربط على قلوبهم بالثبات والطمأنينة في أتّون ذلك المجتمع الكفري الظلوم الذي لا يتعامل مع المؤمن إلا بالرجم أو الفتن عن الدين؛
فقاموا بالإيمان قولاً وعملا، (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14]؛ إفراداً منهم لله بالربوبية والألوهية،
ورأوا بنور التوحيد حلكة ظلمة الشرك التي اكتنفت قومهم،
ولما رأوا ألا يد لهم بإظهار إيمانهم ومقارعة قومهم وخافوا الفتنة في دينهم
بادروا في هجرة قومهم؛ إذ كانت هي السبيل الأمثل لحفظ الإيمان ؛ لئلا يحرموا الفلاح.
وتمخض رأيهم في طلب النجاء بعد اعتزالهم قومهم بإوائهم إلى كهف ،
يجتمعون فيه ويعبدون ربهم دون أن يراهم أحد حتى يقضي الله بفرج تغيّرِ الحال أو بتوفيّه إياهم من غير افتتان.
وشأنهم تضرع إلى الله بسؤاله رحمةً تحيطهم وتهيئتَه لهم أسبابَ رشدٍ تعصمهم من الزلل.
وحسن ظنهم بربهم
وهم يباشرون الهجرة إلى الكهف يملأ قلوبهم: أنْ ينشر لهم من رحمته؛ فلا يضيقون بالكهف، وأنْ يهيئ لهم في جميع أمورهم رفقاً ويسراً.
-رحمة الله وتيسيره تحيط بهؤلاء الفتية حين اختاروا كهفاً ذا باب شمالي تميل عن يمينه الشمس إذا طلعت، وإذا تضيفت للغروب تصيبهم؛
وتأمل حفظ الله لهم وهم في رحبة الكهف؛ إذ جعل الشمس لا تصيبهم إلا وقتاً يسيراً قبل الغروب حين يضعف وهجها؛ فينتفعون بها دون ضرر،
والهواء يغشاهم في تلك الرحبة،
وضرب على آذانهم نومة استغرقت ثلاثمائة وتسع سنين
لو رآهم الرائي لظنهم أيقاظاً؛ لانفتاح أعينهم، وتقلبهم في نومهم بين جنبهم الأيمن والأيسر؛
لئلا يختلَّ توازن الدم في أجسامهم أو تأكل الأرض أجسادهم
والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض من غير تقليب لكنه تعالى حكيم؛
أراد أن تجري سنته في الكون، ويربطَ الأسبابَ بمسبباتها،
وكلبهم باسط ذراعيه عند الباب للحراسة كأنه لم ينم،
وألقى عليهم مهابة تملأ قلب رائيهم رعباً فلا يملك إلا الفرار حين يراهم؛
وذاك من اسباب بقاءهم كلَّ هذه المدة الطويلة دون أن يعثر عليهم أحد مع قربهم من المدينة.
فلما أذن في بعثهم ونشورهم من رقدتهم الطويلة،
وخرجوا يلتمسون طعاماً لهم، ورغم كل الاحترازات التي أخذوها
كشف الله -عز وجل- أمرهم إذ أعثر الناس على مكانهم؛ لحكمة أرادها الله؛
فاليقين بحقيقة وعد الله وعدم تخلفه -
ومن ذلك وعده بإنجاء أوليائه من براثن أعدائه - واليقين بقيام الساعة وبعث الموتى لها.
ومن الدروس والعبر من قصة أصحاب الكهف
ان اعتزال الكفر واهله فى جميع الازمان والعصور
منهج للسالكين على طريق الله، منهج لاهل التوحيد – فهي بحق من أعظم القصص القرآني الحكيم الذي يولد دفقات إيمانية وثابة في القلب والنفس والروح.
******************
ومن أبرز هذه الدروس:
-الثبات على الحق:
تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله -عز وجل-، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد،
ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً.
لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة،
وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله -سبحانه وتعالى-، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه.
والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر،
إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً،
فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد،
ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده -سبحانه وتعالى- بعد ذلك
إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي -عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة"، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟
لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت،
لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت،
لو لم تجد من يطع الله -سبحانه وتعالى- فكن أنت الذي تطيع،
واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛
فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم،
وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة،
وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن.
قال ابن كثير في تفسيره: (إنهم فتية)، وهم الشباب، وهم أقبلُ للحقِّ وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتَوْا وانغمَسوا في دين الباطل؛
ولهذا كان أكثرُ المستجيبين لله –تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- شبابًا،
أما المشايخ مِن قريش فعامَّتهم بَقُوا على دينهم ولم يُسلِم منهم إلا القليل والله -عز وجل-
إنما وصف أهل الكهف بالفِتْية في سن الشباب التي هي سن النزوة والانطلاق والتحرر والقوة؛
ليَكونوا أُسوةً حسَنة للشباب على الدوام في خدمة الدين والعمل والتضحية من أجله،
وإن خالفَهم مَن خالفهم؛
قال الله -عز وجل-: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) [الكهف: 10]،
فتية شباب ترَكوا القصور والبيوت المهيَّأة
و زينة الدنيا الفانية التي لا تأسر العبدَ المؤمن
، فتَحمَّلوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصورٍ وبيوت مهيَّأة، وكانوا في مدينة،
، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم،
ما الذي يُهوِّن على الإنسان أن ينال طعامًا دون طعام، ولباسًا دون لباس؟!
كما قال الإمام أحمد: "إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباسٌ دون لباس، وصبرُ أيامٍ معدودة".
وعلى نهج هؤلاء الفتية المضّحون سار الصحابة الأكرمون والسلف الصالحون،
فكم تركوا من لذات ، فأسهروا ليلهم حين نامت العيون،
وأظمئوا نهارهم حين شبعت البطون،
وقارعوا عدوهم حين هرب الخائفون،
فكان لهم الخلود بالذكر الحسن،
كما كان لفتية الكهف الخلود بالذكر في أعظم كتب الله - عز وجل.
ومن الدروس والعبر اعتزال الناس في أوقات الفتن العامة:
أشار الله - تعالى - بقوله: (فأووا إلى الكهف) يرشد المؤمنين إلى سبيل النجاة وقت اختلاط الأمور وشيوع الفتن وعدم قدرة المؤمن على مواجهة الباطل بعد أن استفرغ جهده،
وجاء بكل ما في وسعه لوقفه، يرشدنا إلى اعتزال الناس في الفتن،
وقد يكون مرة في الجبال والشعاب،
ومرة في السواحل والرباط،
ومرة في البيوت وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يكون خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن". ولعل هذا يكون في آخر الزمان عند مجيء المسيخ الدجال، أو عندما تشتد الفتن وتطغى.
وقد جاء في الخبر: "إذا كانت الفتنة فأخفِ مكانك وكُفَّ لسانك"،
ولم يخص موضعاً، ومن هذا نفهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعقبة بن عامر حين سأله:
"ما النجاة يا رسول الله؟ "، "يا عقبة أمسك عليك لسانك، ولْيسعْك بيتُك، وابك على خطيئتك".
وقد جعلت طائفة العلماء العزلةَ اعتزالَ الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهر الناس.
قال ابن المبارك -رحمه الله- في تفسير العزلة: "أنْ تكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت".
ومن مراسيل الحسن البصري " نعْمَ صوامع المؤمنين بيوتهم " أي وهم في مجتمعهم يدعونهم ويتعرضون إليهم بالنصح والموعظة، فإن اشتدوا عليهم أوَوْا إلى بيوتهم، ثم عاودوا الكرّة. ويؤكد هذه الفكرة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ".
والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها،
فهذا فرض لا نحيد عنه،
ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس؛ لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل:106]،
فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء:97].
فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه،إلا أن يكون مكرهاً،
ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار،
وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً.
والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها،
ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: "هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه".
ومن معالم إقامة الدين:
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين،
ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم،
وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛
لأن هذا ليس من إقامة الدين،
فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك،
فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى
فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً،
وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد،
وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه.
وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين،
ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛
فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم،
وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله -سبحانه وتعالى- لنبذ الشرك وتركه،
فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار،
الا بعد ان انقطعت سبل الدعوة هاجروا
وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر
فهو أيضاً من الواجبات،
كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140]،
فمن هنا لا يجوز إقامة المسلم في مجالس المنكر، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر
وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم
مشاركاً لهم فيما هم فيه.
فتية الكهف أمة واحدة:
لما صرح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يداً واحدة، وطائفة واحدة، وصاروا سبعة -أو ما الله عز وجل أعلم به -، صاروا جماعة وأمة لا يذكرون بأسمائهم ولكن يذكرون كطائفة واحدة؛ لأنهم تعاونوا على ذلك (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [الكهف:14]، قال ابن كثير: "صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله -عز وجل-". وهكذا ينبغي أيضاً أن يكون المؤمنون، فإذا علموا أن أحداً على طريقهم فلا بد أن يكونوا معاً لا يفترقون ولا يختلفون، بل أنت تفرح وسط الغربة بوجود من يكون معك على طريقك فكيف تفارقه؟ وكيف تبتعد عنه؟ إن الذين يرغبون في الاختلاف والفرقة، وأن يكون كل واحد منهم متميزاً بنفسه هم مرضى في الحقيقة، وهذا -والعياذ بالله- من أخطر الأمراض التي تلبس في زماننا ثوب الصحة والعافية.
فالواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع، و الاجتماع على طاعة الله - من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به،
وجوب الحذر:
الحذر أمر من المولى - جل وعلا - إلى عباده المؤمنين وقت الأزمات ومقارعة الأعداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [ النساء:71]، فماذا فعل الفتيان حين أحياهم الله –تعالى-؟ شعروا بالجوع فقد استيقظوا بعد ساعات طويلة استغرقت يوماً أو بعض يوم – كما ظنوا – والطعام والشراب وسيلة الحياة. والعدو الذي هربوا منه يطلبهم ويرسل العيون والجند بحثاً عنهم. فينبغي الحذر في التحرك. ماذا يفعلون؟
أرسلوا واحداً فقط يشتري لهم طعاماً فالواحد أقدر على التخفي ولا ينتبه له أحد. وهروبه أسهل إذا شعرت به عيون العدو وإذا وقع في أيدي الظلمة فهو فدائي واحد، ولن تسقط المجموعة كلها.
وأمروه باللطف في الشراء واللين في الطلب، وليتكلم المختصر المفيد، وليكن تصرفه حكيماً وحركاته بعيدة عن الريبة. وليختر أطيب الطعام وأزكاه، فالطعام الطيب الحلال أنفع للجسم، وأرفع للروح.
وإجمالاً فإن مِن تمام الإيمان، والإعذار إلى الله –تعالى-، وإبراء الذمة: القيام بإنكار ما يُناقض التوحيد، والإعلان بحق الله -تعالى- بإفراده بربوبيته وألوهيته على خلقه، وأن الحكم والأمر بيده؛ (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: 14]. من يَقُم لله -تعالى- بهذا الواجب العقديِّ، يَربِطِ اللهُ على قلبه ويكف الله عنه أذى الطواغيت، ويَزِدْه رشدًا، ومن أمره مِرفقًا، وينجيه من الفتن كلها.
***
-ومن الدروس المستفادة من قصة اصحاب الكهف
-اعتزالهم للكفر وأهله وهي خطوة مهمة جداً نحو الترقي إلى المقامات الإيمانية العظيمة
-«أن من أوى إلى الله آواه الله، ولطف به، وجعله سببًا لهداية الضالين؛ فإن الله لطف بهم في هذه النومة الطويلة إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من فتنة قومهم وقتلهم، وجعل هذه القومة من آياته التي يستدل بها على -كمال قدرة الله، وتنوع إحسانه، وليعلم العباد أن وعد الله حق.
- الحث على تحصيل العلوم النافعة والمباحثة فيها؛ لأن الله بعثهم لأجل ذلك، وببحثهم ثم بعلم الناس بحالهم حصل البرهان والعلم بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
- جواز أكل الطيبات، والتخير من الأطعمة ما يلائم الإنسان ويوافقه، ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
- الحث والتحرز والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان الذي يدرأ عن الإنسان الشر.
-في القصة شدة تمسك هؤلاء الفتية بدينهم، وذلك بتركهم ديارهم وأموالهم والاعتزال خوفًا من أن يُفتنوا في دينهم.
- ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد الداعية لبغضه وتركه، وأن هذه الطريقة طريقة المؤمنين.
-استخلاص الدروس؛ لتكون نبراسا نسير على هديه
-أن سبب إيوائهم إلى الكهف كان تحصنا وتحرزا من فتنة قومهم لهم، وفرارا من الفتن، وقد جمعوا بين الفرار والتضرع إلى الله، فلم يتكلوا على أنفسهم
-أن في نومهم حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.
-للشباب الدور الكبير في نشر الدعوة والذود عنها، فإيمانهم اندفاعي قوي، ويصدعون بالحق ويعلنون دعوة التوحيد بثبات.
- أن معرفة الحق والاهتداء به، ليس بطول التجربة ولا بطول الأعمار، فهؤلاء فتية شباب آمنوا، وفي قومهم شيوخ قد يكون فيهم مسنون وكبار ومع ذلك لم يهتدوا!. ابن جبرين "وربطنا على قلوبِهم إذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السمواتِ والأرضِ لن ندعوا من دونهِ إلهاً لقد قلنا إذاً شَططاً" [الكهف:14].
- أن مخالفة القوم على ما هم عليه تحتاج إلى تثبيت، لا سيما أنهم شباب والشاب ربما يتأثر!.
-لطف الله بهم وبره، أنه وفقهم للإيمان والهدى والصبر والثبات والطمأنينة.
من لجأ إلى ربه واعتمد عليه، ثبته وأيده
-أن كل من حقق الله الإيمان في قلبه، وملأ قلبه بالإيمان والتصديق، لا يصعب عليه أن يفارق أهله أو بلاده، وأن يختار الإيمان الصحيح ويتمسك بالدين، ولو حصل له من الأذى ما حصل
هؤلاءِ قومُنا اتخذوا من دونهِ آلهةً لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيّنٍ فمن أظلمُ ممن افترى على اللهِ كذِباً" [الكهف:15].
- مطالبة الفتية قومهم بإتيان حجة وبرهان على ما هم عليه من الباطل، ومقتهم لقومهم لأنهم في غاية الجهل والضلال.
- أن كل من افترى على كذبا، فلا أحد أظلم منه.
-فعل الأسباب المفضية للنجاة من الشرور.
-عناية الله بأوليائه، فلما آمنوا إيمانا صحيحا تولى حفظهم وحراستهم من أن يأتي عليهم شيء من البلاء
-كرامة الله لهم وحفظه إياهم، وتوفيقه لهم، فمن حسن حظهم أن الغار الذي أووا إليه كان له باب لا يتجه للمشرق ولا للمغرب!، سبحان الله!، لأنه لو اتجه للمشرق لأكلتهم الشمس عند الشروق، ولو اتجه للمغرب لأكلتهم عند الغروب!، وهذا دليل على قدرة الله ورحمته وإجابته لدعائهم
-حفظ الله الفتية من الأرض بتقليبهم يمينا وشمالا، مع قدرته سبحانه أن يحفظهم منها بغير تقليب،ولكنه حكيم أراد أن تجري سنته في الكون، وليربط الأسباب بمسبباتها
-كمال قدرة الله حيث جعلهم كأنهم أيقاظ، ليس عليهم علامة النوم.
- أن فعل النائم لا ينسب إليه، فالله أضاف تقلبهم إليه، والحكمة في تقليبهم من أجل توازن الدم في الجسد.
-شدة خوف من يراهم، لأن الله ينزل الرهبة في قلبه، حتى لا يحاول أحد يدنو منهم.
ـ جواز اتخاذ الكلب للحراسة.
ـ ذُكر هذا الكلب لما صحب أهل الخير، وفيه دليل على أن من صحب أهل الخير اكتسب خيرا، ذكره الله وأضافه إليهم إضافةً تقتضي فضلا وشرفا.
ـ الحث على العلم والمباحثة فيه، لكون الله بعثهم لأجل ذلك.
ـ الأدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه وأن يقف عند حده.
ـ صحة الوكالة في البيع والشراء وصحة الشركة في ذلك.
ـ جواز أكل الطيبات والمطاعم اللذيذة إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه.
ـ الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواقع الفتن، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وإخوانه في الدين.

-أخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة إلا الوسائل المحرمة فإنها محرمة.
ـ الحذر لا ينجي من القدر، لكن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ويعد للأمر عدته كي لا يؤخذ على غرة.
ـ هذه سنة الله أنه يسلط على أوليائه أعداءه حتى يفتتنوا بذلك، ولعل الحكمة في ذلك الاختبار لقوة الإيمان أو ضعفه، فعليهم بالصبر والتحمل.
-أن في قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين وحجة على الجاحدين.
ـ اتخاذ المساجد على القبور من وسائل الشرك، جاءت شريعتنا بمحاربته.
ـ أن من فرَّ بدينه من الفتن سلّمه الله، ومن أوى إليه آواه، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب
ـ أن الساعة لا ريب فيها ولا شك لمن اعتبر وتذكر.
5ـ أن قومهم استدلوا على أنهم من أولياء الله الصالحين بعدما فقدوهم مدة طويلة، فكان هذا سببا في أن غلوا فيهم (لنتخذن عليهم مسجدا).
ـ الرد على القبوريين الذين استدلوا بهذه الآية على جواز بناء المساجد على القبور، فيرد عليهم بأن القوم كانوا مشركين والشرك فاشٍ بينهم، والآية صريحة على ذلك.
-اختلاف أهل الكتاب في عدتهم اختلافا صادرا عن رجمهم بالغيب وتقوّلهم بما لا يعلمون، والاختلاف في عددهم مما لا فائدة تحته ولا يحصل به مصلحة دينية ولا دنيوية.
ـ أن عددهم سبعة وثامنهم كلبهم؛ لأن الله عندما أبطل القولين الأولين بقوله (رجما بالغيب) سكت عن الثالث فدل على أنه هو الصواب.
ـ أن ما لا فائدة للجدال فيه لا ينبغي للإنسان أن يتعب قلبه في الجدال، والتعمق فيه.
ـ لا ينبغي للإنسان أن يستفتي من ليس أهلا للإفتاء حتى وإن زعم أن عنده علما، فلا تستفته إذا لم يكن أهلا.
ـ ينبغي أن لاتقول لشيء مستقبل إني فاعله إلا أن يكون مقرونا بمشيئة الله.
ـ أن في قول العبد (إن شاء الله) تيسير لأمره وتسهيل له، وحصول البركة فيه، واستعانة بربه.
ـ الأمر بذكر الله عند النسيان؛ لأنه يزيله ويذكّر العبد ما سها عنه.
ـ افتقار العبد لربه وسؤاله إياه الهداية والرشاد، كي يوفق ويعان ويسدد.
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولو كان يعلمه لأخبرهم حين سألوه.
ـ إحاطة علم الله بكل شيء، وأنه هو الحاكم في خلقه قضاء وقدرا وخلقا وتدبيرا.
ـ القول بأن (ثلاث مائة سنين) شمسية و(تسعا) قمرية قول ضعيف، لأنه لا يمكن أن نشهد على الله أنه أراد هذا، ولأن عدة الشهور والسنوات عند الله بالأهلة، والحساب عنده واحد، وإنما يقال أن هذا من أجل تناسب رؤوس الآيات.
ـ من ادعى علم الغيب فهو كافر.
ـ انفراد الله بالولاية العامة والخاصة، والخاصة تكون لعباده المؤمنين يتولاهم بلطفه وكرمه عز وجل.
ـ أن الله يسدد العبد فيفتح له أبواب العلم النافع والعمل الصالح.
ـ أن مقامهم في الكهف أكثر من ثلاثة قرون دليل على قدرة الله في إماتتهم وحفظهم من التلف، وإخافة من ينظر إليهم، ثم على بعثهم، فسبحان الله مالك الملك المتصرف في مخلوقاته كما يشاء.
ـ وجوب الرجوع إلى حكم الله الشرعي، فالشرع صالح في كل زمان ومكان، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها!.
-فوائد الصحبة الصالحة ومخالطة الناس الخيرة، حيث كان أصحاب الكهف جميعهم ممن آمنوا بالله تعالى

-أن الله تعالى ينصر دينه ويعز أهل الإيمان وينصرهم مهما ضاق بهم الحال ومهما اشتدت عليهم الأزمات، وأنّ رب العالمين يُسخِّر الأسباب التي تساعد على حماية أهل الإيمان من أهل الكفر والضلال وأن المؤمن قد يلجأ إلى التخلي على المكان الذي يعيش فيه بالهجرة الى الله تعالى واعتزال الكفر واهله