صحة الإيمان وصلابة الدين من أهم أسباب الثبات أمام الفتن والابتلاءات

سليمان العربيد



إن في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كشفا عن معادن النفوس، وطبائع القلوب؛ حيث يمحص الله المؤمنين، ويكشف الزائفين، وإن مما حث عليه الإسلام وعظَّمه القرآن الثبات على الدين، والاستقامة عليه، ذلك أن الثبات على دين الله -تبارك وتعالى- والاعتصام به، يدل دلالة قاطعةً على سلامة الإيمان، وحسن الإسلام، وصحة اليقين، وحسن الظن بالله -تبارك وتعالى.

كذلك فإن الثبات على دين الله خلق عظيم، ومعنى جميل، له في نفس الإنسان الثابت وفيمن حوله من الناس مؤثرات مهمة، تفعل فعلها وتؤثر أثرها، وفيه جوانب من الأهمية الفائقة في تربية الفرد والمجتمع، فصفة الثبات على الإسلام والاستمرار على منهج الحق نعمة عظيمة حض الله عليها أولياءه وصفوة خلقة، وامتن عليهم بها، فقال مخاطبا عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}، وقد أمر الله الملائكة بتثبيت أهل الإيمان فقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.


عوامل الثبات ومظاهره

الثبات على الدين له عوامل ومظاهر، من تمسك بها صمد -بعون الله وتوفيقه- أمام كل المصاعب التي تحول بينه وبين دين الله -تبارك وتعالى-، ومن ذلك ما يلي:

صحة الإيمان وصلابة الدين

إن مما يعين على الثبات أمام الفتن والابتلاءات صحة الإيمان وصلابة الدين، فكلما كان الإنسان قويا في إيمانه، صلبا في دينه، صادقا مع ربه، ازداد ثباته وقويت عزيمته، وثبتت حجته، قال الله -تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير».

تدبر القرآن الكريم والعمل به

ومن عوامل الثبات على الدين: تدبر القرآن الكريم، والعمل به، فالقرآن هو كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله الباقية، ونعمته السابقة، وحكمته الدامغة، وهو يدعو للحكمة والرسالة، وينير البصائر، أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لنقرأه تدبرا، ونتأمله تبصرا، ونسعد به تذكرا، ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه، وعلما تزداد البصائر فيه تأملا، فيزيدها هداية وثباتا وتبصرا، قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.

الدعاء والافتقار لله -تعالى

كما أن الدعاء والافتقار إلى الله -تعالى- والاستكانة له من أقوى الأسباب لدفع المكروه وحصول المطلوب، وهو من أقوى الأسباب على الثبات، إذا أخلص الداعي في دعائه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أن يقولَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك فقلت يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال نعم إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ»، وما أعده الله من النعيم المقيم في الآخرة لعباده الصالحين، وفي الدنيا من النصر والتمكين، قال الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}.

الصبر

إن الصبر من أجل صفات النفس، وأعلاها قدرًا، وأعظمها أثرًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصبر ضياء» فالصبر من أعظم الأمور والعوامل المعينة على الثبات، يقول الرب -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

اليقين والرضا

ومن عوامل الثبات على المنهج الحق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها صفة اليقين والرضا بقضاء الله وقدره، فهما من الأسباب المعينة على الثبات، ذلك أن اليقين هو جوهر الإيمان.

التزام شرع الله -تعالى


ومما يعين العبد على الثبات التزام شرع الله -تعالى- والعمل الصالح.

موانع الثبات

فكما أن للثبات عوامل فكذلك له موانع، يجب أن يتجنبها العبد، ومن تلك الموانع:

المانع الأول: طول الأمل

حيث يتولد عنه الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب. وصفاء القلب إنما يكون بتذكر الموت والقبر، والثواب والعقاب، وأهوال يوم القيامة، ويحذرنا الله -تعالى- من طول الأمل فيقول: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)، ويقول جل شأنه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الحجر: 3)، أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتموا بغير الطعام والشهوات، وقوله ويلههم الأمل أي يشغلهم طول الأمل والعمر عن استقامة الحال على الإيمان، والأخذ بطاعة الله -تعالى.

المانع الثاني: التوسع في المباحات

لا شك أن التوسع في المباحات من الطعام والشراب واللباس والمراكب ونحوها سبب في التفريط في بعض الطاعات، وعدم الثبات عليها؛ إذ إن التوسع يورث الركون والنوم والراحة. بل قد يجر هذا التوسع إلى الوقوع في المكروهات، فلا يزال الشيطان يزين للعبد التوسع بقوله: افعل ولا حرج، حتى يقع في المكروهات، فالمباحات باب الشهوات، والشهوات لا تقف عند حد بل قد تقود إلى شر، قال -تعالى-: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} (طه: 81)، فأمر -سبحانه- بالأكل ونهى عن الطغيان فيه حتى لا تميل النفس إلى البطالة والكسل، وتتقاعس عن العمل، وتطلب الراحة، فيعجز المسلم عن حملها عليه، وهذا لا يعني تحريم ما أحل الله، فقد كان - صلى الله عليه وسلم -: «يحب العسل والحلواء»، «ويأكل اللحم، ويقبل ما يقدم إليه إلا أن يعافه»، فاستعمال المباح في التقوِّي على الطاعة طاعة، ولكن الآفة التوسع والاستكثار، فليكن تناول المباح بقدر.

المانع الثالث: الابتعاد عن الأجواء الإيمانية

النفس إن لم تشغلها بالحق والطاعة شغلتك بالمعصية، ومن أصول عقيدتنا أن الإيمان يزيد وينقص، فيضعف ويضمحل إذا تعرض العبد لأجواء المعاصي والذنوب، مثل: التبرج والسفور، أو انشغل قلبه بالدنيا وأهلها؛ لذا بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن «أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق»؛ وما ذلك إلا لأن المساجد بيوت الطاعات، ومحل نزول الرحمات، وأساسها على التقوى، والأسواق محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة، وخلف الوعد، والإعراض عن ذكر الله، وغير ذلك مما في معناه.

وحينما سأل قاتل المائة العالم: هل له من توبة؟ قال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلقْ إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، مما يدل على أن البيئة تؤثر في ثبات المسلم على الطاعة.


لذا حث الشرع على مرافقة الصالحين؛ ليعتاد المسلم فعل الطاعات، وترك السيئات، قال -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28).