سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة - السعادة من ثمرات شكر الله -تعالى


د. سندس عادل العبيد



ما زال حديثنا مستمرًا عن ثمرات الالتزام بالقيم الإسلامية، وأثرها في تحقيق السعادة، وقد ذكرنا أن القيم: هي الفضائل الدينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها سعادة الفرد والمجتمع في الحياة، كما أن التزام القيم الإسلامية من مؤشرات السعادة المؤثرة في سلوك الإنسان وانفعالاته، وتحدثنا في الحلقة الماضية عن التقوى بوصفها إحدى القيم الأساسية لحصول كلّ سعادة وطمأنينة، واليوم نتكلم عن الشكر.

قال الله -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (سورة إبراهيم: 7)، والشُّكْرُ لغة: عِرفانُ الإحسانِ ونَشرُه، وحَمْدُ مُوليهِ، واصطلاحًا: معرفة إحسان المحسن، والتحدث به، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرًا؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد لله -تعالى- اعترافه بنعمه وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته، وأمّا شكر الله -تعالى- أفعال عباده فمجازاته إياهم عليها، وتضعيف ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم؛ فهو المعطي والمثني -سبحانه-، والشكور من أسمائه -سبحانه وتعالى- بهذا المعنى والله أعلم.

الشكر لله رأس العبادة

والشكر لله رأس العبادة، وأصل الخير، وأوجبه على العباد؛ فما من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصّة أو عامّة إلّا من الله؛ فهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيّئات، فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.

خير زاد يتزود به العبد


والشكر خير زاد يتزود به العبد؛ فقد روي عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ مَا نَزَلَ، قَالُوا: فَأَيَّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ قَالَ عُمَرُ: فَأَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ ذَلِكَ، فَأَوْضَعَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَأَدْرَكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ؟ فَقَالَ: «لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ»، ومعنى الحديث أي: ليعوّد قلبه الشكر ويمرّنه عليه، ويعود لسانه ذكر لله -تعالى-، ويتخير زوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة، وهي من قبل ذلك معينة له على أمر معاشه، فهي إمّا معينة له على الآخرة أو بخلاف ذلك.

وفي الشكر ينشغل العبد بأفكار ومشاعر إيجابية، كمشاعر الرضا والمحبة والمودة التي من شأنها تنمية صحته النفسية، وفي الشكر تعويد للإنسان على الاعتراف بالفضل.

حصول الشكر

والشكر يحصل حتى على أقل الأشياء بنظرنا، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»، وفي هذا الحديث حبّ الله -عز وجل- للحمد، وهذا من رفقه -سبحانه- بعباده، فالأكلة أي لقمات كثيرة، فرضي الله عن عبده في النعم الكثيرة بالمرة الواحدة من الحمد، وفي هذا دليل على أنّ رضا الله -عزّ وجلّ- قد ينال بأدنى سبب، مثل هذا السبب اليسير.

فإذا وفَّقَ الله عبدَه للشكر على نعمه الدنيوية بالحمدِ أو غيره من أنواع الشكر، كان هذا الشكر خيرًا له من تلك النعم، وأحبَّ إلى الله -عز وجل- منها، فالله -سبحانه- يَبذُلُ نِعَمَهُ لعباده، ويطلب منهم الثناءَ عليها، وذكرها، وحمدها، ويرضى منهم بذلك شكرًا عليها، وإنْ كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غيرُ محتاجٍ إلى شكرهم، لكنَّه يُحِبُّ ذلك من عباده؛ حيث كان صلاحُ العبدِ وفلاحُه وكماله فيه.

سجود الشكر



ومن صور شكر العبد لله -تعالى- السجود له شكرًا؛ فقد روي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ، أَوْ يُسَرُّ بِهِ، خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ»، وسجود الشكر عند حدوث نعمة، أو وصول شيء إلى الرجل يُسَرُّ به، واندفاع بليَّة كانت عليه، وذهب جمع من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث فرأوا السجود مشروعًا في باب شكر النعمة، وقوله (خرّ ساجدًا) أي: وقع على الفور هاويًا لإيقاع السجود، شكرًا لله على إنعامه وتواضعًا له وإقبالًا عليه، وفي هذا الحديث بيان وإرشاد للعبد إلى منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعبير عن السعادة والسرور.

ولئن شكرتم لأزيدنكم

ولا يزال العبد يشكر الله -سبحانه- حتى يزيده ويزيده، فقد روي عنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّهُ رَاحَ إلى مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَهَجَّرَ بِالرَّوَاحِ، فَلَقِيَ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ، وَالصُّنَابِحِي ُّ مَعَهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدَانِ يَرْحَمُكُمَا اللهُ؟ قَالَا: نُرِيدُ هَاهُنَا إلى أَخٍ لَنَا مَرِيضٍ نَعُودُهُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَالَا لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ. فَقَالَ لَهُ شَدَّادٌ: أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ، وَحَطِّ الْخَطَايَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: إِنِّي إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا، فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا، وَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ ، وَأَجْرُوا لَهُ كَمَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ»، وفي الحديث دلالة على أن العمل الذي يعمله المبتلى قبل ابتلائه مكتوب له، ومدخر ثوابه عند الله، لا ينقطع بابتلائه، كقيام الليل، والأوراد، وغير ذلك مما كان يعتادُه قبل أن يحل به الابتلاء، فسبحانك يا رب من خالق كريم، وإله بعبادك رؤوف رحيم!

معنى التوكل

معنى المتوَكِّلُ على الله في اللغة: أي الَّذِي يعلمُ أَن الله كافِلُ رزْقِهِ وأَمْرِه فاطْمَأنَّ قلْبُه على ذَلِك، وَلم يَتَوَكلْ على غَيره. وحقيقة التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.

لا يصح اسم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته، والثقة بأنه لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرًّا، والكل من الله -تعالى- وحده، والتوكّل محلّه القلب وأمّا الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق العبد أن الثقة من قبل الله -تعالى-، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر فبتيسيره، ولا يكون معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض، إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه أي: بعمله إلى مقاصده.

الخلاصة في تحقيق التوكل

والخلاصة في تحقيق التوكل أنه لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قدَّر الله -سبحانه- المقدورات بها، وجرت سُنَّته في خلقه بذلك، فإنَّ الله -تعالى- أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل، فالسَّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكُّلُ بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال الله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } (سورة النساء: 71)، وقال -سبحانه-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (سورة الأنفال: 60)، وفي هذه المعاني قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»، والتوكل من القيم التعبدية التي تسكن بها النفس وتطمئن، وفيه سعادة الدنيا بمعونة الله وتيسيره -سبحانه- أمور المؤمنين، وبه يصل العبد للسعادة الأخروية في الآخرة.

التوكل عملية نفسية

والتوكل عملية نفسية مرتبطة بالبعد الوجداني في الإنسان، يتولد عنها أفكار ومشاعر الاستعانة بالله -تعالى-، وتفويض الأمر إليه، والرضا بما قضى وقد؛ مما يجعل المتوكل آمنا مطمئنا في سعيه في الحياة؛ لأنه مع الله القادر على كل شيء، الخبير بكل الأمور، العادل في قضائه وقدره، وهو من أهم العمليات النفسية التي تولد مشاعر إيجابية لتنمية الصحة النفسية، وإطفاء الوهن النفسي في الحياة.

وحسن الظن بالله، والتقوى، والإخلاص، والرضا، والزهد، والشكر، والتوكل، قيم إيمانية تعبدية، توصل العبد للسعادة الحقيقية؛ لأن فيها صلاحًا لقلبه، وهي فضائل قلبية قل من يتصف بها إلا من رحم الله؛ لأنها تحتاج مجاهدة من العبد، ومعرفة للدنيا وزهدًا بها، ومن أراد سبيل السعادة كما علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فليحرص على هذه القيم الإيمانية؛ ففيها الخير الكثير، وفيها الراحة والطمأنينة والسكينة والفوز والحبور، وهذه القيم تقوي دافع العبودية عند المؤمن، الذي يؤثر على سلوكياته وانفعالاته وعواطفه وعلى نشاطه الذهني، فعلى المؤمن الذي يبحث عن السعادة الحقيقية تدريب نفسه وإدارتها نحو القيم والفضائل الإسلامية.