تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: تفسير خَلَفِ بن أَحْمد مَلِكِ سِجستان(ت399هـ): تَجرِبةٌ قَديِمَةٌ للتفسير الموسوعيِّ

  1. #1

    افتراضي تفسير خَلَفِ بن أَحْمد مَلِكِ سِجستان(ت399هـ): تَجرِبةٌ قَديِمَةٌ للتفسير الموسوعيِّ

    بسم الله الرحمن الرحيم
    حَفَلت الحضارةُ الإسلاميةُ على امتدادها طولاً وعرضاً على مساحات واسعة من الأرض والتاريخ بصنوف أعاجيب الهمم العالية ، والتصانيف المدهشة ، وقد انصرفت عناية العلماء والأمراء إلى القرآن وخدمته انصرافاً ظاهراً في عهود الإسلام الزاهرة. ومنذ زمنٍ قرأت في ترجمة أحد ملوك سجستان(1) ، وهو خَلَفُ بنُ أَحْمد بن مُحمَّد بن الليث السِّجستاني المولود سنة 326 هـ والمتوفى مسجوناً سنة 399هـ أنه قد جَمعَ عدداً من العلماء والباحثين في دارٍ للبحث العلمي يشرف هو بنفسه عليها ، لتصنيف تفسير موسوعي شامل للقرآن الكريم.
    وقد وصفه أهل التراجم بالعلم ومحبته ومحبة أهله ، فقال ابن الأثير في ترجمته في حوادث سنة 393هـ :( وكان خَلَفُ مشهوراً بطلبِ العلمِ ، وجَمعِ العُلماءِ). ، وقال الذهبي في ترجَمتهِ :(المَلِكُ المُحدِّثُ ، صاحبُ سِجستان خَلَفُ بن أحمد بن محمد بن الليث السجستاني الفقيهُ ، مِنْ جِلَّةِ المُلوكِ ، لَهُ إِفضالٌ كثيرٌ على أهل العلم مولده في سنة ست وعشرين وثلاث مئة ، وسَمِع من مُحمَّد بن علي الماليني صاحب عثمان بن سعيد الدارمي ، ومن عبد الله بن محمد الفاكهي المكي ، وأبي علي بن الصواف ، وعلي بن بندار الصوفي. روى عنه أبو عبد الله الحاكم ، وأبو يعلى بن الصابوني ، وطائفةٌ ، وانتخب عليه الدارقطني ، وامتدت دولتهُ ، ثُمَّ حاصره السلطان محمود بن سبكتكين في سنة ثلاث وتسعين ، وآذاه ، وضيَّقَ عليه ، فنَزَل بالأمان إليه فبعثه مكرماً في هيئةٍ جيدةٍ إلى الجوزجان ، ثُمَّ بعد أربع سنين وُصِفَ للسلطان أَنَّهُ يُكاتب سلطانَ ما وراء النهر أيلك خان فضيق عليه) [سير أعلام النبلاء 17/117] . وقال ابن كثير في ترجمته :( وخَلَفُ بن أحمد كان أميراً على سِجستان ، وكان عالِماً) .[ البداية والنهاية 354هـ ]
    * قصة تصنيف التفسير الموسوعي :
    بعد توليه ملك سجستان بعد عام 350 من الهجرة ، رأى الملكُ العالمُ خلفُ السجستاني كثرةَ ما نُقِلَ وصُنِّفَ حتى زمانهِ من تفاسير القرآن ، وما استجدَّ من العلوم المتعلقة به ، فبدا له أن يصنف تفسيراً موسوعياً يشتمل على كل ما قيل في تفسير القرآن ، مع ترتيبه وتهذيبه ، وتبويبه على خطة علمية محكمةٍ ، استشار في وضعها العلماء في وقته ، ثم شرع في مشروعه العلمي الكبير الذي لم يصنعه قبله أحدٌ لطوله ، وكلفته المالية العالية . وربما يضاف إلى ذلك ضعف الهمم عن كتابته وتحصيله.
    وفكرةُ تصنيف تفسيرٍ جامعٍ للقرآن لا يَدَعُ شيئاً إلا أتى عليه خَطَرَتْ لكثيرٍ من العلماء والباحثين قديماً وحديثاً(2) ، ولعلَّ مِنْ أولِ من فَكَّر في هذا الأمر الإمامُ الطبريُّ عندما قال لطلابه : هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مِمَّا تفنى الأعمارُ قبلَ تَمامهِ، فاختصره فى نَحو ثلاثةِ آلافِ ورقة. وكذلك قال لهم فى التاريخ، فأَجابوه بِمثلِ جوابِ التفسير.
    وقد كان الملك خلف موصوفاً بالجود والكرم ، والعلم وحب العلماء ، يقول الذهبي :(وكان في أَيَّامهِ مَلِكاً ، جَواداً ، مَغشيَّ الجنابِ ، مُفضِلاً ، مُحسناً ، مُمَدَّحاً ، جَمَع عِدَّةً من الأئمةِ على تأليفِ تفسيرٍ عَظيمٍٍ ، حَاوٍ لأقوالِ المُفسِّرينَ ، والقُرَّاءِ ، والنُّحاةِ ، والمُحدِّثينَ . فقال أبو النضر في كتاب (اليميني) :(بلغني أَنَّهُ أَنفق عليهم في أسبوعٍ عشرين ألف دينارٍ ، قال : والنُّسخةُ به بنيسابور تستغرقُ عُمْرَ الناسخِ ).سير أعلام النبلاء 17/117
    ويحدثنا المؤرخ أبو نصر العتبي عن هذا الكتاب ومكان وجوده في وقته فيقول:(وقد كان – يعني خَلفَ بنَ أحمد – جَمَعَ العلماءَ على تصنيفِ كتابٍ في تفسير كتاب الله تعالى ، لم يُغادِر فيه حرفاً من أقاويل المفسرين ، وتأويل المتأولين ، ونُكَتِ المُذكِّرين ، وأَتبعَ ذلك بوجوه القراءاتِ ، وعِللِ النَّحوِ والتصريفِ ، وعلامات التذكير والتأنيث ، ووشَّحها بِما رواهُ عن الثقات الأثبات من الحديث. وبلغني أَنَّه أَنفقَ عليهم مدةَ اشتغالِهم بِمعونتهِ على جَمعِه ، وتصنيفهِ عشرين ألف دينارٍ ، ونسختها بنيسابور في مدرسة الصابونية ، لكنَّها تَستغرقُ عُمرَ الكاتبِ ، وتستنفدُ حِبْرَ الناسخِ ، إِلا أَن يتَقاسَمها النُّسَّاخُ بالخطوطِ المختلفة). أ.هـ.
    وهذا التفسير الموسوعي يقع في مائة مجلد ، كما نقل المنيني (ت1172هـ) في كتابه (الفتح الوهبي على تاريخ أبي نصر العتبي) 1/375 عن الكرماني قوله :( تفسيرُ خَلَفٍ مشهورٌ مذكورٌ ، وهو مائة مُجلَّد ، وبعضُ مُجلداتهِ نُقل إلى خزانة الكتب بالمسجد المنيفي – كذا في المطبوع والصواب : المنيعي – من مدرسة الصابوني بعد خرابِها ، وهي الآن فيها). أ.هـ
    وقال ابن الأثير يصف هذا التفسير :(وله كتابٌ صنَّفَهُ في تفسيرِ القُرآنِ من أكبرِ الكتب).
    وقال ابن خلدون في تاريخه 4/481 :( ثُمَّ هَلَك خَلَفُ سنة تسعٍ وتسعين وثلثمائة ... وكان خَلَفُ كثيرَ الغاشيةِ من الوافدين والعلماءِ ، وكان مُحسناً لهم. أَلَّف تفسيراً جَمعَ له العلماءَ من أهل إِيالتهِ ، وأنفق عليهم عشرين ألف دينارٍ، ووضعه في مدرسة الصابوني بنيسابور ، ونَسخُهُ يستغرقُ عمرَ الكاتبِ إِلا أن يُستغرقَ في النَّسخِ).
    وإذا كان تفسير الطبري المختصر في ثلاثة الآف ورقةٍ ، وقد طُبِعَ الآنَ عدة طبعاتٍ ، منها ما هو في ثلاثين جزءاً ، ومن آخرها ما يقع في أربعة وعشرين مجلداً ، فثلاثين ألف ورقةٍ ستكون في مائتين وستين مُجلَّداً تقريباً ، وهوحَجمٌ - إِن صَحَّت طريقتي في الحسابِ أو قاربت – يفوقُ ما كُتِبَ فيه تفسيرُ خَلَفٍ السجستانيِّ الذي كتبَ في مائة مُجلَّدٍ ، غير أن الطبري كان وحده من جهةٍ ، وكان ضعف همة طلابه عن الكتابة مانعاً من جهة أخرى ، وأما خلف فقد جمع لذلك لجنةً علمية من العلماء ، وأشرف على الأمر بنفسه ، وكان ذا مال وافرٍ أنفق منه على هذا المشروع .
    وتفسير خلفٍ هذا مفقودٌ اليوم حسب علمي ، ولعل هذا التفسير الذي أشرف عليه خلف السجستاني المَلِكُ العالِمُ ، وأَنفق عليه بنفسهِ ، وشارك فيه ولا بد لكونهِ من العلماء كما ذكر أهلُ التراجم ، يكون قد استوعبَ – أوكاد -ما كتب في التفسير قبله ، ومعظمها فقدت في الأزمنة المتأخرة ، ولو عُثِر على هذا السِّفرِ الطويل لأضاف شيئاً كثيراً لكتب التفسير ؛ لأنَّ منهجه الاستيعاب والاستقصاء فيما يظهر والله أعلم. وكان في نيتي تتبع أسماء العلماء الذين أعانوا خلفاً على تصنيف هذا التفسير ، ولكن لم أتمكن من ذلك بعدُ.
    * وصف الكتاب ومنهجه:
    ذكر أبو نصر العتبي أَنَّ هذا التفسير :
    - لم يُغادِر فيه حرفاً من أقاويل المفسرين.
    - وتأويل المتأولين.
    - ونُكَتِ المُذكِّرين.
    - وأَتبعَ ذلك بوجوه القراءات.
    - وعِللِ النَّحوِ والتصريفِ ، وعلامات التذكير والتأنيث.
    - ووشَّحها بِما رواهُ عن الثقات الأثبات من الحديث.
    وذكر الذهبي في وصف التفسير أَنَّه :
    - حَاوٍ لأقوالِ المُفسِّرينَ.
    - والقُرَّاءِ.
    - والنُّحاةِ.
    - والمُحدِّثينَ .
    فتبيَّنَ لنا مِن وَصفِهم لهذا التفسيرِ الموسوعيّ :
    1- أنه قد جَمعَ ما روي من تفسير النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ، وتفسير الصحابة والتابعين وتفسير السلف مِمَّن جاءَ بعدهم ، وجَمع أَقوالَ المُفسِّرينَ قَبلَهُ ، وتأويل المتأولين الذين صنفوا في التفسير قبله كالطبري وغيره .
    2- وأنه جَمعَ وجوهَ وأَقوال عُلماءِ القراءات في توجيه القراءات القرآنية ، فجاء حافلاً بهذا ، والوقت الذي صنف فيه هذا التفسير معاصر لزمن أبي علي الفارسي الذي يُعَدُّ من أوسعِ مَنْ صنَّف في تَوجيه القراءاتِ ، ولَهُ في ذلك كتابُ الحُجَّة وغيره.
    3- وجَمع أَقوال النحويينَ وتوجيهاتِهم لآيات القرآنِ الكريم ، وهذا الأمر قد حفلت به كتب التفسير المعاصرة له والتي جاءت بعده كالبسيط للواحدي ، ولست أدري هل هذا التفسير كان من مصادر الواحدي في تفسيره أم لا ، وهل نصَّ على النقل منه أحد من المفسرين .
    4- وجَمعَ أقوالَ أَهلِ اللغةِ في غريب القرآنِ ، وتصريفِ الألفاظِ ، وهذا الجانب من أولى الجوانب بالعناية في كتب التفسير ، فكيف بمثل هذا الكتاب الذي بناه صاحبه على الاستقصاء والاستيعاب .
    ومن الأمور التي لم يُشَر إليها في وصفه ولعله أغفلها :
    1- أوجه البلاغة في التفسير لم ينص عليها من وصف التفسير ، ولعل العناية بهذا الجانب في ذلك الوقت لم تكن كبيرة عند المفسرين بخلاف من جاء بعدهم إلى زماننا هذا الذي كثرت العناية به ، وصنفت في ذلك المصنفات .
    2- أحكام القرآن الفقهية ، فلم يرد ذكر لأقوال الفقهاء واستيعابه لها ، مما قد يشير إلى أنه كان يرى أن هذه ليست من شأن كتب التفسير كما حدث بعد ذلك في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي وغيره ، وهذا يفيدنا في معرفة مدلول كلمة التفسير عند المتقدمين وأنها مقتصرة برغم سعتها على جوانب معروفة ليس منها التوسع في أحكام الفقه والبلاغة.
    3- أوجه إعجاز القرآن المختلفة التي لم تكن قد تحررت في زمنه بشكل ظاهرٍ ، وقد توسع العلماء في بيان أوجه الإعجاز بعد ذلك ، ولعل الدعوات المعاصرة للتصنيف الموسوعي في التفسير تضع من أولوياتها بيان أوجه إعجاز القرآن البلاغية والعلمية وغيرها، مما يدل على أن الحاجة لتفسير القرآن حاجة متجددة ، وأنَّ هناك أوجهاً حديثة ظهرت الحاجة إلى تناولها في كتب التفسير .
    وليت أحد الباحثين يدرس بيئة نيسابور وأثر علمائها في الدراسات القرآنية ، فمؤلفاتهم في التفسير كثيرة ، كما يمكن تناول جهود الملوك والسلاطين في تفسير القرآن أو الإعانة عليه ، فلا أعلم مَلِكاً عالماً من ملوك الإسلام جمع له بين العلم والمال ، قام بمثل مشروع خلف السجستاني رحمه الله وغفر له.
    ــــ الحواشي ــــــ
    (1) هي منطقةٌ قديِمةٌ بين إيران وأفغانستان الآن ، وقاعدتها مدينة نصر آباد .
    (2) طرح الأخ الكريم الفقير إلى ربه فكرة مماثلة لهذا في مشاركة له بعنوان : هل يعتبر هذا الاقتراح حلماً ؟

    هذا الموضوع سبق أن نشرته في ملتقى أهل التفسير فعذراً لمن اطلع عليه هناك .
    يسعدنا مشاركتكم لنا في ملتقى أهل التفسير

  2. #2

    افتراضي

    شكر الله لك ونفع بك ياشيخ عبدالرحمن، ونرجو أن نرى مثل هذا المشروع ماثلاً في عصرنا هذا وقد استوعب القديم والحديث، كما أن الأمة بحاجة لمثل هذه المشاريع الضخمة أيضًا في الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، فنفسي تتشوَّف لجمع جميع المسائل الفقهية مرتبة على أبواب الفقه، ويذكر بجانب كل مسألة جميع أقوال أهل العلم فيها واختلافهم، حتى في داخل المذهب الواحد، وبجانبها دليل كل قول، ولو جاء هذا في برنامج حاسوبي بمجرد ماتؤشر بالمؤشر على المسالة يخرج لك تشجيرها، وكل فرع من هذه الشجرة تحته فروع، وهكذا، ولعل هذا يكون من مشاريع الجامعات والأقسام العلمية التي أصبحت فيها بعض التخصصات تشتكي من ضيق الموضوعات، وهو بحر واسع يستوعب طاقات الكثير من الدارسين، وما ذلك على الله بعزيز.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    510

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سعد بن عبدالله الحميد مشاهدة المشاركة
    فنفسي تتشوَّف لجمع جميع المسائل الفقهية مرتبة على أبواب الفقه، ويذكر بجانب كل مسألة جميع أقوال أهل العلم فيها واختلافهم، حتى في داخل المذهب الواحد، وبجانبها دليل كل قول، ولو جاء هذا في برنامج حاسوبي بمجرد ماتؤشر بالمؤشر على المسالة يخرج لك تشجيرها، وكل فرع من هذه الشجرة تحته فروع، وهكذا، ولعل هذا يكون من مشاريع الجامعات والأقسام العلمية التي أصبحت فيها بعض التخصصات تشتكي من ضيق الموضوعات، وهو بحر واسع يستوعب طاقات الكثير من الدارسين، وما ذلك على الله بعزيز.
    أحسن الله إليكم يا شيخنا الكريم، وهذا الذي تشوفتم له، ورغّبتم الجامعات إلى قنصه والدخول فيه، كان قديماً عمل الفرد الواحد من أهل العلم، دون كلل أو ملل أو سآمة، وهو وإن لم يرق إلى الاستيعاب المطلق، إلا أنهم قاربوا ذلك، كما في صنيع البيهقي والنووي وابن قدامة وغيرهم من الأئمة رحمهم الله أجمعين، فما جمعوه من أقاويل أهل العلم والمعرفة كان عملاً عظيماً، ولو أوكلنا ما قاموا به إلى بعض الجامعات أو الأكاديميين لضاق وقتهم عن القيام به، لكنهم لسلامة قصدهم، وبركة وقتهم، وحرصهم ومثابرتهم، فتح الله عليهم، فألفوا تلك الكتب وأضعافها في شتى الفنون.

    ومثله في الرجال كتب المزي ومغلطاي وابن حجر وبقية الأئمة عليهم رحمة الله أجمعين.

    حفظكم الله وبارك فيكم وسدد خطاكم، والشكر يتصل إلى الشيخ الأديب الأريب عبدالرحمن الشهري على هذه الإفادة العزيزة.

  4. #4

    افتراضي

    حياكم الله يا دكتور سعد ، وفي الحق إنَّ مثل هذا المشروع في التفسير أو في الفقه أو في الحديث عمل عظيم تطمح النفوس إليه، غير أنني لا أظنه سيجد قبولاً وإقبالاً في تصنيفه أولاً ، وفي قراءته ثانياً ، لضعف الهمم ، وكثرة الصوارف ، وفي البحوث والدراسات والتحقيقات المتفرقة ما يمكن معه للطالب الحريص أن يكمل عقله وعلمه بقراءتها والاطلاع عليها ، ولو لم تكن مجموعة في كتاب واحد ذي أجزاء متسلسلة .
    وإنني أضرب لك مثلاً بكتب التفسير فقد قرأت منها العشرات ولله الحمد ، ووجدت في كل واحد منها شخصية متفردة ، وعلماً لا تجده عند غيره ، يحصل للقارئ بمجموعها نوع من التكامل العلمي في هذا الفن ، ويتحصل للقارئ المطالع مَلَكةً عقلية وعلمية تتشكل من مجموع عقول هؤلاء العلماء والمؤلفين ومناهجهم . وصدق شوقي :
    حَمراءَ أَو صَفراءَ إِنَّ كَريمَها * كَالغيدِ كُلُّ مَليحَةٍ بِمَذاقِ
    ولو كان تفسير خلف السجستاني بين أيدينا اليوم لرأينا إعوازه في جوانب البلاغة ومسائل الإعجاز التي لم تكن مشتهرة في زمانه ، مع إنها من أكثر ما يعنى به أهل زماننا ويسألون عنه ، ويطربون له . وقس على ذلك ما لم يذكره من العلوم التي احتاج الناس إليها في زماننا .
    وأما أن يكون تنفيذ مثل هذه المشروعات الموسوعية على هيئة برامج الكترونية فهذا شيء بديع ، وقد تحقق طرف منه ، ولو نفذت الفكرة بطريقة منظمة لكان له نفع عظيم ، فقد انتفعنا بالموسوعات الحاسوبية وسهلت لنا كثيراً من مسائل العلم والبحث فالحمد لله رب العالمين .
    وأختم بإشارة أخرى لفكرة تصنيف موسوعية في تفسير القرآن راودت ملكَ زبيد باليمن ، فعرضها على الفيروز أبادي صاحب القاموس وكان مقرباً له ، فشرع فيها الفيروز أبادي على أن يعاونه في ذلك عدد من العلماء ، فلم يلبث الملك أن توفي وفتر الدعم المادي والمعنوي للمشروع من خليفة الملك .
    فقد كان الملك الأشرف ملك زبيد يرغب في أن تصنف باسمه الكتب والموسوعات العلمية ، فاقترح على الفيروزأبادي صاحب القاموس أن يؤلف كتاباً جامعاً في التفسير يشتمل على العلوم والمعارف السائدة في زمانه ، حتى التي لم تكن من اختصاص الفيروزأبادي ، على أن يستعين الفيروزأبادي فيها بأهل العلم العارفين بها ، والمختصين بها . وقد سمى منها الفيروزأبادي منها أربعين علماً .
    والملك الأَشرف هو إِسماعيل بن العباس، ولى الملك سنة 778، وكان كريما ممدَّحا مقبلا على العلم والعلماء، يكرم الغرباءَ ويبالغ فى الإِحسان إِليهم، اشتغل بفنون من الفقه والنحو والأَدب والتاريخ والأَنساب والحساب وغيرها، كما فى ترجمته فى الضوءِ اللامع، ومات بزبيد سنة 803هـ.
    غير أن الملك الأشرف توفي قبل تمام التفسير ، ولم يكن ابنه الناصر الذي خلفه صاحب عناية بالعلم وأهله ، فلم يعر هذا المشروع العلمي اهتماماً ، كما أهمل الفيروزأبادي بعد أن كان مكرماً في زمان من قبله ، فغادر الفيروأبادي زبيداً وأكمل تأليف الكتاب مقتصراً على جزء من فكرة المشروع .
    وصنف كتابه الشهير (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) بعد أن اقتصر على جزء من الفكرة .
    والقارئ لخطبة الكتاب يرى أَن المؤلِّف يقدّم كتابا جامعاً لمقاصد العلوم والمعارف فى عصره، حتى العلوم المدنية التى لم يكن للمؤلف بد فيها ولا بصر بها، كالهندسة والموسيقى والمرايا المحرِقة.
    ويذكر فى الخطبة أَن الكتاب مرتَّب على مقدمة وستين مقصدا. والمقاصد الستون فى علوم العصر، كل مقصد فى علم منها.
    ونراه فى الخطبة يسرد عنوانات المقاصد؛ ليكون ذلك فهرسا إِجمالياً للكتاب. فالمقصد الأَول فى لطائف تفسير القرآن. والثانى فى علم الحديث النبوى، ويستمر هكذا فى السَّرْد، حتى يصل إلى المقصد الخامس والخمسين فى علم قوانين الكتابة. ثم نرى: "المقصد السادس والخمسون فى علم...." ولا نرى ما يضاف إليه (علم) ولا بقيّة المقاصد الستين؟ ولعله ترك ليضاف له ما يجد من مقاصد .
    وهو يذكر أَن الذى رسم بتأْليف الكتاب على هذا النحو الجامع لسلطان الأشرف إِسماعيل بن العباس الذى دعاه إِلى حضرته بزبيد، وولاَّه القضاء ورئاسته .
    ونراه يقول: "قصد بذلك - نصره الله - جمع أَشتات العلوم وضمَّ أَنواعها - على تباين أَصنافها - فى كتاب مفرد ؛ تسهيلا لمن أَراد الاستمتاع برائع أَزهارها، ويانع أَثمارها الغضّ المصون، فيستغنى الحائز له، الفائز به، عن حمل الأَسفار، فى الأَسفار...".
    وقد كان السلطان الأَشرف مضطلعا بالعلوم، كما وصفه من عاصره. وكان يبعث العلماءَ على التصنيف.
    وقد يضع منهج الكِتاب وخِطَّته، ويكل إِتمامه إِلى بعض العلماءِ. ويذكر السخاوىّ فى الضوءِ اللامع فى ترجمته "أَنه كان يضع وضْعا، ويحدّ حدّا، ثم يأْمر من يتمُّه على ذلك الوضع، ويعرض عليه. فما ارتضاه أَثبته، وما شذَّ عن مقصوده حذفه، وما وجده ناقصا أَتمَّه".
    وبعد هذا لا يعجب من وقف على حَيَاة المجد واقتصاره على علوم الرواية، من تعرضُّه للعلوم الفلسفيَّة والمدنيَّة، ووضع منهج الكتاب على أَن يذكر مقاصدها. فإِن الواضع للخطَّة الأَشرف إِسماعيل، وقد كان واسع المعرفة. ومما ذكر من العلوم التى كان يتقهنا الحساب، وقد يكون عارفا بما هو من باب الحساب، كالهندسة والمرايا المحرقة، وما إِلى ذلك. وكان الملْك والعُمْران يقتضى هذه العلوم، بالإِضافة إِلى العلوم الدينية والعربية.
    ولكن كيف يكل الأَشرف إِعداد هذا المنهج الواسع إِلى الفيروز ابادى قاضى الأَقضية، وهو لا يحسن تلك العلوم التى كانوا يسمُّونها علوم الأَوائل ؟
    الظاهر أَنه كلَّفه هذا على أَن يستعين فيما لا يعرفه من يعرفه من أَهل الاختصاص؛ وله من خبرته ومنصبه ما يعينه على ذلك ، فيكون العمل جماعياً متقناً ، كما صنع الملك خلف السجستاني من قبل .
    وبعد هذا لا نرى من آثار هذا المنهج العام إِلا المقدّمة التى تتعلق بفضل العلم و تمييز العلوم، ثم المقصد الأَول، وهو لطائف التفسير الذى سمى فيما بعد: بصائر ذوى التمييز. فهذا الوضع الجامع لم يقدِّر للمجد أَن يتمَّه وحده، أو مستعينا بغيره.
    والظاهر أَن الأَشرف مات بعد تمام المقصد الأَول، ففترت همَّة المجد فى عهد ولده الناصر؛ إِذ كان لا يلقى من البرِّ والكرم، ما كان يلقاه فى عهد صهره السلطان الأَشرف، ولم يجد من المال ما يجزى به من يشتغل فى هذا العمل الواسَع الجليل، وهذا مع أَنه قد علته كَبْرة، وأَدركه فتور الشيخوخة.
    لا نرى هذا العنوان فى الكتاب. إِنما العنوان فى الكتاب فى الإِجمال والتفصيل: "المقصد الأَول فى لطائف تفسير القرآن العظيم". وقد أَصبح هذا العنوان لا مكان له بعد عدول المجد عن بقية المقاصد، فكان من المستسحن أَن يكون له اسم يشعر باستقلاله، وأَنه ليس جزءًا من كتاب جامع. وكان المؤلف جعل عنوان كل بحث فى هذا المقصد: "بصيرة" فأَصبح الكتاب جملة بصائر، ومن هذا استمدَّ الاسم الجديد: "بصائر ذوى التمييز، فى لطائف الكتاب العزيز". وتراه غيَر "العظيم" بالعزيز ليسجِّع مع العبارة التى اجتلبها.
    وقد كان يحسن به أَن يعدل عن خطبة الكتاب الجامع، ويستأَنف خطبة خاصة بهذا الكتاب. وكأَنه كان يرجو أَن يقدَّر له يوما إِنجاز ما اعتزمه من المقاصد الستين، فأَبقى الخطبة على حالها الأَول.
    يسعدنا مشاركتكم لنا في ملتقى أهل التفسير

  5. #5

    افتراضي

    وأشكر الأخ الفاضل أبا حماد رعاه الله على تعقيبه الموفق ، وصدق حفظه الله فقد قامت الهمم العالية عند أولئك العلماء الأجلاء مقام اللجان ذوات العدد والمدد ، وبارك الله في تلك الجهود فبلغت مبلغاً لولا أنه حقيقة لا ريب فيها لكانت أشبه بالخيال . فقد كان الواحد منهم مع اشتغاله بالعلم والتعليم يؤلف المؤلفات الطويلة المحررة التي عكف عشرات الباحثين في زماننا على تحقيقها وإخراجها ، وكم من باحث من المعاصرين كانت أطروحته في الماجستير أو الدكتوراه تحقيقاً لجزء من كتاب لعالم من أولئك العلماء ، ولعل ذلك العالم قد صنفه بين الظهر والعصر كما في الواسطية لابن تيمية إن لم أكن واهماً .
    يسعدنا مشاركتكم لنا في ملتقى أهل التفسير

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    1,699

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالرحمن الشهري مشاهدة المشاركة
    ولعل ذلك العالم قد صنفه بين الظهر والعصر كما في الواسطية لابن تيمية إن لم أكن واهماً .
    شكر الله لكم ما كتبتم ونفع بما قلتم.
    في مناظرة الواسطية 3/164 قال شيخ الإسلام:
    وقلتُ لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم على من أرض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له رضى الدين الواسطي من أصحاب الشافعى قدم علينا حاجا وكان من أهل الخير والدين وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفى دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة فألح فى السؤال، وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر وقد انتشرت بها نسخ كثيرة فى مصر والعراق وغيرهما

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الشّيخ الكريم / عبدالرحمن بن معاضة الشّهري - حفظه الله تعالى - :

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :

    بارك الله فيكم ونفع بكم .

    أخوكم المحب
    سلمان بن عبد القادر أبو زيد

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    92

    افتراضي رد: تفسير خَلَفِ بن أَحْمد مَلِكِ سِجستان(ت399هـ): تَجرِبةٌ قَديِمَةٌ للتفسير الموسوع

    جزاكم الله خيرا شيخنا الكريم

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •