حكم النطق بالكفر مع الجهل به
أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة
السؤال
♦ الملخص:
امرأة متزوجة نطقَت بكلمة استهزاء بالدين جاءت في المدائح الدينية، تسأل عن حُكم ذلك: هل تكفر؟ وعن حكم زواجها: هل يبقى زواجها دون تجديد للعقد أو لا، إن كانت وقعت في الكفر عياذًا بالله؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
كنت جالسة ذات مرة مع أمي، وأُرسل لها مقطع لشخصٍ يتغنى في المدائح الدينية ويقول: "من أراد الفوز بالجنة العليا، فليضرب العجوز بعصا شجرة الزيتون"، فضحكت من هذا الكلام، فهل هذا من الاستهزاء بالدين الذي يُوقِعُ صاحبه في الكفر؟ وهل إن قلت نفس العبارة لأمي لإضحاكها، أقع في الكفر إن كنت عالمة بأن هذا استهزاء بالدين، وأن المزاح في الكفر كالجِدِّ فيه؟
أرجو منكم الجواب؛ لأن هذا الأمر وقع وأنا متزوجة، وقد خِفْتُ على زواجي، وأنا أعلم رأي ابن تيمية القائل ببقاء عقد الزواج بعد التوبة دون تجديد، ولكن يجول في خاطري أنه لو لم يكن ثمة هذا الرأي لابن تيمية، فهل كنت سأجدد العقد؟ الإجابة: لا، خوفًا من الحرج، فيقودني ذلك إلى أنني أخذت هنا برأي ابن تيمية بِناءً على هوًى في نفسي، فهل يقبل الله مني تقليدي لشيخ الإسلام مع ما في نفسي؟ وهل أُحاسَبُ يوم القيامة على ما في نفسي، وتكون علاقتي بزوجي علاقة محرمة؟ لقد أصابتني تلكم السؤالات باكتئاب ومرض، فأنا أخاف أن أكون قد وقعت في الكفر، ويلزمني تجديد العقد، أرجو مناصحتكم وتوجيهكم في أقرب وقت، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: لا يجوز المُزاحُ إلا بالصدق وموافقة الواقع، أما المزاح بالكذب فهذا منكر مبغوض.
ثالثًا: ما ذكرتِهِ من قولٍ فهو من الاستهزاء، فالجنة ليست للمعتدين على كبار السن، بل جعل الله للكبير حقًّا في الحديث والمعاملة، احترامًا لكِبَرِهِ وشَيْبَتِهِ في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس منَّا مَن لم يرحَم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا))؛ [أبو داود (4943)، والترمذي (1920)، وأحمد (6733)، وصححه الألباني]؛ أي: ليس من هَدْيِنا وسُنَّتِنا وطريقتنا، و((دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفدٌ، وأراد أصغر الوفد الكلام، فقال: كَبِّرْ كَبِّرْ))؛ [متفق عليه]؛ أي: ليبدأ الحديث أكبركم.
فإذا كان المتكلم أراد الاستهزاء وقصده، فهو كُفْرٌ ورِدَّةٌ، أما لو كان جاهلًا بمعنى الكلام، أو لا يقصد الاستهزاء بالدين، فلا ينطبق عليه الحكم، ولا يترتب عليه آثاره، والله أعلم.
رابعًا: فواجب عليكِ التوبة من هذا الكذب، وعدم العودة لمثلها، والاستغفار، وكثرة الأعمال الصالحة، وتعليم مَن حولكِ ضوابط المزاح المباح، وعدم الكذب والاستهزاء بأحد.
خامسًا: أما ما أشرتِ إليه من بقاء العقد بعد التوبة من الرِّدَّةِ والكفر، ففي أثر الردة على عقد النكاح خلافٌ بين العلماء، فمنهم من يُفَرِّق بين قبل الدخول وبعده، وابن تيمية لا يفرق ويقول ببقاء العقد، وقد وضَّح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قوة ما ذهب إليه شيخ الإسلام فقال: "بل إن شيخ الإسلام لا يفرِّق بين ما قبل الدخول وبعده؛ لأن الأصل بقاء النكاح، ما دام أنه معقود على وجه صحيح، وسبب الصحة باقٍ، ولم يُحفَظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه فرَّق بين الرجل وامرأته إذا سبقها بالإسلام، أو سبقته به".
وقال أيضًا: "لدينا دليل على ثبوت ذلك، فهذا أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، أسلم متأخرًا عن إسلامها؛ لأنها أسلمت في أول البعثة، وما أسلم هو إلا بعد الحديبية، حين أنزل الله تعالى: ﴿ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10].
فبين إسلامه وإسلامها نحو ثماني عشرة سنة، وردَّها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، ولم يُجدِّد نكاحًا، وهذا دليل واضح جدًّا.
وكذلك صفوان بن أمية رضي الله عنه أسلمت زوجته قبل أن يُسْلِمَ بشهر؛ لأنها أسلمت عام الفتح، وهو ما أسلم إلا بعد غزوة الطائف، وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على نكاحه، ويقول شيخ الإسلام: القياس إما أن ينفسخ النكاح بمجرد اختلاف الدين، كما قاله ابن حزم؛ لأنه وجد سبب الفرقة إذا قلنا: إن الإسلام سببٌ للفرقة، وإما أن يبقى الأمر على ظاهر ما جاء في السنة، وهو أنه لا انفساخ، لكن ما دامت في العدة، فهي ممنوعة من أن تتزوج من أجل بقاء حق الزوج الأول، وبعد انقضاء العدة إذا شاءت أن تتزوَّج تزوَّجت، وإن شاءت أن تنتظر لعل زوجها يسلم، فلا حرَج، وهذا الذي قاله هو الذي تشهد له الأدلة، ولأنه القياس حقيقة"؛ [الشرح الممتع (12/ 246)].
وأخيرًا: أحسني التوبة، وأقبلي على حياتكِ واعمريها بالطاعة والإحسان، وحُسن رعاية أمِّكِ، وحسن التبعُّلِ لزوجكِ، بارك الله فيكِ.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6jBq2sDhP