بسم الله، الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله، و آله و صحبه و من والاه، أما بعد:


فإن اعتقاد أهل السنة أن الجنة باقية لا تفنى و لا يفنى أهلها فهي باقية و أهلها باقون فيها كما عبر عن ذلك الإمام الطحاوي رحمه الله في متن العقيدة الطحاوية: (و الجنة و النار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً و لا تبيدان).


لكن الجهم بن صفوان إمام المعطلة خالف أهل السنة في هذه العقيدة و قال بفناء الجنة و قد أورد ابن القيم رحمه الله قول الجهم بن صفوان في كتابه الشهير: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) في الباب السابع و الستين بعنوان: (في أبدية الجنة).


و بما أن أدلة النقل (القرآن الكريم و السنة الشريفة) متوافرة متضافرة في دحض القول بفناء الجنة، فقد رأيت أن أعضد أدلة النقل بدليل العقل على بقاء الجنة و أهل الجنة، فاستنبطت بفضل الله و توفيقه هذا البرهان الذي سميته: (لطائف البرهان في بقاء الجنة و من فيها من أهل الرضوان)، و الدليل يمزج بين العقل و النقل و لكن يغلب عليه طابع العقل و المنطق، إن كان قد سبقني أحد من العلماء إلى هذا البرهان فينبغي أن ينسب إليه لا إلي، و يكون ما أتيت به من قبيل توارد الأفكار و الخواطر صدفة و ليس من قبيل سرقة الأفكار عمداً.


لطائف البرهان في بقاء الجنة و من فيها من أهل الرضوان


ينقسم البرهان إلى قسمين:

القسم الأول: البرهان على بقاء أهل الجنة.
القسم الثاني: البرهان على بقاء الجنة.


القسم الأول: البرهان على بقاء أهل الجنة و يتكون من ثلاث خطوات منطقية:


1. أهل الجنة هم أهل رضوان الله تعالى، قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) [سورة البينة - آية 7-8].


و في الحديث القدسي الشريف: (إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالَى يقولُ لأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ. فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ، فيَقولُ: هلْ رَضِيتُمْ؟ فيَقولونَ: وما لنا لا نَرْضَى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحَداً مِن خَلْقِكَ، فيَقولُ: أنا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِن ذلكَ، قالوا: يا رَبِّ، وأَيُّ شيءٍ أفْضَلُ مِن ذلكَ؟ فيَقولُ: أُحِلُّ علَيْكُم رِضْوانِي، فلا أسْخَطُ علَيْكُم بَعْدَهُ أبَداً) [صحيح البخاري].


2. توجد محبة متبادلة بين الله عز و جل و أهل الجنة، فالله عز و جل يحب أهل الجنة و أهل الجنة يحبون الله عز و جل، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم) [سورة المائدة - آية 54].


و قد ذكرت في موضوع سالف أن الله يحب أهل الجنة من أصحاب اليمين محبة عامة و يحب أهل الجنة من السابقين المقربين محبة خاصة، و هذا رابط الموضوع: ( https://majles.alukah.net/t186518/ ).


3. هل يحب المحب بقاء حبيبه أم فناء حبيبه؟ لا شك أن المحب يحب بقاء حبيبه و لا يحب فناءه، إذاً فالله عز و جل يحب بقاء أهل الجنة و لا يحب فناءهم، و هذا هو المقتضى أو المسلتزم العقلي المنطقي الذي يقودنا إليه العقل الصريح و النقل الصحيح، و بناء على ما مضى فإن النتيجة المنطقية أن الله سيبقي أهل الجنة و لا يفنيهم، و ذلك بفضله و رحمته و حكمته و مشيئته، فالحمد لله رب العالمين.




القسم الثاني: البرهان على بقاء الجنة:


* لنفرض جدلاً أن الجنة ستفنى كما يزعم الجهم بن صفوان، فإن ذلك سيقتضي أن الجنة ستفنى دون أن يفنى أهلها لأنا أثبتنا في البرهان الأول أن الله يحب بقاء أهل الجنة.


* بعد أن تفنى الجنة دون أن يفنى أهلها أين سيكون أهل الجنة؟ هناك احتمالان: إما أنهم سيكونون في نعيم أو بدون نعيم.


لو أنهم سيكونون بدون نعيم فإن هذا سيقتضي انتقالهم من حال عليا إلى حال سفلى و هذا مثال على استبدال الذي أدنى بالذي هو خير، و هو لا شك نقص مذموم ذم موسى عليه السلام بني إسرائيل عليه حينما أرادواستبدال البقل و القثاء و الفوم و العدس و البصل بالمن و السلوى و ذلك مبين في قول الله تعالى:(و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم ...) [سورة البقرة - آية 61]، و الله عز و جل متصف بجميع صفات الكمال منزه عن جميع النقائص بما فيها استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، فلا يليق بالله سبحانه و تعالى أن يفعل شيئاً عابه في القرآن الكريم على بعض خلقه (أي بني إسرائيل).


* لقد ثبت في النقطة السابقة أن الجنة لو فنيت فإن مقتضى حكمة الله عز و جل أن ينقل أهل الجنة إلى نعيم يتنعمون به، فكيف سيكون هذا النعيم؟ هنالك ثلاثة احتمالات:


1. الاحتمال الأول: أن يسكنهم في دار يكون النعيم الجديد فيها أقل و أصغر (كماً و كيفاً) من النعيم القديم الذي كانوا يتنعمون به في الجنة، و هذا الاحتمال مستحيل في حق الله تعالى لأنه مثال على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، و قد ثبت أن هذا من النقائص التي يتنزه الله تبارك و تعالى عنها.


2. الاحتمال الثاني: أن يسكنهم في دار يكون النعيم الجديد فيها مساوياً (كماً و كيفاً) للنعيم القديم الذي كانوا يتنعمون به في الجنة، و هذا الاحتمال مستحيل في حق الله تعالى لأنه مثال على العبث الذي لا فائدة منه، و قد ثبت أن هذا من النقائص التي يتنزه الله تبارك و تعالى عنها، قال الله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً و أنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) [سورة المؤمنين - آية 115-116].


3. الاحتمال الثالث: أن يسكنهم في دار يكون النعيم الجديد فيها أكثر و أعظم (كماً و كيفاً) من النعيم القديم الذي كانوا يتنعمون به في الجنة، و هذا الاحتمال مستحيل في حق الله تعالى لأنه مثال على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، و قد ثبت أن هذا من النقائص التي يتنزه الله تبارك و تعالى عنها، و ذلك لأن نقل أهل الجنة من دار ذات نعيم إلى دار ذات نعيم خير من الأولى يدل على أن مدة إقامتهم في الجنة الأولى الناقصة مع وجود دار خير منها و أكمل كان مثالاً على استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. و قد وصف الله أهل جنة الفردوس و هي أكمل و أعلى درجات أهل الجنة أنهم لا يبغون عنها حولاً لأن نعيمها تام لا ينقصه شيء و لا يحتاجون معه إلى نعيم آخر ليس موجوداً فيها حيث قال الله تبارك و تعالى: (إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً * خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً) [سورة الكهف - آية 107-108]، فلو علم أهل جنة الفردوس أن هنالك داراً خيراً من جنة الفردوس لابتغوا الدار الأكمل و الأحسن و رغبوا حولاً عن جنة الفردوس و هذا هو المستحيل الذي دل عليه النقل الصحيح و العقل الصريح.


* النتيجة: رأينا أن الاحتمالات الثلاثة السابقة مستحيلة فاقتضى ذلك و دل على بقاء الجنة بفضل الله و رحمته و كرمه و منته، فالحمد لله ذي الكمال و الجمال و الجلال و النوال.


سبحان ربك رب العزة عما يصفون، و سلام على المرسلين، و الحمد لله رب العالمين.