تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 39 من 39

الموضوع: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: ( ١٤)

    {بلْ نَتَبِعُ مَا ألْفَينَا عَلَيهِ آباءَنَا}.. فِطرَةُ المُحاكَاة!


    أسماء محمد لبيب



    قال أبٌ لولَدِه: [[انتبهْ بُنَيْ إلى خطواتِكَ وأنتَ تَسِير!]] فأجابه: [[بَل انتبِهْ أنتَ يا أبَتِ لخُطُواتِكَ فأنا عليها أسِيرُ]]!!

    بسببِ تَقلِيدِ الصغارِ لنا واستِعراضِهِم لِمِرآتِنا السلوكيةِ في كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ، أصبحَ مِن إيجابياتِ الإنجابِ أنهم يُعَزِزُونُ بداخلِنا عقيدةَ الإيمانِ بوجودِ مَلَكٍ رقِيبٍ عتيدٍ مُلازِمٍ لنا يُحصِي علينا أعمالَنا وربما أنفاسَنا واللهُ المستعان..!

    المحاكاةُ غَريزةٌ، والغريزةُ هي الدافعُ للإنسانِ إلى عَمَلٍ دونَ تفكيرٍ وهي جُزءٌ من الفِطرَة*ِ.
    فالإنسانُ بطبيعَتِهِ يَمِيلُ للتقلِيد، لِما فِي ذلكَ من إشباعٍ لشعورِهِ بالانتماءِ مَع مَن حَولِهِ في سُلُوكِهِم، خاصَّةً الأطفالُ، حيثُ يعتقدونَ أن كلَ أفعالِ الكبارِ صحيحةٌ فيقلِدُونَهُم، بدافِعِ مَحَبَتِهِم إياهُم أولًا والتجربةِ ثانيًا. وهذا بالطبعِ يُخالفُ مَزاعِمَ فرويد صاحِبِ عُقدَةِ "أوديب"، أن الولدَ يُضمِرُ بُغْضَ أبيهِ لأنهُ ينافِسُهُ على أمِهِ، وهذا افتراءٌ واتهامٌ باطِلٌ لفِطرَةِ الأطفالِ الأبرياءِ بالنفاقِ والحِقدِ، وليس المجالُ الآنَ لتفصِيلِهِ* (كتاب التربية-مشكاة-بتصرف)

    القدوةُ إذًا من أهَمِّ صُوَرِ انتقالِ السلوكِ علَى مَرِّ الأُمَمِ، حتى بينَ الحيواناتِ وبعضِها، بل بينَ الحيواناتِ والبَشَرِ..
    تأملوا نبأَ ابنَيْ آدمَ وكيفَ بَعَثَ اللهُ غُرابًا يَبحَثُ في الأرضِ ليُرِيَ ابنَ آدَمَ القاتلَ كيفَ يُوارِي سَوءةَ أخيهِ المقتولِ، فيتعلَمُ الدفنَ بالمُحاكاة..
    بَل يَتَعَجَبُ الإنسانُ إذا جاءَهُ مَن يَصرِفُهُ عن تَقلِيدِ آبائِهِ: { {أَجِئتَنا لِتَلفِتَنا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيهِ آباءَنا} }!
    فالقدوةُ سلاحٌ ذو حَدَّينِ ولاعجَبْ.. فهي غَنِيمَةٌ عظيمةٌ لو كان القائدُ صالحًا، ونِقمَةٌ وشقاءٌ إن كان مُعوَجًّا..
    ولو اجتمعَ مَعَها الحُبُ صارتْ أبلَغَ في الأثَرِ كالنَقْشِ علَى الحَجَرِ، فالحُبُ أداةُ الاستِمالَةِ، والقُدوَةُ أداةُ الإقناع، وهما معًا جناحا الاتباعِ..
    إذًا الأصلُ هو المحاكاةُ، والتِي أبرَزَها القرآنُ مِرارًا---< { {بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كذلكَ يَفعَلُونَ} }/ { {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا علَى آثارِهم مُقتَدُون} }/ { {بَلْ نَتَبِعُ ما ألفَينَا عَلَيهِ آباءَنَا} }..!
    ثم تكونُ العاقبةُ: 1-إما { {وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتۡهُم ۡ ذُرِّیَّتُهُم ((بِإِیمَـٰنٍ)) أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَمَاۤ أَلَتۡنَـٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَیۡءࣲ} }/
    2-وإما { {إذْ تَبَرَّأَ الذِينَ اتُبِعُوا مِنَ الذِينَ اتَبَعُوا ورأَوا العَذَابَ وتَقَطَعَتْ بِهِمُ الأسباب} }..

    ولأجلِ ذلكَ حَذَّرَ الإسلامُ مِن المُجاهَرَةِ بالخطأِ والتفاخرِ به وكَشْفِ سِتْرِه، لئلا يصيرَ عَدوَى سلوكيةً ولكيلا تُخدَشَ القدوةُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعافَى إلَّا المُجاهِرُين"..!
    وَشَدَّدَ على اختيارِ الزوجةِ المتدينةِ وعدمِ تفويتِ الخاطبِ المتدينِ، لأنَ هؤلاءِ هُمُ الآباءُ قدواتُ الصغارِ مُستَقبَلًا:
    "إذا خَطَبَ إليكُم مَن تَرضَونَ دينَه وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلا تَفعَلوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرضِ"، "فاظفَرْ بِذاتِ الدِينِ تَرِبَتْ يداكَ"..!
    ووجَّهَ كذلكَ إلَى انتقاءِ الجُلَساءِ وضرورةِ حَبْسِ النفسِ مع الأخيارِ فهؤلاءِ هم قدواتُ الحاضِرِ:
    { {يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتِخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعدَ إِذْ جاءَنِي} }، و"مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ"..
    وحَثَّ كثيرًا علَى تَعلُمِ سِيَرِ السلَفِ الصالحِ لأنَ هؤلاءِ هُم قدواتُ الماضِي:
    { {لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ} }/ { {فبهداهم اقتدِه} }..
    فالشريعةُ أحاطتْ الإنسانَ بقدواتٍ عبرَ كلِ المراحلِ الزمنيةِ لأهميتِها السلوكية..

    فمتى يبدأُ الاقتداءُ؟
    جزءٌ مِن طباعِ أبنائِنا طَبائِعُ كانتْ أو لازالت فينا وانتقلَتْ إليهم جِينِيًا بالوراثةِ، أو اكتِسابًا بالمُمَارَسَةِ أمامَهم.
    قال ابنُ القيمِ في مَدَارِجِ السالِكِين: [[الخُلُقُ: مِنهُ ما هو طَبيعَةٌ وجِبِلَّةٌ، وما هُو مُكتَسَبٌ]]..

    وبعضُ الطباعِ لَهُ وجهانِ: وَجهٌ حَسَنٌ مَحمُودٌ ووجهٌ قبيحٌ مَعيوبٌ.. مثال: سُرعةُ الكلام، مَمدوحةٌ لو لدينا مُصِيبَةٌ ونحتاجُ لمُوجَزٍ سريعٍ لما حدثَ لنَهْرُعَ بالتصرُفِ السليمِ، لكنها مُزعِجَةٌ جدًا فِي الحِوارَاتِ اليَومِيةِ الطبيعيةِ ومُخالفِةٌ للتريثِ النبويِّ الكلامِيِّ المُبِين..

    والتقليدُ يبدأ عادةً بعدَ العامِ الأول، ويَبلُغُ درجةً كبيرةً عند السادسةِ والسابعةِ، ويستمرُ مُعتدلا حتى مرحلةِ الحَزَاوِرَةِ، وهِيَ ما يُعرَفُ بالطُفولةِ المُتأَخِرَةِ، أو المراهَقةِ مَا قَبْلَ البُلُوغ...*
    فماذا كانَ يَحدُثُ قبلَ العامِ الأولِ؟
    قنصٌ لكلِ شيءٍ بالحواسِّ الخَمسَةِ وتخزينُهُ ومُعالجتُهُ.. كاميرا ومُسَجِّلُ صوتٍ وبِطاقَةُ ذاكِرةٍ وَنَولٌ وخُيوطٌ، حتى إذا حانَتْ لحظةُ التَصدِيرِ أنتجَتْ الماكينةُ القماشَ ورأينا الثَّوبَ الذِي كانَ يُغزَلُ بسلوكِياتِنا..
    فلا تَظُنِّي الماكينةَ كانتْ مُعَطَلةً قبلَ ذلكَ وعلَى مُؤَشِّرِ "غَيرِ نَشِطٍ" لأنَ القماشَ غَيرُ مَرئِيٍّ لَكِ بَعدُ!

    لذلكَ نقولُ..
    التربيةُ تبدأُ مِن تَزكِيةِ أنفسِنا نحنُ أولًا والنظَرُ إلَى طبائِعِنا المُكتَسَبَةَ والمَوروثَةَ والجِبِلِيَةَ، والعملُ على تهذِيبِ ما أمكنَ مِنها بالإيمانِ وسِيَرِ الصالِحينَ، قبلَ الزواجِ والإنجابِ بفترةٍ طويلةٍ لاستحقاقِ زوجٍ صالحٍ يكونُ أبًا صالحًا لذريةٍ صالحةٍ.. فنعتني بالقدوةِ بنظرةٍ مُبَكرَةٍ شامِلَةٍ، لتهيئةِ القدواتِ الصالحةِ في حياةِ الطفلِ قبلَ مَجيئِهِ، فإن لم تَكُنْ التزكيةُ قد بدأَتْ مُبكرًا منذ صِغَرِنا نحنُ في بيتِ أهلِنا، فلنبدأْها بأنفسِنا على أقصَى تَقدِيرٍ منذُ بلوغِنا الحُلُمَ وجريانِ القلمِ علينا، لنُقَدمَ من أنفسِنا نموذجًا في الصلاحِ لأبناءِ المستقبلِ، تَمهيدًا لأسرةٍ مسلمةٍ، للمتقينَ إمامٍ بحولِ اللهِ وقوتِهِ..

    فَمَن غَفَلَتْ عن ذلكَ حتى تَزَوجَتْ وفُوجِئَتْ بابنِها يُحاكِي كلامَها وأفعالَها الصالحةَ والطالِحَة، فلتُدرِكْ يَقينًا أنَ ماكينةَ القدوةِ بدأتْ إنتاجَ القماشِ وأنها لن تُلاحِقَ سُرعتَها فكلُ شيءٍ قد تَمَّ ويتِمُ قَنصُهُ بِدقَّةٍ، وسَترَى الثَّوبَ قريبًا على وَلَدِها.. فلتقِفْ معَ نفسِها وتُحَلِلِ المَشاهِدَ وتنظُرْ أيُّها أزكَى سُلُوكًا فتُعَزِّزُهُ لديها لينعَكِسَ عليهِ، وأيُّها أولَى بالسِّترِ والمُجاهَدَةِ لينزوِي مِنْ مِرآةِ ولدِها السُّلُوكِيِّةِ ...
    فالتربيةُ بالقدوةِ تحتاجُ مُحاسَبَةً وتزكيةً وتَجَرُّدًا للحقِ..
    وهذه جميعًا تحتاجُ علمًا وصبرًا: عِلمَ الأخلاقِ وعِلمَ الإيمان..
    وإنما العِلمُ بالتعلُمِ... وإنما الحِلمُ بالتحلُمِ..
    وقد وصفَ اللهُ عَبدَه إبراهيمَ قائلًا { {إنَّ إبْرَاهِيمَ لأواهٌ حَلِيمٌ} }، وهِي صِيغَةُ مبالغَةٍ من ((الحِلْمِ)) تُؤَكِدُ كَثرَةَ المُواظَبَةِ عَلَيهِ حتى صارَ صِفةً مُلازِمةً لَه، فلا عَجَبَ بعدَها حينَ نَقرأُ بِشارَةَ اللهِ لَهُ في وَلَدِهِ إسماعيلَ الذِي تَحلَّى بِنَفْسِ ثوبِ الحِلمِ بِالمِثلِ: { {فبشرنَاهُ بغلامٍ حَلِيمٍ} }..
    فهما طريقانِ: إما { {جَعلناهُمْ أئِمَةً يَهدُونَ بأمرِنا} } ونسألُ اللهَ أن نكونَ مِنهم..
    وإما { {جَعلناهُم أئِمةً يَدعُونَ إلى النَّارِ} } ونَعُوذُ باللهِ مِن ذلك..

    فماذا نفعلُ إذا خُدِشَتِ القُدوَةُ وبدأَ أبنائِي يُصدِرونَ سلوكياتٍ خاطِئَةٍ؟
    الجوابُ في القاعدةِ القادمةِ بإذن الله.


    --أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: (15)

    {قُلْ هُوَ مِن عِندِ أَنْفُسَكُمْ}.. فتِشِي بالداخل..!


    أسماء محمد لبيب


    إِحدَى صَدِيقاتِي كانتْ تَشكُو إِلَيَّ بِشدةِ من وَلَدِها.
    جَلَسْتُ مَعَهُ في أولِ زِيارةٍ لهم.. يبدُو جميلًا وزكيًا حفظَهُ الله، مُندمِجٌ بشكلٍ صِحِيٍّ مع أولادِي ولا تَظهَرُ عليهِ أيُّ أماراتِ اعوجاجِ سُلُوكٍ..! فسألتُها: مَالَهُ وَلَدُكِ؟! أراهُ بِخَيرٍ، ففيمَ شكواكِ مِنهُ؟ فقالتْ لِي إِجمالًا: نَعَم، هو وَلَدٌ رائعٌ ومنيرٌ، لكنِ اختَلِفِي مَعَهُ فقط في الرأيِ وستُظلِمُ الدنيا فِي وَضَحِ النهارِ..!
    في الحقيقةِ، أنا سَكَتُّ ولم أُعَقِّبْ، لأنها رَمَتْهُ بدائِها وانسَلَّتْ وهِي لا تَشعُرُ، وكُنتُ أتمنَّى إخبارَها أن هذا الشِبلَ مِن ذاكَ الأسدِ للأسفِ وأنه اكتسَبَ العِنادَ مِنها ولطالما عانيْتُ مِن ذَلِكَ مَعَها، لكِني استحيَيْتُ لأنِي في بيتِها ولأنَ عَلاقتَنا لمْ تَتَعافَ بَعدُ مُنذُ آخِرِ صِدام!
    أيتها الأمهاتُ الطيبةُ..
    لا تأتِينِي شاكيَةً مِنْ عَيبٍ أو خَطَأٍ مِن أولادِكِ، أنتِ شخصيًا الكبيرةُ الراشدةُ ذاتُ الإرادةِ تَفعَلِينَهُ وتَعجَزِينَ عن تَركِهِ وتَعذُرِينَ نفسَكِ بأنَّ هذا وُسعُكِ وتُماطِلِين فِي المُجاهَدَةِ والتزكِيةِ..
    فمثلما تَعذُرِينَ نفسَكِ في تَركِ التَزكِيةِ، للأسفِ هُم كذلكَ يَعذُرُونَ أنفسَهم وينتظِرُونَ مِنكِ إعذارًا بِالمِثلِ.
    غَضَبُكِ الكاسِحُ، كَذِبُكِ، سِبابُكِ، اغتيابُكِ للناسِ، نقرُ الغُرابِ في صلاتِكِ، احتقارُكِ للناسِ، شكواكِ المستمرةُ على كلِ حال، نُكرانُكِ للجَمِيل، فُجورُكِ في الخُصومَةِ، ضَعفُ شَخصيتِكِ، كسلُكِ، إهمالُكِ لمسؤولياتِكِ، تَدخينُكِ، جَزَعُكِ عِندَ المُصيبةِ...... إلى آخِرِ مُنكَراتِ السلوكِ والعباداتِ كافةً، إن رأيتِ أولادَكِ يُحاكونَها ولا تُبادِرِينَ بتزكيةٍ مُعلَنَةٍ وصادقةٍ، فراجِعِي نفسَكِ قبلَ فواتِ الأوان..
    وقبلَ أن تشتكِي من وَلَدِكِ، هناكَ أمورٌ ينبغِي فعلُها أولًا، وأمورٌ ينبغِي ألا تفعَلِيها..
    فإياكِ أن يكونَ أولَ ما تفعلينَهُ هو تبريرُ خطئِكِ لتبرِئَةِ نفسِكِ أمامَهُ.. لا تستهِينِي ببطاقةِ الذاكرةِ وعملياتِ الفرزِ والتحليلِ التي يُجرِيها عقلُهُ كلَّ ثانيةٍ للمُدخَلاتِ، والتي من ضِمنِها اقتناصُ نقاطِ التعارُضِ وازدواجيةِ المعايير..
    ثم إننا كأمهاتٍ طَمُوحَةٍ نَبتَغِي تربيةَ أجيالَ العِزَةِ، ليسَ في قاموسِنا التَربَوِيِّ مُصطلَحُ "أنا فقطْ أسبُّ أو أصرُخُ أو أُدَخِنُ أو ألطُمُ وَجهِي عِندَ المُصيبَةِ أو أُشاهِدُ المسلسلاتِ" مثلا..
    أي نَعَمْ هناكَ أمورٌ خاصةٌ بالكبارِ فقط لا إثمَ فيها وَلَيستْ مِن صلاحياتِ الصِغار، لكِنَها تكونُ منطقيةً وبتقبلونَها بالحوارِ المُقنِعِ الهاديءِ الودودِ، وبالدليلِ الشرعيِ أو العقليِ مِن مَنطِقِ الحياةِ إجمالًا: مِثلُ سَهَرُكِ بالليلِ أحيانًا وهو لا، وقيادةُ والدِه للسيارةِ وهو لا..
    إياكِ أيضًا أولَ شيء أن تَبحثِي عن آخَرِين تُلصِقِينَ بِهم تُهمَةَ فسادِ سُلُوكِ وَلدِكِ تَبرِئَةً لنفسِكِ مِنَ المَعَرةِ التربويةِ كذلك، على غرار: ((ابنُ فلانٍ سَيءُ الخُلُقِ وهُوَ الذي عَلَّمَ وَلَدِي يَفعَلُ الخطأ))..
    وأنا لا أنفِي تأثيرَ البيئةِ الخارجيةِ ولا دَورَ الصُحبَةِ السيئةِ معهم -(ولنا كلامٌ عنها لاحقًا بإذنِ الله)- ولا أنكِرُ تَأثُّرَ الصِغارِ ببعضِهِمِ البَعضَ بطبيعةِ الحالِ فالتقليدُ فِطرَةٌ غريزيةٌ عامَّةٌ كما قلنا،
    لكنِ المَطلوبُ: ألا نلجأَ أولَ شَيْءٍ لهاتَينِ الحِيلَتَينِ النَفسِيتَينِ دُونَ رَوِيَّةٍ وَتَبَيُّنٍ وصِدْقٍ مَعَ النَفسِ، لمجَردِ تَبرِئَةِ نفسِكِ كقُدوَة..
    وأن نعرفَ أن غالبيةَ مشاكلِ التربيةِ داخليةٌ وليستْ خارجيةً، أيْ مِن بُيُوتِنا ولَيسَتْ مِن خَارِجِها، غالبًا ولكلِ قاعدةٍ استثناءٌ.. {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} {وَمَا أَصابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِنْ نَفسِكَ} {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا.. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}..
    فما أَوَّلُ شَيءٍ نَفعَلُهُ حِينَها لنَفهَمَ مَوطِنَ الداءِ؟
    أولًا: نُفَتِشُ عن تربيتِنا نحنُ لأولادِنا.. هل ربيناهُم على ذلكَ السوءِ؟ ثُم هل حصَّنَّاهُم مِنَ المُدخَلاتِ الخاطِئَةِ وعَلَّمناهُم كيفَ لَا يكونُوا إِمَّعَةً -إذَا أحسَنَ الناسُ أحسنُوا وإذا أساؤُوا أساؤُوا؟ بل يقولون للمُخطِيءِ: "أنتَ مُخطِيءٌ.. وَكُفَّ عن السُوءِ فإنهُ لا يَلِيقُ بالمُسلِم"، ولا يُسارِعُون في تقلِيدِ الخطأِ كلَ مَرَّة....؟
    فإن كانتْ تربيتُكِ تَرتَكِزُ على أن يكونَ ولدُكِ هو المُؤَثِرَ في الآخرينَ بالخَيرِ وليسَ العَكسَ، ونشّأتِهِ على تَجَنُبِ المُنكراتِ وسَيِّءِ الأخلاقِ وعَدَمِ محاكاتِها، وعلى التَحَلِّي بالفضائلِ وتقليدِها== ومَع ذلكَ يُقلِدُ أقرانَهُ في أخطائِهم، فحينَها: { {لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُمْ} }، فلا لَوْمٌ عليكِ ولا حَرجَ، ولْتُكمِلِي تِكرارَ النُّصحِ والإصلاحِ، وأجرُكِ على الله..

    ثانيا: نُفَتِشُ عَن قدوتِنا نحنُ في مِرآتِهِمُ السلوكيةِ لنَرَى هل نحنُ نفعَلُ ذلكَ السُوءَ أمامَهم؟
    وإن رأينا انعكاسَهُ مِنا بالفعلِ، وشعُرنا بالذنبِ والندمِ والعزمِ على الإصلاحِ، فالحمدُ للهِ: لقد وضعنَا أيدِينا على بدايةِ طريقِ التقويمِ الفعّالِ وتعديلِ السلوكِ مُمتَدِ الأثَرِ فينا وفيهم بإذنِ اللهِ..
    فحين نتعامل هكذا مع جذور المشكلة بكل تَجَرُّدٍ للحقِ وصِدقٍ معَ اللهِ والنفسِ== سنتعلم من أخطائِنا ونُصلِحُ ما أفسدناهُ لاستئصالِ السوءِ من مَنبَعِهِ، وحينَها كذلك: {لَا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إِذَا هتَدَيتُمْ}..
    أما خِلافُ ذلك؟=== { {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أنفُسِهِم} }.....!؟
    فلا نَدفِنُ رأَسَنا في الترابِ لتفادِي مُواجَهَةِ الحقائقَ والمُورِثَةِ للحُزنِ والضِيقِ والجُهدِ التَزكَوِيِّ والتَربَوِيِّ المُضاعَف..
    فلن يورِثَنا ذلكَ الهروبُ إلا راحةً مُزَيَفَةً مُؤقَتَةً نَشقَى ونتخَبَطُ بعدَها أكثرَ..
    واللهُ لا يُغَيِرُ ما بقومٍ حتَى يُغَيرُوا ما بأنفُسِهِم...
    فإن سألتِ:
    بعدما يَتَضِحُ أنَ الخطأَ {فبِما كَسَبَتْ أيديكم} ، كيفَ أغنَمُ الآيةَ {لا يَضُرُكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُمْ} ، وقُدوتِي لَهُم مَخدُوشةٌ للأسف ولازِلتُ أُجاهِدُ نفسِي في الإصلاحِ؟
    والجوابُ في القاعدة القادمة بإذن الله..


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: (16)

    {لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}


    أسماء محمد لبيب



    من جميلِ كلامِ الشيخِ عليِّ الطنطاوي، حين عُوتِبَ في حَلقِه للِحيَتِه:
    ((أمَّا حَلقُ اللحيةِ فلا واللهِ ما أجمَعُ على نفسِي بين الفِعلِ السيءِ والقولِ السيء، ولا أكتمُ الحقَ لأني مُخالِفُهُ، ولا أكذبُ على اللهِ ولا على الناس.. وأنا مُقِرٌ على نفسِي أَني مُخطِىءٌ في هذا، ولقد حاولتُ مِراراً أن أدَعَ هذا الخطأَ، ولكن غَلَبَتْنِي شهوةُ النفسِ وقوةُ العادةِ، وأنا أسألُ اللهَ أن يُعِينَنِي على نفسِي حتى أُطلِقَها، فاسألوا اللهَ ذلكَ لي فإنّ دعاءَ المؤمنِ للمؤمنِ بظهرِ الغيبِ لا يُرَدُّ إن شاء الله))
    ثُمّ وفقهُ اللهُ بعدها فأرخَى لِحيتَهُ وأعفاها.

    يُلهِمُنا هذا بالكثير..
    فما إن يبدأُ وَلَدُكِ في تَقليدِك في خطأٍ ما لازِلتِ تجاهدينَ نفسَكِ في الإقلاعِ عنه والتزكية، فبإمكانِكِ رُغمَ ذلكَ وبفضلِ اللهِ اغتنامُ الآيةِ: { {لا يضُرُكُم مَنْ ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم} }..
    حتى وإن استَمَرَّ هوَ على الخَطأِ..
    كيف؟
    -أولُ خُطُواتٍ كما قلنا في القاعدةِ السابقة: عدمُ البدء بإلصاقِ الخطأِ بالبيئةِ الخارجيةِ دون دليلٍ، للتَمَلُّصِ وتبريرِ الخطأِ بحِجج وحِيَلٍ نفسِيةٍ والتبرؤِ مِن الحَرَج..
    -بل نفتشُ في الداخلِ وفي مِرآتِنا السلوكيةِ أولًا، وإن ثَبَتَ أن المَنبَعَ مِن عِند أنفسِنا، فالخُطوَةُ التاليةُ: إقرارٌ واعتذارٌ..

    فتقولين لولدكِ:
    =أنا مُخطِئَةٌ في هذا السلوكِ وهو لا يُرضِي اللهَ وقد قالَ فيه كذا، فلا تفعلْ مِثلي يا بُنَي..
    =وأنا أتوب إلى الله من ذلك وأجاهِدُ نفسِي دَومًا، لكنّي أحيانًا أضعُفُ ويَستحوِذُ عليَّ الشيطانُ ويُنسِيني ذِكرَ اللهِ وأحتاجُ حِينَها لصُحبَةٍ صالِحَةٍ مِثلِكَ يا بَطليَ الصغيرَ المؤدب، لتُذَكِّرَني باللهِ، فتغنمُ صُبَحتِي وأغنَم: {اجعل لِي وزيرًا مِن أهلِي.. هارونَ أخِي.. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا.. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}...
    =لا صحبةٍ سيئةٍ تُكرِرُ خَطَئِي فتأثَمُ وتُؤثّمُنِي أكثرَ ونُضاعِفُ عَدَدَ المسلمينَ المُسِيئِينَ المُسرِفين..
    =الإنسانُ يا بُنَيّ قليلٌ بنفسِهِ كثيرٌ بإخوانِهِ ولا حولَ له ولا قُوةَ إلا بإعانةِ رَبهِ ثم بالتعاونِ مَع غيرِه على الصلاح..
    =فإن رأيتَني أفعلُه مُجَددًا فقُل لي:
    أمي هذا خطأٌ ولا يُرضِي اللهَ ولا يَلِيقُ بالمسلم كما عَلَّمْتِنِي، ولْنتعاوَنْ في تَركِهِ بمتابَعةٍ عَمَلِيةٍ حَثِيثَةٍ، وقاعدتُنا يا أمي: { {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} }..

    ---هذا مثالٌ للأمهات، أو كما تَرَينَ الردَ المناسبَ، المهمُ أن يكونَ بمصداقيةٍ تُعَوّضُ وتُفسِّرُ عَجزَكِ كقُدوةٍ، عن تعديلِ سلوكِك في نفسِ الخطأ..
    -وعليكِ إظهارُ حَسرتَكِ الحقيقيةَ كَونَ هذا العيبَ فِيكِ..
    -والتمني بشدةٍ أن يعافيكِ اللهُ منه..
    -ومجاهدةُ نفسِكِ فيه فِعليًا كلَ مَرةٍ خاصةً أمامَه، وتَعَمُّدُ جَذْبِ انتباهِه لذلكَ بمواقفَ عمليةٍ صَرِيحَةٍ تَشرَحِينَ له فيها كيفَ قاوَمْتِ هنا بصِدقٍ وإصرارٍ واستعانةٍ بالله/ وكيف ضَعُفتِ هنا وتلومينَ نفسَكِ/ وماذا ستفعلينَ المرةَ القادمةَ أكثرَ بخُطواتٍ: واحدٍ اثنانِ ثلاثة..
    -وتقديمُ الأسبابِ الشرعيةِ والعقليةِ لقُبْحِ هذا العيبِ، والحرصُ أن تكونَ أسبابًا تَلمِسُ قلبَهُ وتحركُ فِكرَهُ وتؤثرُ فيه وتستعرِضُ عواقبَ هذا الخطأِ في الدنيا والآخرة، والاستعانةُ بقصصٍ واقعيةٍ لأناسٍ هَلَكُوا بسببِه أو خَسِرُوا خيرًا كثيرًا..
    وبالمِثل: استِعراضُ المقابلَ الصالحَ من هذا السلوكِ وعواقبَهُ الطيبةَ في الدارينِ كذلك، شرعًا وعقلًا وواقعًا ملموسًا صادقًا..

    =مع مُضاعفَتِكِ لسلوكياتِكِ الزكيةِ أمامَ حواسِّه..
    =والاستتارِ بالسلوكِ السيئِ الذي لازِلتِ بعدُ تُجاهِدِينَهُ..
    فمثلًا لو أنكِ لازالتِ تُقاوِمِينَ التدخينَ أو مُشاهَدَةَ الأفلامِ والأغانِي عافانا اللهُ، فعلَى الأقلّ لا تفعليهِ أمامَ وَلَدِكِ بل استَتِرِي، وجاهِدِي حتَى يتوبَ اللهُ عليكِ ويعافِيَكِ من المَعَرَّةِ والمَلامَةِ والذنبِ، وقاعدتُك هنا "كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ"..

    =وهكذا إذًا...
    إذا خُدِشَتْ قُدوَتُكِ في مَوطِنٍ، تُعَوِّضِينَها في مواطِنِها الأخرى، بخمسِ قواعِدَ قرآنيةٍ ونبويةٍ،
    احفظِيها عَني:
    =واحد: الاعترافُ بالحقِ مباشرةً: {وآخَرُونَ اعترَفُوا بذنُوبِهم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيئًا عسَى اللهُ أن يتوبَ عليهِم}
    =اثنان: التوبةُ فورًا: {ثم يَتُوبُون من قريب}..
    =ثلاثة: عدمُ الإصرارِ والتمادِي في الخطأِ: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)).. أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ}
    =أربعة: البِدءُ بإصلاح النَفسِ قَبلَ الآخَرِين: {قُوا أنفُسَكُمْ وأهلِيكُم نارًا}
    =خمسة: الإكثارُ مِن السلوكياتِ الطيبةِ سرًا وعلنًا لمزاحَمَةِ الأخطاءِ ومَحوِها: "أتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمحُها"، {إن الحسناتِ يذهبن السيئات}

    فأدركي أمرَكِ قبلَ أن ينفَرِطَ عُقْدُ القُدوةِ من بينِ يديكِ وتجدينَ ولدَكِ يومَ القيامةِ يقولُ: {إنا وَجَدنا آباءَنا كذلكَ يَفعَلُونَ وإنَّا على آثارِهِم مُقتَدُون}، والعياذُ بالله..
    أعلمُ أن لدينَا طِباعًا يَغلِبُنا فيها التطَبُّعُ والمُجاهدةُ، ولا يكلفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها، لكِنْ يَظهَرُ لولدِكِ بوضوحٍ كيف أنكِ تحاولينَ تغييرَها بصدقٍ، من خلالِ تنفيذِك لتلك القواعد..

    أما إذا اتضح أن وَلَدَكِ مُجرد يُترجِمُ فِعلَكِ بِشكلٍ خاطِيءٍ فيُحاكِيكِ في سلوكٍ ظاهرُه خطأٌ فحَسْب، وليسَ خطأً مطلقا =فبيِّنِي لهُ أنّ ما رآهُ ليسَ كما فَهِمَ، وبَرِّئِي نفسَك فأنتِ قدوة.. مِثال: رآكِ تُلقِينَ الفُطورَ في سَلَّةِ القِمامةِ فَألقَى طَعَامَ الغَداءِ مثلَكِ..! فسألتِه: لماذا بُنَيَّ فعلتَ ذلك؟ فأجاب: رأيتُك تفعلينَهُ يا أمي..! فتقولين: لكنِّي ألقيتُهُ لأنهُ فاسدٌ لا يَصلُحُ للأكلِ الآدَمِي، وألقيتُهُ في القمامةِ المُجَمَّعَةِ لقِططِ الشوارِعِ، فعمَلِي مأجورَةٌ عليهِ، بينما عَملُكَ لا يُرضِي اللهَ لأنكَ ألقيتَ نَعمَةً يحتاجُها المَساكينُ.. في المرةِ القادمةِ بُنيَّ تَبَيَّنْ أولًا قبلَ تقلِيدِ أحد، ولا تُقَلِّدْ الخطأَ.. وَوَجَبَ عَلَيّ كذلكَ أنْ أُبيِّنَ فِعلِي لِئلَّا يُساءَ الظنَّ بِي ويُقتدَى بِي بِالخطأ..

    وختامًا..
    إذا اتضح بعد نقاشِكُما أنّ مصدرَ السلوكِ الخطأِ الذي يُحاكِيهِ ليسَ مِنكِ، ففتِشِي عن الصُحبَةِ والأقاربِ والمَرئِياتِ، كما سنتكلمُ عنهم لاحقًا بإذنِ اللهِ لأهميتِهم..
    فلكَيْ تَستَقِيمَ النَبتَةُ علَى سَوقِها، تَحتَاجُ لمناخٍ مُلائِمٍ وصَوبَاتٍ خاصة.. أم نتركُها في مَهَبِّ الرِيح وهي لازالَت خَضراءَ طريةً، بزَعمِ أنّ هذا يُقَوِّيها؟
    والجواب في القاعدة القادمة بإذن الله..












    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: (17)

    {فَأوُوا إِلَى الكهْفِ}.. صَوباتُ التربية!


    أسماء محمد لبيب




    تخيلِي مَعِي.. كُرِةً صغِيرَةً في ماسورةٍ، مَنقُوشٌ بداخِلِ مسارِها رسوماتٌ دائريةٌ سوداءُ، تُشبِهُ الحُفَر.. وأنَّكِ قد عَلَّمْتِ تلكَ الكُرةَ أنها يَومًا ستَخرُجُ مِن الماسُورةِ وتُواجِهُ في الحياةِ حُفَرًا حقيقيةً مُهلِكَة، وقد تَقَعُ فيها إن لم تتَعَلمْ مِنَ الآنَ داخلَ الماسورَةِ أولًا كيفيَّةَ تفادِي أشباهِ الحُفَر..!
    ثم تَخَيَّلَي مَعِي كُرَةً أُخرَى صَغِيرَةً كذلك، قد سمَحْتِ لها بالقَفْزِ خارِجَ الماسورةِ إلى أرضِ الحياة، وقُلتِ لها وهي لازالتْ تتعلمُ المَشْيَ والتَدَحرُجَ بَعدُ:
    ((انتبِهِي للحُفَرِ في طريقِكِ ولا تَمُرِّي فوقَها، قد حّذَّرتُكِ!))
    في رأيكِ أيتُها الطيبة:
    أيُّ الكُرَتَينِ هي الأقربُ لإكمالِ أطولَ مَسارٍ مُمكِنٍ بِسلامٍ ونجاحٍ دونَ السقُوطِ المُبَكِّر؟
    بالتأكيد الكُرَةُ الأُولَى..

    حسنًا.. تَخيلِي مَعِي شيئًا آخَرَ..
    لديكِ وَلَدَان.. قد ربَّيْتِهما علَى القِيَمِ والعقيدةِ، ثم معَ أحدِهِما أحكَمتِ السيطرةَ على الجَبَهاتِ الداخليةِ والخارِجيةِ، والآخرُ ربَّـيْـتِهِ بانفتاحٍ مُطلَقٍ وتَخَفُفٍ مِن قُيُودِ الدِين، وتغافُلٍ عنِ المُحيطِ الذِي يَرتَعُ فِيه..
    ثم كلاهُما انْحرَفَ والعياذُ بالله، فمع أيِّهما ستندَمين على تربيتِكِ وتلومينَ نفسَكِ على انحِرَافِه؟ ومع أيِّهما لن تندَمِي؟
    بالتأكيد أنتِ مَلُومَةٌ معَ الثاني..
    ولكن....
    ربما تقولين:
    ((لا! سأندمُ مع الولدِ الأولِ كذلكَ لأنَّ التضييقَ على الأولادِ باسمِ الدينِ وقواعِدِ السلامَةِ يَخنُقُهُم فينحَرِفون كذلكِ! فالأفضلُ بالنسبةِ لَهُ هو أن يَكبُرَ وهو -كما يُقالُ بالعامِّيةِ- "خِبرة" و"مقطّع السمكة وديلها" و"سالِك" في الحياة و"مخَربِش"، لا أن يَخرُجَ من "الماسورَةِ" ويصلَ لسنِ الجامِعَةِ وهُو: "مِقفّل" و "لبخَة" و "بَرِيء" ولمْ يُجَرِّبْ "خِبراتِ" الشبابِ "المعتادةِ" لمثلِ سِنِّهِ في زماننا... لذلك فأنا لا أُقَيدُ حُريتَهُ على الإنترنتِ والتِلْفازِ مَثلًا، ولا أمنعُهُ من الخروجِ مع أيِّ أصحابٍ يرُوقُونَ لَه، ولا مِن الاختلاطِ بالبناتِ في المَدرَسةِ والنادِي وغيرِهم، ولا مِن قِراءَةِ المَجلاتِ والقِصَصِ الغَربيةِ وأشباهِها، بل أُفَهِّمُهُ الصوابَ من الخطأ ثم أتركُهُ يمارسُ حياتَهُ دُونَ قُيود، ليُمارِسَ تَفادِي الخطأَ بنفسِهِ دُونَ تَدَخُل..))

    فلو أن هذا تفكيرُكِ أيتُها الأمُ الطيبةُ فأقولُ لكِ: راجِعِي نَفسَكِ..
    لأن غَنِيمةَ ((شابٌ نشَأَ فِي طاعَةِ اللهِ)) بالتأكيدِ هِي أفضَلُ من شابٍ نشأَ في حُفَرِ ومُستنقعاتِ "الخِبراتِ" المُهلِكَة.. لأنَّ هذِه العاقِبةَ الزَكِيةَ هي عند اللهِ الأفضلُ والأكملُ والأرقَى حالًا ومآلًا، فيُـبَـلِّغُهُ بها ظلَ عَرشِهِ يومَ القِيامَة..

    ثم أنتِ تستطيعينَ أن تجعلِي وَلَدَكِ كَما شِئتِ خِبرةً في الشَرِ وتُلَقِّنـِيـهِ كيفَ يَقتَحِمُ الحياةَ، دُونَ إلقائِهِ مباشرةً لتَجربةِ الشرِ ليُعايِشَ المُهلِكاتِ والفِتَنَ فِعليًا..!
    أم أنكِ تلسَعِينَهُ بالنارِ وتُغرِقِينَهُ في البَحرِ كيْ يَتَعَرَّفَ على خَطَرِهِما...؟
    وسأفتَرِضُ مِعَكِ احتمالَ انحرافِهِ بِزَعمِ بعضِ المَنعِ والتضييقِ التابِعَينِ للتنشِئةِ السليمةِ، وأسألُكِ:
    =هلْ يَجعَلُكِ هذا تَندَمِينَ على تربيتِكِ لهُ بما يُرضِي اللهَ؟ هل هذا خَطأٌ مِنكِ أنتِ أم مِنَ النفسِ المُنحَرِفَة؟
    =وإن كان هناك بعضُ مَن يَنحرفونَ بِزَعمِ أن الممنوعَ مرغوبٌ، فهل هذا يَعنِي أن أجعلَ الممنوعَ غَير مَمنوعٍ؟!
    مؤكدٌ أن الجوابَ المُشترَكَ لهذِه كلِها هو: ((لا))..

    فثمرةُ الاستقامةِ رِزقٌ مَحضٌ كما قُلنا مِرارًا، وطالما أنها مُتَغَيرَةٌ وغَيبِيةٌ، فعلينا أن نَلتزِمَ طريقةَ الزراعةِ التي قضاها اللهُ لِحمايةِ تَرَعرُعِ الشجرةِ، ثم لا نُبالِي بَعدَها..
    ومن أسبابِ أنَّ تربيتَنا لولدِنا على الاستقامةِ ربما لا تُؤتِي ثمارَها المَرجوَّةَ أحيانًا:
    سُوءُ تطبيقِنا لها، أو ربما ظروفٌ استثنائِيةٌ خاصةٌ بالطفلِ تُؤثرُ على استجابتِهِ، أو أسبابٌ تَخُصُّ البيئةَ مِن حَولِهِ.. فتكونُ المشكلةُ هي عدمُ الكفاءةِ التربويةِ أو انحرافاتٍ مَنهجيةٍ في التلقِينِ والتطبيقِ، وليستْ في مَنهَجِ الاستقامةِ ذاتِه ولا عدَمِ مُلاءَمَتِهِ للتربيةِ وصناعةِ النَشءِ الصالحِ، حاشَ للهِ..
    بالتالي، لا شكَّ أنكِ كأمٍّ –(ومهما كانتْ عثراتُكِ وإخفاقاتُكِ التربويةِ)- ستكونينَ مُطمَئِنةً وأبعدَ عن الندمِ في كل الأحوالِ إن اتَّبَعتِ مَنهجًا ربانيًا قَوِيمًا، وقرآنًا يَهدِي للتي هِي أَقوَمُ، ولن تَخافِي من لحظةِ السؤالِ عن رَعِيتِكِ يَومَ الحِسابِ، لأنكِ تَعلَمِينَ أن سؤالَهُ لكِ -سبحانهَ- عن المنهجِ التربويِ سيكونُ أشدَ وأعسرَ مِن سؤالِهِ عن مَدَى حِكمَتِكِ أو تَخَبُّطِكِ في تَطبِيقِه، وتعلمينَ أن عَفوَهُ عنِ الذينَ يُطبِقُونَ مَنهجَهُ سبحانَهُ لكِن بِضعفِ كفاءَةٍ وقِلَّةِ حِكمَةٍ في الوسائل، يكونُ -بإذن الله- أقربَ إليهم مِن الذينَ تَركُوا مَنهجَهُ تمامًا واستبدَلُوا بِهِ مَنهجًا آخَرَ مِن صُنعِ البَشَرِ واجتهاداتِ الأمهاتِ حسب الأهواءِ..

    هل يستويانِ مثلًا...؟
    الحمد لله...

    لذلك كان ضِمنَ عُنوانِ المَقالةِ ((الصوباتُ التربويةُ)).. فإن الصوباتِ الزراعيةَ هِي واحِدةٌ مِن أهمِ الوسائلِ الآمِنةِ لإنتاجِ المَحاصيلِ الزراعيةِ وحمايتِها من التلوُثاتِ الخارجيةِ والظروفِ المناخيةِ المُتَغَيرَةِ والحشراتِ والآفاتِ؛ وتهيئةِ ((الظروفِ البيئيةِ)) المُلائِمَةِ لإنتاجِ المحاصيلِ داخلَها وزيادةِ مُعَدلاتِ الإنتاجِ الزراعيِّ، حتى أنهُ في بَعضِ الدراساتِ: القيراطُ الواحدُ من إنتاجِ الصوباتِ يُعادِلُ إنتاجَ فدانٍ كامِلٍ من الأراضِي ((المَكشوفَة)) سبحانَ الله..
    وتُسهِمُ كذلك في تِرشِيدِ استخدامِ المياهِ وصِيانةِ ((الثروةِ المائية)) وخَفضِ الاحتياجاتِ من الغذاءِ، بل تُساهِمُ في إنتاجِ بعضِ الخُضَرِ ((في غَيرِ مَوسِمِها))...!
    لذلك تُعرَفُ باسمِ: ((البُيوتُ المَحمِية)).. وصَدَقُوا..!
    فالصوباتُ تُوَفِّرُ الطاقةَ وتَصُونُ الموارِدَ وتضاعِفُ الثمرةَ وتُنَوِّعُها وتُهَيِّئُ ((بَيْتًا آمِنًا)) للغَرسِ المُثمِر..

    وهو ما يُذَكِّرُنا كذلِك، برَشادِ فِتيةِ الكهفِ حينَ احتَمُوا مِن ((فِتنَةِ الدِينِ)) بالكهفِ وقالُوا: {فأوُوا إلَى الكهفِ يَنشُرْ لكم ربُكُم مِن رَحمَتِهِ ويُهَييءْ لكُم مِن أمرِكُم مِرفَقًا}..

    فكما نهتمُ بالجبهَةِ الداخِليةِ، مِن توفِيرِ قُدوةٍ، وصِدقٍ، وعَدلٍ، وعِلمٍ ومنهجٍ قويمٍ،
    =علينا بنفس القَدرِ الاهتمامُ بالجهبةِ الخارجيةِ، وأن نَنْصِبَ حولَ أبنائِنا صَوباتٍ تربَوِيةً مُحكَمَةً، تُفَلتِرُ الصَحبَةَ والمَرئياتِ والمَدرسةَ والمُدخَلاتِ كلَها، لضَمانِ إطالَةِ أمَدِ صَلَاحِ الثمرَةِ وبُعدَها عن المهلكاتِ بإذن الله، حتى يَشتدَّ عُودُها..
    وقطعًا لن نَستطيعَ غَرسَ أبناءَنا في بيئةٍ مُعَقّمَةٍ مِئةً بالمِئةِ كفِتيَةِ الكهفِ، لكن ما لايُدرَكُ كُلُهُ لا يُترَكُ كلُهُ، فالمطلوبُ هو تَحصينُهم مِن فِتنَةِ الدينِ والعَقلِ والفِطرَةِ، وعزلُهم -بما نستطيعُ- عَن مُخالَطَةِ الفِتنِ والقبائحِ، معَ تَهيِئَةُ شَتَى أنواعِ الكُهوفِ الداخليةِ في محاضِنهم التربويةِ:
    =كهفُ العِلم/ =وكهفُ الصُحبَةِ/ =وكهفُ الدين..
    حتى يَرشُدُونَ ويَشتدَّ عُودُهُم وتتكوّنَ لديهِم مَناعَةً ذاتِيَّةً مَعقُولَةً، لمواجِهةِ العالمِ بِشَرِّه وهَمزِهِ ونَفثِه بحولِ اللهِ وقوتِهِ..

    فإن سألتِ بعدَ كُلِ تلكَ القواعدِ: كيفَ السبيلُ إلى ضمانِ السِقايةِ الحَكيمةِ بجُرعاتٍ آمِنةٍ مُثمِرَة؟
    فالجوابُ في القاعِدَةِ القادِمَةِ بإذن الله..


    --

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: (18)

    فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ.. ترتيبُ التلقين للأبناء.


    أسماء محمد لبيب


    تكلمنا في المقالة السابقةِ عن ترويضِ أبنائِنا بالإسلامِ، واليوم نتكلمُ عن أولويات السقايةٍ الحكيمةِ المُثمِرَةِ بإذنِ الله، فقد لا تَظْهَرُ الثمرةُ أحيانًا لاختلالِ أولَوِياتِ رِعايةِ النبتَةِ وكثافةِ سِقايتِها وعدمِ مُراعاةِ أحوالِ البُذور..
    فمن أينَ نبدأُ؟ وكيفَ نَتَرَقَّى؟ كيفَ نُرَتِّبُ أولوياتِ التلقِينِ الذي يترتبُ عليهِ تعديلُ السلوك؟
    نتأملُ مثلًا وَصيةَ النبي ﷺ لِمعاذِ بنِ جبلٍ حينَ ابتعَثَهُ لأهلِ اليمَنِ ليُعَلِمَهمُ الإسلامَ:
    "إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ.. فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إلى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ، فإنْ هُمْ أطَاعُوا لكَ بذلكَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم صَدَقَةً..." (إلى آخر الحديث)
    ونتأملُ قولَ عائشةَ عنِ القرآنِ: "إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ، نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ.. وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا...".. (والمُفَصَّلُ هو الأجزاءُ الأخيرةُ من المُصحف)..
    ▪️فلدينا تلقينُ ((إيمانٍ)) و((قُرآنٍ)) و((عباداتٍ))..
    ▪️فنَزَلَ مِنَ القرآنِ ما يُرَسِّخُ الإيمان..
    ▪️ثم نَزَلَ تِباعًا مِن القرآنِ ما يُؤَسِّسُ للعباداتِ والآدابِ والأخلاقِ المَبنِيةِ على هذا الإيمان..
    يُؤكدُهُ ما قالَهُ جُندَب بنُ عبدِ الله: "كُنَّا مَعَ النبي ﷺ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ (أي قاربنا البلوغ)، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا"..
    وليس معنى كلامِه تَركُ القرآنِ أو تأخيرُه في المرتبةِ الثانية!
    بل الاستعانةُ بالقرآنِ في تعليمِ الإيمانِ.. فالقرآنُ هو الإيمانُ جملةً وتفصيلًا..
    هو كتابُ التوحيدِ والعقيدةِ الأولُ الذي نِسكُبُهُ في مَسامِعِ صِغارِنا وهُم أجِنَّةٌ في بطونِنا، ذَهَبًا مُسالًا في عُرُوقِهِم رُويْدًا رويدًا..
    فالقرآنُ والإيمانُ كلاهُما بَوابَةٌ للآخَرِ ووَقُودٌ لَه..
    ▪️▪️وأول ما نزل كان القرآنُ، ليُعَلمَ النبيَ ﷺ الإيمانَ: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"..
    ▪️▪️وقد كانَ يَنزِلُ الوَحيُ على مَسامِعِ صِغارِ الصحابةِ قَبلَ تَعَلُّمِهِ:
    قالَتْ عائشةُ: "لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}../ وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ" (تقصِدُ بعدَ زواجِهِ بها ﷺ في المدينة..)
    إذًا... جاريةٌ صغيرةٌ تتلقَّى القرآنَ بأذنَيها وتَحفَظُهُ قبل أن تَفهَمَهُ..
    ▪️ ▪️ كما عَلَّقَ ابنُ تيميةَ على حديثِ جُندَبٍ قائلًا: [[القرآنُ يُعطِي العِلمَ المُفَصَّلَ، فيِزِيدُ الإيمان.. وتَعَلُّمُ الصحابةِ للإيمانِ قَبلَ (((استِكثارِهِم))) مِنَ الحِفظِ، ساهَمَ فِيهِ أنّ أُسُسَ الإيمانِ مَبثُوثَةً فِي سُوَرِ المُفَصَّلِ؛ ولذا سَمَّى ابنُ مَسعودٍ سُوِرَ المُفَصّلِ بلُبابِ القُرآنِ.]] (انتهى كلامه)

    فلا نُعَطِلُ تَحفيظَهُ للصغارِ ريثما نُتَمِمُ تَلقينَ العقيدةِ، بلِ المذمومُ هو تكديسُ حِفظِ القرآنِ كلِهِ مِن فاتِحَتِهِ إلى خاتِمَتِهِ، على حِسابِ تعليمِ الإيمان..
    كذلك، ليسَ مَعنى الحديثينِ تأخيرُ تلقينِ بقيةِ شُعَبِ الإيمان -من أخلاق وعبادات- أو عدم دمجِها مع تلقينِ العقيدة، فقد جمعها النبي ﷺ معًا:
    ▪️كما في حديث الغُلام: "يا غلام: سَمِّ اللهَ=(عقيدة)/ وكُل بِيمينِكَ=(عبادا ت)/ وكُل مما يَلِيك=(أخلاق)"،
    ▪️وكما في حديثِ شُعَبِ الإيمانِ،
    ▪️وكما في آيةِ تعريفِ البِرّ، الجامعةِ لأصولِ الدينِ الثلاثةِ: الإيمانُ والأخلاقُ والأعمالُ..
    بل إن أركانَ الإسلامِ الخمسةَ ذاتَها= تربيةٌ للنفس وتعديلٌ مستمرٌ للسلوك وتنميةٌ لروحِ الثبات على مُرادِ الله.. فكيف نؤجلُ تلقينَها وتعليمَها للبراعم...؟
    لذلك:
    ▪️مَنْ يَستَنكِرُ البِدءَ بتعليمِ أركانِ الإسلامِ قَبلَ أركانِ الإيمانِ...
    ▪️أو يستنكرُ بِدءَ تحفيظِ الصغارِ القرآنَ قبلَ إتمامِ الإيمانِ....
    فليُراجِعْ حَدِيثَ الغلامِ/ وجُندَبٍ/ وعائشة/ وغيرِهِم..

    فلا يعنِي الترتيبُ أنَّ التربيةَ تتناولُ رُكنًا بعدَ رُكنٍ مُنفَصِلِين بالضرورة.. بل هناك تداخلٌ وتكاملٌ بينَها في كلِ مرحلةٍ بلا استثناء، لكنْ فقط ستزدادُ كثافةُ رُكنٍ مُعينٍ عَن كثافةِ بقيةِ الأركانِ ليكونَ لهُ الأثرُ الأقوَى في المَرحلةِ، دونَ إهمالٍ لبقيةِ الأركانِ لأنهم كالبُنيانِ التربوِيِّ المرصوصِ يَشُدُّ بعضُهُ بعضًا.. وهذا ما نراهُ بوضوحٍ في التربيةِ القُرآنيةِ والنبويةِ للفئاتِ العُمرِيةِ المختلفةِ..

    ▪️▪️ وتَنقَسِمُ مراحلُ التربيةِ والتلقينِ حَسْبَ الفِئاتِ العُمرِيةِ مِن المَهدِ إلى الرُّشدِ، إلى مراحلَ ثلاث:
    1-مرحلةُ ((البُذُور)): وهي مِن الجَنِينِيةِ والمَهدِ إلَى بدايةِ سِنِّ التمييزِ.
    2-مرحلةُ ((الساق)): وتَشمَلُ سِنَّ التمييزِ والمراهقةِ إلى البلوغ..
    3-مرحلةُ تَمَدُّدِ الجُذُورِ وتَفَتُحِ ((الثمار)): وهي من البُلُوغِ إلى الشبابِ والرشدِ.
    ومصادِرُ التلقينِ المُعتَمَدَةُ لتَعدِيلِ السلوكِ هِيَ: القرآنُ وصحيحُ السُنةِ، وسِيرةُ النبيِّ ﷺ والصالحينَ سَلَفًا وخَلَفًا، وقواعِدُ الدين ومُحكماتُهُ بِفَهمِ سَلَفِ الأُمة..
    ▪️أولا: مَرحلةُ البُذورِ- حتى سَبْعِ سِنِين..
    هي مرحلةٌ تأسِيسيةٌ مَعرِفِيةٌ لأصولِ الدينِ الثلاثة، فلا يكادُ يَطغَى هنا رُكنٌ مَعرِفِيٌّ على آخَر..
    فنبدأ بسقايةِ نَبتَةِ العقيدةِ في قلوبِ الصغارِ بتَعرِيفِهم بِربهم وقَدرِهِ،/ ورسولِهم ومَنزِلَتِهِ ﷺ،/ وكتابِهِم وعَظَمَتِهِ،/ والملائكةِ والشياطينِ/، والغايةِ من وجودنا في الدنيا،/ والخيرِ والشرِ، واليومِ الآخِرِ والجزاءِ والجنةِ والنارِ...
    ولو بأبسَطِ أدواتِ التَلقينِ كالقَصَصَ والأمثالِ والعلومِ، كما سنتكلمُ في [[الأدواتِ التربويةِ]] بإذن الله..
    فيتعلمونَ هنا أركانَ الإسلامِ وأركانَ الإٍيمانِ إجمالًا،/ وأسماءَ اللهِ الحُسنى،/ وقِصَصَ الأنبياءِ والقرآنِ والصحابةِ وسِيَرَ أعلامِ النُبلاءِ عُمومًا،/ والأذكارَ والآدابَ والأخلاقَ والعباداتِ ومعانيها حَسْبَ استيعابِهِم،/ وثوابَ وعقابَ الأعمالِ والأقوالِ إجمالًا.. ويُمنَعُونَ مِن الحرامِ ويُعَوَّدُون على تَركِه ويُخاطَبُون بالعِلَّةِ مِنَ المَنعِ كما فعلَ النبيُّ ﷺ مع تَمرَةِ الحسن والحسين التي أخذاها من تمر الصدقة وهما يلعبان..
    ونستعينُ في هذه المرحلة:
    -بالقدوةِ والمكافآتِ والتشجيعِ واللعبِ..
    -وبتحفيظِهِم ما تيسَّرَ فَهمُهُ وحِفظُهُ مِنَ المُفَصَّلِ وأحادِيثِ الصِغارِ المُوجَزَةِ، وتقويةِ لُغَتِهِمُ العَرَبِيةِ.. (وحديثُ عائشةَ يُعلِمُنا أنَّ حتى مَرحَلَةَ [[تَحفيظِ القُرآنِ]] لها سُلَّمٌ بِداخِلِها مِثلَ بقيةِ المراحِل..)
    وبِقَدرِ ترسِيخِنا هنا في قلوبهمْ لمقامِ اللهِ وحلاوةِ الجنةِ وفظاعةِ النارِ، سنتمكنُ من تدريبهم على الفضائلِ والقِيمِ بحولِ اللهِ وقوتِه..
    ▪️ثانيا: مَرحَلَةُ الساقِ: سِنُّ التمييزِ والمراهقةِ إلى البلوغ..
    وهي مرحلةٌ تطبيقيةٌ رئيسيةٌ قبلَ التكليفِ، يَغلِبُ الاهتمامُ فيها بثلاثة أمور:
    1-بالتوسُّعِ في تلقينهم أصولِ الدينِ وفروعِهِ ودقائقِهِ.
    2-بالتطبيقِ العمليِّ الجادِّ المنتظِمِ، لِما عَلَّمناهُم إيَّاهُ في المرحلةِ السابقة.
    3-وبمَدَى ظُهورِ وثباتِ أثرِهِ على تَطوُّرِ سُلوكِهم..
    ---ويُؤكدُ ذلك، حديثُ "مُرُوا أولادَكُم بالصلاةِ لسَبعٍ، واضربُوهُم عليها لعشرٍ"..
    فنعاوِدُ هنا المرورَ على أركانِ الإسلامِ والإيمانِ وأصولِ الدينِ، مِن عقيدةٍ ومُعامِلاتٍ وعباداتٍ وأعمالِ البِرِّ عُمومًا، لكن:
    -بتفصيلٍ وتفرُّعٍ أكبرَ يُناسبُ تطورَ نُمُوِّهِم العَقلِيِّ والفكريِّ والنفسيِّ والمَهارِيِّ..
    -وبتعويدٍ مُنتَظِمٍ وجادٍّ يُمَهِّدُ لمرحلةِ التكليفِ..
    ويُرشدُنا لذلكَ المفهومِ، أنَّ الصغارَ لو مارسُوا الطاعاتِ والفضائلَ، يُكتبُ لهم أجرُها سبحان الله، وما ذلكَ إلا لتشجيعِ فئاتِ ما قبلَ البُلوغِ على التطبيقِ والتَعَوُّدِ بالمُمارَسَةِ العَمَلِيةِ كثيرًا، وإن كانتْ الفريضةُ لا تَسقُطُ عنهم إلا بأدائها عند البلوغ بالطبع..
    •••ومن أهمِّ المُعِيناتِ في تلكَ المرحلةِ: المُصاحبةُ والقدوةُ الصالحةُ وبِيئةُ المَسجِدُ، بجانِبِ ربطهُم أكثرَ بقدواتِ السلفِ وعُظمائِهِ، والتعمقُ في إثباتِ صِدقِ وإعجازِ وربانيةِ القرآنِ والسُنةِ، وتشجيعُهم على طَرحِ الأسئلةِ بلا خوف، دُونَ دخولٍ في جدلياتٍ مذمومةٍ شرعًا.
    ▪️ثالثا: مرحلةُ الثمارِ- مِنَ البُلوغِ إلى الرُّشدِ..
    وهي مرحلةٌ حصاديةٌ قِياسِيةٌ، فتُعتَبَرُ المِقياسُ السلوكيُّ الحقيقيُّ لحصادِ ((التلقين))ِ و((التطبيقِ))، الذَينِ حَدَثا في مَرحَلَتَيِ ((البذورِ)) و((الساقِ))..
    ويغلبُ الاهتمامُ فيها:
    -بتحميلِهم همومِ الأُمةِ..
    -ودفعِهم للقيادةِ والدعوةِ والإصلاحِ والإنتاجيةِ
    -والاستزادةِ من طَلَبِ العِلمِ
    -وإتقانِ العباداتِ والمعاملاتِ الشرعيةِ
    خِتامًا نُلَخِّصُ فَنَقول،،،

    نبدأُ بالإيمانِ..
    فأولُ حُبٍّ نَغرِسُهُ: حُبُّ اللهِ ورسولِهِ وقرآنِه..
    وأول مَنطِقٍ نُؤَسِّسُهُ: خَلْقُهُ إيَّانا لِنَعْبُدَهُ..
    وأولُ عُلُومٍ نَسكُبُها: كمالُ وإِحاطةُ علمِهِ وقدرتِه وتدبيرِه وحِكمتِهِ ومُلكِه لكلِ شيء، وأننا مِن دُونِهِ نَضِيعُ..
    وأولُ أمنيةٍ نُعَلِّقُهُم بِها: جَنتُهُ ورِضاه..
    وأولُ مَحذُورٍ نُخَوِّفُهُم مِنهُ: نارُه وغَضَبُه..
    دُونَ فصلِ تَعَلُّمِ الإيمانِ عن تَعلمِ بَقيةِ أصولِ الدين من أخلاقٍ وآدابٍ وعباداتٍ، كُلٌّ حَسْبَ مَرحَلَتِهِ العُمرِية، ثم كلما ازدادَ البُنيانُ مَتانةً ورُسوخًا رفَعنا دَورًا جَديدًا كما رَفعَ إبراهيمُ وإسماعيلُ القواعدَ من البيت، حتى تصيرَ النبتَةُ شجرةً طيبةً أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ، وتصيرَ الشجرةُ جنَّةً بِربوَةٍ أصابَها وابِلٌ فآتَتْ أُكُلَها ضِعفَين..
    ولدينا فطرةٌ نقيةٌ مُهيأةٌ تلقائِيًا لقبولِ ذلك، وقرآنٌ تسقينَ بهِ كلَّ بِذرَةٍ تُلقينَها في قلوبِهِم..
    فاغتنمي البُكورَ.. قد بُورِكَ للأُمَّةِ في بُكُورِها..

    انتهتِ القواعدُ التربويةُ العامةُ التي تنطبقُ على أيِّ عمليةٍ تربويةٍ.. يَتَفَرَّعُ عنها قواعدٌ فرعيةٌ وجزئية لا حصرَ لها، يَختَلِفُ تَطبيقُها وكثافتُها حَسْبَ الأسرةِ وأفرادِها والأحوالِ والطباعِ وغيرِهم، مُستَنبَطَةٌ كذلكَ مِنَ الوَحيينِ، لنا كلامٌ عنها في مَقالاتِ الأقسامِ القادِمةِ بإذنِ الله..

    --

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    قواعد: (19)

    في ختام القواعد: "دليلُكِ التربَوِيُّ المُختَصَرُ"..


    أسماء محمد لبيب



    في خِتامِ القواعِد.. نُذَكِّرُ بأنه لدينا:
    ▪️ قواعدُ عامةٌ/ أو كُليةٌ/ ثابتة/ أو أركانٌ... أيًّا كان مُسمَّاها فهي تِلكَ القوانينُ الثابِتَةُ التي تَنطَبقُ على أيِّ عَمَليةٍ تربويةٍ أو مرحلةٍ عُمريةٍ بالضرورة، فلا يتعطلُ تفعيلُها ولا تنحَسِرُ نِسبَتُها في وقتٍ دونَ وقت..

    ▪️وهناك قواعدُ جزئيةٌ/ أو متغيرة، تتفرَعُ وتتشعَبُ عن القواعِدَ الكليةِ تلك وتَتَرَتبُ عليها، ولكن تختلفُ وتتغيرُ ضَرورَةُ ونِسبَةُ تفعيلِها بحسبِ الأُسرةِ والثمرةِ الملموسةِ والمراحلَ العُمريةِ والفروقِ الفَرديةِ..


    ▪️▪️القواعدُ الكليةُ مثلًا تَمَثَلَتْ في:

    -النيةُ من التربيةِ
    -الاكتفاءُ بتربيةِ الوحيينِ، وتركُ التربوياتِ الغربية
    -الدعاءُ والصبرُ وحسنُ الصلةِ بالله
    -إعلاءُ الطموحاتِ التربوية
    -عدمُ التعلقِ بالثمرةِ بشكلٍ يؤدِي إلى تَركِ السَعيِ، فالعبرةُ بالسعيِ مادامَ وِفْقَ التربيةِ الحَق.
    -قَدرُ الأمومةِ والأبوةِ في الإسلام، وفِتنَةُ البُنُوَّة..
    -أهميةُ تنشئةِ الأبناءِ في طاعةِ اللهِ وكيفيتُها..
    -قيمةُ القُدوَةِ ومَرجِعِيتُها وفِطرَةُ المُحاكاة..
    -قيمةُ الصِدقِ والعدلِ في تأسيسِ علاقةٍ أسريةٍ متينةٍ مُحَصنة.
    -مَرجعيةُ قوانينِ الأسرةِ وإدارةِ الأزماتِ داخلَ البيت.
    -تحييدُ حظِ النفسِ وتشوهاتِ الماضي عند تربيةِ الأبناء..
    -ضرورةُ التعايُشِ مع واقعِ أن الخطأَ والمحاكاةَ طبيعةٌ بشريةٌ، وأهميةُ التفرقةِ بين العَمدِ والسَهوِ..
    -أهميةُ تفعيلِ الصوباتِ التربويةِ للوقايةِ مِن الفتن..
    -وأخيرًا... كيفيةُ ترتيبِ تلقينِ القناعاتِ والقِيمِ السلوكيةِ المَطلوبةِ للأبناءِ حسبَ المراحلَ العمريةِ، والتي يَنبَنِي عليها تعديلُ السلوكِ بشكلٍ عام..

    فكلُها قواعدُ لا خَيارَ لنا في التأسِيسِ عليها كالأركان للبنيان، ولا تَحتَمِلُ التعطيلَ أو التأويلَ أو التقييدَ أو التجزِئةَ.. فَصَّلنا كثيرًا مِنها وأجمَلنا البعضَ..

    ▪️▪️أما القواعدُ الجزئيةُ:

    -فتطبيقُها نِسبِيٌّ لتَوَقُفِهِ على عواملَ مُتَغَيرة،
    -وهي قواعدُ لا حَصرَ لها ولا يَتَسِعُ لها المجالُ هنا،
    -وأؤجلُها للكتابِ بإذنِ الله..

    لكن مبدئيًا نُوجِزُ نُبذَةً عنها ونقول:
    -أن بعضَها كما قلنا يَتَرَتبُ على القواعِدَ الكُلية..
    -وبعضُها مَوجودٌ مُباشَرةً في توجِيهاتِ التربيةِ النبوية وقواعِدِ الفِقه، أو مُستخلَصٌ مِن مَقاصِدِ الشريعةِ العامةِ..

    **أمثلةٌ لقواعِدَ جُزئية:
    تقنينُ الأجهزةِ الالكترونيةِ والانترنت/ اختيارُ مدارسَ مُعينة/ المكافأةُ على الصالحات والرشاوَى التربوية/ الضربُ على ترك الصلاة/ الضربُ التأديبي/ التدريج/ المُحاورةُ في الشبهاتِ ابتداءً وتفنيدُها/ الإيفاءُ بالوعد/ التبكيتُ/ التخييرُ/ العقابُ بالهَجر/ التعويدُ على صلاةِ المَسجدِ للصبيانِ وعلى الحجابِ للفتيات/ حَملُ القرآن/ مراعاةُ المشاعِر/ التقليلُ من التنعُمِ/ الدفعُ بهم في مُعتَرَكِ الحياةِ ليشتدَ عُودُهم..........

    إلى آخر قائمةٍ من قواعدَ بحجمِ الحياةِ كافة، لا حَصرَ لها ولا قوالبَ تطبيقيةً ثابتةً لها غالبًا على وَجهِ الدِقة.. تتنوعُ حسبَ الواقعِ عمومًا وبيئةِ المحاضِنِ التربويةِ المُتَغَيرةِ كما قلنا..

    ▪️▪️ويُقابِلُ القواعدَ أو يُماثِلُها في القُوةِ والإطلاقِ والتأسِيسِيةِ:
    ((المَمنوعاتُ التربوية))..


    وبعضُها ممنوعاتٌ عامةٌ/ كُليةً كَذلك، وبعضُها ممنوعاتٌ جُزئية..

    **أمثلةٌ للممنوعاتِ التربويةِ عُمومًا، كُليةٌ أو جُزئيةٌ:
    عدمُ الدعاءِ على الأبناءِ/ عدمُ سبِّهِم أو احتقارِهم أو السخريةِ منهم/ عدمُ المجاهَرَةِ بالمعاصِي أمامَهم/ عدمُ إدخالِهم مَدارِسَ مُختَلَطَةٍ/ عدمُ إرغامِهم على الأكل/ عدمُ تركِهِم وحدَهُم بدون رَقيب/ عدمُ التَجَسُسِ عليهم.......

    فالممنوعاتُ إذًا تُعتَبر في حقيقتِها (((قواعدُ))) لكن بالسَّلبِ والإحجام والاجتنابِ..
    لذا سنتناولُ بعضَها بإذنِ اللهِ مباشَرةً بعدما أنهينا القواعدَ الكُلية..
    ثم بعدَها سنتكلمُ عن بَعضِ الأدواتِ التربويةِ التي هي وسائلُ الوالِدَينِ لتعديلِ السلوكِ وغَرسِ القِيَم، تحتَ مِظَلَةِ القواعدَ والمَمنوعاتِ بالطبعِ..

    وننوهُ هنا إلى أننا قد نَجِدُ قاعدةً ما أو مَمنُوعًا مُعَيَّنًا، هو أداةٌ في نفسِ الوقت....

    مِثال:
    -الدعاءُ... هو قاعدةٌ/ وفي نفسِ الوقتِ وسيلةٌ لتعديلِ السلوك..
    -كذلك الصدقُ والعدلُ.. قاعدةٌ/ وفي نفسِ الوقتِ أدواتٌ لكسبِ قلوبِ الأبناءِ وثِقَتِهِم..
    -كذلك "ادفَعْ بالتِي هِيَ أحسن"... قاعدةٌ عند زلاتِهِم/ وفي نفسِ الوقتِ أداةٌ لتعزيزِ الحُبِ والامتنان..
    -كذلك "لا تدعُوا على أولادِكم"... هي من الممنوعات، وأيضا وسيلةٌ لترسيخِ الأمان..

    فلن نختلفَ كثيرًا هنا في تصنيفِ الأدواتِ والقواعدَ والممنوعاتِ، لشدةِ تداخُلِهِم وتضافُرِهم أحيانًا، إنما فقط عمليةُ العناوينِ والسَّبرِ والتَقسِيمِ هَذِهْ، مُجَردُ محاوَلةٌ تَنظيميةٌ لخريطةِ التربيةِ قَدرَ المُستَطاع، لكن بِمُرونَةٍ وبساطةٍ بإذن الله..

    ويأتي السؤالُ الأهمُ على الإطلاق لدى الأمهات:
    ماذا علَى الأمِ من خُطواتٍ لتبدأَ التربيةَ بَعدَ ما تَضطَلِعُ على كل ذلك؟

    والجوابُ:
    -مبدئيًا عليها اتباعُ القواعِدَ الكُليةِ مُطلَقًا، واجتنابُ المَمنُوعاتِ الكُليةِ مُطلقًا..
    -ثم تَتَبُعُ القواعدَ والممنوعاتِ الجُزئيةِ/ والأدوات، وتفعيلُهم مع الأبناءِ دوريًا حسبَ المَرحَلةِ العُمريةِ والمَنفعةِ المَرجُوةِ والمصلحةِ الراجِحة..

    وخِتاما نَجمَعُ القواعِدَ الكليةَ إجمالًا في عِقدٍ مُترابِطٍ بعُنوانِ ((دليلُكِ التربويُّ المُختَصَرُ)) بإذنِ اللهِ، فنقول:

    1-نيتُكِ من التربيةِ هي إرضاءُ اللهِ وأداءُ الأمانةِ وإعزازُ الأُمةِ برجالٍ يَحرُسونَ بيضَتَها ويُعَبِّدُونَ الأرضَ لله..: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}..
    2-وهدفُكِ من التربيةِ هو حَجزُ مَكانٍ لأبنائِكِ تحتِ ظِلِ عَرشِ الرحمنِ..: ((شاب نشأ في طاعة الله))..
    3-وطموحُكِ في التربيةِ هو بحَجمِ أعظَمِ جزاءاتِ الله...: ((وإذا سألتَ فاسألِ الفِردَوس)).
    4-ومرجعيتُكِ في التربيةِ هي القرآنُ والسُنةُ بفَهمِ سَلَفِ الأُمة، فَدعِي عَنكِ تربيةَ الغَربِ وأقبِلِي على تربيةِ ربِ العالمين...: {{إن هذا القرآنَ يَهدِي للتِي هِي أقومُ..}}، ((وإن أحسَنَ الهَديِ هَدْيُ مُحمدٍ ﷺ..))، {{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِه}}..
    5-وزِمامُ الأمورِ بِيَدَيكِ وسوفَ تُسألِين..: ((كُلكُم راعٍ.. وكُلكُم مَسؤولٌ..))
    6-والمُثابَرَةُ وتَحسِينُ الصِلَةِ باللهِ وَقودُ التربيةِ وسَببٌ لثمرتها..: {وَالذِينَ جاهَدُوا فينا لنَهدِينَّهُم سبُلَنا} .، ((فأعنِي على نفسِكَ بكثرةِ السُجُود))..
    7-وبعدَ بَذلِ الوُسْعِ بِصِدقٍ وإخلاصٍ وعِلمٍ فلا نَدَم...: {لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إذا اهتديتم}
    8-ولْتَطمَئِنِي على ذريتِكِ مادُمتِ بدأتِ البنيانَ بالعقيدةِ الحَقِّ....: {وَالذِينَ آمنُوا واتَبَعَتْهُم ذُريتُهُم بِإيمانٍ ألحَقْنا بِهِم ذُرِّيتَهُم}
    9-والإقرارُ بالخطأِ والاعتذارُ عنه واجبٌ وليس فَضلا...: {وَلم يُصِرُّوا على ما فَعلوا وهُم يَعلَمون}
    10-والفَصلُ في أمورِ الأبناءِ يَكونُ بحُكمِ اللهِ لا بالهَوَى...:{وأنِ احكُمْ بينَهُم بما أنزلَ اللهُ}
    11-والدعاءُ والصبرُ والتقوى مفاتيحُ الفَرَج....:{إنهُ مَن يَتَقِ ويَصبِرْ فإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجرَ المُحسِنِين}
    12-واليأسُ من رحمةِ اللهِ كُفرٌ، وانتظارُ الفَرَجِ عِبادةٌ... والثبات على تربيتهم رغم تأخر الثمرة واجبٌ لا فضل..:{معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون}..{فاصبرْ صبرًا جميلًا} .. و «استعِن باللهِ ولا تَعجَز»
    13-((وكُلُ ابنِ آدمَ خطاءٌ.. وخيرُ الخطائينَ التوابون))....:{فَم ن تابَ وأصلَحَ فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنُون}
    14-وأنهُ مَن يَترُكْ بيتَهُ بلا سقفٍ فلا يَندِبُ حَظَهُ العاثِرَ حينَ تَهطِلُ السُيول.. {فأوُوا إلى الكهفِ يَنشُرْ لكُم رَبكم مِن رَحمَتِهِ ويُهَيِّءْ لكم مِن أمركمْ مِرفَقًا}

    وإلى لقاءٍ مع (((الممنوعاتِ التربوية))) في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..



    --أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها​​​​​​




















    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات (مقدمة):

    {هاؤُمُ اقرأُوا كِتابِيَهْ}: أنقّى صَحِيفَةٍ تَربَوِيَّة..


    أسماء محمد لبيب

    إليك أنظفَ صَحِيفَةٍ تربويةٍ يمكنُها أن تُقِرَّ عينَ أيَّ أُم، سواءٌ في الدنيا أو في الآخِرَةِ لدى ربِها الملِكِ الديّانِ عز وجل مهما كانت تَفِدُ إليه سبحانه بتقصير تربويٍّ وتفريط..
    التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
    المَمنوعاتُ العَشرُ

    ... يا بُنَيَّ يا فلذَةَ كبِدِي وقِطعَةَ نَفسِي:
    أنا وللهِ الحمدُ ربِ العالمين:
    1-أبدًا ما عصيتُ اللهَ لأُرضِيَك..
    2-أبدًا ما دعوتُ عليك..
    3-أبدًا ما شَتَمتُك..
    4-أبدا ما شَمِتُّ فِيك..
    5-أبدا ما فَضَحتُك..
    6-أبدًا ما ربيتُكَ لأجلِ منفعتِي الخاصة..
    7-أبدا ما لَطَمتُكَ على وَجهِكَ ولا ضَربتُكَ الضَربَ المُحَرَّمَ..
    8-أبدًا ما كذبتُ عليك..
    9-أبدًا ما خدَشْتُ فِطرَتَك..
    10-أبدًا ما تَعَدَيْتُ على حُقوقِكَ المكفولةِ لكَ شرعًا وأنا أعلم ذلك وسكتُّ"...

    أيتها الأمهاتُ الطيبات..
    رأيتُنَّ تلكَ المُجتنَبَاتِ العَشْر...؟
    هي في رأيي المتواضع تمثلُ:
    أنظفَ صَحِيفَةٍ تربويةٍ يمكنُها أن تُقِرَّ عينَ أيَّ أُم، سواءٌ في الدنيا لدَى ولدِها مهما كان بينهما من نِزاعَات وتَجاذُبات، أو في الآخِرَةِ لدى ربِها الملِكِ الديّانِ عز وجل مهما كانت تَفِدُ إليه سبحانه بتقصير تربويٍّ وتفريط..

    فجهزي تلك العَشَرَة من الآن، بالمُجاهَدةِ والمُثابَرَةِ والصبرِ والاستعانةِ بالله، كي تتمكنينَ بحولِ اللهِ وقوتِهِ من قَولِها لولدِكِ بكلِ فَخرٍ وثِقَةٍ وصِدقٍ حينَ يَكبُرُ، وبين يديْ ربِكِ ضِمنَ الصائِحِين فَرَحًا وسُرورًا{هاؤُمُ اقرَؤُوا كِتابِيَهْ...}..

    أعلَمُ أن كثيرًا مِنكُنّ مُفَرِّطَةٌ في إحدى النقاط العَشْرِ- وربما كلِها والعياذُ باللهِ مِن ذلكَ العَجزِ والتَفرِيطِ- ويَنكَوِي قلبُها الآنَ وهي تَستَمِعُ بحسرَةٍ للكلامِ وتقولُ لنفسِها: ((هيهاتَ هيهاتَ لتلكَ المَنزِلَةِ الرفيعةِ وهذا الفَخرِ المَجِيدِ يا مِسكينة!))، لِعلمِها أنها قد سَقَطَتْ في اختبارِهم منذ زمنٍ وما عادَ يُمكِنُها أن تقولَ "أبدًا ما فَعَلْتُ كذا فيكَ بُنَيْ"...
    وكم كانت تتمنى ذلكَ النقاءَ لصحيفتِها التربوية..!

    وأقولُ لصواحِبِ تلكَ الأنَّاتِ الأسيفةِ الرَّئِيفَةِ: لا زالت أمامكِ تلكَ الفرصةَ أخيتِي رُغم أننا لا نَستطيعُ إرجاعَ عقاربَ الساعةِ للوراءِ..
    أجَل...! فاقتَنِصِيها..
    تُوبي عن أولئِكَ العشرةِ فورًا تَوبةً نصُوحًةً صادقَةً.
    وقَدِمِي لولدِكِ إقرارًا واعتذارًا وأظهِرِي فيهما ندمَكِ ذاك بكل صدقٍ وتجرد.
    وأخبرِيهِ أن كلَ ابنِ آدمَ خطاءٍ وأن خيرَ الخطائينَ التوابينَ.
    وأنكِ الآن مِن هؤلاءِ وتبتغِينَ تَصحيحَ مسارَكِ، إرضاءً للهِ وإفراحًا لَهُ سبحانه بالتوْبِ والأوبِ وَدُونَ تَباطُؤ..
    فكما قال الحكماءُ:
    "عندما تركبُ القطارَ الخطأَ، حاوِلْ أن تنزِلَ في أوَّلِ مَحطَةٍ، لأنه كلما زادَتْ المَسافةُ، زادَتْ تكلِفَةُ العَودَة"..
    وقال رَبُكِ أحكمُ الحاكِمين:
    {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70]
    وقال أيضًا: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِم} [آل عمران:136]

    إذًا...
    أشهِدِي ولدَكِ على نيتِكِ الإقلاعِ عن كلِ ذلكَ بعَونِ الله، وحينها ستستطِيعِين يومًا ما قريبًا غيرَ بعيدٍ بإذنِ اللهِ وحولِهِ وقُوتِهِ أن ترفَعي رأسَكِ وتقولِي لَهُ في الدنيا ولرَبِكِ في الآخِرَةِ تلكَ المَفخَرَةَ العزيزةَ والمَصفُوفَةَ الغاليةَ للممنوعاتِ العَشرِ:
    ".. يا بُنَيَّ يا فلذَةَ كبِدِي وقِطعَةَ نَفسِي:
    أنا وللهِ الحمدُ ربِ العالمين، منذ تُبتُ وأنَبْتُ إلى اللهِ وعَرَفْتُ الصوابَ مِنَ الخطأِ في أمانةِ تَربيتِكَ وفي ديني وأن كلَنا رُعاةٌ وكلَنا مسؤولون عن رَعيتِنا:
    1-أبدًا ما عصيتُ اللهَ لأُرضِيَك..
    2-أبدًا ما دعوتُ عليك..
    3-أبدًا ما شَتَمتُك..
    4-أبدا ما شَمِتُّ فِيك..
    5-أبدا ما فَضَحتُك..
    6-أبدًا ما ربيتُكَ لأجلِ منفعتِي الخاصة..
    7-أبدا ما لَطَمتُكَ على وَجهِكَ ولا ضَربتُكَ الضَربَ المُحَرَّمَ..
    8-أبدًا ما كذبتُ عليك..
    9-أبدًا ما خدَشْتُ فِطرَتَك..
    10-أبدًا ما تَعَدَيْتُ على حُقوقِكَ المكفولةِ لكَ شرعًا وأنا أعلم ذلك وسكتُّ".

    حبيباتِي جاهِدنَ أنفُسَكُنَّ وصابِرنَ... وأبشِرنَ،،، {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النمل:11]

    هذا إجمالٌ...
    وفي المقالاتِ القادِمَةِ من هذا القسم الجديد [[ممنوعاتٌ تربويةٌ]]،
    نَستَعرِضُ بتفصيلٍ تلك العَشْرةَ، لنتعاونَ معًا على إغلاقِ مداخِلِها وتثبيتِ التوبةِ مِنها بحولِ الله وقوتِهِ، ومعرفةِ كيفيةِ تَدارُكِ الزَلَلِ فيها بإذنِ الله.. لنستكمل معًا بقية قواعد وأدوات التربية من الوحيين (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)[طه:82]
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات (2):

    "ولا تدعوا على أولادكم"... دعاؤكم عليهم دعاءٌ على الأُمة..!


    أسماء محمد لبيب


    [[خِلصِت روووحك... اتفلِق.... يخرب بيتك... يخرب عقلك...!]]
    إن كنتِ ممن يقولونَ تلك الجمل أو شيئًا منها لأبنائِكِ حال الغضبِ منهم، وتُسرِفين فيها دونَ مراجعةٍ وتوبة، وعلى أمورٍ دنيويةٍ تافهةٍ غالبًا أو أمورٍ لكِ فيها حظوظُ نفسٍ، فلا تظنِّي أن هذِه دُعاباتٌ من الكلامِ أو زلاتٌ مَغفُورَةٌ منسيةٌ مارَّةٌ مرورَ الكِرام...
    ومثلها: أتاكَ الرَعدُ في أذنَيكَ..! أتاكَ العَمَى في عينيكَ..! ضُربْتَ في قلبِكَ...!! أحرقَ اللهُ دمَك...! دَهَسَتْكَ قاطِرَةٌ...! قُطِعَتْ رقبتُك...! قُصِمَ ظَهرُك...! شُلَّتْ أركانُك...! سمَّمَ اللهُ بدنَك...! لعَنَكَ اللهُ...!
    كلها بالطبعِ بعدَ ترجمتِها للفُصحى، فسماعُها بالعاميةِ أشدُ إهانةً وبأسًا وتنكيلًا...!
    وغيرُها مما يتَحَرجُ القلمُ مِن كتابتِه، ويحمِلُ غِلًا وغَلَيَانًا عَجيبًا يستَحِثُّ انتقامَ اللهِ للآباءِ مِن الأبناءِ في لحظةِ غضب، ثم يَنسَونَها وكأنها لم تكن..!
    فلا تظني أنها مَغفولٌ عنها، بل كلُها أدعيةٌ صريحةٌ على ولدِك، تُقْلِعِينَهُ بها من تُربَةِ الأمانِ وتَزرَعينَه في أرضِ الخوف، ناهِيكِ عما فيها من إهانةٍ، فتكسِرِينَهُ مرتينِ بل ثلاثَ، بل مراتٍ ومرات...
    هذا بخلافِ تعويدِه بذلك على اللعنِ والمبالغةِ في الانفعالاتِ والشططِ في المشاعرِ وعدمِ السيطرةِ على غضبِ اللسانِ وآفاتِه، بدلًا من تعويدِه على العِفةِ والنزاهةِ والرقيِّ والأدبِ وقولِ التي هي أحسنُ... كيف -بربكِ- ستُلقنِينَه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء:53] و «ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» (رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني)؟
    دَعُوني أقُصُّ عليكم قِصةَ أمٍّ من هؤلاءِ عفا اللهُ عنها..
    ظَلتْ تَشكُو إليَّ من ابنِها ونِسيانِه لكثيرٍ من طلباتِها وفَشلِهِ في تلبيةِ كُلِ احتياجاتِها نظرًا لظروفِهِ المَعِيشيةِ الصعبةِ التي هي تَعلَمُها وتُدرِكُ صعوبَتَها وتُطالبِهُ بالمثالية رُغمَ ذلك..

    فقلتُ لها هداهُ اللهُ، نظرًا لأني لم أُعُدْ أملِكُ أيَّ ردٍ غيرَ ذلك، فلا جدوَى من أيِّ نُصحٍ أو استعطاف..
    فردّت قائلةً بالنَّص: "سواء ربنا يهديه أو ما يهديهوش، هو مش نافعني في حاجة كده كده.. ربنا يحرق دمه زي ما هو حارق دمي.."
    حين أسمع أمامي أمًّا تقولُ على ابنِها: "ياربِ ينكِّدْ عليك زي ما نكّدت عليا ويوجَع قلبك زي ما بتوجع قلبي" أو "ربنا يشلَّك وينتقم منكَ ويحرَق دمك زي ما بتشلِّني على ما تعمل لي إللي بطلبُه"، أشعر بذهولٍ وصدمةٍ عَقليةٍ مُتجمدة..!
    حسنًا... أين الخللُ.....؟ ربما تظنون أنه في اللسان.. وربما في الأخلاق... لكنْ -ولا عجبَ!- إنه في العقلِ والقلبِ..

    إن قناعةَ الأم أنها ليست مُلامَةً أن تفعلَ ذلك، يَدلُ على خَلَلٍ في إخلاصِ النيةِ في التربيةِ للهِ ربِ العالمين، إذ تجعلُ لِذاتِها مِن أبنائِها حَظَ نَفسٍ، إن لم تحصلْ عليهِ بالحُسنَى منهم طَفِقَتْ مَسحًا بالسوقِ والأعناق..!
    "يا رب يهِدَّك عشان أرتاح شوية من تنطِيطَك وكَركَبتَك"؟
    سبحان الله..!
    وحتى تلك الأم الأفضل، التي لا تريدُ من ابنِها إلا أن يهتدِيَ للخيرِ ولا تدعُو عليهِ لمصالحَ دنيويةٍ ولا حظِّ نفسٍ، ليسَتْ بعيدةً عن الخَلَلِ إذا دعتْ على ابنِها حين يُعانِد!
    لكنه خللٌ من نوعٍ آخر: خَللُ المَنطِق..
    إذ كيف يُقنِعُني أحدٌ أنها تَدعُو على وَلدِها -وهي بوعيِها!-أن يزيدَهُ اللهُ عذابًا وشقاءً وفشلًا، لأنه لا يريدُ أن يستجيبَ ويجتنبَ طريقَ العذابِ والشقاءِ والفَشَل...!
    "يارب تسقَط وتعيد السنة عشان مش راضي تقوم تذاكر".....!
    سبحان الله..!
    فالأمُ الأُولَى خلُلها في إخلاصِ النيةِ للهِ والتي محِلُّها القلبُ، والثانيةُ خَلَلُها في إِعمالِ العَقلِ وتَغليبِهِ على العواطِفِ.. وكلتاهما لديها خَلَلٌ واضحٌ في الأمومة...!

    لأجلِ ذلك نقول: إن عَلاقَةَ الدعاءِ على أولادِنا// بالنيةِ مِن التربيةِ ووُضوحِ الرؤيةِ في ذلك عَلاقةٌ طَردِيَّةٌ: كُلما استَحضَرتِ غايتَكِ التَربَوِيةَ= كلما أشفَقْتِ مِنَ الدعاءِ عليهم واجتنَبتِهِ مهما أُحبَطتِّ بخُذلانٍ أو عنادٍ أو تأخُرٍ للثمرة..
    النيةُ من التربيةِ إذًا ألفْ باءْ أمومةٌ وعبودية..
    لا يصحُ أن ننسَى لماذا نُنجِب..

    نحن لا نُنجِبُ خدمًا تحت أقدامِنا..
    نحن ننجبُ خَدَمًا تحتَ أقدامِ الأُمة..
    ودعاؤنا عليهم دعاءٌ على الأمةِ بالنقصانِ والفشلِ والتعثرِ والخيباتِ..

    قد نتفهمُ مبرراتِ ودوافعَ الصياحِ الشديدِ لإحدى الأمهاتِ أو حتى ضربَها بعنفٍ لولَدِها في لحظاتِ انفعالٍ وإحباطٍ -وإن لم نَعذُرْها قَطعًا..

    لكن في النهايةِ: قُوةُ ضربتِها لَه هي قُوةُ ضَربِ "إنسان" لـ "إنسان"..
    لكن أن تستسهلَ الأمُ بسببِ نفسِ الدوافِعِ -غيرِ المُبَررةِ- أن تُفَوَّضَ "ربَّ الكونِ القويَ المتينَ" بقُدَرتِهِ المُطلقةِ وبطشِه الشديدِ، أن يُعاقِبَ ولدَها وينتقمَ لها مِنه..!!
    فذلك هو ما لا أتفهمُه مُطلقًا ولا أتعاطَفُ معه ويَصدِمُني كلَّ مَرة..
    نعم... اللحظةُ التي تتحولين فيها من كائنٍ يُضرَبُ به المَثَلُ في المَرحَمَةِ وصَدِّ الأذَى عن ابنِها ولو كانَ مِن "لدغَةِ نامُوسةٍ" إلى كائنٍ مُستَمطِرٍ للأذَى على فلذَةِ كبِدِها مِن القويِّ شديدِ العقابِ ذِي الطَولِ سبحانه، وتعَلَمِينَ أن دعوتَكِ مُستجابَةٌ اعلَمِي أنكِ الآن فاقِدَةٌ للأمومةِ الحَقةِ والخَالِصةِ لوجهِ الله.. حتى تستفيقِي وتُصلِحي..
    فكما أن السكرانُ فاقدٌ لعقلِهِ حتى يَفِيقَ... فإن الأمَّ التي تدعو على ابنِها فاقدةٌ لأمومتِها حتى تَفِيقَ..

    اللهُ أعطاكِ سِلاحًا -الدعاءَ المستجابَ- رحمةً منه لَكِ.. ليُدرِكَ الأبناءُ قَدْرَ مَعيّةِ اللهِ لكِ فيوقِّرُونَكِ ويبَرُّونَكِ ويهابُونَ غضَبكِ ويُطِيعونَكِ في المعروف.. لا لكي تذبحيهم به..
    يا طيبة.. فلا تذبَحِي أبناءَكِ برحمَةِ اللهِ لك..
    الخلاصةُ...
    دعاؤكِ على ولدِكِ من الدعاءِ المستجابِ.
    وهو سلاحٌ أودعَهُ اللهُ مَعَكِ أمانةً وامتحانًا.
    لا تقتُلِي بهِ أولادَكِ انتقامًا لنفسِكِ بزَعمِ أنكِ تريدينَ أن ينصَلِحَ حالُهم.. هذا إفسادٌ من حيث تريدين إصلاحًا.
    دعاؤكِ عليهم دعاءٌ على الأمةِ الإسلاميةِ أن يزدادَ فيها عددُ الفشلةِ والمتعثرينَ والخائبين.
    لن نغنمَ شيئًا حين ندعو أن يذيقَهم اللهُ ما أذاقونا إياه في تربيتِهم، ولا ينبغِي لذلكَ أن يُدخِلَ علينا السرورَ إن حَدَث.. فلا تنسَيْ قِصةَ أمِ جُرَيجٍ وما حَدَثَ لهُ بدعوتهِا عليهِ حينَ تأخَّرَ عن تلبيةِ ندائِها مِرارًا فقالت: "اللهم لَا تُمِتْهُ حتى تُريَهُ وجوهَ المومِساتِ".. وقد كان.. تَعَرَّضّتْ له المُومِساتِ وظُلِمَ واعتُدِيَ عليهِ وتَعَلَّم كلاهُما الدَرسَ بالدمِ، حتى قالَ حين استفاقَ: أصابَتْنِي دَعوَةُ أمِ جُرَيج..
    فلن تَفرَحِي حينَ تَجِدِينَ ولدَكِ وقد كُسِرَ ظهرُه أو أُصيبَ بعاهةٍ من حادِثٍ مثلًا سبقَهُ دعاؤكِ عليهِ لتَعَنُّتِهِ في مُذاكرَةٍ أو مهامٍ منزليةٍ ونحوُه... أنتِ بذلك تكسرين قلبَكِ مرتين.. ألا تَكفيكِ كسرتُكِ من بَعضِ عقوقِهِ ذاك؟ وواللهِ إن تلكَ الكَسرَةِ أهونُ وتَنجَبِرُ بإذنِ اللهِ بالدعاءِ لَهُ والحوقلةِ كثيرًا والصبرِ والحِلمِ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ}[البقرة:45].. لكن عاقبةَ الدعاءِ عليهم لا تَنجَبِرُ...
    الوالِدِيَّةُ الحَقَةُ لا مكانَ فيها للتشفِّي والثأرِ للذاتِ وتنفيسِ الغِل.. بل هي قَلبٌ مُخلِصٌ للهِ يَحمِلُ هَمَّ الأمةِ، وعينٌ ساهرةٌ على ترميمِ كسرِها بإصلاحِ أبنائِها، مهما كانت مشاكلُهم شاقةً ومُنهِكةً وخانِقةً، فالثمرةُ تستحقُ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعاً}[المائدة:32]
    فاستهدِي بالهادِي الحليمِ الصبورِ.. وربِّي ولدَكِ بالدعاءِ له لا بالدعاءِ عليه.. وردِّدِي دومًا: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فإن سألتِ:} [الأحقاف:15].

    ألم يَقُلِ النبيُّ ﷺ لبعضِ صحابتِه ثَكِلَتْكَ أمُكَ بل ودعَا علَى بَعضِ أهلِه؟ وما الحَلُ لِمَن دَعَتْ بالفعلِ عليهِم وينهَشُها الخوفُ الآنَ من إجابةِ اللهِ لدعائِها؟ وَمَن تابتْ وتجاهدُ ولكن لازالَ لسانُها يَفلِتُ، فماذا تفعلُ إلى أن ينتهِيَ هذا الأمرُ مِنها؟ وما قصةُ جُرَيجٍ وأمِه؟
    فالجوابُ في المقالةِ القادمةِ بإذن الله...




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات (2) تابع :

    ألم يدعُ النبيُّ ﷺ علَى بعضِ أهلِهِ والمُسلِمِين؟


    أسماء محمد لبيب

    وقفنا عند أسئلة:
    -ألم يدعُ النبيُّ ﷺ على بعضِ أهلِه والمسلمين؟ ألم يقل لبعضِ صحابَتِه " «ثَكِلَتْكَ أمُك» !" أيْ: "فَقدَتْكَ" أيْ: دعاءٌ بالموتِ كما نقولُ بالعامية "ربنا ياخدَك"؟
    -وما الحلُ لمن دَعَتْ بالفعلِ على أولادِها وينهَشُها الخوفُ من إجابةِ اللهِ لدعائِها؟
    -ومَن تابتْ وتجاهدُ ولكنْ لازالَ لسانُها يفلِتُ، ماذا تَفعَلُ؟

    نبدأُ بالسؤالِ الأولِ..
    أولًا... تلك الكلمةُ في لهجةِ العَرَبِ ليسَ معناها طلَبُ تَحَقُقِ الشيءِ وتمنِّي وُقوعِهِ، فليستْ دعاءً على أحدٍ بالموتِ حقيقةً -حتى وإن كان هذا معناها الحرفيُّ لُغَوِيًا..
    إنما تُطلَقُ على سبيلِ العادةِ التي جَرَتْ بها ألسنةُ العَرَبِ آنذاك مِن وَصلِهم لكلامِهم دونَ قَصدٍ أو نِية، مثل: تربَتْ يَمينُك،/ ولا أشبَعَ اللهُ بَطنَك،/ ولا كَبِرَ سِنُك، وغيرهم...
    قال النوويُّ في شرحِ صحيحِ مُسلم :
    "وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ اعتادتْ الْعَرَبُ اِسْتِعْمَالهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، فَيقولون: تَرِبَتْ يَدَاك، وَقَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ! وَلَا أُمَّ لَهُ وَلَا أَبَ لَك، وَثَكِلَتْهُ أُمُّه، وَوَيْلَ أُمِّهِ..... وَمَا شابَهَهُم مِنْ أَلْفَاظٍ يَقُولُونَهَا عِنْدَ إِنْكَارِ الشَّيْءِ، أَوْ الزَّجْرِ عَنْهُ، أَوْ الذَّمِّ عَلَيْهِ، أَوْ اِسْتِعْظَامِه، أَوْ الْحَثِّ عَلَيْهِ، أَوْ الْإِعْجَابِ بِهِ". انتهى كلامُه بتَصَرُّفٍ يَسِير.

    وقد قالها ﷺ في مواقفٍ تَستَجلِبُ الدهشةَ.. مثلا:
    *حين قال لإحدَى زوجاتِه «تَرِبَتْ يداكِ» حين تعجَّبَتْ مِن وُجودِ ماءٍ للمَرأةِ كالرجلِ..

    *وحين قال: «لا كَبِرَ سِنُكِ!» لبنتِ أمِ سُلَيمٍ الصغيرةِ اليتيمة! حيث رآها ﷺ يومًا بعدما كَبُرِتْ قليلًا، فاندهشَ وقالَ لها مُتَعَجِّبًا: «أنتِ هِي؟ كَبُرْتِ..! لا كَبِرَ سِنُكِ!»... مثلما يُقالُ ربما -واللهُ أعلمُ- بالعاميةِ المصريةِ دونَ قصدٍ الدعاءِ: "يُقصُفْ عُمرَك عَملتَها إزاي دي!" أو "يِخَيِّبَك! صلحتها إزاي!" أو يا مَقصُوفِ الرقبة!...

    فعادتْ اليتيمةُ إلى أمِها تبكِي مِن الخوفِ سبحانَ الله، فلما سألَتْها قالتْ: دعا علَيَّ النبيُّ ﷺ أن لا يَكبُرِ سِني أو قِرْنِي -أي أقرانِي وأشباهُ سِني..
    فهَرَعَتْ أمُ سُليمٍ إليهِ على عَجلٍ تستَفهِمُ، فلما رآها وَجِلَةً قال: «مالَكِ يا أمَّ سُلَيم!؟»فقالت: يا نبيَّ اللهِ! أدعوتَ على يَتِيمَتِي؟ فتعجبَ وسألَها! فلما أخبرَتْهُ ضَحِكَ ﷺ.. ثم قال يُطَمئِنُها: «أما تَعلَمِينَ أنِّي اشتَرَطْتُ علَى ربِّي فقُلتُ: إنَّما أنا بشرٌ أرضَى كما يَرضَى البشرُ، وأغضَبُ كما يَغضَبُ البشرُ، فَأيُّما أحَدٍ دعَوتُ عليهِ مِن أُمَّتِي بِدَعوةٍ ليسَ لها بِأهلٍ، أنْ تجعلَها لهُ طَهُورًا وزكاةً وقُربةً يُقرِّبُهُ بها مِنهُ يومَ القيامةِ»(رواه مسلم)
    كذلك قالَها ﷺ في مَواقِفَ تَستَوجِبُ الإنكارَ والاستِعظام... كما حَدَثَ حين سألَهُ سيدُنا مُعاذٌ مُتَعَجِّبًا: يا رسولَ اللهِ! أنؤاخَذُ بكلِّ ما نتكلمُ به؟.. فأجابه النبي ﷺ مُنَبِّهًا إياهُ مُندَهِشًا من السؤال: «ثَكِلَتْكَ أُمُكَ يا مُعاذ! وهلْ يُكَبُّ الناسُ على مَناخِرِهِم فِي جهنمَ إلا حصائِدُ ألسنتِهم!؟» (رواه الترمذي)
    فكلُها مِن كلامِ العربِ الدارِجِ للتعبيرِ عن الدهشةِ ونحوِها.. وربما أَحَدُ معانِيها الذِي يتبادَرُ لذِهنِي مُباشرَةً، هو: التَنَبُؤُ بما سيَقَعُ في المستقبلِ لهذا الشخص. فكأنها باللغةِ البسيطةِ واللهُ أعلَم: "سَوفَ تَهْلَكُ يا فلانُ إن لمْ تَنتَبِهْ لكذا!"..
    المهمُ أنها ليستْ للدعاءِ على أحدٍ كما يَفعلُ معظمُنا للأسفِ وقتَ الغضَب.. وإنَّما وقعُ هذا مِنهُ ﷺ نادِرًا؛ فلم يَكنْ فاحشًا ولا لعَّانًا لكنه فقط بَشرٌ..
    ثانيًا... وحتى إذا صدَر منه ﷺ دعاءٌ على مُسلمٍ غيرُ كلامِ العَربِ الدارِجِ- وتَلَفَّظَ بهِ ﷺ في لحظةِ غَضبٍ بشريةٍ حقيقيةٍ عَفَوِيةٍ كذلكَ -لأنهُ بَشرٌ يَغضبُ مثلَنا كما يَصِفُ نفسه ﷺ:
    فيكونُ ذلكَ فِي مَوضِعٍ شَرعِيٍ تربويٍ مِحوَرِيٍّ جدًا يَستَوجِبُ الغضبَ لله.
    بالإضافةِ إلى أنه ﷺ يُرَمِّمُ ويَتَقِي عاقبَةَ تلكَ الغَضبةِ البشريةِ العفويةِ بِنفْسِ الحَلٍ الوِقائِيِّ المُستدَامِ الذي فعلَه فِي قصةِ أم سليم، بِقولِه: «اللهم إني أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإنَّما أَنَا بَشَرٌ.. فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لهُ صَلاةً وزَكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِها إِلَيْكَ» فبذلك تُصِيبُ دعواتُه المنافقين وأمثالَهم فقط..

    1*مثلما قال ﷺ يومًا لإحدَى زَوجاتِهِ«قَطَع َ اللهُ يدَكِ!».
    والقصةُ كما تحكيها هي بنفسِها، أنها -رضي اللهً عنها- غَفَلَتْ عن أمرٍ عظيم استودَعَها ﷺ إياه، حيثُ كانَ ﷺ قد أحضَرَ أسيرًا لتَحبِسَهُ عندها في بيتِه، وأمرَها ألا تغفَلَ عنهُ فيهرُب.. فزارتْها صويحباتُها فانشَغَلَتْ بهِنَّ عنه فهرَب..
    كافرٌ يحاربُ دينَ اللهِ ويؤذِي المسلمين، وَأُسِرَ بعدَ معاناةِ الحَربِ، ويحبِسُونَهُ غالبًا حتى تَتِمَّ مبادلتُهُ بأسرَى مُسلمين لدَى العدوِّ، أو ربما يأخذونَ فديةً عنهُ تُرَدُّ إلَى بيتِ مالِ المسلمين..
    هذا الأسيرُ هَرَب من يَدِ المسلمين! لغفلةِ أمِّنا الفاضلةِ تلكَ عَنهُ بصويحِباتِها -رضي اللهُ عنها- فغضبَ النبيِّ ﷺ وقالَ لها: " «قطعَ اللهُ يَدَكِ»
    ولم يَقُلْها قبلَ سؤالِها والتَحَقُّقِ من السببِ أولًا وأنها غَيرُ مَعذورَةٍ فيما يَظهَرُ له...
    ثم هي زوجتُه وليستْ ابنتَه أو أطفالًا لم يَبلُغُوا الحُلُمَ بعد...
    فأين نحنُ من ذلك مع أبنائِنا....؟

    لكن -ورغمَ كلِ ذلك- حينَ عادَ ﷺ مرةً أخرَى للبيتِ -بعدما أرسل الصحابةَ في ملاحقةِ الأسيرِ ووجدوه وأعادوه- ووجدَها مُتأَثِّرةً وخائفةً من الكلمةِ التي قالها لدرجةِ أنه وَجدَها قد مَدَتْ يديْها تُقَلِّبُ فيهما بقلقٍ تَتَرَقَّبُ أيتُهما تُقطَعُ، لأنها ليسَتْ مُعتادةً على ذلك مِنهُ ﷺ -هذا أولًا- ولأنها تَعلَمُ أن دعاءَهُ مُستجابٌ..
    فبَشَّرَها ﷺ بالعهدِ والشرطِ الذي أخذَه مَعَ ربهِ فيما يَخُصُّ الدعاءَ على أحدٍ من أُمَّتِهِ.. فاطمأنَّتْ..

    فأين نحنُ مِن ذلكَ، بما نفعلُهُ مَعَ أولادِنا؟

    2*ومثالٌ آخَر لدعائه على أحدٍ في الغَضَب:
    قالتْ عَائِشَةُ: دَخَل عَلَى رسولِ الله رَجُلانِ.. فكلَّماهُ بشَيءٍ لا أَدرِي ما هُو، فأَغْضَبَاهُ -
    فلَعَنَهما وسبَّهما -(واللعنُ دعاءٌ بالطردِ من رحمة الله، وسيأتي كلامُنا عن السبِ في مَوضِعِهِ بإذنِ اللهِ)- فلمَّا خَرَجَا قالتْ له ما معناه أن هذين الرجلين قد حُرِما من الخير لا مَحالة..! فقال: «وما ذاك؟» قالت: لَعَنْتَهُما وسَبَبْتَهما! فقال ﷺ: «أوَما عَلِمْتِ ما شارَطتُّ عليه ربِّي؟ قلتُ: اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّ المسلِمين لَعَنْتُه أو سَبَبْتُه فاجْعَلْه له زَكاةً وأجْرًا»

    فالنبي ﷺ إذًا...
    - قد يجتهدُ في الحُكمِ فيَظهر له ﷺ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّة استحقاقُ أحد الناس للدعاء عليه لأنه منافقٌ مثلا، بينما هو عند الله قد لا يكون أَهْلًا لِذَلِكَ، فلأنه ﷺ لا يعلمُ الغيب يحكم بالظاهر وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر..
    - أو قد يَغضبُ عَفَوِيًّا كما يَغضَبُ البشرُ فيدعو كذلك على من لا يَستحقُ من أمَّتِه..
    - أو قد يتَفَوه بدعاءٍ من كلامٍ العربِ الدارجِ غيرِ المقصود بعينهِ كدعاء...

    فماذا فعل....؟
    أمَّنَ واحتاطَ للمؤمنين من ذلك كلِه:
    -بتفويضِ اللهِ في تحديدِ أهليةِ واستحقاقِ الشخصِ لدعائِهِ عليه من عدمِه،
    -وتقريرِ مَن هو منافقٌ أهلٌ للدعاءِ عليه فتَصيبُه دعوتُه، ومن هوغيرُ أهلٍ لذلكَ وكان مسلمًا فتكونُ لَهُ طَهُورًا وقُربَةً..
    -وقبل كل ذلك أمَّنَهُم بأن عَفَّ لسانَهُ عن تلكَ الأمور ابتداءً إلا نادرًا فهو بَشرٌ مثلُهم لكنه أكملُهم
    -ثم لو تَتَّبَعْنا مواطنَها فلن نجِدَها إلا عندَ مواطِنِ الغَضَبِ لِحَقِّ اللهِ والناسِ، لا الغَضَبِ للنفسِ أو الدنيا.. قالت عنه عائشة:"ما انتقم لنفسه قطّ إلاَّ أن تُنتَهَكَ حرماتُ الله"..

    لأنها ليستْ طبيعةَ لسانِهِ الشريفِ ولا قلبِهِ الرئيف، فقلبه لا يُبَيِّتُ رَغبِةً أبدًا في إيذاءٍ مُسلمٍ... فكيف بأهلِ بيتِه وأبنائِه....؟
    بل ويحكي عن الأنبياءِ الرحماءِ مِن قبلِه، منهم نبيٌ قد ضَرَبَهُ قومه فأدمَوه فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.."

    فأين نحن من كل ذلك مع أبنائنا قبل أن نسألَ ألم يَدْعُ النبيُّ على بعضِهم؟

    ونأتي للسؤالِ الثاني الخاصِّ بالأمِ التي دَعَتْ على أولادِها وينهشُها الخوفُ الآنَ ِمن استجابةِ اللهِ للدعاءِ، وكلما حدثَ لهم مكروهٌ أنَّبَتْ نفسَها..
    فكلُ ما عليها هو أن تتوبَ إلى اللهِ مما قالتْ وتستبدلَهُ بدعاءٍ لهم ليلَ نهارٍ، وتُشهِدُ اللهَ وتُشهِدُهُم أنها لا تَقصِدُ إيذاءَهُم، وتطلبُ منه سبحانَهُ أن يَجعلَ فَلَتَاتِ لِسانِها السابقةَ خيرًا لهم في حياتِهم وقُربَةً لَهم عندَه، وإذا حدَثَ لهم مَكروهٌ فعليها ألا تُصابَ بالوساسِ أنهُ بسببِ دعائِها عليهم، ولْتطْمَئِنَّ بربٍ توابٍ حَليمٍ رحيمٍ..

    وأخيرًا يأتي السؤالُ الثالثُ المُتَبَقِّي:
    ما الحلُ لِمَن لازالَ لسانُها يَفلِتُ؟
    والجوابُ:
    حلٌ عمليٌ مُصاغٌ في سِتِ نِقاطٍ، نَجمَعُها فِي المقالةِ القادمةِ، بعدما نحكي قصةَ جُرَيج بإذنِ الله...


    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها











    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات (2) تابع :لمن تُجاهِدُ الدعاءَ على أبنائِها ثُمَّ تَِزِلُّ


    أسماء محمد لبيب



    كان تاجرًا.. يَكسِبُ أحيانًا ويَخسَرُ أحايِين.. ففكرَ يومًا: تجارةُ البشرِ هباءٌ.. سأتاجِرُ مع الله.. وخرج من بلدِه وبنَى لنفسِه صومعةً تًعزِلُه عن الناسِ، يَصعدُ إليها بحبلٍ ثم يسحبُه خلفَه لئلا يَصعدَ إليهِ أحدٌ ويُزعِجَه..
    كان عابدًا دؤوبًا خاشعًا..
    وفي يومٍ كان يتعبدُ في مِحرابِه، أتتْ أمُه أسفلَ الصومعةِ تنادِيه.. انتظَرَتْ طويلاً وهي تَحجُبُ لَفْحَ الشمسِ بكفيها عن عينيها وهما معلقتانِ ببابِ الصومعةِ عساهُ يَنفَتِحَ، ولكن لا مجيبَ.. وضِيقُها وتألُمُها من الوَقفَةِ يزداد..
    بينما ولدُها يَسمعُ صوتها أثناء صلاتِه ويتساءَلُ: أردُ على أمي؟ أم أُكمِلُ صلاتي؟.. تردد طويلا ثم حسَمَ أمرَه واختارَ صلاتَه وتركَ أمَه تنادي.. فانصرفَتْ...
    أتتْهُ في الغَدِ مُجددًا، وتَكرَّرَ نفسُ المَشهدِ بنفسِ أنفاسِ الألَم، وانصرفَتْ بنفسِ مرارةِ وقسوةِ اللامبالاة..
    ثم يومٌ ثالثٌ...
    ويتكررُ نفسُ الخُذلانِ ثانيةً...
    لكنِ اليومَ.. لم تنصرِفْ أمُ جُرَيجٍ بخيبةِ رجائِها، بل رفعَتْ شكواها إلى اللهِ وكفَيها إلَى السماءِ بالدعاءِ عليه "اللهم لا تُمِتْهُ حتى يَرَى وُجوهَ المُومِسات"....
    وهُنَّ البغايا اللاتِي تتكسَّبْنَ مِن فِعلِ الفاحشة.. وأُمُهُ تَعرِفُ مدى تقواه وكَراهتِه حتى لرؤيةِ أهلِ الفسق والفجور، فعلمَتْ أين مَوضِعُ الألَم..
    للأسف غَلَبَتْ فطرةُ الثأرِ للنفسِ بداخلِها على فِطرة الأمومةِ فأرادتْ أن تُذِيقَهُ الألَمَ كما أذاقها إياه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    أما وَجَدتَّ يا جُرَيجَ وقتًا حتى بعد فراغك من عبادتك كي تذهَبَ لبلدِك، منذُ أولِ مرةٍ انصرفَتْ فيها أمُك مِن عِندِك لتُغِيثَها؟ ألستَ تأكلُ وتَشرَبُ وتنام؟ ألم تفكرُ في انكسارِ خاطرِها وحاجَتِها وافتقارِها إليكَ ثلاثةَ أيامٍ متوالِيات؟ بل كيف ارتحَلْتَ مِن بلدٍ فيها أمُكَ مِن الأصلِ تاركًا إياها ومُغَلِّباً عليها الخلوةَ بربِك؟ بل كيف استمَعْتَ دعاءَها عليكَ ثم لم ترتَعِدْ وتهرَعْ إلى قدمَيها تَطلُبُ الصفحَ قُربَةً لربِك؟ لعلك قلتَ لنفسِك: "كيفَ لعابِدٍ مِثلي مُنعَزِلٍ في صومعتِه أن يرَى المومسات!" فاطمأنَنْتَ؟..
    لكن يا جُرَيج... إن ربَكَ المعبودَ على كلِ شيئٍ قدير..
    ---

    في يومٍ... جاءتْ سيرةُ جُرَيجٍ بين فاسِقِين، وتكلمُوا كيفَ هِمَّتُهُ في العبادةِ وزُهدُه في الدنيا.. وكانت إحدَى بغايا بني إسرائيلَ تَستَمِعُ.. فتَحَدَّتْهُم أن تُراودَه عن نفسِهِ، وكانت شديدةَ الجَمال.. وبالفعلِ ذهبَت قُربَ صَومعتِه، وصارت تتعرَّضُ له لتفتِنَه، لكنه العابدُ الزاهدُ التقيُّ لا يُبالِي بها.. فلجأَتْ لحيلةٍ أخرى..
    مَرَّ راعٍ واستظلَّ بالصومَعة، فراودَتْهُ عن نفسِهِ وأغوَتْهُ والعياذُ بالله، وحَمَلَتْ في بطنِها ولدًا مِنه.. ثم صارتْ تمشي في الناسِ قائلةً "ابنُ جُرَيجٍ في بَطني"!!
    انتظرَ الناسُ حتى وَضَعَتْ، وذهبوا بالفؤوسِ إلى صومعةِ جُريجٍ يَبغُونَ شرًا بالفاسِقِ المنافقِ الكذابِ كما زعموا، وبدأُوا في تحطيمِها وهم يَسُبُّونَهُ وهو بداخلِها يُصَلِّي نافلتَه.. فخرج إليهم ليفهم..!
    آلآن يا جُرَيجَ خرجْتَ! أوَتَستَطِيعُ الخُروجَ مِن الصومعةِ أثناءَ صلاتِكَ يا جُرَيج! أوَحِينَ شَعُرْتَ بالخطرِ على نفسِكَ خَرَجْتَ! وخَطَرُ انكسارِ قلبِ أمكِ بثلاثِ خيباتٍ متتالياتٍ مِنكَ، ألا قيمةَ له لديك....؟
    لم يَكَدْ ينزلُ حتى أخذوه وأوثَقوه بالحبالِ وجرُّوه إلى ملكِ القريةِ ليُحاسبَه..
    من الملكُ؟ أبو البَغِيِّ ذاتِها..!
    كم مِن طوامٍّ لبني إسرائيل، فحدَّثْ ولا حَرَج.. وكيف أن الدَرسَ مُؤلِمٌ يا جُرَيج!
    وتَزاحَمَ الناسُ على الرَّكبِ في الطريقِ..
    ومن بين الحشودِ مَن؟..
    المومساتُ...!
    وحين رآهم، تذكرَ دعوةَ أمِه عليه..
    كم كنتَ تحتاجُ لهذا الدرسِ المؤلمِ يا جُرَيج..

    ولكنَّ اللهَ الرحيمَ لا يَذَرُ أولياءَه العابِدينَ المُتقِين، خاصةً بعدَ إدراكِهم أنهم كانوا خاطئين.. ابتلاه بدعوةِ أمِه لعقوقِه، ثم أنجاهُ وأظهرَ براءتَه، بكراماتِه لأوليائِه الصالحين، فأنطَقَ الرضيعَ بالحَقِّ..
    وذُهِلَ القومُ وطفِقُوا يَعتذرون إليه ويَعِدُونَهُ ببناءِ صومعةٍ جديدةٍ مِن ذهب..
    فأبى واكتفَى فقط بإعادتِهم إياها بالطِين..

    الدرسُ لنا جميعًا لا جُريجَ وحدِه وأمِه..
    لا تظنَّ أنكَ بصلاحِكَ، بَعيدٌ عن الابتلاءِ بدعوةِ أمِكَ إن عَقَقْتَها..
    ولا تظنِّي أن دعوتَكِ على ولدِكِ عِندَ خَطَئِه، تَمُرُّ بسلام..
    إلا أن يرحمَكما اللهُ..

    وليسَتِ القصةَ الوحيدةَ..
    فأُمٌ قالت لولدِها "قُصِمَ ظَهرُك".. فعادَ للبيتٍ مَحمُولًا في الجبائِر..
    وأخرَى قالت لابنتِها "سَمَّمَ اللهُ بدنَكِ وأحرَقَ دَمَكِ".. كَبُرَتْ ومَرِضَتْ بالسُكَرِ والسَرَطانِ..
    وثالثةٌ قالت لابنِها "يَنتَقِمُ اللهُ مِنكَ".. فخَرِبَ بيتُه وطَلَقَ زوجتَه وحُرِم العيش مع ابنتِه وتضاعفَتْ دُيونُه..

    كلهن استعمَلن سلاحَ الدعاءِ في لحظاتٍ كان أبناؤُهم بالفعلِ أهلًا للدعاءِ عليهم بعقوقِهم... فاستجابَ ربُك، وما رَبُكَ بظلامٍ للعبيد..
    فهل تُحِبين أن تنضمي لهؤلاء.....؟

    إذًا...
    من لازالَ لسانُها يَفلِتُ بالدعاءِ على أولادِها، فالحلُ -بعدَ الندمِ وكثرةِ الحوقلةِ وإخلاصِ القَصدِ للهِ والدعاءِ للنفسِ بالهُدَى والتُقَى والحِلمِ واللينِ مع الأولاد- هو استحضارُ وتفعيلُ سِتِ قواعِدَ، يُعِينُ بعضُها على بعض:

    1-الأولى: "فاعتبِروا يا أُولِي الأبصَار"..
    استحضارُ قصة جُرَيج وأمثالها كلَ مَرة.. وكأنَّ ولدُكِ ماثلٌ بجراحِ بَدَنِه وقَلبِه أمامَ الناسِ يقولُ "أصابَتْني دعوةُ أُمّي"..
    تُطِيقين...؟

    2-الثانية: "إنَّما فاطمةُ بِضعةٌ مِني، يُؤذِينِي ما آذاها.. ويُنْصِبُنِي ما أنْصَبَها -أي يُتعِبُنِي ما أتعَبَها"..
    فلا تؤذِي عاقِلةٌ نفسَها، بل تُرَمِّمُها بالدعاء..
    فالحلُ هنا: الاعتقادً الجازمُ كلَ مرةٍ أنكِ تَدعِينَ على عُضوٍ من جوارِحِكِ، قِطعَةٌ من نفسِكِ.. أتقولين "اللهم اكسِر لِي ذراعي المُتَوَرّمَ؟"/ أو "أعمِ لي عَينِي المُلتَهِبَةَ؟"/ أو "خُذْ اصبَعِي المُؤلِمَ؟"...
    تستطيعين الدعاءَ على قِطعةٍ مِنكِ بالذُلِ والحَرقِ والكَسرِ....؟
    كذلك أولادُكِ..
    اجتهدِي كلما استبدَّ بِكِ الغضبُ وتطايرَتْ أمامَ عينِكِ الجُمَلِ الانتقامِيةِ، أن تستبدلي صياغتَها بدعواتٍ لهم أو لنفسِكِ، حتى وإن لَفَظتِها بَغَضبٍ وغَيظٍ وصِياحٍ مُستَطِير، فلا شكَ أهونُ مِن سهامِ دعائِكِ عليهم...
    حتى تَملِكي زِمامَ نفسِكِ رُويْدًا بحولِ الله..
    فاستَبدِلِي "هَدَّكَ اللهُ!".. بـ"هداكَ اللهُ"...
    و"اللهم العَنْهُ" بـ"اللهم صَبِّرنِي"..

    قولي اللهم اهدِ قلبي الذي يُشقِينِي، واشفِ عينِي التي تُلهِبُني، واجبُر ذراعي الذي يؤلمني.. واهدِ ولدي الذي يُتعِبني... كلُهم بِضعَةٌ مِني...

    قولي أسألُ اللهَ يا بُنَيَّ يا سببَ وَجِعِ قلبِي وانكسارِ نفسِي وسيلانِ عَينِي، ألَّا يُذِيقَكَ ذلكَ مع أبنائِك، ويَجبُرَني بهدايتِك.. فكلُ أمَلي أن يَنصَلِحَ حالُ الأمةِ بكَ وبذريتكَ وأن يأجرَنِي ربي على الصبرِ الجميل..

    فأصلحي اعوِجاجَ وَلدَكِ، بالدعاءِ لَه لا عَليه..

    3-الثالثة: "أمسِكْ عليكَ لسانَك.."
    فإن لم تتمكنِي مِن تبديلِ الدعاء عليه بدعاءٍ له، فألجِمِي لسانَكِ بالصمتِ أو الذِكْر.. خاصةً الاستعاذةُ، فإنها تُعِينُكِ على الاثنتَينِ فتكونين من المُتقين: {إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰۤىِٕفࣱ مِّنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ تَذَكَّرُوا۟ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ.}كذ لكَ لأجلِ تقديمِ قدوةٍ عمليةٍ له في تلكَ القاعدةِ النبويةِ في كافَّةِ الحياةِ، وليسَ فقط كلامًا نظريًا ولدُكِ يراكِ بنفسِهِ أعجَزَ الناسِ عن تَطبيقِه...
    فجاهدي ولا تقولي لا أستطيع..
    لماذا تستطيعين إمساكَ لسانكِ عن أمكِ وزوجِكِ ومديريكِ في العملِ؟
    لأنكِ روضتِ نفسَكِ بقناعاتٍ ودوافعَ مُعَيَّنَةٍ مَنَعَتْكِ من التجاوزِ معَهم..
    وأرجو ألَّا يكونَ المانعَ عنهم فقط هو استِسهالُكِ لقَهرِ الضعيفِ واستثقالُكِ لمجابهةِ القَوِيّ، فإن رَسولَكّ قد حَرَّجَ علينا حقَّ الضعفاءِ... فراجعي قلبك..

    4-الرابعة: "إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنتَفَعُ به، وولدٍ صالحٍ يدعو له"
    -أتدعينَ بالخرابِ علَى الياسَمِينَةِ التي تَسقِينِها وتُنَمِّينَها لتَنشُرَ شَذَى أعمالِكِ الصالحةِ والدعاءِ لكِ في السماءِ والأرضِ، بعدَ انقطاعِ شذاكِ من الدنيا؟
    -أتطلبين الهلاكَ لمشروعِكِ الذِي أفنيتِ عليه صحتكِ وشبابِكِ وكل ما تملكين وادَّخَرتِه ليومٍ عَصيب،
    (( {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} ))؟
    ----

    5-الخامسة: { {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} }..
    أي: ليسَ لكَ من أمرِ النَّاسِ شيءٌ، فأمْرُهم إلى اللهِ وَحْدَه يَرحَمُ مَن يَشاءُ، ويُعذِّبُ مَن يَشاءُ.. نزلت حين كان النبيُ ﷺ يدعو على مُشركين بالاسم، في قنوتِه بالفَجر..
    فعلمَ ﷺ أنَّ اللهَ قدْ يَهْدي هؤلاءِ للإسْلامِ، وهو ما حدَثَ فعلا وأسْلَموا..
    فلا نيأسْ من هِدايةِ أحَد... بالذات، مَن لازالوا يَتَعَلمونَ الحياة..

    6-السادسة: الوقايةُ النبويةُ= "أنِّي اشترطْتُ على ربِّي..."
    والتي فصَّلناها سابقًا..

    فاشترِطِي على ربِكِ مِثلَه ﷺ،
    أن يجعلَ أيَّ دعوةٍ يَفلِتُ بها لسانُكِ على أبنائِكِ، زَكاةً لهم وقُربَةً عِندَ ربهم...
    بشرط:
    تكون فلتاتُكِ نادرةً -كفلتاتِهِ ﷺ- مع مُجاهدتِكِ لنفسِكِ فيها..
    فتلك الهدية تُرجَى ثَمَرَتُها لمن تَصُونُ لسانّها ولكنْ لازالتْ تَزِلُّ في مُقاومةِ الفَلتات، وليستْ لمن تُصِرُّ على الدعاءِ على أبنائِها وتتهاوَنُ، دونَ محاولاتٍ للتوبةِ والمراجعةِ..
    ----

    وبعدما أنهينا الممنوعَ الثانِي ومتعلقاتِه، يأتي الممنوعُ الثالثُ: "أبدًا ما شَتَمتُكَ"..
    في المقالةِ القادمةِ بإذنِ الله..





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات: (1) {واحذَرْهُم أن يَفتِنُوكَ}..
    الابتزازُ التَربَوِيُّ وعِلاجُه مِنَ القرآن



    أسماء محمد لبيب


    أولُ المَمنُوعاتِ العَشْر معنا كان:
    ((أبدًا ما عَصَيتُ اللهَ لأرضِيَك..))
    وقد قلنا في مقالةِ القواعِدِ الثامِنةِ بعنوانِ [[قوانينُ الأسرةِ]]، أن مرجعتَينا
    عندَ اتِخاذِ القرارتِ الأُسَريةِ والتَربَوِيةِ، هو حُكمُ الله..

    ومَعلومٌ أن الأهواءَ لن تترُكَ المُسلِمَ في سلامٍ مع قوانينِ ربِهِ دونَ مُنازَعَةٍ خارجيةٍ وداخليةٍ، وإلباسٍ للحقٍ بالهوَى، ومُمارسَةٍ للحِيَلِ النفسيةِ لتزيينِ الهوَى على أنهُ مُرادُ اللهِ، وتَسوِيغٍ الرضوخِ والاستسلام..
    فربما قاوَمَتِ الأمُ في البدايةِ لغَلَبَةِ خَيرِ نفسِها على شَرِها، لكن فِتنَةُ الأولادِ شديدةٌ، فما يلبث أن تَجِدَ الأمُ نفسَها وقد رَضَخَتْ وخَضَعَت لمُرادِ أبنائِها في النهايةِ بسيفِ الإلحاحِ.... وكما في المَثَلِ الشَعبِي: "الزَن على الودان أمَرّ مِن السِحر"..!
    واليومَ نُعطِيكِ كبسولةَ رُقْيَةٍ تُبطِلُ هذا السحرَ بعونِ الله، وتعينُكِ على الصمودِ أمامَه حين يَهجِم على قلبِكِ الذِي يقتاتُ على فَرحَةِ عُيونِ أبنائِكِ ومَحبَتِهم إياكِ..
    فإياكِ أن تَسْتَسْلِمِي لابتِزَازِهِمْ وتُخَالِفِي ربَكِ لتَكسِبِي وُدَّهُمْ وتُبْهِجِي قَلوبَهُم..
    فلَنْ يَنفَعَكِ يَومَ القِيامَةِ منهم إلَّا طاعَتُك للهِ فيهم { {لن تنفعَكُم أرحامُكم ولا أولادُكم.. يومَ القِيامةِ يَفصِلُ بينَكم} }.. " «وَكُلُّكُمْ رَاعٍ.. وَكُلُّكُمْ مَسؤُولٌ.» ."
    {وَأَنِ ٱحْكُم بَیْنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاۤءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن یَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَیْكَ} ...
    يقولُ ابنُ القَيِّم..:
    ((والصبيُّ وإن لَم يَكن مُكلَّفًا، فوليُّه مُكلَّفٌ.. لا يَحِلُ له تَمكينُه من المُحَرَّمِ؛ فإنه يَعتادُه، ويَعْسُرُ فِطامُهُ عَنهُ))..
    وقال الغزالِيُّ: ((الصَّبِيُّ أمانةٌ عند والدَيهِ، وقلبُهُ الطاهِرُ جوهرةٌ خاليةٌ من كل نَقشٍ وصُورة، وهو قابِلٌ لكلِ نَقشٍ، ومائِلٌ إلى كل ما يُمالُ به إليه، فإن عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَهُ =نَشَأَ عليه، فَسَعِدَ في الدنيا والآخرِةِ أبواه وكُلُ مُعَلِمٍ لَهُ ومُؤَدِّبٍ،// وإن عُوِّدَ الشَرَّ وأُهمِلَ إهمالَ البهائِمِ =شَقِيَ وهَلَكَ، وكان الوِزرُ في رقبةِ القَيِّمِ عليهِ والوالِي لَه))
    انتهى كلامُهما..
    و"الصبيُ" تُطلَقُ على المَولودِ في المَهدِ وحتى يَبلُغَ الحُلُمَ..
    واقرأوا إن شِتئم:{كيف نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهدِ ((صَبِيًّا))..}..
    ويُؤَيِّدُ كلامَهما قِصَصٌ من السُّنةِ...
    أشهَرُها: لَومُ النبيِ ﷺ على الحَسَنِ والحُسينِ في عُمُرِ سَبعِ سنواتٍ الأكلَ مِن تَمرِ الصدقةِ، وإخراجُه ﷺ للتمْرةِ من فَمِ أحدِهِما مباشَرة،ً والنَظَرُ إلى الآخَرِ نظرَةً لَومٍ ونَهيٍ في مَرةٍ أُخرَى حتى ألقاها الصغيرُ من فَمِه، مع تلقينِهما في كلِ مَرَّةٍ السبَبَ وراءَ ذلكَ وحُرمَتَه..

    ===فإن تَحَجَّجَ أبناؤكِ لفعلِ المُنكراتِ بِكونِهم صغار، فقُصِّي عليهم تلك القَصَصَ.. وأخبريهم أنهم لو اعتادوا على ذلكَ سيكبُرُ معهم إلى سِنِ التكليفِ وحينَها سيُحاسَبُون، ومَن شَبَّ على شيئٍ شابَ عليهِ ومَن عاشَ على شيئ ماتَ عليه، فلابُدَّ من التَعَوُّدِ منذُ الصِغَر..
    ===فإن هَدَّدوكِ، بفِعلِ المُنكَراتِ سِرًا وتَركِ الواجباتِ بَعيدًا عن رَقابتِكِ، وقالوا "إن لم نحصُلْ على كذا أو نشاهِدْ كذا أمامَكِ يا أمي فسنفعلُها مِن ورائِكِ في السِر"،
    ويُلِحُّونَ عَليكِ مِرارًا وتَخشَينَ أنْ يُنَفَذوا تهديدَهم..
    فيا طيبة:
    هَوِّنِي على نَفسِكِ، فاللهُ أرحمُ بِكِ مِن هذا.. فليس عليكِ من حِسابِهِم مِن شيءٍ إن حَدَثَ ذلكَ وفَعَلُوهُ خارجَ رَقَابَتِكِ ومسؤُولِيتِكِ ورُغم توجيهاتِك: { {ما عليكَ مِن حِسابِهم مِن شيءٍ وما مِن حِسابِكَ عليهِم مِن شَيئ} }..{ {كلُ امرِءٍ بِما كِسَبَ رَهِينٌ} }..
    وليكُن حِوارُكِ معَهم حينَها كالتالٍي وبِكل ثباتٍ وثِقَةٍ بالله قولي:
    -أنتم هكذا لاتهددونِي أنا بل تهددون أنفسَكُم، فرِفقًا بأنفسكم يا أولاد..
    -فحين يقول لي أحدُكُم "ألقينِي في النارِ بدلًا مِن القَفْزِ فيها بنَفسِي مِن ورائِكِ سرًا"، فَمن يُهَدِد؟!.. { {إِن يُهلِكُونَ إلا أنفسَهم وما يَشعُرُون} }..!
    -أنا لن أُسألَ عن عدمِ هَيمنتِي على سلوكِكم في السرِ فذاكَ بيدِ الرقيبِ الشهيدِ وحدَه: { {وما أرسلناك عليهم حفيظا} }..
    -فلا ذنب عليّ لو فَعلتُم الخطأَ سِرًا بذريعةِ مَنعِي إياهُ عَنكُم علنًا: { {أنْ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وأنْ لَيسَ للإنسانِ إلا ما سَعَى} }..
    -فالأمرُ يَصُبُّ مباشرةً في صحيفةِ المخطيء عمومًا لا صحيفتِي، طالما لم أُفَرِّطْ في واجبي: {ومَن يَكسِبْ إثمًا فإنما يَكسِبُهُ على نفسِه}..
    -والواجبُ الذي سأُسأَلُ عنهُ هو التسهيلاتُ التي قدمتُها لكم لفِعلِ المُنكَراتِ وتركِ الواجِبات، وعدمُ مَنعِي إياكُم مع استطاعتِي: { {إلا تفعلُوهُ تَكُنْ فِتنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ} }
    -فاللهُ يختبرُ طاعتِنا لهُ في ما وَهبَنا: { {إنا مُرسِلُو الناقَةِ فتنةً لهم فارتقبهم واصطبر} }..
    -ومِن ذلكَ أزواجُنا وأولادُنا..: {إنما أموالُكُم وأولادُكم فِتنَة}..
    -ومن يَفتِنَّا منهُم عَن مُرادِ اللهِ يكونُ عدوًا لنا تَجِبُ مُقاوَمَتُه: { {إن مِن أزواجِكم وأولادِكم عدوًا لكم فاحذَرُوهُم} }..
    -وبقدر تفريطِي فقط في أمانةِ تربيتِكم، بقَدرِ ما سأحمِلُ في صحيفَتِي { {وَلَيَحْملن أثقالَهم وأثقالًا مَعَ أثقالِهِم} }، { {وَمَنْ يَعمَلْ مِثقالَ ذَرةٍ شَرًا يَرَه} }..
    -بالتالِي، مَعِي كاملُ الحَقِ أن أصونَ صحِيفَتِي عن كلِ ذلك، فلا أحدَ يستحقُ أن أُهدِيَهُ ذرةً من حسناتي أو أحمِلَ عنهُ ذرةً مِن سيئاتِهِ، لأنَ الجَميعَ -حتى الوالدانِ الكريمانِ أحنُّ البَشَرِ علينا- سيهرُبون مِنا يَومَ القيامَةِ :{يومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أخيهِ وأمِهِ وأبيهِ وصاحبَتِهِ وبَنِيه}..
    -ولن يضمنَ بقاءَنا أحِبةً يومُها إلا "تقواناَ" في الدنيا: {الأخِلاءُ يَومَئِذٍ بعضُهم لبَعضٍ عدوٌ إلا المتقين}..

    هذا بالنسبةِ لي.
    ==والواجِبُ عليكم أنتم الذِي ستُسأَلون عنه حِينَ تَبلُغُونَ الحُلُمَ وتحتاجُون التَعودَ عليهِ مِنذ الصغر هو:
    -عدمُ ارتكابُكم لأيِّ مَعلُومٍ بالضرورةِ شَرعًا أنه مُنكَرٌ لا يُرضِي الله/ أو تفريطُكم في واجبٍ شَرعِيٍّ أو أخلاقِي/ بالذاتِ سِرًا: {يستَخْفُونَ مِنَ الناسِ ولا يَستَخفُونَ مِنَ اللهِ وهُو مَعَهُم}.. {أَتَخْشَونَهُم. . فَالله أحق أن تّخشَوهُ إن كنتم مؤمنين}..
    -فالله يختبِرُنا بالخَلَواتِ لأنها مَعقِدُ الإيمانِ برقابةِ اللهِ حَقًا: {لَيَبلُوَنكم اللهُ بشيئٍ مِنَ الصيدِ تَنالُهُ أيديكُم ورماحُكم لِيَعلَمَ اللهُ مَن يَخافُهُ بالغَيب}..
    -وَبِقَدرِ تفريطِ المرءِ في حُرُمات اللهِ سِرًا، بقَدرِ تفريطِه في حسناتِه يوم القيامة، بمجيئه يومَئذٍ ضمنَ أصحابِ الصالِحاتِ الضخمة كالجبالِ، والتي يجعلُها اللهُ هباءً منثورًا.. مَن هُم أولئِكَ يا رسولَ الله؟ =" «أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» "..

    -وما دُمتُم في مسؤوليَّتِي ورعايتِي وقِوامَتِي الماليةِ والتربويةِ وغيرِها، فهذا هو القانونُ والنظامُ المُتَبَعُ لأجل نجاتِنا جميعًا من سُوءِ العواقِبِ.. {فأعِينونِي بقُوةٍ أجعَلْ بينكم وبينهم رّدمًا}..
    -ثم حينَ يَرزُقُكم اللهُ بأموالِكُم الخاصةِ بعيدًا عن وِصايَتِي وتُصبِحونَ مسؤولينَ فيها عَنِ السؤال المُنتظَرِ لِكلِ عَبدٍ: "عن مالِهِ: مِن أين اكتسبَهُ وفِيمَ أنفقَه"،/ وعن أفعالِكُم كامِلَةً =فافعلوا حينَها ما شِئتُم واستطعتُم حَملَهُ في صحيفتِكم: { {فَمن أبصَرَ فلنفسِهِ.. ومَن عَمِيَ فعلَيها.. وما أنا عليكم بحفيظ} }..
    {فليَحذَرِ الذِين يُخالِفُونَ عن أمرِه أن تُصيبَهم فِتنةٌ أو يصيبَهم عذابٌ أليم}
    {وبَشِّرِ المُخبِتِين}...
    انتهَى نموذجُ الحوارِ والذِي -(في تلك الفترةِ وإلَى أن تَختَفِيَ تلكَ الظاهرَةُ مِن بيتِكُم بحولِ اللهِ وقوتِهِ)- ستحتاجينَ مَعه:

    1-الاستعانةَ باللهِ على الصبرِ على جِدالهِم بالتِي هي أحسن، وعلى الثباتِ أمامَ إلحاحِهم وما يُسَبِبُهُ من إنهاكٍ نَفسِيٍّ، فأكثِرِي من الحوقَلَةِ والصلاةِ على النبيِّ ﷺ والاستغفار..
    2-الاجتهادَ مُجَددًا في تقويةِ صِلَتِهم باللهِ على أساسٍ مَتينٍ مِنَ العَقِيدَةِ الصحيحةِ وأركانِ الإيمانِ السِتة، لأنهم مَفاتيحُ تأسيسِ التَقوَى ومُراقَبَةِ اللهِ ومعرفةِ قَدرِه وقَدْرِ الآخِرَةِ وحقيقةِ الدنيا والعُبودِيةِ و ما إلى ذلك..
    3-صلةً قويةً بابنكِ أركانُها الحُبُ والثِقَةُ والاحترامُ والتقديرُ والتفاهمُ والصدقُ والعُدل.
    4-قدرًا كافيًا لديكِ مِن الإصرارِ والصلابَةِ في الحَق، مُقابِلًا لقوتِهم في الإلحاحِ والعِناد، فلا َيِفلّ الحديدَ إلا الحديدُ، وصاحَبُ الحقِ أقوَى، فاثبُتِي..
    5-الإلمامَ بالدليلِ الصحيحِ -شرعًا وعَقلًا وحِسًا- على نكارَةِ هذا الفِعلِ مِنهم، حتى يَتَيقنوا أنكِ لا تتكلمينَ بهوًى كما بينَّا في القواعِدِ السابقةِ، فمن أهمِ العقائدِ التي ينبغِي أن تكونَ تأسسَت فيهم: أن مَصادِرَ أفعالِنا وقناعاتِنا نأخُذُها مِن القرآنِ والسُنة.
    6-الاجتهادَ في التعامُلِ مع هذا الأمرِ أحيانًا بشيءٍ من رُوحِ الدُعابة، وفي ذاتِ الوقتِ بحزمٍ وثَباتٍ على المبدأ، فاللينُ والرفقُ والمُمازَحَةُ واللطفُ مِن أعظمِ طُرُقِ التأثيرِ في النفوس.. { {ولو كنتَ فَظًا غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولِكَ} }..
    7-مع مشاركتِهم تدبرِ أحوالِ وعواقبِ أهلِ التفريطِ، اتعاظًا بهم: {قل سيروا في الأرضِ فانظروا كيف كان عاقبةُ المُجرمين}..
    8-والتذكيرِ دومًا عند وجودِ بوادرَ رَغبَةٍ في التفَلُّتِ مِن أحكامِ الله، بالآيتين الكريمتين: {فلعلَّكَ تارِكٌ بَعضَ مَا يُوحَى إليْكَ وَضائِقٌ بهِ صَدرُكَ}؟... { {كِتابٌ أُنزِلَ إلَيكَ فلا يَكُنْ فِي صَدرِكَ حَرَجٌ مِنهُ} }..
    9-وتذكيرِهم بقولِ إسماعيلَ لأبيهِ إبراهيم {يا أبتِ افعَلْ مَا تُؤمَرُ ستَجِدُنِي إن شاءَ اللهُ مِنَ (((الصابِرِين)))}، فطاعتُهُم في الأصل للهِ وليست للوالدين.. فليكونوا من الصابرين عليها كإسماعِيل..
    10-وأولًا وآخِرًا.. كوني القدوةُ فيما تأمرينَهم بِه: {كَبُرَ مَقتًا عندَ اللهِ أن تقولوا ما لا تفعلون}
    وكما بدأنا بابنِ القيمِ نَختِمُ بِه..
    قال: "مِن رحمةِ الأبِ بولدِه أن يُكرِهَهُ علي التأدُّبِ بالعلمِ والعَمل.. فإن أهملَ ولدَهُ كان لقِلةِ رحمتِه بِه -وإن ظنَّ أنه يرحمُه و يُرَفِّهُهُ ويُرِيحُه!.. فهذهِ رحمةٌ مقرونةٌ بجهلٍ".. انتهى كلامه..
    فاصبري وصابري ورابِطي، وأبشِرُكِ عن تجربة:
    سيلينون بين يديكِ بإذن اللهِ ولو بعدَ حِينٍ {فَإِنۡ أَسۡلَمُوا۟ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا.. وَّإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ}
    فإن كان قَلقُكِ مِن تَعَلُّقِهم أكثرَ بالأمورِ الممنوعةِ بحُجةِ أن الممنوعَ مَرغوبٌ؟ أو مِن كونهم لازالوا يرتكبونَ الخطأَ بحِجةِ عدمِ وجودِ سيئاتَ لهم بعد؟
    فالجوابُ في المقالةِ القادمةِ بإذن الله.
    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات 1 (تابع): {فأكلا مِنها}.. والمَمنوعُ مَرغُوبٌ..!


    أسماء محمد لبيب


    بَعدَ مَقالَتنا السابقةِ تتساءلُ بعضُ الأمهاتِ: أليسَ الممنوعُ مرغوبًا؟ ألن يضاعِفَ المَنعُ مِن رَغبَةِ أبنائِي في الشَيئِ الممنوع؟
    وربما يجعلُ ذلكَ السؤالَ منطقيًا ومُعتَبَرًا، سؤالٌ آخرُ مشابهُ لَه، ألا وهو: ألم تكُن الجَنةُ كلُها حلالًا هنيئًا لآدمَ وزوجِه، بخاصَّةٍ الأطعمةُ مِن كل مَا لذَّ وطاب، ورغم ذلك مالَتْ نفسُهما للشجَرةِ المَمنُوعَةِ عنهما التي نهاهُما ربهما عن الاقتراب منها.... فأكَلَا مِنها؟

    وهذا المنطقُ بالفعل هو الذي يَجعلُ بعضَ الأمهاتِ يَقُلنَ أنهُ لَيسَ صوابًا مَنعُ الاختلاطِ عن أبنائنا مُبَكّرًا بين البنينَ والبناتِ منهم، ولا تقييدُ حريتِهم عن صحبةِ من يحبون أو مطالعة ما شاؤوا من المرئياتِ والمُدخَلاتِ المتنوعة، مِن انترنتْ وتلفازٍ وأماكنَ ترفيهٍ وفنونٍ شتَّى وثقافاتٍ مختلفٌ ألوانُها، بحُجَّةِ أن هناك قاعدةً معروفةً ولابدَ مِن وضعِها في الاعتبارِ، ألا وهي أن الممنوعَ مَرغوبٌ.. فبدلًا من مَنعِ ابنهِنَّ مِن فِعلِ الشيئِ الممنوعِ أو الاقترابِ مِنهُ، يَسمَحنَ لَهُ بهِ أمامَهُن وتحتَ رَقابتِهِن كيلا يحصلَ عليه من ورائهن، لأننا شِئنا أم أبَينا هو لن يتركَه إن منعناه! -حَسْبَ كلامِهِنَّ!
    ونقولُ لهذه الطيبة.. الممنوعُ مَرغُوبٌ قاعِدةٌ أَجَل... وبالفعلِ تزدادُ الرغبةُ والافتقادُ للشيءِ حينَ نُحرَمُ مِنهُ، لكِنها -كقاعدةٍ- مَوجودةٌ كَي تدفعَنا لمقاومةِ ذلكَ "المَمنوعِ المرغوب"، وعدمِ الحصولِ عليهِ إلا وهُوَ "غيرُ مَمنوعٍ"... أي: في حلالِ الله ووُفقَ حُدودِه، بل عدمُ الاقترابِ منهُ أصلًا لأنه مَن حامَ حولَ الحِمَى يوشِكُ أن يقَعَ فيه، وقد قالَ اللهُ لآدمَ وحواء: {لا تَقْرَبَا}، فلما اقتربا أكلا. تمامًا كما لو أن القاعدةَ بها جُملةٌ محذوفةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بها تقدِيرُها: الممنوعُ مَرغوبٌ فانتبِه ولا تنساقْ وراءَ رغبتِكَ فِيهِ، أيْ: لا تَقرَبا فتأكُلا...!
    بينما ليست تلكَ القاعدةُ -قاعدةُ "الممنوعُ مَرغوبٌ"- موجودةً لكي تقنعَنا بـممارسةِ أبنائنا لهذا المَمنوعِ في العَلَن تَجَنُّبًا لممارستِه في السرِ بسببِ حَظرِه!، فنجعلُ أولادنا يباشرون "الممنوعَ" ويعتادونَ عليه تحتَ إشرافِنا، بذريعةِ عدمِ إلجائِهِم لفِعلِهِ في الخفاءِ خلفَ ظهُورِنا! حين يحدثُ هذا، فأي فَرقٍ سيكونُ في تعريفِ الفعلِ المَمنوعِ في الحالتينِ، سوى أنَّ هذا فُعِلَ سِرًا وبدونِ إشرافِنا، وهذا فُعِلَ عَلَنًا وتحتَ إشرافِنا؟؟! هل ينفي هذا عنهُ أنه لازالَ مَمنُوعًا ولا يُرضِي الله؟ هل يَعفي هذا مِن الخطأِ مَن أتاحَ ذلكَ المَمنوع؟ هل ذلك يَمنَعُ الضَرَرَ المُترتِبَ على الاقترابِ مِنه؟
    إطلاقا....
    الممنوعُ يَظلُ خَطأً، سواءٌ كان سِرًا أم علانيةً، وتظلُ لهُ عَواقِبُهُ الضارةُ على حياةِ الإنسانِ في الدنيا والآخِرة، سواءٌ ارتُكِبَ أمامَ الأهلِ أم مِنْ خَلفِهِم... بل إن ارتكابَهِ بمباركة الأهلِ أولياءِ أمورِ الأبناءِ وتحتَ سمعِهم وبصَرِهِم، بأريحيةٍ دونَ أي غضاضة يجعله أشدَّ ضررًا، لأن ذلك يُمِيتُ الإحساسَ داخل الابنِ بكونِهِ خَطئًا، فيَجعَلُ احتماليةَ إفاقةِ الأبناءِ مِنهُ يومًا ما وتصحيحِ المسار: شِبهَ مُستَحِيلَةٍ... بعكسِ الاضطرارِ لمباشرةِ الممنوعاتِ في السرِ بسببِ نَهيِ الأهلِ عنها....

    قَطعًا...!
    فكما قلنا فيالتربية?__ref=searc h"> الصوباتِ التربويةِ وفي المقالةِ السابقة:

    أبعدِي ولدَكِ عن الفِتَنِ بشكلٍ عامٍ ما استطعتِ إلى ذلكَ سبيلًا، وعنِ الصحبَةِ السيئةِ بشكلٍ خاصٍّ -سواءٌ أشخاصٌ أو مرئياتٌ أو كتبٌ أو أماكنُ أو كلُ ما ينطبِقُ عليهِ وصفُ المُصاحَبَةِ لأولادِك- لأن الجليسَ الصالحَ كحامِلِ المِسكِ، وجليسُ السوءِ كنافِخِ الكِيرِ.. ودينُنا أمَرَنا أن نَختارَالجليسَ الصالِح، وحذَّرَنا مِن مُصاحَبةِ جليسِ السوء، مِن بابِ الوِقايةِ والحِفظِ لدينِنا وعاقِبَتِنا..
    وبالتأكيد أولادنا أولى بذلك..

    أي نعم لن نَضَعَ أبناءَنا في بيئةٍ مُعَقَّمةٍ ومدينةٍ فاضلةٍ مائةٌ بالمائة! -لأن البيئةَ مهما فَعلْنا مَليئةٌ بالمُدخَلاتِ المُنكَرةِ والفِتنِ على أشكالِها ظاهرةً وباطنة ونُرَبِّي أبناءَنا دومًا على التشمِيرِ والتَرَبُصِ لها والحَذرِ مِنها لتلافِيها، وعلى التوبةِ إذا وقَعوا في أيٍّ مِنها، وعلى التقوَى في السرِ والعلنِ للوقايةِ مِنها، فحِواراتُ الفِتَنِ إذًا ليسَت بعيدةً عن مسارِهم الحياتِيِّ فلسنا فِي بروجٍ مُشَيِّدَة.. لكن أن أضعَ وَلدِي بنفسِي في بيئةِ فِتنٍ، وأقولُ له "قاوِم"! "امتَنِع"..! "إياكَ أن تقترِب"!، وكل هذا وهو أصلًا لازالَ في طَورِ النموِ الانفعاليِّ والنفسِيِّ والإيمانِيِّ فلَم يَنضِجْ بعدُ ويَبلُغْ أشدَّهُ ورُشدَهُ وامتلاكَهُ لزِمامِ نفسِه...؟!
    النبي ﷺ أمرنا أصلا ألا نتمنى لقاءَ العدوِ، قال: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ..وَاِ سْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةِ»
    (رواه مسلم)

    قال المناوِيُّ في شَرحِ الحديثِ: "لا نَتَمَنَّى لقاءَ العَدُوِ، لِما في ذلكَ مِن صورةِ الوُثوقِ بالقُوةِ، وقِلةِ الاكتراثِ به، وهذا مُخالِفٌ للاحتياطِ" –بتصرف
    وليس ذلك إلا لأن الثباتَ أمامَ الفِتَنِ شديدٌ حتى على أقوى الأقوياءِ إيمانًا وبُنيانًا، فكيفَ لعاقلٍ أن يطلُبَ الفتنةَ بنفسِهِ ويسعَى لها سَعيَها أو مجرد حتى يفتحَ لها البابَ استسلامًا لها وينتظرُ قدومَها على أبنائِه، بزَعمِ أن منَعَها يَجعَلُ نفوسَ أبنائِه تَتُوقُ وتميلُ لها أكثر!؟

    إن هذا أشبهُ بِمَن يقولُ: "سأعطي ابني بَعضًا مِن المُخَدِّراتِ حتى لا يَضطَرَّ للتَخَفِّي بتَجَرُّعِها سِرًا دُونَ إشرافِي"!..
    صَدَمَكُم المِثالُ....؟!
    وهل فَتْحُ بابِ المُدخَلاتِ على مِصراعَيهِ أمامَ حواسِّ أبنائِنا وقلوبهم، أقَلُ فَتكًا بالعَقلِ والفِطرَة والقِيَمِ، من المُخَدِرات....؟!
    ألم نَعلَم تحذيرَ النبي صلى الله عليه وسلم مِن مُجَرَّدِ مُوارَبَةِ البابِ بإرادتِنا الحُرةِ ولو شِبرًا حتى، قال: «ويْلَكَ ! لا تفتحْه، فإنَّك إنْ تَفْتَحْه تَلِجْهُ»(جامع الترمذي) فكيفَ بمناعةِ مَن هُم أضعفُ وأصغرُ وأقلُ رُشدًا ومقاومةً مِنا أمامَ الفِتَنِ والشهواتِ: فلذاتُ أكبادِنا؟
    ثم إنه ﷺ أمَرَ الرجالَ بسَترِ العوَراتِ وغضِ البَصَرِ، وأمرَ النساءَ بالحجابِ وسَترِ زينتِهِم وغَضِ البَصَر، كلُ ذلكَ من بابِ الوقايةِ والاحتياطِ مِن فِتنةِ "المَمنوعِ"، لأن الوقايةَ مِنَ المَمنوعِ خَيرٌ من علاجِ آثارِ الوقوعِ فيه..... بلا شك..!

    ويأتي سؤالٌ: هل بتلكَ التنبيهاتِ النبويةِ قد عَقَّمَ النبيُ ﷺ المُجتَمَعَ مثلًا؟
    إطلاقًا..
    إنما هي مجردُ إجراءاتٍ وِقائيةٍ لن تمنعَ الفِتَنَ تمامًا، لكنها تُقَلِّلُ مِن شِدَتِها وعدَدِها وانتشارِها بلا شك وهذا هو مَعنَى الوِقاية من المشكلة.. مع تأكيدِه ﷺ دائمًا على الثباتِ والمقاومةِ ومُجاهَدَةِ النفس عند الفِتَنِ، فكما في بقيةِ حديثِ لقاءِ العَدُوِّ «فإذا لقِيتُموهُ فاثبُتُوا» وهذا هو معنى العلاجُ إذا وَقَعَتِ المشكلة...

    خِتامًا...
    لا أضعُ ابنِي في بيئةِ فِتَنٍ وأقولُ: فرصةٌ كي يتعلمَ ويُصبِحَ مِن ذَوِي الخِبرَةِ وراجِعي مقالةَ الصوباتِ التربويةِ في القواعد،
    لكن أُعَلِمُه كيف يُقاوِمُ إذا دَفَعَتْهُ أقدارُ اللهِ للتواجُدِ في بيئةِ الفِتَن.. ولا يستويان قطعا...حتى إذا اشتدَّ عُودُه وَوُضِعَ في بيئةِ الفتنِ بقدَرِ اللهِ وطبيعةِ الحياةِ لا بإرادَتِي أنا: يكون قادرًا على المقاومةِ والاستمساكِ بالصلاح بحول اللهِ وقوتِه.. وواجب عليَّ قطعا ما استَطَعْتُ، انتِشاُلُهُ مِن أيِّ بيئةِ فِتنٍ يَقَعُ فيها..

    يتبقى سؤال: ماذا لو قال لي ولدي "لازلتُ صغيرًا يا أمي وليس لي سيئاتُ بعدُ!" فيرتكب الخطأ بتلك الحجة..
    فماذا أفعلُ....؟ والجواب في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..


    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها














    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات1 (تابع): لازلتُ صغيرًا وليس لي سيئاتُ بعدُ


    أسماء محمد لبيب


    مَاذَا أَفعَلُ لَو قالَ لي ولدي: "لازلتُ صغيرًا أُمي! وليسَ لِي سيئاتُ بَعدُ!" ويَرتَكِبُ الخطأَ بتلكَ الحُجة..؟ أنا أهددُه بمثلِ ذلكَ ليَرتَدِع.. فأقولُ: "لو كذَبتَ ستدخلُ النارَ فِي الآخرة.. أو إن لم تسمعْ كلامي فاللهُ سيعاقِبُك ويَغضَبُ عليكَ في الدنيا.. أو اللهُ لا يحبُكَ لأنكَ فعلتَ كذا..".. ابنتي تضرب إخوتَها وتأخُذُ أغراضَهم مُطمَئِنَّةً أن اللهَ يحبُها مهما أخطأَتْ ولن يحاسِبَها لأنها طفلة.. كيف أجعلُهم يَتَوقفون عن الخطأِ إن لم يكنْ ثَمةَ تَرهيبٌ هكذا بالعقابِ الإلَهيِّ لهم بَعد؟

    والجوابُ: لا يجوزُ حبيبتي أن نُخبِرَ الأطفالَ دون التكليفِ، أيًّا مِن ذلكَ إن أخطأوا..

    أولًا: لأن هذا كذِبٌ صَرِيحٌ، إذ أن اللهَ قد رفعَ عنهم القلمَ بالفعلِ قبلَ البلوغِ، فلا حسابَ ولا نارَ ولا مؤاخّذّةَ لِمَن هم لازلُوا في طَورِ النُمُو العَقلِيِّ والنفسِيِّ والمَعرِفيِّ.. ليس هناك سِوى حسناتُ أعمالِهم فقط تُكتَبُ لهم مِن ربٍ شكورٍ رحيم، تشجيعًا لهم..

    ثانيًا: لأن كلامَكِ هذا يَغرِسُ في قلوبِهم الرقيقةِ شُعُورًا سَلبيًا تجاه الرحمن، في مرحلةٍ نحنُ فيها أحوَجُ ما نكونُ لغَرسِ مَحَبةِ اللهِ لهم، ومحبتِهم إياهُ بالمُقابِلِ مَحبةً تَرسُخُ لآخِرِ العُمُر.. وحتى لو كان ابنُكِ بالغَ الحُلُمِ، فلا يجوزُ كذلك إخبارُه بتلكَ الجُمَلِ، لأن هذا يُعتَبَرُ تأليًا على اللهِ، أي: افتراضُ إرادةٍ مُعينةٍ للهِ في أَمرٍ ليسَ لنا فِيهِ من اللهِ بُرهان.. وقد يُعَرضِكِ أنتِ إلى حبوطِ عملِكِ ودخولِ النارِ والعياذُ بالله، «قال رجلٌ: واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللَّهَ تَعالَى قالَ: مَن ذا الذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ!، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» (رواه مسلم) وفي رواية: «أن الله قال لذلك الحالِفِ: أكنتَ بي عالماً؟!، أو كنتَ على ما في يَدي قادرًا؟! وقال: اذهبوا به إلى النار»(أخرجه أبو داود)، بالإضافةِ إلَى كَونِهِ مُيئسًا للعبدِ مِن رحمةِ ربِهِ لِما في الكلامِ مِن حَسْمٍ قاطِعٍ للأمل..

    فاحذري حبيبتي.. فالنيةُ الصالحةُ لا تصلِحُ العملَ الفاسِد.. وهو إفسادٌ مِن حيثُ تريدين إصلاحًا.. وبالنسبةِ لسؤالِك، فأجيبُكِ في خمسةِ محاورَ على هيئةِ حوارٍ معَ ولدِك:

    أولًا بُني: قد جعلَ اللهُ الطفولةَ مرحلةَ تمرينٍ طويلٍ يَسبِقُ التكليفَ، لأن الإنسانَ يحتاجُ لفترةٍ ممتدةٍ تتسعُ للتجربةِ والخطأِ واختبارِ تفاعلاتهِ مع الحياةِ وفَهْمِ أحوالِها المُختلفَةِ والتَعَرضِ للتقويمِ المستمرِّ لمعارِفِهِ وسلوكياتِه، كي يَرسُخَ في طبائِعِه وطريقَتِه في الحياةِ تَراكُمِيًا: الميلُ للخيرِ والبُعدُ عن الشرِ.. حتى إذا بلغَ الحُلُمَ، كان مُتَمَرِّسًا كفايةً ومُؤَهَّلًا لأداءِ رسالتِه العظيمةِ التي أُعِدَّ لها طوالَ طفولتِهِ وسيبدأُ حسابُه عليها الآن.. لهذا احتاجَ لطولِ مَرحلةِ الطفولةِ ولرفعِ القلمِ عنه فيها..
    لا ليتمادَى في الخطأِ قائلًا قولَ اليهودِ والنصارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة:18]، بعكسِ بقيةِ المخلوقات: يكبرونَ وينتقلونَ بسرعةٍ من طَورِ الطفولةِ إلى طورِ النُضجِ والبلوغ، لأن ليس لهم رسالةُ إبلاغٍ للحقٍ وتَعميرٍ للحياةِ بهِ كبَنِي آدَم، بل خُلِقُوا لغرضٍ آخر: أن يكونوا مُسَخَّرِينَ لهذا الإنسانِ في غذائِهِ وركوبِهِ ومعاشِهِ الذِين يستعينُ بهم على رسالتِه تلك، فلذلك يَكبُرون سريعًا...
    فهذا الفرقُ العَظِيمُ يَجعلُنا نَجتَنِبُ إهمالَ التَجَهُّزِ لرسالتِنا تلكَ.. خوفًا من إفسادِنا الأرضَ حين نبلُغَ، ومِن عِقابِ اللهِ على ذلكَ حينَها..
    ربنا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، والتَزكِيةُ تحتاجُ لفترةِ تَدريبٍ مُكثَّفٍ، حتى إذا بَلَغَ الصغيرُ باستقامَةِ العُودِ دَهرًا طَوِيلًا، لم يُعْوَجَّ وينحَرِفْ، وسَهُلُ عليهِ تفادِي الأخطاءِ عندَ التكليفِ بإذنِ اللهِ، لأنَ الخطأَ يومئذٍ ما عادَ مرفوعٌ عنهُ القَلَم، بل قد يُضاعِفُ اللهُ عليهِ العُقوبةَ أحيانًا حسبَ الأحوالِ الشرعية.. وَصَدَقَ القائِلُ: "ويَنشَأَ ناشِيءُ الفِتيانِ علَى ما عَوَّدَاه عليه أبواه"...


    ثانيًا: كيفَ تقولُ هذا وأنتَ تريدُ مكانًا معَ طائفةِ "شابٍ نشأَ في طاعةِ اللهِ" ضمنَ السبعةِ الذينَ سيُظِلُّهم عرشُ الرحمنِ يومَ تدنُو الشمسُ من الرؤوس؟ فما طاعةُ اللهِ إلا فِعلُ أوامرِه واجتنابُ نواهِيه!؟ وما النشأةُ فيها إلا بالمواظبةِ والتدرُّبِ على ذلكَ بكلِ طاقتِنا؟

    ثالثًا: أمَرَنا نبيُّنا ﷺ أن نُمَرّنَ الأطفالَ على الصلاةِ عندَ سَبعِ سنينَ، وأنَّ مَن يرفُضُها نَضرِبُه عِندَ عَشْرِ سنين ليَزدِجِرَ ويُقَوَّمَ.. وكذلكَ قالَ التابِعُونَ أن آباءَهم مِن الصحابةِ كانوا يَضرِبونَهم على العَهدِ والأيمانِ وهم صِغار، أي يُؤَدِبُونَهم بالضربِ لو رأَوا منهم تَساهُلاً في الحَلِفِ باللهِ والعُهود، ولم يَمنَعْهُمُ النبيَّ ﷺ مِن ذلكَ بَل وَضَعَ ضوابِطَ شرعيةً للضربِ.. أليسَ ذُو العَشرِ سنواتٍ بُنَيَّ -وأصغرُ مِنهُ- لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ بَعدُ؟ فلِماذَا يُعاقَبُون؟ الجوابُ: نَعَم، الصغيرُ غيرُ مُكَلَّفٍ، لكنهُ يُضرَبُ تأدِيبًا ورَدعًا عن الخطأِ، لأننا لو سلَّمناهُ للبُلوغِ وهو تاركٌ للصلاة أو مُستَهِينٌ بأوامرِ الله، سيستمرُ غالبًا على تلكَ الاستهانةِ بها وبغيرِها ويصيرُ مِن أهلِ الانحرافِ عن الصراطِ المستقيمِ والعياذُ بالله.. فهل ضربُه على ذلكَ قبلَ التكليفِ وتقوِيمُ اعوجاجِهِ وهو لازالَ عُودًا أخضَرَ لَينًا، أهوَنُ؟ أم ألمُ النارِ في الآخِرَةِ إذا ماتَ على ذلكَ في البلوغِ؟ وليسَ كُلُ التأديبِ ضَربًا فقط بالطبع.. ولكن لماذَا تُعَرِّضُ نفسَكَ لأيٍّ منها بُنَيَّ وتُحزِنُنِي وتُحزِنُ نفسَك؟
    أنا مطلوبٌ مِني أمامَ اللهِ، تَعليمُكُمُ الحقَّ وتَطوِيعُكم عليهِ حتى البلوغ، وعند ارتكابِ الخطأِ فواجِبِي تحذيرُكم منه وتأديبُكم عليهِ وردعُكم عنه بكلِ وسيلةٍ شرعيةٍ محمودةٍ ومُعتَبَرَةٍ كما فعلَ الصحابةُ تلاميذ النبي ﷺ، إلى أن أطمَئنَّ أنكم ارتدَعتُم، أو أني قد بلَغْتُ مِنَ الوُسعِ أقصاهُ أمامَ رَبِي وإن لم تَرتَدِعُوا... أيُهما أقربُ..

    رابعًا: ليست كُلِ أخطاءِ الطفولَةِ بلا حسابٍ ولا عقوبة.. بمعنى: لو أنكَ سرَقْتَ شيئًا مِن أخيكَ مثلًا والعياذُ بالله وتَعلَمُ خَطأَ هذا، فأجَلَ! لن تَكتُبَها الملائكةُ في صحيفتِكَ بَعدُ، وليسَ مِن حقِّ القاضِي كذلكَ أن يَقطَعَ يَدَكَ كعقوبةٍ جِنائِيةٍ بحَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ، لأنكَ لستَ مَسؤُولًا بعد مسؤوليةً جِنائِيةً، لكن معّ ذلكَ فمِن حَقِّي كَوَلِيِّ أمرِكَ أن أعاقِبَكَ عقوبةً تأديبيةً رادعةً طالما تَخَطَّيْتَ السبعَ سنوات، بخاصةٍ لو كان الأمرُ مُتصلًا بحقوقِ الآخرين، كالضربِ مثلًا وشهادةِ الزورِ وخيانةِ السرِ والسبِ والغِيبةِ والسخريةِ من الآخرينَ وترويعِهم وإخفاءِ أغراضِهم وعدمِ احترامِهِم، لن أتركَكَ تفعلُها وأقفُ مُتَفَرِّجَةً، تمامًا كما لن أتركَكَ لو رأيتُك تُؤذِي نفسَكَ.. ولا يعنِي هذا أن أتركَكَ تُخطِيءَ إن كنتَ أقلَّ مِن سَبعِ سنوات.. فللوالدينِ تأديبُ أولادِهما وعقابُهما عند الحاجةِ طالما يعقِلونَ العقابَ ويَردَعُهُم..

    خامِسًا بُنَي: إن ربَنا الكريمَ الطيبَ المُحسِنَ الرحيمَ قد جَعلَ لَكَ على الطاعاتِ والخيراتِ حسناتٍ تُسَجَّلُ فِي صحيفَتِكَ وأنتَ بَعدُ لازِلتَ طِفلًا لا تَعقِلُ كثيرًا مِنها.. ألا يَستَحِقُّ منكَ أن تَترُكَ الأعمالَ السيئةَ والشَرَّ الذِي لا يُحبُهُ ونَفَّرَكَ مِنْهُ؟
    قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فجديرٌ بِنا ذلكَ بُنَيّ، شُكرًا للِه الكريمِ وتَحَبُّبًا وتَعَبُّدًا لهُ بِكلِ جميلٍ، فخيرُه ليلَ نهارَ إلينا نازِلٌ، أفيكونُ شَرُّنا ليلَ نهارَ إليهِ صاعِدٌ..؟ هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانِ بُنَيّ؟

    وهكذا أيتُها الكريمةُ، تَحُلِّينَ المُعضِلَةَ، وتتجنَّبِينَ التألِّي على اللهِ والكذِبَ، ويفهَمُ ولدُكِ أنه إن لم يَكُن هناكَ عِقابٌ إلهيٌّ فهناكَ عقابٌ بَشَرِيٌّ أباحَهُ اللهُ لرَدعِ الأطفالِ دونَ البلوغِ لتعويدِهم الخيرَ وتَرْكَ الشَرِ، وكَفِّ أذاهم عن الناسِ وأنفسِهم.. مع العِلمِ -وكما قال الدكتورُ عبدُ القادِرِ عُودَه في كتابِهِ "التشريعُ الجنائيُّ الإسلاميُّ مُقارَنًا بالقانونِ الوَضعِيِّ"- أنه: "لم تُحَددِ الشريعةُ نوعَ العقوباتِ التأديبيةِ التي يُمكنُ توقيعُها على الصِبيان، وتركتْ لولِيِّ الأمرِ تحديدَها على الوَجهِ الذِي يترَاءَى له، ومِنَ المُسَلَّمِ بهِ لَدَى الفقهاءِ أن التوبيخَ والضربَ مِن العقوباتِ التأديبيةِ.. وتركُ تحديدِ العُقوباتِ التأديبيةِ لولِيِّ الأمرِ يُمَكِّنُ مِن اختيارِ العقوبةِ المُلائِمَةِ للصَّبِيِّ في كلِ زمانٍ ومكانٍ، فيجوزُ لولِيِّ الأمرِ أن يُعاقِبَ بالضربِ أو التوبيخِ، إلى غَيرِ ذلكَ من الوسائلِ التي تؤدِي إلى تأديبِ الصبيِّ وتهذيبِه" انتهّى كلامُه باختصارٍ يَسِير..

    فسُبُلُ العِقابِ والتأديبِ مُتَنَوِّعَةٌ مُتَدَرِّجَةٌ ولها ضوابطُ وشروطٌ وموانعُ نُفَصِّلُها لاحقًا بإذن الله.. وبعدَما أنهينا مُتَعَلِّقاتِ المَمنوعِ الأولَ مِن الممنوعاتِ العَشرِ "أبدًا ما عَصَيتُ اللهَ لأُرضِيَكَ"، ننتقلُ للممنوعِ الثانِي: "أبدًا ما دَعَوتُ عليكَ"..
    في المقالةِ القادمةِ بإذنِ الله.

    أسماء محمد لبيب
    أمةالله-عفا الله عنها



















    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات3: أبدًا ما شتمتُك.. "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان"


    أسماء محمد لبيب


    سألتني إحدى الأمهاتِ قائلةً:
    - أنا أشتمُ ابني كثيرًا.. ولا أستطيعُ التوقفَ.. هلا أنقذتِني بحل...؟!
    وتساءلْتُ..

    كيف تريدين أن يكونَ ولدُكِ مهذبًا ولا يشتُمُ ولا يَفحُشُ في القولِ، وأنتِ غالِبُ أسلوبِكِ معه هو الشتْمُ والتهكُمُ والتحقيرُ والنَبزُ بالألقاب؟
    نسمعُ أمهاتٍ تقولُ لولدِها غَضبًا: يا تَيْس ألا تنظر أمامك! يا غَبِي كسرت الكوب! أين الورقةُ يا كلب؟ هل ستسمَعُ الكلامَ أم ستشلُني كعادتك يا عملي الأسوَد! ألديكَ مخٌ مثلَنا أم أن تحتَ فروة الخروفِ هذِهِ قَديدٌ مُنتَهي الصلاحية! مالكَ تُشبِهُ البقرةَ العَرجاءَ في مِشيتِك! لماذا تتباطأُ يا بارد لعنكَ اللهُ!..
    أيُعقَلُ أن هذه أمٌ وهذا فَلذَةُ كبِدِها؟
    تلعنه وتسبه وتدعو عليه لأنه مثلًا تباطأ عنها...؟
    ألم تعلم أن أم الدرداء سمعت الخليفة عبد الملك بن مروان يوما يلعن خادمه حين تباطأ عليه بعدما ناداه، فوعظته وحذرته قائلة له: أن أبا الدرداء أخبرها أن النبي ﷺ قال: " «لاَ يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "..؟
    فكيف لو كان لعانًا...؟ وكيف لو كان الملعونُ ابنًا من صلبِه وليس خادمًا....؟
    أنَسِيَتِ أن سِبابَ المسلمِ فُسوق؟
    أما علمتِ أن أطفالَ المسلمين ليسوا كلابًا ولا حميرَ ولا أبقارَ ولا حيواناتٍ، فالشرعُ نهى عن السِبابِ بأسماءِ الحيواناتِ وألفاظ التحقيرِ وكلِ فُحشٍ مِن القَول؟
    أما علمتِ أن للمسلمِ حُرمةً وأنها بذلكَ تنتهِكُها، وقد قال الله:
    {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ،
    وقال رسوله ﷺ: " «كلُ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه، ومالُه، وعِرضُه» "؟
    وأحيانا نجد أمهات يشتمن من باب المزاح. كأن تقول لابنها مثلا: رأيتَ الحِمارَ الذي يقودُ تلكَ السيارة؟!.. رأيتَ البهائمَ التي تذِيعُ النشرة؟

    ==ألم تعلمي أن اليهودَ تطاولوا على النبيِ ﷺ في الكلامِ وقالُوا "السَّامُ عليكَ" بدلًا من "السلامُ عليك" -(والسام تعني الموت، فيَظهر كلامُهم وكأنما سقطَتْ منهم اللامُ من السرعةِ فقط، بينما هم لخبثِهم يقصدون المواربةَ بالدعاءِ عليهِ والاستهزاءَ به ﷺ..
    ألم تعلمي أنهم فعلوا ذلك ولم يَرُدَّ عليهم بفُحشٍ مُقابِل، واكتفَى برَدِّ الدعاءِ عليهم بالمِثلِ فأدَّبَهم بشرفٍ ومروءةٍ ﷺ فقال "وعليكم".. فقط..
    ولم ينتهوا...
    كرروها.. فغضبتْ عائشةُ وأجابتْهم: "بل السامُ عليكم وغَضَبُ اللهِ!، إخوانَ القرَدَةِ والخنازِير!، أتُحَيُّونَ رسولَ اللهِ ﷺ بما لم يُحَيِّهِ به اللهُ!؟"
    فنهاها ﷺ ووصفَ ما فعلَتْه بأنَّهُ فُحشٌ مِن القول!
    مع أن مِن حقِ المُسلمِ أن يَرُدَّ السِبابَ بالمِثلِ لو تَعَجَّلَ تحصيلَ حقِهِ في الدنيا قبل الآخرة، لكن دون تجاوزٍ للحدِ أو الضوابطِ الشرعيةِ...
    ومع ذلك، لم يرضَ ﷺ بذلك لنفسه..

    قال لها:
    "مَه..! إن اللهَ لا يُحِبُّ الفُحشَ ولا التفحشَ.. قالوا قولًا فرددناهُ عليهم.. فلمْ يَضُرُّنا شيءٌ، ولَزمَهُم إلَى يومِ القيامة"...

    فتأملي كيف أن السِبابَ واللعنَ بأسماءِ الحيواناتِ ولو كان دِفاعًا عنه ﷺ ضدَ أعداءِ اللهِ اليهودِ، فُحشٌ فِي القول لا يحبه ﷺ..!

    ثم نأتي نحن فنشتمُ أبناءَنا ليلَ نهارَ دون عذرٍ شرعيٍ مقبولٍ، أو نشتم مزاحًا، ونراه أمرًا عادِيا، ولا نرى له وَزنًا لا في يومَ الحسابِ ولا في الدنيا في نفسيتِهم وسلوكهم ومسارِ حياتِهم...؟

    =وموقفٌ نبويٌ آخرُ حينَ دخلَ عليه ﷺ رجلٌ معروفٌ بفُحشِ قولِه، فلم يستقبلْهُ النبيُ ﷺ بفُحشٍ مِن القولِ ابتداءً، إنما ألانَ له الكلامَ.. مع أن الرجلَ لا يستحقُ الكلامَ اللينَ، بل قد قال عنه ﷺ قبل أن يأذنَ له في الدخول: "بئسَ أخو العشيرة!".. وقال عنه بعد خروجِهِ مِن عِندِه: "إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ -أوْ ودَعَهُ النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.. وفي رواية: اتِّقَاءَ شَرِّهِ"..
    فتعجبتْ عائشةُ! فسألتْه، فقالَ لها ﷺ كلمة تُكتَبُ بماءِ الذهبِ:
    "يا عائشةُ! متى عهدتِني فَحَّاشًا؟"...
    أيْ: متى علمْتِ عنِي أني سأقابلُ فُحشَهُ المعروفُ بِه، بفُحشٍ في القولِ مقابِلٍ؟

    =فالنبيُ ﷺ يعلمُنا أن الفُحشَ والبذاءةَ والسِبابَ من مسلمٍ لمسلٍم كله مذمومٌ وليس من أخلاق المسلمين، لا ابتداءً ولا تعقيبًا..
    =بل ويعملنا حتى أن نتفادَى سماعَ فُحشِ الفحَّاشين ونقطعَ عليه طريقَ الانطلاق، بالمدارةِ في الكلامِ دونَ مُداهنَةٍ في دينِ الله، إغلاقًا لحِمَمِهِم البركانيةِ القبيحةِ كيلا تتأججَ وتُسممَ الآذانَ والأبدانَ..
    فيعملُنا ﷺ كيف نتجنَبُ القبائحَ بألسنتِنا، وآذانِنا كذلك..!
    ثم نأتِي نحن ونَقرَعُ آذانَ أبنائِنا ليلَ ليلَ نهارَ بالسِبابِ والنَبْزِ دونَ أيةِ غضاضة؟
    ----

    وكما رأينا، الكلامُ هنا يتقاربُ مع كلامِنا حولَ الدعاءِ على أبنائِنا في المقالاتِ السابقة، من حيثُ النهيِ عنهما وأن الإكثارِ من كليهما يَنسِفُ شعورَ الأبناءِ بالأمان..
    لكن "السَبُ" يتمايزُ عن "الدعاءِ عليهم"، بفوارقَ مُخيفةٌ، فهو ليس فقط ساحِقٌ للأمانِ النفسِيِّ والترابطِ الأسريِّ بقسوةٍ لما فيه مِن إهانةٍ وتحقيرٍ يجلبانِ شعورًا بالدونيةِ ويورِثانِ نَدَباتٍ نفسيةٍ عميقةِ الأثَرِ في شخصيتِهم وسلوكِهم، إنما كذلكَ يلحَقُ فاعلَه مِن الإثمِ والمَذَمَّاتِ ما يُشَيِّبُ..

    ولكي ندركَ خطورةَ الأمرِ، نبدأُ أولًا بتعريفِه..
    ففي الحديث: "ليس المؤمنُ بالطعانِ ولا اللعانِ ولا الفاحش ولا البذيء.."

    فما الفرقُ بين اللَّعّانِ والطعَانِ والسبَّابِ والفاحِشِ والبَذِيء؟
    الطعَانُ هو الَّذي يَقَعُ في النَّاسِ ويَعيبُهم في أعْراضِهم ويَغتابُهم..
    اللعانُ هو الذِي يُكثِرَ لعْنَ النَّاسِ وسَبَّهم والدُّعاءَ عليهم بالطَّرْدِ مِن رحْمةِ اللهِ..
    والسبُّ هو الشتمُ والإهانةُ بكلامٍ جارحٍ..
    والفاحشُ هو الشتامُ للناسِ، المتجاوزُ للحدِّ في السبِّ بمبالغةٍ وشناعَةٍ وقُبحٍ عظيمٍ..
    والبَذِيءُ هو الذي كلامُه قبيحٌ وفاحِشٌ وإن كان صِدقا.. يُعبرُ عن الأمورِ المُستَقبَحَةِ بالعباراتِ الصريحةِ.. يتلفَّظُ بالكلامِ الذي يَقبُحُ ذِكرُه ويُستحيَى منه..*1

    هي إذًا ألفاظٌ ذاتُ معانٍ متقاربةٍ تشملُ السوءَ في القولِ أو الفِعل..

    فكيف حَذَّرَ الإسلامُ منها؟ وما عواقبُها التي تُشَيِّبُ...؟

    -قال تعالى: {ولا تنابزوا بالألقابِ بئسَ الاسمُ الفسوقُ بعد الإيمان}
    -وقال النبي ﷺ: سباب المسلم ((فسوق))..
    والفسوق: هو الخروجُ عن طاعةِ الله ورسولِه ﷺ، وهو في عُرفِ الشرعِ ((أشدُّ)) من مجرد العصيان، كما في شرحِ الحديثِ في الدُرَرِ السَّنِية*4

    -والسِبابُ من الأعمالِ التي تؤدي إلى إفلاسِ العبدِ يومَ القيامة؛ فقد قال النبيُ ﷺ:
    "أتدرون ما المُفلِسُ؟ قالوا: المفلسُ فينا من لا دِرهمَ له ولا مَتاع، فقال: إن المُفلِسَ من أُمتي يأتي يوم القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتِي قد شتَم هذا، وقَذفَ هذا، وأكل مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه، وهذا مِن حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليه، أُخِذَ مِن خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار))..
    فمن أسباب الإفلاسِ "الشتمُ"*2

    -وقال عبدُ الله بن مسعود: (ألأَمُ خُلُقِ المؤمنِ الفُحشُ)
    -ورأى أبو الدرداءِ امرأةً سليطةَ اللسانِ، فقال: لو كانت خرساءَ، كان خيرًا لها...
    -وفي الشرعِ، فإن تشبيهَ المسلمِ لأخيهِ بالكلبِ والحمارِ يستحقُ به المرءُ التأديبَ والتعزيرَ عند الجمهورِ: المالكيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ ومتأخرِي الحنفية*3..
    - فكيف بمن جمعّ كثرةَ السبِ مع الدعاءِ على الناسِ ليلَ نهار....؟
    ومعنى اللعنُ كما ذكرنا في التعريفات: السبُ والدعاءُ بسوءٍ على الآخرين، ويُطلَقُ أحيانًا على الدعاءِ عليهم فقط أو السب والشتم فقط..
    فإن الإكثارَ منه يورِثُ الإثمَ والنارَ، كما قال ﷺ في حديثِ النساءِ من أنهن أكثرُ أهلِ النار، فلما سُئِلَ لماذا، قال ﷺ: "تُكثِرنَ اللعنَ وتكفُرنَ العشيرَ"؟...
    ولا شك أن كثرةَ اللعنِ تكونُ بسببِ التغافلِ عن جوانبِ الخيرِ في الشخصِ الذي نشكو منه، مما يورثُ كفرانَ نِعَمِهِ وفضلِه وبالتالي كثرةَ لعنِه..
    -لذلك قال ﷺ أن اللعانين لا يكونون شهداءَ ولا شفعاءَ يومَ القيامة، لأننا لو تأملنا لوجدنا أن اللعانينَ انفعاليون، يَميلُون مع انفعالاتِهم حيثُ دارَت، فيُخِلُّونَ بالعدلِ والإنصافِ حتمًا، فيكف يشهدون يوم القيامة بالحق أو يشفعون بالرحمة..؟
    وقال كذلك: (لا ينبغي لصدِّيقٍ أن يكونَ لعَّانًا)..
    ففي هذه الأحاديثِ يجعلً النبيُّ ﷺ اللعنَ يتنافَى مَعَ مقامِ النبوةِ ورُتبةِ الشهادةِ والصدِّيقِيَّةِ ..
    فلماذا يَصعُبُ على هؤلاءِ الامتناعُ عن كل ذلك رغم عدم جهلهم بعواقبه في الدنيا والآخرة؟ وما العلاجُ...؟
    هذا ما سنعرِفُه في المقالةِ القادمةِ بإذنِ الله..

    **هوامش:
    1*https://www.dorar.net/hadith/sharh/35492
    2*https://www.alukah.net/sharia/0/137781/#ixzz7Bfi0YaNt
    3*https://www.islamweb.com/ar/fatwa/231685
    4*https://www.dorar.net/hadith/sharh/1412


    --
    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها













    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات3 (تابع): "يا عائشةُ! متى عَهِدتِنِي فَحَّاشًا؟!".. السبب والعلاج.


    أسماء محمد لبيب


    وقفنا عند سؤال:
    لماذا يَصعُبُ على اللعانين الشتامين، الامتناعُ عن ذلك رغم عدم جهلهم بعواقبه في الدنيا والآخرة؟ وما العلاجُ....؟

    -قال العلامة ابن حبان:
    "الحياءُ هو الحائلُ بين المرءِ وبين المزجوراتِ كلها -أي الأمور التي يجب ان ينزجِر َعنها... فبقوةِ الحياءِ= يَضعُفُ ارتكابُه إياها... وبضَعفِ الحياءِ= تَقوَى مُباشَرَتُه إياها...*1

    إذًا البداية -كما قلنا في مقالاتِ الدعاءِ على أبنائنا- :
    ليستْ في اللسان..
    إنما في القلب، محِلِّ الإيمان، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان..

    وكلما تشرَّبَ قلبُكِ أن الأبناءَ نعمةٌ، وأمانةٌ، ووجودَهم له غايةٌ تُخلِصِينَ فيها لرب العالمين بلا حظوظِ نَفسٍ أو مآربَ دنيويةٍ، بل فقط تربينَهم لله،
    = كلما استحيَيتِ من انطلاقِ لسانِكِ بسوءٍ وامتنعتِ عن إهانتِهم وتحقيرِهم..
    جاء في الدرر السنيةِ بموسوعةِ الأخلاق، أن مالكًا روى عن يحيَى بن سعيد،ٍ أن عيسَى بنَ مريمَ لقِيَ خِنزِيرًا في طريقٍ فقال له: "انفُذْ بسلام"... فقيل له: "تقول هذا لخِنزِير!!؟"...
    فقال عيسى عليه السلام: (((إني أخاف أن أُعوِّد لساني المنطق السوء))).
    سبحان الله القائل: { {لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ} }..
    فالذي يُسَهِّلُ على الأمِ لَعنَ أبنائِها هو تَعَوُّدُ لسانِها أصلاً على الشتمِ عمومًا في الحياة..
    تشتُم الجوَّ، تشتمُ الحذاءَ، تشتمُ العثراتِ، تشتمُ الملابسَ، تشتمُ الهاتفَ، تشتمُ الناس..
    أي شيئٍ يُضايقُها تشتُمُه.. بل إن منهنّ اليومَ من تتبادلُ السِبابَ مع صديقاتِها تبسُّطًا وتَعبيًرا عن ذوبانِ الحدود بينهما!
    فالعلاجُ يبدأُ مِن القلب..
    قناعاتُه الأُخرويةُ وأعمالُه لأجلِها، مِن تَقوَى وخَشية وحياءٍ..
    فالإناءُ يَنضَحُ بما فيه..
    تُريدينَ مَعرفةَ كيفَ تُنَفِّرينَ أبناءَكِ مِنكِ وتجعلينَهم يتحاشُون أماكنَ تواجُدِكِ ويبتهجون بغيابِكِ ويُمَرِّرون كلامَكِ باستخفافٍ ويُلِينُون الكلامَ معكِ فقط من بابِ المُداراةِ لأجلِ التخلُصِ فقط من توتراتِ وعواقبِ التواصلِ معك؟
    أكثري مِن لَعنِهم وسبِهم والتحقيرِ والتهكم..
    قال القاسِمِي: إياكَ وما يُستَقبَحُ مِن الكلام؛ فإنه يُنَفِّر عنكَ الكرام*2
    وقال تعالى { {وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَ} }
    وقال رسوله ﷺ كما قلنا سابقًا في حديثِ بئسَ أخو العَشيرةِ:
    (( «إنَّ شرِّ الناسِ مَنزلةً عند اللهِ يومَ القيامةِ، من تُرِكَ اتقاءَ فُحشِه أو شَرِّه» ))..
    تحبين أن تكوني مكانَ ذلك الرجلِ الذي ذمَّه النبيُ ﷺ وحذر المؤمنين من فُحشِ لسانِه والعياذُ بالله....؟
    وكما أن من آثارِ السِبابِ على نفوسِ الأبناءِ، نفورَهم مِنكِ وانفضاضَهم عنكِ،
    فمن آثارِه كذلكَ فقدانُ قيمتِكِ كقدوةٍ لهم في الصلاحِ والإصلاحِ،
    وضياعُ هيبةِ ومصداقيةِ توجيهاتِك،
    وانسحاقُ نفوسِهم تحتَ الشعورِ بالدونيةِ والهوانِ والاكتئابِ والوَحشَةِ،
    واهتزازُ قوتِهم النفسيةِ وتَضاعُفُ هشاشتِهم..
    فكلما ابتعدتِ عن تلك القاذوراتِ واستنكرتِها أمامَ أولادِك،
    كلما تشبَّعوا بنكارتِها وشناعتِها وقبِلوا مِنكِ تقويمَكِ لهم فيها،
    بالإضافةِ إلى صيانتُكِ لكرامتِهم ونفسيتِهم،
    فينشأون -بفضلِ إعفافِ لسانِكِ عنهم- على العِزةِ والحياءِ والقوةِ النفسيةِ والأمانِ..
    وكلما استهنتِ بها وعودتِهم عليها،
    كلما صَعُبَ عليكِ نَهيهُهم عنها، سواءٌ كان معكِ أو مع الآخرين وزوجاتِهم وأبنائِهم مستقبلا..
    فما العلاج؟
    في استحضارِ الآتي دومًا:
    -أن سبابَ المسلمِ فسوق، وأن مِن عواقِبهِ الإفلاسَ يومَ القيامةِ وربما النارُ، (إلى آخر عواقب السبِ واللعنِ التي ذكرناها) ..
    -وأنه مُنقِصٌ لأخلاقِنا وميزانِنا نحن، فكما قال ﷺ: "ما مِن شيءٍ أثقلٌ في الميزانِ مِن حُسْنِ الخُلُقِ"..
    -وأن الله يَبغَضُ الفاحشَ البذِيء..
    -و{ {لا يُحِبُ اللهُ الجهرَ بالسوءِ من القولِ إلا من ظُلِم} }
    -وأن السِبابَ يَزِيدُ المسافةَ بيننا وبين النبي ﷺ ويؤثرُ على درجةِ مَحبَتِه لنا، ففي الحديث: "إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسِنُكم أخلاقًا"..
    -وأن سبَ أبنائِنا فيه انتهاكٌ لحرمتِهم..
    -وأن المسلمَ مَن سلِمَ المسلمون من لسانِه ويده..
    -وأن سيءَ القَولِ يتحاشاهُ الناسُ، خوفًا من شرِّ لسانِه، وهو بذلك شر الناس منزلةً يوم القيامةِ..
    -وأن الفُحشَ في القولِ ليسَ من صِفاتِ كاملِ الإيمانِ فهو من مُنقِصاتِ الإيمان.
    -وأن اللهَ حَرَّمَ على نفسِهِ الظلمَ وحَرَّمَه علينا..
    -وأن الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة..
    -وأن كلَكُم راعٍ وكلَكم مسؤولٌ..
    بجانبِ استحضارِ القواعدِ الستةِ التي فصَّلناها في المقالةِ السابقةِ في "علاجِ الدعاءِ عليهم" -يمكنكم الرجوعُ إليها مَنعًا للتكرار- والتي كان من أهمِّها:
    -فاطمةٌ بِضعَةٌ مِني يُؤذِيني ما يؤذيها..
    -أمسِكْ عليكَ لسانَك..
    -إني اشتَرَطتُّ على ربي: "فأيُّ المسلِمين لَعَنْتُه أو سَبَبْتُه فاجْعَلْه له زَكاةً وأجْرًا.."
    -أو ولدٌ صالحٌ يدعُو له.. فالسِبابُ إضرارٌ بالباقياتِ الصالحاتِ التي أفنينا أعمارَنا في زراعتِها..
    ومِن المُعِينات:
    -عدمُ مخالطةِ اللَّعّانينَ الشتَّامِين، فكما في الحديث: "المَرْءُ على دِينِ خَليلِه، فَلْينظُرْ أحَدُكم مَن يُخالِلْ"...
    -والتعوذُ باللهِ من نَزغِ الشيطانِ وتحريشِه بيننا في الأقوال، كما قال تعالى: ﴿ {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} ﴾
    -وإغراءُ النفسِ بالعواقِبِ الطيبةِ كلِها للمجاهدة في إعفاف اللسان، بخاصةٍ عاقبةُ ((نقاءِ السُمعَةِ في الدنيا من كلِ سوء))، والتي أبرزَتْ جمالَها الجملةُ المنقوشةُ بالذهبِ المَذكورةُ في المقالةِ السابقةِ على لسانِ طيبِ الذِكرِ ﷺ حين قال في حديث "بئس أخو العشيرة":
    "يا عائشةُ! متى عَهَدتِنِي فَحَّاشًا؟"..
    وقالت مثلَها نسوةُ المدينةِ من قبلُ عن يوسُفَ عفيفِ السريرةِ والجوارحٍ: { {حاشَ للهِ ما عَلِمْنا عليهِ مِن سُوء} }..
    فتلك غنيمةٌ مَرجُوَّةٌ وثمَرَةٌ طيبةٌ مأمُولةٌ، يَهنأُ قاطفُوها بَعدَ طولِ مجاهدةٍ ولابُد..
    فطوبَى لأهلِ السُمعَةِ الزكيةِ والسيرةِ الحسَنَةِ وطابَ جهادُهم،
    الذين يشهَدُ لهم من حولَهم بالعفةِ قولًا وعملًا، ويجعلُ اللهُ لهم لِسانَ صدِقٍ عليًا..
    فنقول للسائلةِ وأمثالِها ختامًا وإجمالًا بعد تفصيل..
    يا أعانكِ الله.....
    قد أشفقتُ على ولَدِك.. ومؤكدٌ أنكِ تشفقين عليه أكثر مني كذلك..
    وقد عرفتِ آثارَ السبِ.. وعرفتِ مَواطِنَ الخللِ وطُرُقَ العلاج..
    فابدئي..
    فلن يُسعِدَكِ أبدًا يومَ القيامةِ إيقافُكِ لتَقرَئِي بنفسكِ كلَ عريضةَ الشتائمِ التي قَرَعتِ بها على مسامعِه حين يُقال: ((اقرأ كتابَك))...
    مَشهدٌ مُخجِلٌ جدًا لا ريب، أمامَ الخَلقِ كلهم وخالقِهم والعياذُ بالله..
    ناهيكِ عن عتابِ اللهِ يومَها ومجازاتِه لمَن أسرفَ وتجاوزَ في حَقِّ عبادِه لاسيَّما الضعفاءِ منهم...
    وليس هناك مجالٌ لكلمةِ "لا أستطيعُ أن أتوقف"..
    فأين الوصيةُ النبويةُ ((استَعِن باللهِ ولا تَعجَزْ))..؟
    =والأخرى: (( «إنما العلمُ بالتَّعلُّمِ، و إنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، و من يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، و من يتَّقِ الشرَّ يُوَقَّه» ))*3..؟
    = أولاد المسلمين ليسوا حيواناتٍ ولا حَميرَ ولا بهائِمَ يا أخية..
    = أولادُ المسلمين تاجُ الأمةِ وكنوزُها ولآلئُها المكنونةُ المُنتَظَرَة..
    = ابنُكِ المسلمُ ليسَ كائنًا مُهانًا لا كرامةَ له..
    = بل هو حاملٌ لثُلُثِ القرآنِ والسبعِ المثانِي وأمِ القُرآنِ... فيكف يُهان...؟
    =بل قال النبيُ ﷺ: "إن مِن إجلالِ اللهِ إكرامَ حاملِ القرآنِ"
    = أي أنه جوهرة وحَجَرٌ كريمٌ مُعزَّزٌ ومُكَرَّمٌ في بيتِ والدِيه،
    =لا لوحةُ أهدافٍ -نُسدِّدُ إليها ضرباتِنا وطلقاتِ ألسنتِنا..
    =ابنُكِ المسلمُ هو "عملُكِ الصالحُ الممتدُ بعدَ انقطاعِ عملِكِ من الدنيا/ والدعوةُ الحُلوةُ التي ستؤنِسُ قبرَكِ/ والاستغفارُ الذِي سيرفعُكِ في الجنةِ بإذن الله كما في الحديث:
    "إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ فيقولُ : أنَّى لِي هذا؟ فيقالُ: ((باستغفارِ ولدِكَ لكَ)).."
    جعلكِ اللهُ ممن قالَ فيهم { {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَولِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَٰطِ الحَمِيدِ} }
    وقال عنهم الناس {حاشَ لله ما علمنا عليه من سوء}..
    وأعاذكِ ممن قال عنهم: "وهل يَكُبُّ النَّاسَ على مَناخِرِهم في جَهنَّمَ إلَّا حَصائدُ ألسِنتِهم"..؟
    أو انفضَّ عنه أحبابُه والناسُ، اتقاءَ شَرِّه..
    وإلى اللقاءِ مع الممنوعِ الرابعِ "أبدًا ما شمتُّ فيك".. في المقالة القادمة بإذن الله..
    **هوامش:
    1* - و2* : الدرر السنية موسوعة الأخلاق:
    https://dorar.net/akhlaq/2603/%D8%A3...A7%D8%A1%D8%A9

    3*حديث: ((إنما العلمُ بالتَّعلُّمِ، و إنما الحِلمُ بالتَّحلُّمِ، و من يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، و من يتَّقِ الشرَّ يُوَقَّه))..
    الراوي: أبو الدرداء وأبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم : 2328 | خلاصة حكم المحدث : حسن
    https://dorar.net/hadith/search?q=%D...e=&rawi%5B%5D=

    --


    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها













    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات 4: أبدا ما شمتُ فيك.. "لا تُظهِر الشماتةَ لأخيك"


    أسماء محمد لبيب



    أحيانا نجد بعض الأمهات، حين يسقُط ولدَها أو يصطدمُ بشيئ مؤلمٍ أو تنكسرُ لعبتَه، تقول له أمُه: "أحسن ! أنتَ تستأهل وتستحق ما حدث لك! هذا بسبب غضبي عليك ! أو هذا بسبب عصيانك أمري!"..

    تشمَتُ في ولدِها بوضوح.

    بينما -وكما قلنا في المقالات السابقة- عينُ الأمومةِ هو استشعارُ الأمِ أن ما يؤذِي ولدَها يؤذيها كذلك كما قال النبي ﷺ عن فاطمتِهِ: "إنما فاطمةٌ بِضعَةٌ مِني يؤذيني ما يُؤذِيها" فالطبيعيُّ هنا، أن لا تغلبَ روحُ الثأرِ بداخلِها على فطرةِ الأمومة لكن ما يحدثُ هو العكسُ.
    فما الأسبابُ؟

    قبل تفصيلِ الأسباب، فمن الإنصاف أن نُفَرِّقَ هنا بين نوعين من الأمهات:
    النوعُ الأول:
    تُظهِرُ الشماتةَ رُغمًا عنها لفرحتِها أن ولدَها سيتعلُم درسًا لن ينساه فيتأدب ويَرشُد، لكن قلبُها عامِرٌ بحبِ ابنِها ولو آذاه غيرُها معها أو تدخَّلَ بشفاعةٍ سيئةٍ عنه ستغضبُ لولدِها وتدافعُ عنه..

    والنوعُ الثاني:
    تُظهِرُ الشماتةَ عمدًا وبداخلِها غِلٌّ حقيقي على الولد، وتفرحُ كلما تألمّ أكثر حتى إنها تأتِي بآخرين يضاعِفون عليه الإيلامَ النفسيَ، لا لتأديبِه وردعه وإنما للشماتةِ به أكثر وإذلالِه وكسرِه.

    كلتاهما، قد يكون ولدُها صعبُ المِراسِ حقا وعنيدًا ويثيرُ غضبَها بسهولةٍ وتَعجَزُ عن تقويمِه أو تستعجلُ الثمرةَ
    لكن الفرقُ بينهما:
    أن الأم الثانيةَ تتركُ الغضبَ للنفسِ يَتَملَّكُ قلبَها ويتعاظَمُ حتى يغلبَ الأمومةَ ويصلَ للتشفي، فالتربيةُ بالنسبةِ لها تصبحُ معركةً بين فيلٍ ونملةٍ ويجبُ أن تنتصِرَ فيها على ولدِها كي لا تضيعَ هيبةَ الفِيل ! وأحيانًا يَفلِتُ الولدُ من شماتتِها فيه لكونِه بريئًا مثلًا من الخطأِ الذي تُعَنِّفُه عليه، فتشعرُ حينَها بانكسارِ هيبتِها أمامَه، فتتربصُ له عند أقربِ عثْرةٍ كي لا يظنَ أنه غلبَها فيتمادَى ظنًا منها أن هذا الذي سيَردَعُه فيصبحُ التشفي والشماتةُ ديدنَها، ويَغِيبُ استحضارُ منهجِ الرسولِ ﷺ عند الغضب والنوايا التربوية ومع الوقتِ تتحولُ لعلاقةِ عداءٍ كاملٍ، يخفُتُ فيها الوُدُ واللطفُ والتراحمُ، ويطغى فيها الحقدُ والتربُصُ والمَقتُ والقَسوةُ وتتبخرُ مَقاصِدُ التربيةِ ويَنفَرِطُ العِقدُ
    فلماذا نتركُ أنفسنَا حتى نصلَ لتلك الهاوية؟

    لذلك نقول:
    إن كنتِ من النوعِ الأول
    -فلا تُظهِري الشماتةَ في ولدِكِ مهما كانتْ نواياكِ طيبةً، لأنه لن يفهمَ سِوَى أنكِ تشمَتين فيه، وسيقتدي بكِ في تعاملاتِه مع الآخرين.
    -وجاهدي لذلك نيتَكِ دومًا أن غايتَكِ الكُبرى هي مصلحتُه بعيدًا عن حظِّ نفسِكِ.. تَذكَّرِي دومًا: {ليسَ لكَ مِنَ الأمرِ شَيئٌ}، لئلا تتحولي مع الوقتِ للنوع الثاني...

    وإن كنتِ من النوعِ الثاني
    -فآن الأوانُ حبيبتي لوقفةٍ حاسمةٍ مع نفسِكِ لتأديبِها قبلَ الآخرين، فماذا بَقِيَ من الأمومةِ إن تركتِ نفسَكِ لمشاعرِ الحِقدِ تجاهَ ولدِكِ، والمَقتِ والرغبةِ في الانتقامِ مِنه...؟

    حين يحزَنُ ولدُكِ أو يُؤذَى ويتألمُ، أنتِ أمٌ مُشفِقَةٌ، لا عَدُوٌ مُتَشَفِّي، بأيِّ مبررٍ كان...
    فعادةً، الذي يفرحُ بآلامِنا، هم الأعداءُ، كما قال هارونُ لأخيه مُوسَى عليهما السلام: {فلا تُشمِتْ بيا الأعداءَ} ..

    فأصلُ الشماتةِ: فَرَحُ عَدُوٍّ بِبَلِيَّةٍ تُصِيبُ مَنْ يُعَادِيه..*1
    بل هي من شِيَمِ ألدِّ أعداءِ المُؤمِنِ: المنافق..! قال تعالى: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} ..!
    فكيف يُعقَلُ هذا مِن أمٍ تجاهَ ولدِها؟ُ

    وقال الشَّوكانيُّ: ((استعاذَ ﷺ مِن شَمَاتَةِ الأعداءِ وأمرَ بالاستعاذةِ منها؛ لعِظَمِ موقِعِها وشدَّة تأثيرِها في الأنفُسِ البَشريَّةِ ونُفُورِ طباعِ العِبادِ عنها، وقد يتسبَّبُ عن ذلكَ: تَعاظُمُ العداوةِ المُفْضِيةِ إلى استحلالِ ما حرَّمهُ اللهُ..))--
    يقصد أنك بذلك تفتنين ولدك عن طاعة الله..
    وحتى لو كان ما تعرَّضَ له مِن ألمٍ أو مشكلةٍ هو بسببِ عدمِ استماعِه لنصحِكِ وتحذيراتِك، فلا مُبررَ للشماتةِ ناهيكِ عن إظهارِها..
    إنما دروسٌ وعِبَر..
    وربما عتابٌ إن أردتِ..
    ولكنِ الأفضلُ تأجيلُ العتابِ قليلًا ريثما تواسيه أولا، ثم يكونُ عتابًا تربويًا تعليميًا لاستخلاصِ العِبَرِ وتقويمِ السلوك، لا صورةً من الشماتةِ والثأر
    (أنت مجروحٌ الآن يا ولدِي.. هذا ليسَ وقتَ العتابِ)
    تلك جملةٌ أعجبتني في مقالةٍ لأحدِ التربويين الأفاضلَ
    فنربتُ أولًا ونحنًو ونرحمُ بلهفةٍ وقلقٍ ونطيِّبُ الخاطرَ ونُرَبتُ على القلبِ ونَرقِي بأيدينا مَوضِعَ الألَمِ، سواءٌ في الأبدانِ أو الوجدانِ
    حتى لو كان الألمُ بسببِ خطئِه وعِنادِه
    ثم نعاتبُ إن أردنا، لتبيينِ الخطأِ لئلا يتكررَ
    ومن ذلك:
    -أن نبينَ له أن ما حدثَ هو بسبب العنادِ وصمِّ الآذانِ عن النصح
    -وأن الواجبَ فيما بعد عصيانُ هواه وإعمالُ عقلِه في الحقِ، واتباعُه بعدما يتبين بوضوح..
    -وإن لم يقتنع أحيانًا لقلةِ خبرتِه، فالوالجبُ عليه طاعةُ والديه ثقةً في أنهما أحرصُ الناسِ عليه، ماداما يتقيانِ اللهَ فيهِ وهو يعلمُ، ومادام الأمرُ فيه ضَررٌ أو تفويتُ مصلحةٍ متحققة..
    -وأنه ليسَ عَجبًا أن نُخطِيءَ لكنَّ العيبَ أن نتمادَى في الخطأِ ونُكَررَه بعدما تعلمنا الدرسَ..
    لكن هذا لا يمنعُ أننا أحيانًا قد نجعلُ ولدَنا يتعلمُ خطأَه ويُصحِحُهُ بينما جُرحُه لازالَ موجودًا، إذا كان الموقفُ لا يَحتَمِلُ التأجيلَ أو الانتظارَ..
    كما حدثَ مع المسلمين في مَوقعةِ أُحُد، حينَ أثخنَتْهُمْ مُصيبتُها جِراحًا وآلامًا جَسديةٍ ونفسيةٍ عميقة، وكان ذلك بسببِ خطأِ طائفةٍ مِنهم بتركِهم جبلِ الرُماةِ فانكشفَ ظَهرُ المسلمين للعدوِ ووقعَ ما وَقع...
    ولم يمنعْ ذلكَ النبيَ المربي الرؤوفَ الرحيمَ ﷺ، مِن أن يأمُرَهم وجراحُهم لم تندمِلْ بعدُ، بالذهابِ إلى مِنطقةِ حمراءِ الأسد، لملاقاةِ الكفارِ من جديد وترميمِ الخطأِ... وانتظروا هناك ثلاثةَ أيامٍ جَبُنَ فيهنَّ عدوُهم عن ملاقاتِهم، فعادُوا للمدينةِ مَرفوعِي الرأسِ مِن جديد..
    الشاهد:
    نُوازِنُ أمورَنا بين هذا وذاك حين يستدعِي الأمرُ استثناءً حسبَ المواقف.. لكنِ الأصلُ هو المَرحَمةُ واللينُ والرأفةُ.. وأن لا شماتةَ مطلقًا في المُؤمنين.. تمامًا كالدعاءِ عليهم وسبِهم...
    وهذا التوازنُ مطلوبٌ لئلا نصنعَ طفلًا مدللًا بدرجةٍ مُفرِطَةٍ، مُفتِقرًا للقوةِ النفسيةِ المطلوبةِ، غارقًا في الهشاشةَ النفسيةَ..
    فلا ينكسِرُ حين تعصفُ به المعاملاتِ الإنسانيةِ المختلفةِ فيما بعد..
    وهذا يشملُ البنتَ والولدَ على حدٍ سواء..
    وبالتالي كذلك، إذا رأيتِ أحدَهم يشمَتُ بأخيه فعلميه:
    -أن هذا حرام..
    -وأن الشماتةَ لا تكونُ إلا في منافقٍ أو عدوٍ للهِ مُحارِبٍ لشرعِهِ وفِطرتِه، لا بين المؤمنين...
    وأن الله قال: {إنما المؤمنون إخوة}.. و{رحماءُ بينهم}
    ونبيه ﷺ قال: "لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك"..*2
    وقال أيضا: إن أفضل المسلمين، من سلم المسلمون من لسانه ويده
    وقال أحدُ أكثم بن صيفي، الصحابيُ الجليلُ وحكيمُ العربِ المُفَوَّهُ: (ليس مِن الكرم أن يَشْمَت الرَّجل بصاحبه إذا زلَّت به النَّعل، أو نزل به أمرٌ)*1
    أعلمُ أننا أحيانًا كثيرةً يكونُ بداخلنا بركانٌ يغلي ولا يُطفِيءُ ثورتَه إلا بإفحامِهم بشدةٍ لا تخلُو مِن شماتَةٍ وقسوة...
    لكن:
    -حين نتذكرُ تلك النصوص الشرعية،
    -وأننا بذلك نربيهم على الشماتةِ بالآخرين فننقلُ الخطأَ بأيدينا لأجيالٍ متتاليةٍ ونَحملُ أثقالًا مع أثقالنا،
    -وأن الهدفَ الجليلَ مِن وراءِ بناءِ علاقةٍ متينةٍ معهم أهمُ مِن إفراغِنا لشحناتِ غَضبٍ عابرة،
    ===فباستحضارِ كلِ ذلك، نتمكنُ من كبحِ غضبِنا، مُحتسبين الأجرَ من الله...
    وإلى اللقاء في المقالة القادمة بإذن الله، مع الممنوع الخامس: ((أبدا ما فضحتك))..

    هوامش:
    1*الدرر السنية

    https://dorar.net/akhlaq/2293/%D8%A7...A7%D8%AA%D8%A9

    2*عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏"‏ لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك‏"‏‏.‏ ‏(‏‏(‏رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏)‏‏)‏









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات5:
    أبًدا ما فضَحتُك.. "لو ستَرتَه بردائِك لكانَ خيرًا لك"



    أسماء محمد لبيب




    قالت لي:
    ((إلى الآن أتذكرُ شكوى أقاربى من أبنائِهم ونحن صغار.. لا أنسى أبدًا قصةَ فلانة عن ابنِها الذي كان يشربُ السجائرَ في الثانوية، وفلانة التي كان ابنها يهرب من الدروس.. وغيرها من الفضائحَ التي لا يعلمُ أصحابُها إلى الآن أني أعرفُها عنهم، وما عرفتُها سوى من حَكايا أمهاتِهم..
    وكم تخيلتُ مرارةَ ذلك لو حدثَ لي، فالمرءُ حينَها يَشعُرُ وكأنَّ وظهرَه مكشوف))..

    وغيرُها قالت:
    ((أذكرُ إحدى الأمهاتِ وهي تتحدثُ عن أولادِها الذين في الابتدائيةِ والإعداديةِ، بانتشاءٍ وزهوٍ وكأنها تحكِي طُرفَةً ومَفخَرَةً: "ضربَهم أبوهم أمسُ بشماعةِ الملابس ليستذكِروا دروسَهم.."

    وأخريات تقول أمام الناس:
    ((ابنتي تضعُ أصبعَها في أنفها! أو ابني يسرِقُ من إخوتِه طعامَهم لشدةِ شراهتِه! أو ابنتي تجلسُ كثيرًا أمامَ المِرآةِ لتتزينَ قبل مَجِيءِ صويحباتِها للبيتِ، وكأن عريسًا قادِمٌ! أو ابني ينامُ عن صلاةِ الفجرِ هربًا من البرد..))

    هكذا يتحاكَى بعضُ الآباءِ بمعايِبِ أبنائِهم علنًا، وربما وأبناؤُهم حاضرون -وهذا أشدُ إيلامًا..
    يفعلونها تنفيسًا للغضبِ أو الثرثرةِ أو الضحِك، ولا يكترثون بوقعِ ذلك في نفوسِ أبنائهم، وموقعِه من الشرعِ حين يتمُ بدون مُبرِرٍ مُعتَبَرٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ ثابتةٍ شرعًا..

    =قال ابنُ المبارَكِ: "كان الرَّجلُ إذا رأى مِن أخيه ما يَكره، أمره في سِتْرٍ، ونهاه في سِتْر، فيُؤجَرُ في سِتْرِه، ويُؤجَرُ في نهِيه... فأمَّا اليومَ، فإذا رأى أحدٌ مِن أحدٍ ما يَكرَه، استغضَبَ أخاه وهَتَكَ سِتْرَه"*
    =وقال ابنُ عِياض: "المؤمنُ يَسْتُرُ ويَنصَحُ، والفاجرُ يَهتِكُ ويُعيِّر"*1..
    =وعن أحد السلف: "مَن ذَكَرَ عَوراتِ المؤمنين، فقد هتَكَ سِتْرَ اللهِ المَرخَىَّ على عبادِه"*2..

    ==وأظلمُهُن، من لا تَذكُرُ إلا سوءاتِ ولدِها، فتنشرُ فضائحَه وتَكتُمُ خيرَه...
    وأعيذها مما قاله ابن القيم في ذلك: "من النَّاس مَن طبعه طبعُ خنزير: يمرُّ بالطَّيِّبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ((قَمَّهُ))/ أي: انكفأ عليه ليأكله"*3

    واعتبر العلماءُ كلامَ الأمِ مع الآخرينَ عن وَلَدِها بما يكرَهُ أن يقالَ عنه، وبدونِ مُسَوِّغٍ شرعيٍ -كطلبِ مشورةٍ أو دعمٍ/ أو تقديمِ عِبرةٍ أو تحذير/ ونحو ذلك: (((غِيبةً محرمةً))).. فكأنكِ تأكلين لحمَ مَيتَةَ أبنائِكِ والعياذُ بالله..

    ==وأظلمُ منهما، مَن فضَحَت أمرًا قد اطَّلَعَت عليه بالتجسسِ على ولدِها..
    ونقصد: التجسسَ غيرَ المشروع، فلو هناكَ قرينةٌ أو ضررٌ راجحٌ يدفعُ الآباءَ للتجسسِ على الأبناءِ لإنقاذِهم من شرورِ أنفسِهم، فلا حرج..
    وسِوى ذلك: فمُحَرَّمٌ وهتكٌ للسترِ الذي بينهم وبين ربِهم..
    فهؤلاء لهم حُرمَةٌ وحقوقٌ وليسوا مِلكيةً خاصةً بنا..

    وما الآيةُ التي فيها: { {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}} [الحجارات:12]، إلا لتعليمِنا سدَ منافذِ الفضائح...
    فالغيبةُ: نشرٌ للكلامِ المكروه عن الشخص، والذي ربما يكونُ غيرَ مَعلومٍ للمستمعِ، فتقعُ الفضيحةُ..
    والتجسسُ: هَتكٌ للسِترِ المَرخِيِّ، وجِسرٌ لعبورِ الفضائح..
    قال مُجاهدٌ عن {وَلا تَجَسَّسُوا}: "خذوا ما ظهرَ لكم، ودعُوا ما سَتَر الله"*4

    وقال النبيُ ﷺ:
    "يا معشرَ من آمن بلسانه، ولم يَدخلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبعِ اللهُ عَوْرتَه، ومن يتَّبعِ اللهُ عَوْرتَه يفضحْهُ في بيتِه.."*5

    وعلى الناحيةِ الأخرى:
    **أعرفُ أُمًا ظلَ ولدُها يُعانِي من التبولِ الليليِّ حتى بعدَ البلوغِ بفترة، ولم يعرفْ بالأمرَ أيٌ من أهلِهم، ولا حتى إخوتُه الذين معه في بيتٍ واحد!
    هي ووالدُه فقط..!
    حتى استجابَ اللهُ دعاءَهم وعافاه.. ولازال سرًا لا يعرفُه أحد..!

    **وأعرف أمًا ارتكبَ ولدُها منكراتٍ يندَى لها الجبين، ثم تابَ اللهُ عليه بعد سنواتٍ من بذلِ الأسبابِ والدعوات.. فأحبتْ أن تنقلَ للأمهاتِ قصتَها ليتعلموا العلاجَ، لكنها آثرَتْ ألا تكشِفَ اسمَها لئلا تفضحَ ولدَها -رغمَ رفعِه الحرج عنها بالفعلِ لأجلِ أن معرفةَ الناسِ بهويتِهما سيكونُ أبلغَ في الأثرِ وأوسعَ في التفاعُل!- لكنها كأمٍ عاشت على سِترِ ولدِها، ما كانت لِتُنهِي تلك المسيرةَ المشرفةَ بفضحٍ له بعدما تاب، حتى لو كان من وراءِ ذلك مصلحةٌ متحققةٌ، فألأولَى مِن المصلحةِ: دفعُ الضرر.. وإن تعارضَتْ مصلحتانِ نقبلُ بأقلِهما ضررًا..
    فربما ابنُها غيرُ مُعارِضٍ الآن، لكن فيما بعدُ قد يندمُ ويتمنى لو كانت أمُه تريثَتْ..

    بل أحيانًا أجِدُ ولدِي حين يُخطِيء وألومُه ثم نتصالحُ، يقولُ: "هل ستخبرين أبي وتفضحينني؟"! وبدهشةٍ أحاولُ كلَ مرةٍ إفهامَه أن إعلامَ والدَه ليس بفضحيةٍ فهو شريكي في تربيتِهم ويجبُ أن يطّلعَ على تطوراتِها التي غابت عنه لئلا يفوتَه شيءٌ من حُسنِ تقويمهم.. ومهما حاولتُ إقناعَ ولدِي يَظَلُّ مهمومًا لشعورِه بالصغارِ بعدما اكتشفَ قُبحَ خطئِه، ويتخيلُ معرفةَ والدِه بزلتِهِ مُجددًا أو كونًه لازالَ بهذه التفاهةِ ونحو ذلك= فيتألمُ..
    فمجرد إدراكُه أن هناك شخصًا سيعرفُ= يؤلمُه، حتى لو كان الشخصُ أباه الذي يحبه ويحرصُ عليه ويُؤَمِّنُه من العقاب/ وحتى لو كان الأمرَ لا علاقةَ له بالفضحيةِ..
    حتى صِرتُ أحيانًا أستجيبُ لطلبِه في أمورٍ بسيطةٍ ومكرَرَةٍ ولا مشكلةَ في كتمِها عن والدِهم، من بابِ طمأنتِهِ وجبرِ خاطرِه وإقناعِه بهدفي حقًا من هذا الأمرِ حينَ أفعلُه..

    الشاهدُ من كل ذلك:
    التأكيدُ على أن شعورَ الفضيحةِ مَريرٌ.. لا يطيقُه أحد..
    وهو من أشدِ إهاناتِ الآخرة...
    ومعافاةُ المرء منه يومَئذٍ هو من أعظمِ البشرياتِ، حين يُرخِي اللهُ كنفَهُ وسِترَه على عبدِه ليُعَرِّفَهُ وحدَه بذنوبِهِ التي سيغفرُها له بعدما سترَها عليه في الدنيا..
    ولذلك كان النبيُ ﷺ يقول صُبحًا ومَساءً: "اللهم استر عوراتي.."..
    وحثَّنا على السِترِ وبشرَنا بمضاعفةِ أجرِه قائلًا: "مَن سترَ مسلمًا سترَه اللهُ يومَ القيامة.."*6
    والسَترُ: هو "سَترُ سوءةِ المُسلمِ الحسيةِ والمعنويةِ وعيوبِه، بعدَمِ إظهارِهم ولا اغتيابِه،/ والذَّبُّ عنه، والسَترُ عليه إن وقعَ في معصية، بشرط أن لا يُعلنَها ويَجهَرَ بها فلا يكونُ معروفًا بالفسادِ.. فالمعروفُ باستقامتِه إذا زَلَّ، نُوصِح وسُتِر"*7

    بل حثتِ الشريعةُ على السَترِ حتى في الكبائر..
    بل نهت عن هتكِ المرءِ سِترَ نفسِه، وحثتْهُ على التوبةِ من المعصيةِ سِرًا وعدمِ فضحِ نفسِه، وتوعدتِ المجاهرين:
    ==مثلا:
    قصةُ ماعز.. الذي ذهبَ للصِّدِيق ثم للفاروقِ ليعترفَ على نفسِه بالزِنا، فنصحاه بالتوبةِ منها وعدمِ إخبارِ أحد.. فلم يفعل! وذهبَ للنبيِ ﷺ وأخبرَه.. فأعرضَ عنه ﷺ ثلاثَ مراتٍ.. والرجلُ يُصِرُّ عليهِ ﷺ! حتى أرسلَ ﷺ لأهلِ الرجلِ يسألُهم: هل به مَرض أو جنون!؟ فلما تبينَ أنه صحيحٌ= لم يكن مَفَرًّا من إقامةِ الحد.. فَرُجِمَ حتى الموتِ، لأنه كان ثيِّبًا..
    وسببُ كلِ ذلك:
    رجلٌ اسمُه هَزَّال.. هو من نصحَ ماعزَ، بإخبارِ معصيتِه لهم..
    فقال له ﷺ: ((يا هَزَّال.. لو سَتَرتَه بردائِكَ لكان خيرًا لك))..*8
    أي: لو ستَرتَهُ بأن أمَرتَهُ بالتَّوبةِ، وكتمانِ خطيئتِه..
    والرِّداءُ: على سبيلِ المبالغة، بمعنى: "لو لم تجد طريقةً لسَتْرِه إلَّا بسَترِهِ بردائِكَ عن أعينِ الشهود، لكان أفضلَ ممَّا فعلتَ..*11

    ==ومثلُها:
    قصةُ شُرَحْبِيل بن السِّمْط..
    كان على جيشٍ، فقال لهم: "إنَّكم نزلتم أرضًا كثيرة النِّساء والشَّراب -أي: الخمر- فمن أصاب منكم حَدًّا فليأتِنا فنطهِّره".. فأتاه ناسٌ..!
    فبلغ ذلك الفاروقَ... فكتبَ إليهِ: "لا أمَّ لك! أنت الذي يأمرُ النَّاسَ أن يهتِكوا سِتْرَ اللهِ الذي سَتَرَهُم به!!؟"*9

    ==وفي المجاهرين بفضائحهم قال ﷺ:
    "كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، ومن المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَرَه اللهُ عليه، فيقولُ: ((يا فلان، عمِلتُ البارحةَ كذا وكذا...))!.. وقد باتَ يَسْتُرُه ربُّه، ويُصبِحُ يَكشِفُ سِتْرَ اللهِ عنه"*10

    فكلُ ذلك يؤكدُ خطورةَ الاستهانةِ بإبرازِ الفضائحِ والسوءاتِ، فإنه:
    *يُجَرِّيءُ المَفضوحَ على العنادِ والخطأِ أكثرَ، ويُيَئسُهُ من تزكيةِ نفسِه، فيؤجِلُ توبتَه، ويُعانُ شيطانُهُ عليه..
    *ويُجَرِّيءُ الناسَ على الخطأِ، لظهورِ المجتمعِ كمجتمعٍ أكثريتُه فاسدون..
    *ويفتنُ الذين يتخذونَهُ قدوةً لهم ولأبنائِهم.. ويُنفِّرُهم مِنه..
    *ويُوغِرُ الصدورَ ويؤلِمُها ويتركُ ندباتٍ تَعوقُ النموَّ النفسِيَّ السليمَ، ويُفسِدُ العلاقاتِ الأسرية..
    *ويُجَرِّيءُ الآخرينَ على انتهاكِ حرمةِ ولدِكِ واغتيابِه والاستهزاءِ به..

    لذلك ننصحُ حتى الأمهاتِ اللاتي يَطلُبنَ استشارةً، سواءٌ سرًا في رسالةٍ أو علنًا في تعليقٍ مثلا، أن يَصِغنَ السؤالَ بصيغةٍ حمَّالةِ أوجُه:
    فبدلًا من قولِ: ((ابني يكذِبُ/ أو يشتمُنا/ أو لا يغُض بصرَه/ أو يسمَعُ الأغاني... فماذا أفعل؟))
    ==الأستَرُ والأفضلُ تقولُ: ((لو أمٌ يفعلُ ولدُها كذا، فماذا تفعل؟))
    إلا بالطبع ما كان في أمورٍ يسيرةٍ لا تَرقَى لأن تكونَ فضيحةً ولا تُسببُ حرجًا للأبناء.. والأولَى السَترُ على كل حال..

    فلْنُعِدَّ العُدَّةَ مِن الآنِ للثمرةِ المَرجوةِ التي ذكرناها في بدايةِ سلسلةِ الممنوعات:
    أن تقولِي يومًا لولدِكِ بكلِ فَخرٍ ولله الحمد: "أبدًا ما فضحتُك"....
    أو تقولي: "منذ تُبتُ وأنبتُ إلى الله في ذلك بحمد الله: أبدًا ما فضحتُك"..

    وإلى اللقاءِ مع الممنوعِ السادس: "أبدًا ما ربيتُكَ لمنفعتِي الخاصة"..
    في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..

    الهوامش:
    1* جامع العلوم والحكم*لابن رجب (1/225)..
    الدرر السنية موسوعة الأخلاق:
    https://dorar.net/akhlaq/611/%D8%A3%...B3%D8%AA%D8%B1


    2* عبيد الله بن عبد الكريم الجِيْلِي*(التوب يخ والتنبيه)) لأبي الشيخ الأصبهاني (1/101) .32)./الدرر السنية.)
    3* ابن القيم/ نقلا عن الدرر السنية.
    4* الطبري/ نقلا عن الدرر السنية.

    5*"يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه ، لا تغتابوا المسلمينَ ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم ، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه ، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه".. الراوي : أبو برزة الأسلمي والبراء بن عازب | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع.. الصفحة أو الرقم : 7984 | خلاصة حكم المحدث : صحيح


    6* الْمُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ. الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم : 2580 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

    7*بالجمع بين جملة من تعريفات الستر اصطلاحا، مع اختصارها في فقرة واحدة/ من موسوعة الأخلاق الدرر السنية:
    https://dorar.net/akhlaq/602/%D9%85%...A7%D8%AD%D8%A7

    8* حديث قصة ماعز:
    - عن هزَّالٍ أنَّه أمر ماعزًا الأسلميَّ أن يأتيَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيُخبِرَه بحدثِه ، فأتاه ماعزٌ فأخبره بحدثِه فأعرض عنه مِرارًا وهو يُردِّدُ ذلك على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فبعث إلى قومِه فقال : أبه جِنَّةٌ ؟ فقالوا : لا ، فسأل عنه : أثيِّبٌ أم بِكرٌ ؟ قالوا : ثيِّبٌ ، فأمر به فرُجِم ، ثمَّ قال : يا هزَّالُ لو سترتَه بردائِك كان خيرًا لك الراوي : هزال بن يزيد الأسلمي | المحدث : ابن عبدالبر | المصدر : التمهيد | الصفحة أو الرقم : 23/125 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
    https://dorar.net/hadith/sharh/150118

    9*قصة شرحبيل: ((مصنَّف عبد الرزاق الصنعاني)) (5/197) (9371)، و((الزهد)) لهناد بن السري (2/646)/ نقلا عن الدرر السنية موسوعة الأخلاق: https://dorar.net/akhlaq/611/%D8%A3%...B3%D8%AA%D8%B1

    10* 1 - كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم : 6069 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

    11*شرح "ردائك": موسوعة الأخلاق الدرر السنية: ستْره بأن يأمره بالتَّوبة، وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى سِتْره إلَّا بأن تَسْتُره بردائك ممَّن يشهد عليه، لكان أفضل ممَّا أتاه dorar.net/akhlaq/609/ثانيا:-الترغيب-في-الستر-في-السنة-النبوية https://dorar.net/akhlaq/609/%D8%AB%...88%D9%8A%D8%A9
    --


    أسماءمحمدلبيب
    أمةالله-عفا الله عنها

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات6:

    أبدا ما ربيتُك لأجل منفعتي الخاصة: {لا نُرِيدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شُكُورًا}



    أسماء محمد لبيب

    فهدفنا اليوم هو فطامُ النفس ومنعُها من التطلع لأي شكر أو جزاء أو مصلحة تعوق تخليصِ نيتنا لله في التربية، من خلال تفعيلِ الممنوعِ الشاملِ المذكور في قوله تعالى:{لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا}
    التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
    تكلمنا في الممنوعِ الثاني والثالثِ عن بعضِ دوافعِ دعاءِ الأم على ولدِها، وكان من أبرزِها: سيطرةُ رغبتِها في الثأرِ لنفسها، على أمومتِها تجاه ولدها.
    ومن أقوى أسبابِ انجرارِ الأمِّ لذلك أحيانًا: تربيتُهم لأجلِ المنفعةِ الدنيويةِ الخاصة، التي حين يخفقون في تلبيتِها يَسقُطُون من نظرنا، ويقعون في مَرمَى طلقاتِنا وربما بصورِ غَضَبٍ وغِلٍّ تتعارضُ مع الأمومةِ مَضرِبِ المَثَلِ في المرحمةِ الكونية..
    وقد يسألُ سائلٌ: ألم يمدحِ اللهُ عبادَ الرحمنِ قائلًا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]؟ والجواب: نعم.. لكنِ المقصودُ وفقَ سياقِ الآيات: ((قرةُ عينٍ وسرورٌ وأُنسٌ بصلاحِهم..))، لا كما يظن الناسُ: ((قرة عينٍ بشأنِهم الدنيوي..))..
    وتأملوا ختامَ دعائِهم في آخرِ الآية: {واجعلنا للمتقين إمامًا}..
    قال السعدي في تفسير [قرةَ أعين]: ((وإذا تأمَّلنا حالَهم وصفاتِهم عرفنا مِن هِمَمِهم وعلوِّ مرتبتِهم أنهم لا تَقَرُّ أعينُهم حتى يَروا أولادَهم مطيعين لربِهم عالمين عاملين.. وكما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه ((دعاء لأنفسِهم)) لأن نفعَه يعودُ عليهم، بل يعود إلى نفعِ عمومِ المسلمين))-بتصرف

    وسؤالُنا اليوم: كيف يمكنُنا تحقيقُ القاعدةِ التي ذكرناها في مقالةِ "النية من التربية"..: {ني نذرتُ ((لك)) ما في بطني}..؟
    كيف نحققُ الإخلاصَ للهِ في الإنجاب؟

    والإجابةُ بأمرين: تكسيرُ موانعِ الإخلاص// وتكثيرُ دوافعِ الإخلاص.
    واليومَ نناقشُ: ((تكسيرُ موانعِ الإخلاص))...
    المانعُ الأولُ: طاعتُنا وإرضاؤُنا لأولادِنا على حسابِ الشرع..
    (وفصلناه في مقالاتِ الممنوع الأولِ بعنوان [[أبدا ما عصيتُ الله لأرضيك": {واحذرهم أن يفتنوك}..]]... وملخصه: "فتنةُ الميلِ إلى رغباتِ الأبناءِ على حسابِ رضا الله..)

    أما المانع الثاني فهو لبُ حديثِنا اليوم: ((لهاثُنا وراءَ حظوظِ أنفسِنا من الإنجاب..))
    فتنعقدُ نياتُنا من الإنجاب على نوايا تخدُم حظَّ النفس، سواءٌ بما يخالفُ الشرعَ أو لا يخالفُه.

    1 فمنا من تنجبُ لأجل منفعةٍ خاصة بما لا يخالفُ الشرع: (كأن أنجبُ لأتمتعَ ببراءةِ الأطفالِ وجمالِهم، ومشاعرِ الأمومةِ مثلا، وإعانتِي في الكِبَر)..
    2 ومنا من يفعلُ ذلك بما يخالفُ الشرع: (كأن أُنجِبَ لأتباهَى بأبنائي أمامَ الناسِ، أو أغيظَ فلانةً العقيمَ مثلا)..

    فالأُولى مباحةٌ شرعًا، لكننا لا نؤجَرُ عليها..
    لكِنِ الثانيةُ معصيةٌ نُؤزَرُ عليها..
    كحالِ الوليدِ بنِ المغيرةِ.. قال الله عنه: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}[المدثر:12-14]
    شُهودًا أي لا يفارقونه أبدًا لا سفر ولا إقامة، يتقوَّى بهم ويُرهِبُ بهم أعداءَه...
    أي: سَخَّرَهُم لمنفعتِه الخاصة...
    {ثمَّ يَطمعُ أن أزيد}..! فلا يَكتفِي، نتيجةً لتضخمِ قيمةِ "منفعتِه الخاصةِ وحظِّ نفسِه"..
    حتى إذا جاء الإسلامُ، استعملَهم في محاربةِ الدين.. فذَمَّهُ اللهُ كما لم يَذُمَّ أحدًا..
    نعم.. قد تقودُ عبوديةُ المنفعةِ الخاصةِ إلى هاويةِ الاستغناءِ، كما قال الله: {أنْ رآهُ استغنَى}..

    تتعجبون؟
    أما تَذكُرون العربَ في الجاهلية كيف يَسوَدُّ وجهُ أحدِهم إذا بُشِّرَ بالأنثى، فلماذا؟
    مِن الأسبابِ: أنه سيضطرُ للإنفاقِ عليها لأنها لا تعملُ ولا تساعدُه في مهامِّ الرجال.. وتضخَمَتْ لديهم قيمةُ المنفعةِ الخاصةِ وحظِّ النفسِ مِن الذريةِ، إلى مرحلةِ "وأدِ البنات"...

    رأيتم حين تختلُ النيةُ وتطغَى المصالحُ الضيقةُ على سموِّ الغايات، كيفَ قد تنتهي بنا الطريقُ إن أمِنَّا الفتنةَ ولم نحاسِبْ أنفسَنا ونُصححِ المسارَ؟

    ولذلك، صِرنا نرى أمًا تَضرِبُ ولدَها وتعنفه لعدمِ حصولِه على الدرجةِ النهائيةِ مثلَ أقرانِه، أو لرفضِهِ الذهابَ لبطولةٍ رياضيةٍ مشهودة، وتَضَعُ قوانينَ صارمةً لإشباعِ منافعِها مِن إنجابِه، مهما أهلكَهُ ذلك..
    ويُضاعِفُ من بشاعة فِعلِها، حينَ يَظهَرُ التغافلُ واللينُ فقط عندَ حقوقِ الله..

    وأُمًا أخرَى، لا تختالُ بالذريةِ لكنَّها قد تُعَنِّفُ ولدَها لرفضِه مساعدتِها في ترتيبِ البيتِ، بينما لو رفضَ القيامَ لصلاةِ الفجر مثلا تقولُ "لا عليكَ اجمعْها مع الظهر"!.. أو لو غَشَّ في الامتحان فلا تبالي..

    وسمعنا عمن قتلوا أولادَهم أو تسببوا لهم في عاهاتٍ مستديمة، في مثل ذلك..


    لذلك، أنذرَنا اللهُ من طغيانِ باعِثِ المنفعةِ الخاصةِ مِن الذرية وغيرها، لأنه يُلهِي عن الغايةِ الأسمَى: {إني نذرتُ لكُ ما في بطني}، حين قال: {ألهاكمُ التكاثُرُ* حتى زُرتُم المقابر}.. والآيةُ ليست خاصةً فقط بالتكاثر والتفاخر بالأولاد.. فكلُها منظومةٌ واحدةٌ مترابطةٌ: {للهِ ربِّ العالمين..}

    وقد تقولُ إحداكُن:
    فما المشكلةُ أن أبتغِي بالإنجابِ منفعةً خاصةً ولا أخالفُ الشرعَ في نيتِي، فأفقدُ فقط الأجرَ ولا آثمُ بالوِزر؟

    والجواب:
    رغم أنه لا حرج على من لم يقصدْ إلا قضاءَ شهوتِه وحاجتِه والتمتعَ بالمباح، ما دام الأمرُ لا يخالفُ الشرعَ، فلا يأثمُ بمجردِ فعله وكذلك ليس له أجرٌ بمجردِ فِعلِه،

    إلا أننا نحذِّرُ من التساهُلِ في حظِّ النفسِ هذا لعدةِ أسباب:

    أولًا: لأنه بوابةٌ للتحولِ للجانبِ الذي فيه وِزر.. والشريعةُ علمتْنا أنَّ سدَّ الذرائعِ بوابةٌ النجاة.. والدنيا دارُ امتحان.. والأولادُ فتنة: {إنَّما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ}.. فلابد أن نُمتَحَنَ في الإخلاص.. لذلك قال الله في ختام الآية: {واللهُ عندَه أجرٌ عظيم..}.. ثم أعقبَها بالآيةِ: {فاتقوا اللهَ ما استطعتُم واسمَعُوا وأطِيعُوا}..
    ورُبَّ نيةٍ أورثَتْ شِركًا والعِياذُ بالله، قال اللهُ في الحديثِ القُدسِي: «أنا أغنى الشُّرَكاءِ عنِ الشِّرْكِ.. من عَمِلَ عملًا أشرَكَ مَعِي فيهِ غَيري فأنا بريءٌ منْهُ -أي لا أقبلُه فلا يَصِلُ إليَّ- وَهوَ كلُّه للَّذي أشرَكَه»[1]

    ثانيا: ابتغاءُ العملِ لوجهِ اللهِ يَجعَلُ فيهِ البركةَ والتوفيق.. فمن تتركُه، فلا تندِبْ قلةَ نَصيبِها من بَركَةِ الذريةِ والتوفيقِ في سعِيها..

    ثالثا: قد تغنمينَ بنيتِكِ الخالصةِ لربِكِ، ثمراتِ أمهَرِ المُرَبِّين، رُغمَ تواضُعِ أدواتِ سَعيِكِ.. النيةُ تَسبِقُ.. فاعمَلِي بذَكاء..

    رابعًا: ألا تريدين أن تغنمي أعلَى درجاتِ الجنةِ بكلِ حسنةٍ تستطيعينَ اقتناصَها، كي تتمكني من رفعِ أبنائِكِ مَعَكِ إليها بإذن الله، الذين عجَزَتْ أعمالُهم عنها وطالما تمنيتِ لهم تلك الدرجات....؟ كما قلنا في قاعدة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}[الطور:21]

    وليس معنى الكلامِ أن نَكرَه المنافعَ من أبنائِنا أو لا نفرحَ بفضلِ اللهِ فيهم.. فتكثيرُ عددِ الأولادِ نعمةٌ أرشدَنا اللهُ لشكرِها حين قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}[الأعراف:86] وحين قال: { {ويُمدِدْكُمْ بأموالٍ وبنينَ}[نوح:12] كمكافأةٍ بعد استغفارِنا.. ولكنها نعمةٌ بحسبِ نيةِ الشخصِ من العددِ.. كما قال اللهُ: وَأَمْدَدْنَٰكُ م بِأَمْوَٰلٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...}[الأعراف:6-7]

    فالكلامُ عن ابتداءِ الباعثِ والنيةِ والقصدِ، وخطورةِ الالتهاءِ بذلك عن الغايةِ الكبرى..
    فنتذكرُ دومًا أنهم زينةٌ لا أكثر.. ويظنُ البعضُ كذلكَ أن كلمةَ "زينة" هي مدحٌ للأبناءِ، بينما هي تحذيرٌ من التمتعِ بهم ونسيانُ اغتنامِ الأجر، فالزينةُ فانيةٌ، بينما الذي يبقَى هو ما احتسبنا أجرَه من الله..

    قال السعدي في تفسير: {ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡبَـٰقِیَـٰ تُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا} [الكهف:46]: أي ليس وراءَ ذلك شيءٌ، والذي يبقَى للإنسان وينفعُه ويَسُرُّه: الباقياتُ الصالحات.. وتأمل كيف ذكرَ اللهُ أن الدنيا فيها نوعان: نوعٌ هو من زينتِها، يُتمتَعُ به قليلًا ثم يزولُ بلا فائدة تَعودُ لصاحبه بل ربما لَحِقَتْهُ مَضَرَّتُه: ((وهو المال والبنون))... // ونوعٌ يبقَى وينفعُ صاحبَه على الدوامِ، وهو: ((الباقيات الصالحات))..]].(بتصرف)

    ولهذا قال سفيانُ الثورِيُّ: "ما عالَجتُ شيئاً علَيَّ أشدَّ من نيتي، إنها تتقَلَّبُ عَلَيَّ..!!"
    وما أبريءُ نفسي فالأمرُ حقًا صعبٌ ولكنه يسيرٌ على من استعانَ بربه..
    بخاصةٍ الجانبُ المباحُ الذي بلا وِزر، لا ننتبهُ له لشدةِ خفائِه في القلبِ وعفويتِه واعتبارِ غالبيةِ الناسِ الإنجابَ ضمنَ المباحاتِ والمتاعِ فقط لا العباداتِ والطاعات..

    فهدفنا اليوم هو فطامُ النفس ومنعُها من التطلع لأي شكر أو جزاء أو مصلحة تعوق تخليصِ نيتنا لله في التربية، من خلال تفعيلِ الممنوعِ الشاملِ المذكور في قوله تعالى:{ما نريد منكم جزاءً ولا شكورًا}
    ولكي نمسكَ بتلابيبِ النيةِ من بدايتِها لنتمكنَ مِن مقاصِدِنا بحولِ الله، تعالَوا نتتبعْ مؤشراتِ المنفعةِ الخاصةِ وتفاوتِ مراتبِها بداخلنا.. فمنا من تختلطُ عليه النيةُ ابتداءً قبل الإنجابِ أصلًا، ومنا من ربما بدأ بنيةٍ خالصةٍ لوجهِ الله، ثم تتحولُ نيتُه في المنتصَف..
    وتفاصيلُ ذلك بالأمثلةِ وطرقِ الوقاية، في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..

    هوامش:

    1*معنى "أنا بريء منه": أي لا أقبله فلا يصل إليّ

    *الحديث بكل روياته الصحيحة

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: فن الكتابة فى الصفحة البيضاء

    ممنوعات6
    (تابع): "وإنما لكلِّ امرِءٍ مَا نَوَى"



    أسماء محمد لبيب




    قلنا في المقالةِ السابقةِ:لكي نُمسِكَ بتلابيبِ النيةِ التربويةِ في بداياتِها، سنتتَبَعُ مواضعَ نيةِ المنفعةِ الخاصةِ، وكيف يمكنُنا اكتشافُها من خلالِ آثارِ أقدامِها..

    ولدينا...

    ثلاثُ مراحل:

    أولُ مرحلةٍ: ابتداءً.. قبل الإنجاب أصلا:
    فننجبُ كما يُنجِبُ الناسُ.. دون احتسابِ أجرٍ من الله..
    =إما لنتخلصَ من كلامِ الناسِ عن تأخرِنا في الحَملِ مثلا، وإخمادِ غيرتِنا من قريناتِنا اللاتِي أنجبنَ قبلنا..

    =أو لنستعملَ الأولادَ في خِدمتِنا ويكونوا لنا عُزوَةً ننتسِبُ إليها ويشدون مِن أزرِنا..
    =أو لنحصُل على جِنسيةِ بلدٍ ما مثلا ونتمتعَ بصلاحياتِ المواطنين فيها..
    =أو لنحصلَ على نفقةٍ في حالةِ حدوثِ طلاقٍ لاحِقًا لا سمحَ الله..
    وما إلى ذلك من المنافعِ الدنيويةِ الخاصةِ التي لا وِزر فيها إن كانت نيتُنا لها، لكن لا أجرَ لنا من ورائها كذلك، لفقدانِ الاحتساب..
    فكما قال ﷺ: "إنما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوَى"..

    =و مِنا من تُنجِبُ طمَعًا في أن ينالَها مِن حُسنِ سَمتِ الأولادِ وتَدَيُّنِهم وتفوقِهم وشأنِهم، شُهرةً أو مدحًا أو مالا.. ونُكاثِرُ بهم قوافِلَ المُفاخِرين بالذرية...

    وهذا يَتبَعُ القِسمَ الذِي فيه وِزر والعياذُ بالله..

    تأملوا قولَ النبيِ ﷺ في الخيلِ:
    «"الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ.. وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ.. وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ.. =فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ: فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلاَ تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرًا../ وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ، مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا../ وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ -حَتَّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا! (أي أخذ يُعَدِّدُ كُلَّ شيئٍ فيها ويُلحِقُ به الأجرَ!)- « وَلَوْ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ» (أي ركضت وأسرعت)، «كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ..!»
    = «وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا، وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا» ، (أي يؤدِي حق الله فيها والناس، وإن لم يهبها في سبيل الله)..
    - «وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ: فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا، وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ » (أي خيلاء وفخر)..*3

    هذا في الخَيلِ...!
    فكيف بمن أنجبَ ولدًا للحياةِ وسقاهَ ورعاهُ من لحمِهِ ودمِه وأنفقَ عليه شبابَه وصحتَه ومالَه في سبيلِ الله.....؟

    وبالطبع ليس كلُ سرورٍ بمدحِ الناسِ رياءً، فالسرورُ المحمودُ حين يفرحُ المرءُ بفضلِ الله عليهِ، لا بحمدِ الناسِ لعملِه.. "قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ الرَّجُلَ يَعمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيرِ ويَحمَدُه النَّاسُ عليه؟ فقالَ: تِلك عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ"

    وهنا نسأل: أين ننتبهُ لهذا النوعِ من النوايا؟
    ===عند الغضبِ.. يَظهَرُ وينكَشِفُ بوضوح..
    فغضَبُ الأمِ بشدةٍ واكتئابِها وحَنَقِها وسَخَطِها، حينَ لا تَحصُلُ على أيٍ مِن تلكَ الثمراتِ المطلوبةِ، علامةٌ تدُلُ على وُجودِ هذا النوعِ.. وأشدُّ مِن ذلك وضوحًا: غضبُها بوسيلةٍ مما نَهَى اللهُ عنه، مِن سَبٍ ودعاءٍ عليه وربما عنفٍ وسخريةٍ وتجريح..
    هي هنا تغضبُ لنفسِها وصورتِها أمامَ الناسِ لا تغضبُ للهِ... ولا تدرِي..
    المرحلةُ الثانيةُ: في المنتصف.. بعد الإنجاب..
    فربما تبدأُ الأمُ بنيةٍ خالصةٍ لوجهِ اللهِ منذ البداية، ثم تتحولُ نيتُها في المنتصف..
    =إما لخوفٍ شديدٍ على الولدِ، لتنامي تعلقِها بهِ أكثرَ كلما كَبُرَ، ولشدةِ جزَعِها من كسرِ خاطِرِه، فتُجَنّبُهُ الكثيرَ من مِواطِنِ التربيةِ المُستقيمةِ والتقويمِ الإيمانيِّ والخُلُقِيِّ الحازمِ بما أمرَ اللهُ، إشفاقًا عليه وإشفاقًا مِن تبرّمِهِ وغضبِه، مثلما فصّلنا في الممنوعِ الأولِ سابقا.. فتتحولُ كما تحوّلَ الذين حَكَى اللهُ لنا عنهم تحولَهم بعدما وهَبَهم الطفلَ السليمَ من العيوبِ كما طلبوا، قائلا: {{فَلَمَّاۤ ءَاتَىٰهُمَا صَـٰلِحࣰا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَاۤءَ فِیمَاۤ ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ}} ..
    =وإما لتعجّلِها الثمرةِ، فيغزوها الإحباطُ وفقدانُ الأمل.. فتهجُرُ تجديدَ النيةِ الأصليةِ لديها للإنجاب، وتطغَى داخلَها نوازعُ المنفعةِ الخاصةِ بحكمِ سرعةِ وتيرةِ الحياة وضغوطاتِها وتَعارُضِ المصالحِ وضعفِ الإنسانِ أمامَ احتياجاتِه.. فتتجهُ بكاملِ طاقتِها القلبيةِ لتلبيةِ منافعِها الخاصةِ الضيقةِ ويخفُتُ صوت:ُ {للهِ ربِّ العالمين}..
    نعم.. تعجُّلُنا للثمرةِ وفُقدانُنا للأملِ يكونُ أحيانًا نقطةَ تحولٍ فارقة..
    فلا يُلهينا غيابُ ثمرةٍ عاجلةٍ، عن قطافِ ثمراتٍ أعظمَ مُؤجَّلة..

    =وإما تتحولُ فرارًا من ((وجعِ الدماغِ)) التربويِّ المتضخمِ، حين اكتشفَتْ بعدما كَبُرَ ولدُها، أن التربيةَ وفق هذه النيةِ إلى ما لا نهايةٍ= أمرٌ صعبٌ ومُرهِقٌ، وشبابُها يزولُ سريعًا وأوقاتُها الخاصةُ تبخرتْ وهذا كلُه يُزعجُها، فتتركُ ولدَها للشوارعِ أو للعالم الرقميِ يُرَبِّيانِهِ عِوَضًا عنها مادامَ يَجِدُ فيهما مُتعتَهُ وضالتَه وتُرحَمُ بهما من طَنِينِهِ وثَرثَرَتِه وأسئلتِه لها وملاحقتِه والتصاقِه بها.. أو ربما تمنعُه من الشوارعِ والعوالمِ الرقمية، لكنها تتركهُ وحيدًا في عالمهِ الخاص كالقوقعةِ المنبوذةِ في قاعِ المحيطِ، لتنعمَ هي بقوقعتِها الخاصةِ كأيامِ شبابِها، فمادام لا يرتكبُ مصائبَ ظاهرةً ولا يَطلُبُ شيئًا منها =فلا بأسَ بالنسبةِ لها أن تنشغلَ عنه بعالَمِها وكفى اللهُ المؤمنين القتال.. فلا تتأكدُ من إحكامِ عقيدتِهِ كفعلِ سيدِنا يعقوبِ مع بَنِيه حتى آخرَ أنفاسٍه من الدنيا: {{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي}} .. ولا تتفقدُ أحلامَه كما كان يفعلُ النبيُ ﷺ مع أصحابِه حين يُصبِحون فيسألُهم عن أحلامِهم ليلةَ أمس.. ولا تتفقدُ طموحاتِه واحتياجاتِه ولا تشاركه طعامًا ولا حوارًا كما كان يفعلُ النبيُ ﷺ مع أهلِ بيتِه.. ولا تُفَتِّشُ وراءَ همومِ وجههِ وشرودِ روحِه كما كفعلِ النبيُ ﷺ مع أبي عمير وعصفورِه النغيرِ.... وغيرِهم..
    فيصبحُ الولدُ يتيمًا وأبواه على قيدِ الحياة.. ويَنقَطِعُ أجرُها هي بعدما كان شلالًا عذبًا زُلالًا لا ينقطعُ حتى وهي نائمة..!

    =وربما تركَتْ النيةَ في المنتصف، لخذلانِ مَن حولِها لها في حَملِ عِبءِ التربيةِ معها... ولو أنها ركزتْ على النيةِ مهما عاكَسَتْها البيئةُ الخارجيةِ وخذَلَتْها، لنالتْ الأجرَ حتى ولو فَسَدَتْ ثمرتُها بسببِ الخذلانِ وفقرِ الأسباب..
    قال النبيُ ﷺ عن الرجلِ الذي لا مالَ عنده ويتمنَى المال ليتصدق، أنه قال: ..((لو أنَّ لي مالًا لعَمِلْتُ بعملِ فلانٍ..)).. "فهو بِنِيَّتِه.. وهُمَا في الأجرِ سواءٌ"..

    =وربما تحولت نيتُها، لكثرةِ لومِ الناسِ وانتقادِهم لها وتبكيتهم إياها ووصفهم إياها بالتشدد، لتربيتِها ولدَها بالوحيينِ تربيةٍ محافظةٍ ذاتِ رقابةٍ ومرجعيةٍ دينيةٍ، وهو بعدُ صغيرٌ -في نظرِهم!..
    بينما الإخلاصُ أن يستوِي عندنا مدحُ الناسِ وذمِّهم..

    قال الفضيل بن عياض:
    [[مَن عَرَف الناسَ استراح]].. أي مَن عرفَ أنهم لا يَنفعونه ولا يَضُرونَه استراحَ منهم..
    وقال ابن تيمية:
    [[السعادة ُفي أن تعاملَ الخلق لله؛ ترجو اللهَ فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافُ اللهَ فيهم ولا تخافَهم في الله.]]
    وقال ابن القيم :
    [[مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ (المخبتين)، وَتَمَكَّنَ فِيهَا: ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ ، هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لعُبُودِيَّةِ رَبِّهِ، وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ]]
    *وقال ابن الجوزي: [[ومتى نَظَر الإنسانُ إلى التفاتِ القلوبِ إليه فقد زاحمَ الشركَ نيتَه؛ وضاعَ العملُ، وذهب العمرُ]]*6

    ويأتي السؤال:


    أين ننتبهُ لهذا النوع؟
    الجواب:
    -عند أوامرِ الله..
    -وعند مدحِ الناسِ لنا أو ذمِهِم..

    فإن كنا لا نَسمَعُ لاختلالِ النيةِ صوتًا لأنه أخفَى من دبيبِ النملِ كما قال ﷺ: "الشِّركُ في هذه الأُمَّةِ أخْفَى من دبيبِ النَّملِ"، إلا إن لدبيبِهِ في القلبِ كما فصلنا آثارًا على الجوارحِ تفضحُه...

    وكل ذلك، إن لم يكن فيه وِزرٌ، فإنه ليس فقط يُفقِدُنا الأجرَ، وإنما أيضاً يُفقِدُ التربيةَ بركتَها والتوفيقَ فيها غالبًا، بالإضافةِ إلى أنه يؤدِي لسوءِ العلاقةِ بيننا وبين أولادِنا، إذ تصبحُ مبنيةً على المصالحِ الضيقةِ والأهواءِ االمُتعارضةِ بطبيعةِ الحال، لا علاقةً مبنيةً على معالِي الأمورِ والغاياتِ والمقاصدِ، فيُمَزِّقُها الشيطانُ كُلَّ مُمُزَّقٍ والعياذ بالله..

    بينما ما كان لله دامَ وارتفع..
    وكلما كانت العلاقةُ في اللهِ ولله، كلما ذابت المسافات بين أطرافِها وسَدَّتْ بينهم فُرَجِ الشيطانِ المُفسدة..

    وهكذا نكون قد تعرَّفْنا على جانبٍ من الواقعِ يخصُّ أنواعَ النياتِ ومراتِبها وأمثالِها..
    وبقِيَ أهمُ سؤالٍ:
    بعدَ كلِ الرصدِ والتحليلِ والتشخيصِ والتصنيفِ:
    كيفَ العلاجُ.....؟
    والجواب في المقالةِ القادمةٍ بإذن الله..

    *الهوامش:

    1* رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح

    2* https://dorar.net/hadith/search?q=%D...e=&rawi%5B%5D=

    3*صحيح البخاري ومسلم

    4*"من مدارج السالكين " (2/ 8).
    5*صيد الخاطر
    6*بتصرف واختصار

    *شرح حديث عاجل بشرى المؤمن:
    https://dorar.net/hadith/sharh/148912

    *شرح حديث الخيل ثلاثة:
    https://dorar.net/hadith/search?q=+%...e=&rawi%5B%5D=

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •