الاستقامة: مفهومها .. أسبابها .. وسائلها - أفضل القدر توفيق الله للعبد

د. عاطف إبراهيم

في الطريق إلى الاستقامة جاء التوجيه النبوي الشريف للمؤمنين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لمرضك»، وكان ابن عمر - رضي الله عنه يقول: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح»، فلابد للإنسان أن يتذكر دوما لماذا خُلق في هذه الحياة الدنيا؟ وعلى أي حال ينبغي أن يكون فيها؟ لذلك تأتي هذه السلسلة من المقالات للوقوف على مفهوم الاستقامة وأسبابها ووسائل الثبات عليها.

الهداية إلى الاستقامة

أفضل ما يُقَدِّر الله لعبده وأجلُّ ما يقسمه له الهدى إلى طريق الرشاد، والأخذ بقلبه وجوارحه نحو الاستقامة على سبيل الإسلام، وأسوأ ما يبتليه به ويقدره عليه الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال، وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزلة عليهم، على أنه -سبحانه- يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأن العبد هو المهتدي، أو الضال، فالهداية والإضلال فعله -سبحانه- وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد، وكسبه.

البيان الرباني

وجاء البيان الرباني مبيناً، يوضح أن سلوك الطريق المستقيم، والهداية إلى نهج الاستقامة والاعتدال في الأقوال والأعمال والأحوال، يفتقر ابتداءً إلى محض توفيق الله تعالى لعباده، وإنعامه عليهم بالدلالة إليه، وشرح صدورهم له، كما جاء في الآيات التالية:

قال -تعالى-: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة/142)، ومثلها قوله -جل شأنه-: {وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام/39)، وقوله -سبحانه-: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس/25)، وقوله -تبارك وتعالى-: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النور/46)، ومعنى الآيات الكريمة: أن الله -تعالى- يوفق مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فَيُسَدِّدهُ، ويرشده إِلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ الَّذِي جَعَلَهُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- سَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى رِضَاهُ وَطَرِيقًا لِمَنْ رَكبهِ وَسَلَكَ فِيهِ إِلَى جَنَّاتِهِ وَكَرَامَتِهِ.

التوفيق لسبيل الرشاد

وقريب من هذه المعاني ما امتن الله به على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعباده المؤمنين من توفيقه وهدايتهم لسبيل الرشاد، قال جل ثناؤه لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح/2) أي «وَيُرْشِدُكَ طَرِيقًا مِنَ الدِّينِ لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ يَسْتَقِيمُ بِكَ إِلَى رِضَا رَبِّكَ».

العلم والإيمان

وقد وعد الله -تعالى- عباده المؤمنين أن يهيئ لهم من العلم، والإيمان، أسباب الهداية، والاستقامة في الأقوال، والأعمال، والأحوال، فقال -تعالى- للمؤمنين: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (الفتح/20) « يَقُولُ: وَيُسَدِّدُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ طَرِيقًا وَاضِحًا لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ، فَيُبَيِّنُهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَنْ تَثِقُوا فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا بِرَبِّكُمْ، فَتَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا، لِيَحُوطَكُمْ « بحفظه ورعايته وعنايته، ومن عظيم المعاني أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص؛ لأنه تقدير بالأسباب.


القضاء والقدر

قال الإمام القدوة شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: «يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال، وإن ما قضاه الرب -سبحانه- وقدره لا بد من وقوعه، فتوسط العمل لا فائدة فيه، وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى؛ ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكث بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا كُتِبَ مكانُها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة»، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال: «اعملوا، فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}».

وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: «يا رسول الله، بيّن لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: لا. بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر» رواه مسلم، وعن عمران بن حصين قال: «قيل يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم قيل ففيم يعمل العاملون؟ فقال: كل ميسر لما خلق له» متفق عليه.

القدر السابق لا يمنع العمل

فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد؛ ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت أشد اجتهادا مني الآن»، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة، ودقة أفهامهم، وصحة علومهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بالقدر السابق، وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه، ومكن منه، وهيئ له؛ فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما زاد اجتهادا في تحصيل السبب، كان حصول المقدور أدنى إليه، وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد، والحرص على التعلم، وأسبابه، وإذا قدر له أن يرزق الولد، لم ينل ذلك إلا بالنكاح، أو التسري، والوطء، وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر، وفعل أسباب الزرع، وإذا قدر الشبع، والري، فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك، من الأكل، والشرب، واللبس، وهذا شأن أمور المعاش، والمعاد، فمن عطل العمل اتكالا على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطل الأكل، والشرب، والحركة في المعاش، وسائر أسبابه، اتكالا على ما قدر له.

الحرص على الأسباب

وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب، التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم، فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش، والمعاد، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا، والآخرة فهو مهيأ له، ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها؛ كان أشد اجتهادا في فعلها والقيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه.

ما كنت أشد اجتهادا مني الآن

وقد فقه كل الفقه من قال: «ما كنت أشد اجتهادا مني الآن»؛ فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه؛ ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره؛ وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة، وهيأه، ويسره للوصول إليها، كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم، من فرحه بالأسباب التي تأتي بها، فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه، وعلمها الله، وشاءها، وكتبها، وقدرها، وهيأ له أسبابها؛ لتوصله إليها، فالأمر كله من فضله، وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة، ووسيلتها، وغايتها، فالمؤمن أشد فرحا بذلك من كون أمره مجعولا إليه، كما قال بعض السلف: والله ما أحب أن يجعل أمري إليَّ، إنه إذا كان بيد الله (كان) خيرا من أن يكون بيدي، فالقدر السابق معين على الأعمال، وما يحث عليها، ومقتض لها، لا أنه مناف لها، وصاد عنها.

الفوز بالنعيم المقيم

وهذا موضعٌ من ثبتت فيه قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت عنه قدمه هوى إلى قرار الجحيم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد الأمة في القدر إلي أمرين هما سببا السعادة:

- الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد.

- والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة كما في قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين».