اختلف أهل العلم في تحديد من هو سيد التابعين، بين أويس القرني رحمه الله، وسعيد بن المسيب رحمه الله، فقال ابن الصلاح[1]في مقدمته: "اختلف الناس في أفضل التابعين: فأهل المدينة يقولون: سعيد بن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري"[2].
ثم قال الإمام البلقيني[3]: "الأحسن أن يقال: الأفضل من حيث الزهد والورع أويس، ومن حيث حفظ الخبر والأثر سعيد"[4].
فالتابعين - رحمهم الله تعالى - أثنى عليهم الله عز وجل في كتابة، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومدحهم العلماء في كتبهم، وهم أئمة العلوم في كل زمان ومكان، قَوي إيمانهم، وسلمت قلوبهم، وكملت عقولهم، وصحت أذهانهم، فمما ينبغي على الأمة أن تقتدي بجميعهم، وتتخير الجانب الذي تُميز فيه كل واحد منهم، بما يتوافق مع روح الشريعة الإسلامية، وقد اقتصر البحث بذكر نموذجين من خيار التابعين، تذكيرًا ببعض أقوالهم، وأعمالهم، ومواقفهم، وإعلاءً للهمم على مجاهدة النفس في الاقتداء بهم، والنموذجين هما:
أويسالقرني[5]:
لعظم مكانته رضي الله عنه بوب الإمام مسلم في صحيحه باب سماه: "من فضائل أويس القرني رضي الله عنه [6].
أويس رضي الله عنه: "من أولياء الله الصادقين، وما روى الرجل شيئًا، فيضعف أو يوثق من أجله"[7].
وكان رضي الله عنه "عابدًا زاهدًا ديِّنًا، فاضلًا متخليًا متقشفًا، متجردًا متعبدًا"[8].
وهو خير التابعين "بشهادة سيد المرسلين، أدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يره شغله بره بأمه"[9].
وأويس بن عامر "كوفي، تابعي من خيار التابعين وعبادهم"[10].
ووصف رضي الله عنه بأنه "القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه"[11].
ودليل زهده رضي الله عنه قول: مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ[12]رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَهُ أَوْ مُصَلَّاهُ مِنَ الْعُرْيِ، يَحْجُزُهُ إِيمَانُهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، مِنْهُمْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ، وَفُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ الْعِجْلِيُّ»[13].
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيَخْرُجَنَّ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مَا هُوَ نَبِيٌّ أَكْثَرُ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ»، قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَنَّهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "[14].
فمن مقاصد الشريعة الإسلامية أنه من الواجب على المسلم الاستعفاف عن المسألة، وأن يحفظ ماء وجهه عن المذلة والمهانة، وأن يصون كرامة نفسه من أن يتكفف الناس ما بأيديهم، وعليه أن يسأل الله عز وجل من فضله، ويُحسن الالتجاء إليه، وأن يقنع بما ساقه الله تعالى له من رزق الله سبحانه وتعالى، فالمسلم دائمًا متعلق بربه سبحانه وتعالى في السراء والضراء، والعسر واليسر.
وقصة أويس بن عامر رضي الله عنه تدل على أنه من الأخيار الصالحين، وأنه أفضل التابعين، ولعِظم مكانته أن من أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، فعن أسير بن جابر قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال فكان بك برص[15]، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ»؛ فاستغفر لي. فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها، قال: أكون في غبراء الناس[16] أحبُّ إليَّ، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رثَّ البيت، قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ»؛ فأتى أويسًا، فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي، قال: لقيت عمر، قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان، قال: من أين لأويس هذه البردة"[17].
فأرشد الحديث إلى "إجابة دعوته وعظيم مكانته عند ربه، وأنه لا يخيب أمله فيه، ولا يكذب ظنه به ، ولا يرد دعوته ورغبته وعزيمته وقسمه في سؤاله بصدق توكُّله عليه، وتفويضه إليه، وفيه فضل بر الوالدين، وعظيم أجر البر بهما"[18].
وفي الحديث "استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح، وإن كان الطالب أفضل منهم"[19].
فقصة أويس القرني رضي الله عنه فيها الكثير من الأمور التي يجب على المسلم الحريص على الخير أن يقتدي بها، منها: أن بر الوالدين من الواجبات التي أمرنا الإسلام بها، ويجد البار بوالديه ثمرة بره في الدنيا والآخرة، وبلغ بأويس هذه المنزلة العالية من فضل بره بوالدته، ومنها: تعهد أحوال الصالحين، والسؤال عنهم، تأسيًا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤاله على أويس رضي الله عنه، ومنها: أن من الأمور التي يستجيب فيها الدعاء السفر الصالح، ومنها مشروعية طلب الدعاء والاستغفار ممن عُلم صلاحه، ومنها التواضع، فإن أويسًا رضي الله عنه لم يُعجب بنفسه لَما طلب عمر رضي الله عنه منه الاستغفار، بل ازداد تواضعًا وخشيةً من الله تعالى.
خلاصة القول في الاقتداء بالتابعين:
إن من أُسس الشريعة الإسلامية: الاقتداء والتمسك بما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من التابعين، وتابعي التابعين، ومعرفة أقوالهم وأعمالهم في أصول الشريعة وفروعها؛ لأنهم من القرون المشهود لها بالخيرية في القول والعمل، وصحبوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذوا على أيديهم، واتَّبعوهم بإحسان، وتيقَّنوا مراد الله سبحانه وتعالى، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أخذوه عنهم، وساروا على نهجهم، فكان لأقوالهم، وأعمالهم وآثارهم أهمية شرعية، فخيار الناس من اقتدى بهم، كما دلَّتنا على ذلك أحكام الشريعة الإسلامية من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة.
---------------
[1] تقي الدين ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح، الشرخاني الملقب تقي الدين، الفقيه الشافعي؛ كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة، توفي يوم الأربعاء وقت الصبح، وصُلي عليه بعد الظهر، وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ودُفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر، رحمه الله تعالى، ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة، انظر: [وفيات الأعيان: ابن خلكان البرمكي، ج3 ص243.
[2] مقدمة ابن الصلاح: عثمان بن عبدالرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح، ص305، المحقق: نور الدين عتر، دار الفكر- سوريا، 1406هـ - 1986م.
[3] البلقيني شيخ الإسلام سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكناني، مجتهد عصره، وعالم المائة الثامنة، ولد في ثاني عشر رمضان سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وأخذ الفقه عن ابن عدلان والتقي والسبكي، والنحو عن أبي حيان، وبرع في الفقه والحديث والأصول، وانتهت إليه رياسة الإفتاء، وبلغ رتبة الاجتهاد، وله تصانيف في الفقه والحديث والتفسير؛ منها: حواشي الروضة، وشرح البخاري، وشرح الترمذي، وحواشي الكشاف، وكان البهاء ابن عقيل يقول: هو أحق الناس بالفتوى في زمانه، مات في عاشر ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة؛ انظر: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: جلال الدين السيوطي، ج1 ص329.
[4] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، ج2، ص710،
حققه: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة- الرياض، ط6، 1423هـ.
[5] أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن مسعدة بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد المرادي، ثم القرني الزاهد المشهور، هكذا نسبه ابن الكلبي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وسكن الكوفة، وهو من كبار تابعيها؛ انظر: [أسد الغابة: ابن الأثير، ج1 ص331].
[6] صحيح مسلم: كتاب: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل أويس القرني رضي الله عنهم، ج4 ص1968، رقم ح55.
[7] ميزان الاعتدال في نقد الرجال: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، ج ص279، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة، بيروت – لبنان، ط1، 1382 هـ 1963م.
[8] مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبد التميمي، أبو حاتم الدارمي البُستي، ص161، حققه ووثقه وعلق عليه: مرزوق على إبراهيم، الناشر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، ط1، 1411 هـ - 1991 م.
[9] طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص: أحمد بن أحمد بن عبداللطيف الشرجي الزبيدي، ص109، دار المناهل، بيروت، لبنان، ط1، 1406هـ - 1986م.
[10] تاريخ الثقات: أبو الحسن أحمد بن عبدالله بن صالح العجلي الكوفي، ص74، دار الباز، مكة المكرمة، ط1 1405هـ-1984م.
[11] سير أعلام النبلاء؛ شمس الدين الذهبي، ج4 ص19.
[12] محارب بن دثار بن كردوس بن قرواش السدوسي، أبو دثار، ويقال: أبو مطرف، ويقال: أبو النضر، ويقال: أبو كردوس الكوفيُّ القاضي، وقال عبدالله بن أحمد: حدثني أبي، قال: قيل لسفيان: أين رأيته، يعني محاربًا؟ قال: في الزاوية، يعني يقضي، وقال عبدالله: سألته (يعني أَباه) عن محارب بن دثار؟ فقال: ثقة، انظر: [موسوعة أقوال الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث، ج2 ص225، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1417 هـ].
[13] الزهد: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ص14، وضع حواشيه: محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1420 هـ - 1999م.
[14] الزهد: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، ص278.
[15] (برص): برصًا ظهر فِي جِسْمه البرص، والحية كَانَ فِي جلدهَا لمع بَيَاض، وَالْأَرْض رُعي نباتها فِي مَوَاضِع، فعريت مِنْهُ، فَهُوَ أبرص وَهِي برصاء، (أبرص) الرجل: ولد ولدًا أبرص، وَالله فلَانا أَصَابَهُ بالبرص، و(البرص) بَيَاض يَقع فِي الْجَسَد لعِلَّةٍ؛ انظر: [المعجم الوسيط: مجموعة من العلماء، ج1، ص49].
[16] غَبْراء النَّاسِ: بِالْمَدِّ، فالأَوَّل فِي غُبَّر النَّاسِ؛ أَي أَكون مَعَ المتأَخرين لَا المتقدِّمين الْمَشْهُورِينَ ، وَهُوَ مِنَ الغابِرِ الْبَاقِي، وَالثَّانِي فِي غَبْراء النَّاسِ بِالْمَدِّ؛ أَي فِي فُقَرَائِهِمْ، وَمِنْهُ قِيلَ للمَحاويج بَنُو غَبْراء، كأَنهم نُسبوا إِلى الأَرض وَالتُّرَابِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: وبَنُو غَبْراء فِيهَا ... يَتعاطَون الصِّحافا؛ انظر: [لسان العرب: ابن منظور، ج5 ص6].
[17] صحيح مسلم: كتاب: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل أويس القرني رضي الله عنهم، ج4 ص1968، رقم ح225، وفي المستدرك للحاكم: كتاب: معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب: ذكر مناقب أويس القرني رضي الله عنه، ج3 ص465، رقم ح5719.
[18] إكمال المعلم بفوائد مسلم؛ القاضي عياض، ج7 ص393.
[19] شرح صحيح مسلم، النووي، ج8 ص323.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/144297/#ixzz6jR1aCS00