بين سد الذرائع وفتحها
سامي بن عبد العزيز الماجد
النصوص المستفيضة من الكتاب والسنة تشهد بأن سدّ الذرائع أصل معمولٌ به في الشريعة، ومنها قرر أهل العلم قواعد مهمة في هذا الباب، منها: (للوسائل أحكام المقاصد)، (كل ما أفضى إلى حرام فهو حرام)، والحديث عنها تتوزعه النقاط الآتية:
أولاً: العقل الصريح يوجب العمل بأصل سدّ الذرائع.
لم ينفرد علماء الشريعة بالعمل بهذا الأصل (سدّ الذرائع)، بل هو معمول به حتى في الأنظمة والقوانين الوضعية، وما من دولة إلا وهي تعمل بقاعدة سدّ الذرائع في أنظمتها وقوانينها، وإن اختلفت في درجة العمل به تضييقاً أو توسيعاً.
ثانياً: سدّ الذرائع بين التيسير والتشديد.
أصل قاعدة سدّ الذرائع متفق عليه، فكل ما يفضي إلى الحرام قطعاً فهو حرام عند أهل العلم جميعاً، ولا خلاف بينهم في هذه الصورة، وكذلك ما نص الشرع على تحريمه مما يفضي إلى الحرام غالباً؛ كالخلوة مثلاً، فهم متفقون على تحريمها؛ عملاً بالنص، لا إعمالاً بسدّ الذرائع. كما ذهب جمهور العلماء إلى العمل بسدّ الذرائع فيما يفضي إلى الحرام غالباً، وإن كان لا يُقطع بإفضائه إليه، واختلفوا فيما دون ذلك مما تردّد فيه الأمر: هل يفضي إلى الحرام أم لا؟ أو تساوى فيه الاحتمالان، فمنهم من يعمل القاعدة فيه، ومنهم من لا يعملها.
ومهما يكن؛ فهو من مورد الاجتهاد الذي تختلف فيه المدارك والأفهام، وتتباين فيه الأقوال، فلا تثريب ولا تشديد ما دام أن المجتهد قد اجتهد وُسْعه، وأعمل فكره، وراعى المقاصد، ووازن بين المصالح والمفاسد.
وأما الذرائع الضعيفة والتهمة البعيدة، فلا ينبغي أن تُعمل فيها القاعدة فتُسدَّ؛ لأن العبرة بالغالب، وهي في الغالب لا تُفضي إلى المنكر، فمنعها ضربٌ من التضييق، وإفراطٌ في إعمال (سدّ الذرائع).
قال القرافي (كما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 8/90): "ومنها ما هو ملغي إجماعاً؛ كزراعة العنب؛ فإنها لا تُمنع خشية الخمر، وإن كان وسيلة إلى الحرام"أهـ.
إن الذريعة التي يجب أن تُسدّ هي الخطوة القريبة التي تفضي إلى المنكر يقيناً أو في غلبة الظن، أما الخطوات البعيدة التي بينها وبين الحرام خطواتٌ أدنى فتحريمها بحجة سدّ الذريعة هي نفسها ذريعة إلى التشديد والتضييق يجب أن تُسدّ؛ فمثلاً: يحرّم الإسلام من الاختلاط ما هو مظنة المزاحمة والخلوة؛ لكن لا يجوز بحالٍ أن نُحرِّم على النساء أن يمشين مع الرجال في طريق واحد، أو نحرّم عليهم مجرد الاجتماع في مكان يحويهم جميعاً تكون فيه النساء بمعزل عن الرجال! والنبي لم يمنع النساء من المرور بطريقٍ يمر به الرجال، وإنما أمرهن بالبعد عن مزاحمتهم منعاً من تماسّ الأجساد، فقد صح عنه أنه قال: لما خرج الرجال والنساء من مسجده جميعاً: "لا تُحقِقن الطريق، ولكن عليكن بحافة الطريق". فهو - كما ترى- تجنّب للمزاحمة والاختلاط الذي يُفضي إلى الفتنة، لا تجنّبٌ لمشي الرجال والنساء في طريق واحد.
ثالثاً: اختلاف أهل العلم في بعض صور سدّ الذرائع لا يعود على أصلها بالنقض والبطلان:
لئن اختلف العلماء في درجة الأخذ بقاعدة (سدّ الذرائع) والتوسع في إعمالها، فلا يصح أن نجعله من الاختلاف الذي يعود على أصل القاعدة بالنقض والبطلان، فقد اختلفوا في بعض صور القياس وضروبه، ولم يكن ذلك الاختلاف مبطلاً لحجيّة القياس، ولا ناقضاً لأصله. إنما ذلك اختلافٌ في إعمالِ القاعدة وتحقيقِ مناطها، لا في أصل العمل بها.
رابعاً: المبالغة في سدّ الذرائع لا مسوّغ له إطلاقاً :
إن الذي نراه هو أن المبالغة في سدّ الذرائع بحجة الغيرة على الأعَراض – مثلاً - لا يخدم الغرض نفسَه، وقد يخدمه حيناً من الدهر؛ لكنه لا يلبث أن يكون عوناً ودافعاً للناس للتساهل في تقحّم بعض الذرائع التي هي - في الحقيقة- فتنةٌ واقعةٌ، أو تفضي إلى الحرام؛ كردة فعل منهم على ذلك التشدد.
خامساً: استثناء في إعمال قاعدة (سدّ الذرائع).
إن تحريم الذرائع التي تفضي إلى الحرام قطعاً أو غالباً هو من قبيل تحريم الوسائل لا من قبيل تحريم المقاصد، ولذا فما حُرّم من هذا القبيل فإنه يُباح عند الحاجة، ولو لم تكن ثمة ضرورة، ومن شواهد ذلك في كتب أهل العلم:
1ـ قولهم: (ما كان منهياً عنه للذريعة فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة) (يُنظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/298، وزاد المعاد 2/242، إعلام الموقعين 2/142)
2ـ قولهم: (يُغتفر في الوسائل ما لا يُغتفر في المقاصد) يُنظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص293.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن تيمية (مجموع الفتاوى 23/186): " ثم إن ما نهى عنه لسدّ الذريعة يُباح للمصلحة الراجحة كما يُباح النظر إلى المخطوبة...فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضياً إلى المفسدة".
وقال في موضع آخر (23/214): " ما كان من باب سدّ الذريعة إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه؛ ولهذا يُفرق في العقود بين الحيل وسدّ الذرائع: فالمحتال يقصد المحرم، فهذا ينهى عنه. وأما الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم؛ لكن إذا لم يحتج إليها نُهي عنها، وأما مع الحاجة فلا "أهـ.
ويتبين مما سبق: أن إباحة ما حُرِّم سداً للذريعة لأجل الحاجة منـزعُه من الترجيح بين المصالح والمفاسد، فما كانت مصلحته أرجح من مفسدته فإنه لا يُسدُّ، بل يباحُ مراعاةً للمصلحة الراجحة وإلغاء للمفسدة المرجوحة.
سادساً: (فتح الذرائع).
مصطلح (فتح الذرائع) مصطلح عبّر به بعض العلماء؛ كالقرافي، حيث يقول - شرح تنقيح الفصول ص449: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدّها، يجب فتحها، ويُكره، ويُندب، ويُباح... ".، ويقول ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة ص369: "إن الشريعة قد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها". والقواعد الفقهية تؤيد هذا؛ ولكن بعبارات أخرى، مثل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و"ما لا يتم المباح إلا به فهو مباح".
غير أن استعمال هذا المصطلح "فتح الذرائع" - فيما أحسبُ - فيه إيهامٌ حتى وإن كان مستعملاً عند بعض أهل العلم، إذ يتوهم من يسمع به أن المقصود هو فتح الذرائع التي سُدَّتْ؛ لإفضائها إلى المحظور.
ولذا وقف بعض الأحبة من هذا المصطلح موقف الرفض؛ ظناً منه أن المقصود هو فتح الذرائع التي تفضي إلى الحرام، وليس بصحيح، وإنما المقصود هو فتح وسائل المباح والواجب والمندوب.
ورفعاً لهذا اللبس والإيهام: فالأولى ترك استعمال هذا المصطلح إلى التعبير بـ "التوسط والاعتدال في إعمال قاعدة سدّ الذرائع"، بحيث لا يُسدّ من الذرائع إلا ما أفضى إلى المحظور غالباً، وكانت مفسدته أرجح من مصلحته؛ لأن التوسط في إعمال هذه القاعدة يجعل ذرائع المباح مفتوحة للناس استصحاباً للأصل؛ وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة.