دمــوع النبـي - صلى الله عليه وسلم

سالم الناشي



أهي الخلوة، والقرب من الله في الليالي المظلمات؟ أم الصلاة التي يكون فيها العبد أقرب إلى ربه؟ أم القرآن الذي يأخذ بالألباب لسحره وبيانه وإعجازه؟ أم المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ أم رقته وشفقته بأحوال أمته؟.. أم كل هذا؟

- ففي صلاته، تسمع في صدره - صلى الله عليه وسلم - صوتَ «أزيزٍ كأزيز الرحى من البكاء»، وفي قيامه بالليل، قالت عائشةَ -رضي الله عنها-: «فقامَ فتَطَهَّر، ثُم قامَ يًصلِّي، قالتْ: فلمْ يَزلْ يَبكِي حتى بلَّ حِجْرَه، قالتْ: وكانَ جالِسًا فلمْ يَزلْ يبكِي حتى بَلَّ لِحيتَه. قالتْ: ثُم بكَى حتى بلَّ الأرضَ، فجاء بلالُ يُؤْذِنه بالصَّلاةِ، فلمَّا رآهُ يبكِي، قال: يا رسولَ اللهِ، تبكِي وقدْ غفر اللهُ لكَ ما تقدَّمَ من ذنبِكَ وما تأخَرَّ؟! قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ لقد أُنزِلتْ علىَّ الليلةَ آيةٌ، ويْلٌ لِمن قرأَها ولم يتفكرِ فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}» (آل عمران:190).

- وأما إحساسه بعظم المسؤولية، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال لي رسول الله: اقرأ عليَّ القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت (النساء)، حتى إذا بلغتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، رفعتُ رأسي فرأيتُ دموعه تسيل، أو «قال - صلى الله عليه وسلم -: حسبك الآن»، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان». قال ابن بطال: «وإنما بكى عند هذا؛ لأنه مثَّل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن».

- وعند القبر، زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت». وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على حافة قبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: «يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا».

- وفي رقته ورحمته، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم، فقبَّله وشمَّه، فإذا بإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: «وأنت يا رسول الله؟!»؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابن عوف، إنها رحمة»، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ حفيده وهو يحتضر؛ فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد بن عبادة - رضي الله عنه - «أتبكي؟!» فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء».

- وفي الأزمات، يوم بدر نام الجيش إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي «ويبكي حتى أصبح»، يسأل الله -تعالى- النصر والتمكين.

- ولأجل أمته؛ تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله - عز وجل - في إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (إبراهيم:36)، وقوله -تعالى- على لسان عيسى -عليه السلام-: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118)، فرفع يديه، وقال - صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أُمتي أمتي، وبكى»، فقال الله -عز وجل-: «يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسلْهُ: ما يبكيك؟»، فأتاه جبريل -عليه الصلاة والسلام-، فسأله، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بما قال، وهو أعلم، فقال الله: «يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك».

لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عظيما في كل شيء، حتى في بكائه؛ فما أرحمه بأمته! وقد صدق ربنا حين وصفه بالرؤوف الرحيم، فقال-تعالى-: {بِالْمُؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128).