لقد بلغ حَبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الإمام عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما - شأوًا عظيمًا كريمًا بالنحو بكتاب الله تعالى ربنا الرحمن تفسيرًا وتأويلًا، حتى كان بذلك ذائع الصيت، وحتى بلغ من تفسيره أن نال قبولًا لدى عموم المفسرين والفقهاء وأُولي العلم، تبركًا بما جاء من حديث عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ وفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ قَالُوا: وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، قُلْتُ: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ"[1].
وإنما لم يكن قد نال هذا الشأو الرفيع السامي، وإنما لم يكن قد تقلد هذه الفضل السامق العالي إلا بسبب هذا الدعاء، وإلا بسبب ما أفرزه منهجه في تفسير كلام الله تعالى حين: "قَسَّمَ التَّفْسِيرَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: "قِسْمٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا، وَقِسْمٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ؛ يَقُولُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِسْمٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ خَاصَّةً، وَقِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ"[2].
والكلام ها هنا في القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة، وهو قوله: "قِسْمٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا".
وكمدخل لدراسة هذا القسم، فإني أعني بذلك أمورًا عدة؛ منها:
1- أن الإمام الحبر الترجمان رضي الله تعالى عنه قد بدأ بها قواعده التي اعتبرناها منهجًا له في التفسير؛ مما يؤصِّل كونها من الأهمية بمكان، ذلك أن الذي تعرفه العرب من كلامها يتضمن أول ما يتضمن ما تواتر عن لسانهم لغة ونحوًا وصرفًا وبناءً ومعنًى، وما كان مرجعه إلى ما يلزم المفسر العلم به ليتنزل كلام الله تعالى عليه، وبالتالي يكون شاملًا لأقسام: العمل دون العلم، أو العلم دون العمل، أو هما معًا.
وقد جاء قوله رضي الله تعالى عنه في بيان أوجه التفسير مأخوذًا على ما يبدو مما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى عن عبدالله بن عباس أن رسول الله قال: "أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذَر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسِّره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره، ومن ادَّعى علمه سوى الله تعالى ذكره، فهو كاذب"[3]؛ وهو ما يعطيه قوة، ويمنحه قبولًا؛ قال الطبري: "وقد رُوِيَ بنحو ما قلنا في ذلك أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر"، وإنما قال الطبري: "فيه نظر"؛ لأن الذي رواه هو الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وإن أمر اللغة والعلم بها ينحى فيه ما كان متعلقًا بما يحيل المعنى، وذلكم شأن المفسر وقارئ التفسير معًا، وما لم يكن محيلًا للمعنى، فذلكم "وجب تعلُّمه على القارئ ليسلم من اللحن، ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع"[4].
2 - أن ما ورد عن الإمام الحبر الترجمان بيانًا لمعاني القرآن الكريم في كثير من المواضع، إنما كان متعلقًا باللغة العربية بدرجة كبيرة، وخاصة إذا اطَّلعنا على مسائله مع نافع بن الأزرق، وهي مسائل مشهورة في مظانها، وقد تلقتها الأمة بالقبول، وكيف كانت كلها مستوحاة من مفردات اللغة العربية القُحِّ.
3 - أن القرآن الكريم كتاب عربي، وبالتالي لا يمكن فصل بيان معناه عن أصول المفردات العربية واستعمالات العرب لها؛ مما يمكن أن نعتبره مرجعًا معتبرًا في ذلكم، وساميًا على غيره بالتبع، غير قرآن أو سنة، تبيِّن ما ينهض دليلًا على المراد إسعافًا، وبنص صريح، غير ملجئ إلى بيت شعري، أو إلى نص نثري، أو مما سواهما من كلام العرب.
ذلك وإنه من وجهٍ، فإن ما جاء عن العرب يتضمن ما كان متعلقًا بما يوجب العلم دون العمل، وذلكم يكفي فيه خبر الواحد، والاستشهاد ببيت أو بيتين من أشعارهم، كما أنه متضمن ما كان متعلقًا بالعلم والعمل، وذلك مما أوجب استفاضة رواية الشعر بشأنه؛ ليعلم مدى إطباقهم على ذلكم المعنى أو ذاك.
وليس من شك في أنه - رضي الله تعالى عنه - قد وُفِّق تمامَ التوفيق في تأكيد اعتماد اللغة العربية بوصفها أولَ أصلٍ يمكن الرجوع إليه لمعرفة مراد الله تعالى من كلامه سبحانه بعد الأصلين الأوليين، وهما القرآن الكريم نفسه، ثم حديث رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ذلك. وسببه أن القرآن قد نزل بلغتهم، ومن ثم كان اعتماد مرجعيتهم في ذلكم هو قولًا فصلًا، ذلك أيضًا لأن القرآن الكريم نزل ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195].
ومنه استفاضت إحاطته بمفردات اللغة وغريبها ونحوها وصرفها وبيانها وبديعها، وتوجيه ذلك حسب استعمالات العرب لذلكم اللفظ أو ذاك، وهي براعة بلغ فيها الأوج العظيم والصيت الكريم؛ إذ كان يعرف النص ونظيره، والكلمة ومعناها، وكيف كان القرآن الكريم متقنة صنعته، حتى جيء بالكلمة هنا، وحتى جيء بمرادفها هناك.
ولا يُتَسَاهَلُ بأمر اللغة، فدلالات الألفاظ عديدة، وهي بحر لا ساحل له؛ إذ كيف يمكن النظر إلى دلالة اللفظ الواحد من بين خيارات كثيرة لتيكم دلالة للوقوف على المقصود منه؟ فهل يا ترى هي دلالته اللفظية العقلية كسماع صوت ليدل على متكلم؟ أم هي دلالته العقلية غير اللفظية، كرؤية دخان ليدل على نار؟ أو هي دلالته الطبيعية اللفظية كقول (آه) أو (أخ) ليدل على تأوُّه. ومنه أيضًا دلالة طبيعية غير لفظية، كدلالة سرعة النبض على مرض، ودلالة وضعية غير لفظية، مثل إشارات السير على الطرق، أو دلالة وضعية لفظية، كدلالة الألفاظ على معانيها، والقرآنية منها أخص.
ومن بين كل هذه الدلالات كان المعني منها هو الدلالة الوضعية للألفاظ مطابقة؛ كقولنا: رجل؛ لنستحضر ذكورة، أو امرأة لنستحضر أنوثة، أو تضمنًا؛ كقولنا: رجل؛ لنستحضر أن له شاربًا ولحية، أو امرأة لنستحضر خلوها من ذلك، أو التزامًا كقولنا: (حاتم)، أو (كثير الرماد) دلالة على الكرم، وبسط كل ذلكم له موضع آخر، وإنما أردت - بيانًا - أن أمر اللغة العربية واسع مداه، وأن مثل الإمام الحبر الترجمان كان واسع الاطلاع بكلٍّ - ضرورةً - مما أكسبه علمًا، ومما منحه شرفًا، ودلك على ذلك قوله لَمَّا سئل رضي الله عنه: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول"[5].
ومن كل ذلك نعرف كيف تضلَّع بها حبر الأمة وترجمان القرآن، وكيف أنها كانت سليقته، وكيف أنها صارت سجيته؟
ومنه أيضًا استشراف علمه لبيان المقصود من اللفظ القرآني على مراده تغلبًا، وتلك وظيفة جِدُّ ذات أهمية بالغة، ولم يكن أهلًا للقيام بها خيرَ قيام إلا أمثال ذلكم الحبر وصَحبه الكرام.
ولئن قيل: لِمَ؟ قلت: لأنهم أهل العربية سجيةً، ولأنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم قد نزل القرآن فيهم وبين أيديهم، ومنه فكانوا أعلم بهدْيه، وكانوا أدرك لمراميه ومعانيه وأهدافه عمن سواهم، وخاصة أنهم كانوا أحرص على تلقي الوحي نبعًا صافيًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرَفوا منه علمه، وقد أحاطوا منه له ذكرًا، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد زاد من ذلكم فضل عائد إليهم أنهم أهل القرون الثلاثة المفضلة الأولى، وهي نعمة تسامق بهم فضلًا إلى بلغوا بها أعنةَ جبال تُطاول عنان السماء؛ إذ من ذا في الفضل يمكن أن يجاريهم، وإذ من ذا شأو كمثلهم فيساويهم، وهم من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، - قَالَ عِمْرَانُ فَلاَ أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا - ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ"؟![6].
ذلك أن الكشف عن مضمون اللفظ وتعلُّقه بالكتاب المجيد واختيار وجهه، ليعد ملكة ما كان ليقوم بها لولا ضليع في معرفة اللغة ومراميها.
فما يتعلق بتفسير السياق القرآني، وما لا يتعلق به أمر بالغ، وليس يبلغه أيضًا سوى من كان شأوُه شأوَه، أو بالغ مبلغه وعلمه، وليس يكون ذلكم إلا له، ولمثل من أطبقت عليهم الشهادات أنهم منها؛ إذ ما بلغ أحد مبلغه من علم، وما سايره أحدٌ في استدلال، ونعرف ذلك مما تواتر من ثناء القوم عليه، ومن إطرائهم له رضي الله تعالى عنه، ثم إننا نعلم ذلك يقينًا من خلال إرث علمي قد تركه لنا رضي الله تعالى عنه مائدة نتحلق حولها ننهل من خيرها، ونتنسَّم من هديها!
ومنه جاءنا كتابه تعالى بليغ البيان، عظيم البنيان، سائغ المعنى، سليم المبنى ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 28].
لا تكلُّف فيه ولا نُفرة، بل إعجاز في بلاغته، وتحدٍّ في صياغته، بما أعجز العرب البلغاء أنفسهم أن يأتوا بسياق من سياقه، أو آية من آيِه؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
وذلكم أيضًا بفضله تعالى، ثم بفضل أمثال الإمام الحبر الترجمان، وذلكم ينظر إليه حين لا يكون النص من قرآن أو سنة مغيثًا لمفسر أو بيِّنًا لقارئ، وإنما كان القرآن ميسرًا في كل شيء، ومنه تأويله، غير أن أدواته ربما لم تسعف أحدًا منا.
وإنما تدفع الحاجة لمعرفة كلام العرب حاجتنا لمعرفة معاني كلام الله تعالى ومغازيه ومراميه، حتى إن جاء نص من القرآن الكريم أو السنة مفسرًا له، فلربما كان غير كاف لمعرفة مراده تعالى، وما يبتغيه النص توجيهًا للمخاطبين به، ويُبين ذلك أكثر لَمَّا نكون بحاجة إلى بيِّنة من كلامهم تُعين على المقصود من المعنى الذي يُحيله ذلكم البيان اللغوي لمعنى كلامه تعالى، خاصة حين يعلم أحدنا من نفسه حاجته إلى معنى يخالج نفسه، ولَما قد استوحاه من قوله تعالى في هذا المكان أو ذاك من القرآن العظيم، ولما أراد الاستئناس لقوله بقول غيره، وحين ذلك لا يكون من أمامه سوى هؤلاء الرهط الغر الميامين، ومنه كان بيان الإمام الحبر الترجمان لأهمية تفسير القرآن بمقتضى ما عرفته العرب من لغتهم.
ومما ينبئ عن أهمية معرفة كلام العرب تفسيرًا: ما أشار إليه الإمام الحبر الترجمان نفسه حينما قال: "كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطَرتُها؛ أي: بدأتُها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا: ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [فاطر:1]؛ أي: بديع السماوات والأرض"[7].
ولم يكن ذلك عند ابن عباس وحده، وإنما كان عهدًا لدى الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومنه ما كان من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى، كما قال سعيد بن المسيب: "بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر، قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ [النحل: 47]، فسكت الناس، فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص، فخرج رجل، فقال: يا فلان، ما فعل دينك؟ قال: تخوَّفته، أي تنقَّصته، فرجع فأخبر عمر، فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي، يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا *** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ[8]
ومنه أيضًا مَا رَوَاهُ الإمام ابْنُ جَرِيرٍ الطبري رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾، فَلَمَّا أَتَيَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾، قَالَ: عَرَفْنَا مَا الْفَاكِهَةُ، فَمَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ: لَعَمْرُكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ[9].
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ شَكْلَهُ وَجِنْسَهُ وَعَيْنَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ وَكُلُّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ: ﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ [عبس: 27-31][10].
ولننظر إلى تفسير معنى القرء، وكيف كانت لغة العرب حاكمة في بيان معناه؛ كما قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، قال: ثلاث حِيَضٍ"[11].
وعن أبي عمرو بن العلاء قال: "من العرب من يسمي الحيض قرءًا، ومنهم من يسمي الطهر قرءًا، ومنهم من يجمعهما جميعًا، فيسمى الحيض مع الطهر قرءًا"[12]؛ كما قال الشاعر:
يا رب ذي ضغن علي فارض *** له قروء كقروء الحائض
يعني أنه طعنه، فكان له دم كدم الحائض.
قال البغوي رحمه الله تعالى: "والقرء يصلح للوجهين؛ لأن الحيض يأتي لوقت، والطهر مثله"[13].
وأنت ناظر كيف احتكم المفسرون - ورائدهم في ذلك الإمام الحبر الترجمان - إلى مدلول القرء في لغة العرب، بيانًا للقرآن حين يلزم لذلك احتكام؛ ذلك لأن القرآن إنما أنزله الله تعالى: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: (28)].
ومن إبانته قولهم، ومن تأويله ما درجوا عليه في استعمالات الألفاظ ومدلولاتها، فهي أمهم، وإنما كان الاحتكام إلى لغة العرب في بيان مراد الله تعالى في كتابه، ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (المعروف الجمعي من كلام العرب)؛ ذلك لأنه ليس كل عربي بمحيط لكل مدلولات الألفاظ العربية ومفرداتها، وخاصة إذا استدعينا لهجات العرب وتعدُّدها، وهو أمر معروف عمومًا، وذلك لأنه ليست العرب في مجموعها بجاهلة عن معنى من معاني أفراد لغتها، وخاصة إذا استدعينا لهجات العرب وتعدُّدها، وهو أمر معروف عمومًا، فالنظر إذًا إلى عمومهم فيما اصطلح عليه في عرفهم حول ذلكم لفظ أو ذاك.
والقول بذلكم قول هو ما يمكن به دفع شبهة قوم أنه إذا كان القرآن بيانًا لكل شيء، فلم إذًا كان الرجوع إلى غيره لبيانه؟! وهو قول يحمل ضَعفًا ووهنًا؛ ذلك لأنه كما سلف ليست الخليقة كلها على مستوى واحد من العلم بلغتها، أو فَهْم ألفاظها، وهو أمر معاين طبعًا، وليست كذلك أفراد اللغة من الشيوع في كل قبيلة بما ليس قد كان شائعًا فيها من لغات قبائل أُخَر.
وخذ معك أصلًا مؤصلًا؛ إذ إننا لنعلم أن الوجه الحسن في تأويل كلامه تعالى، إنما هو من آي الذكر الحكيم القرآن العظيم، وإنما هو مِن فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نعود إلى غيرهما استئناسًا؛ عندما لا يسعفنا دليلٌ من الكتاب، أو قول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تأكيدًا لفَهْمنا منهما أن ذلكم هو مراده تعالى من قوله سبحانه.
ومنه كان لقول من قال: إن المقصود بالأحرف السبعة هو لهجات العرب على اختلافها وجاهة، وكان لمسلكه مسوغًا، وبسط هذا ليس موضعه، وإنما المقصود بيان عدم إحاطة العرب في مجموعهم لما عليه لغتهم من ثراءٍ زانَها.
وكما سبق وأشرت فإن الكلام حول منهج ابن عباس في التفسير يبدو واضحًا أول ما يبدو ذلكم الجهد المبذول منه رضي الله تعالى عنه في البيان عن الله تعالى، حتى أوقف أمثالنا على يقين من القرآن هاديًا ونذيرًا.
ولنعلم جميعًا مدى الفهم الثاقب للحبر الترجمان، وكيف واءَم رضي الله تعالى عنه بين أوجه البيان في الكتاب للكتاب، وكذا أوجه بيانه؛ كما جاء في السنة من معرفة إجمال وتفصيل، ومطلق ومقيد، ومحكم ومتشابه، وعام وخاص، وناسخ ومنسوخ، وحلال وحرام، وواجب ومندوب، ومستحب ومكروه، ومعنوي ولفظي، ومتصل ومنفصل.
وكلها أصول أحكام وجَب علمها لفَهْم الكتاب ومقاصده؛ إذ كيف كنا سنعرف معنى الظلم لولا ما رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن عبدالله، قال: "لما نزلت: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لا يَظلِمُ نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13][14].
ومنه ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أصلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، أنه قال: "يقولون: إنك لست بحليم ولا رشيد"[15].
ولولا علمه بمقاصد اللغة وكلام العرب، ما كنا قد فهِمنا فَهْمَه أن ذلك كان منهم على وجه السخرية والاستهزاء، وإن قيل: كيف؟
قلت: لأن ظاهر كلامه رحمه الله تعالى أنه مخالف ظاهر النظم القرآني الكريم، ولَما قد علِمنا براءته من ذلكم سلفًا، فكان توجيه كلامه على وجه من توجيه اللغة حينئذ، وخاصة إذا علمنا أن القرآن المجيد قد تضمن كثيرًا من الألفاظ التي لا يُمكن أن تؤخذ على ظاهرها، وإنما سياقها حامها، وإنما لغته ضابطها، ومنه قوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49]. وذلك لأنه "فإن قال قائل: وكيف قيل وهو يهان بالعذاب الذي ذكره الله، ويذلُّ بالعَتْل إلى سواء الجحيم: إنك أنت العزيز الكريم؟ قيل: إن قوله: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ غير وصف من قائل ذلك له بالعزَّة والكرم، ولكنه تقريعٌ منه له بما كان يصف به نفسَه في الدنيا، وتوبيخ له بذلك على وجه الحكاية؛ لأنه كان في الدنيا يقول: إنك أنت العزيز الكريم، فقيل له في الآخرة، إذ عذِّب بما عُذِّب به في النار: ذُق هذا الهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وأنك أنت الذليل المهين، فأين الذي كنت تقول وتدَّعي من العزِّ والكرم، هلَّا تَمتنع من العذاب بعزَّتك"[16].
ويؤيِّده قول ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرَّق؛ قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]، فألحقناها في سورتها في المصحف[17].
والشاهد قوله: (فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم)، فهو دليل على اعتماد اللغة العربية في كتابة الكتاب المجيد، فضلًا عن أن تكون معتمدًا لتفسيره.
وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ثناءً على الإمام الحبر الترجمان عَلَمًا على تفسير كلام الله تعالى، (وأما التفسير، فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس؛ كطاوس وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم)[18].
بيد أن ما يجب لفت أنظارنا إليه أن اللجوء إلى كلام العرب إنما يكون واجبًا حينما لا تسعفنا أدواتنا لمعرفة معنى من معاني الوحيين في الدلالة، لكنه إذا كان له وافيًا، فوجب اعتماده، وشأنه أنه كاف في البيان والتفسير لكلام الله تعالى.
-----------------
[1] [صحيح مسلم، كتاب فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حديث رقم، 4653].
[2] [كتاب: البرهان في علوم القرآن، الزركشي:340].
[3] [تفسير الطبري: ج1 /76].
[4] [البرهان: الزركشي: 307].
[5] [أدب الدنيا والدين، الماوردي: (1 /70)].
[6] [صحيح البخاري، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم: 3483].
[7] [تفسير ابن كثير، ج 3 /554].
[8] [تفسير ابن كثير، ج 3 /554].
[9] [تفسير الطبري: ج12 /451].
[10] [تفسير ابن كثير:ج4 /522].
[11] [جامع البيان، ابن جرير الطبري: ج 2 /596].
[12] [معاني القرآن، النحاس: ج 1 /196].
[13] [معالم التنزيل: البغوي:ج1 /131‎].
[14] [صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابُ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِهِ، حديث رقم: 207].
[15] [تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار (تفسير محمد رشيد رضا)، ج12 /111].
[16] [تفسير الطبري: ج11 /247].
[17] [صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، حديث رقم: 4722].
[18] [مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج8 /155].


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/144376/#ixzz6jpd1ElhH