الجهالة وأثرها في عدالة الراوي
د. محمد عبدالله العجمي
يُقَسَّم الرُّواةُ في علم الجَرْح والتَّعْديل إلى رُواةٍ معروفي الاسم والوَصْف، ورُواةٍ غير معروفي الاسم أو الوَصْف.فمن كان معروف الاسم والوَصْف، فهو إما ثقة أو ضعيف، أو بين ذلك ودون ذلك، بحسب حاله في سُلَّم النقد الحديثي، أما مَنْ لم يكن معروفَ الوَصْفِ، فقد يكون ذلك لعدم ذكر الاسم؛ أي: إبهامه، أو لعدم معرفة علماء النَّقْد له، أو لقِلَّة مروِّياته، أو لقِلَّة الرواة عنه، وعدم تزكيته من قِبَل أحدٍ من عُلماء النَّقْد. وتتمُّ دراسة هؤلاء الرُّواة تحت مبحث المجهول، فما هي حقيقة الجهالة؟ وما أنواعها؟ وما حكم رواية المجهول بأنواعه؟لهذا خصَّصْت في رسالتي هذه الدراسة المختصرة للكشف عن ذلك، ولبيان الموقف من بعض المسائل المتعلِّقة بهذا الموضوع، ومنها بيان موقف الحنفية من الاحتجاج بالمجهول، وموقف الشافعية من الاحتجاج بالمستور، وموقف ابن حِبَّان من توثيق المجاهيل.
أولًا: معنى الجهالة لغةً واصطلاحًا:الجها ة في اللغة: "الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما: خلاف العِلْم، والآخر: خلاف الحلم" [1].
و"الجهالة أن تفعل فعلًا بغير علمٍ، والمعروف في كلام العرب جهِلْت الشيء: إذا لم تعرفه"، ويُقـال: "فلانٌ جهولٌ، وقد جهِلَ بالأمر، وجَهِل حقَّ فلانٍ، وهو يجهل على قومه: يَتسافَهُ عليهم"، وفي المثل: "كفى بالشَّكِّ جَهْلًا... وفلاة مَجْهَلَة: لا عَلَم بها"[2].
يُستنتج مما سبق أن المجهول ما لا علم به، أو لا يوجد ما يدُلُّ عليه، أو ما كان في معرفته شكٌّ، أو أنه "كل شيء غير معلوم الحقيقة، أو غير معلوم الوَصْف على وجه الدِّقَّة، أو في معرفته تردُّدٌ وشَكٌّ" [3]، وبهذا يتَّضِح أن المستور الذي سيمرُّ معنا تعريفه يدخل ضمن مفهوم الجهالة العام.
تعريف العدالة اصطلاحًا:
تعدَّدَتْ تعريفات العلماء لبيان معنى الراوي المجهول إلى اتِّجاهات عدة.عرفه الخطيب ناسبًا تعريفه إلى المحدِّثين: "كل مَنْ لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومَنْ لم يُعرَف حديثُه إلَّا من جهة راوٍ واحد"[4]، وقد سبق إلى هذا التعريف الإمام الذهلي رحمه الله[5].
وقد يقصد الخطيب البغدادي بهذا التعريف معنى مجهول العَيْن فقط، لكونه جاء عنه مُطلقًا، فلم يُقيِّده، وقد قال بعد ذلك: "وأقلُّ ما ترتفِعُ به الجهالةُ أن يروي عن الرجل اثنانِ فصاعدًا من المشهورين بالعلم إلَّا أنه لا يثبُت له حُكْمُ العدالة بروايتهما عنه" [6].
وقد فهِم بعضُ المعاصرين من تعريف الخطيب أن حاصل مجهول العَيْن: مَنْ لم يَرْوِ عنه إلَّا واحدٌ [7]، والحَقُّ أن بين أيدينا نماذجَ عديدةً حُكِم على أصحابها بالجَهالةِ، ولهم رُواةٌ عديدون، ونماذج حُكِم لأصحابها بالوثاقة وليس لهم إلَّا راوٍ واحدٌ.
قال ابن رجب الحنبلي: "وقال يعقوب بن شيبة: قلتُ ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفًا؟ قال: إذا روى عن الرجل مثلُ ابن سيرين والشعبي - وهؤلاء أهل العلم - فهو غير مجهول، قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق؟ قال: هؤلاء يروون عن مجاهيل"، ثم قال: "وهذا تفصيل حَسَنٌ، وهو يُخالف إطلاق محمد بن يحيى الذهلي، الذي تبِعَه عليه المتأخِّرون أنه لا يخرُج الرجلُ من الجهالة إلَّا برواية رجلين فصاعًدا، وابن المديني يشترطُ أكثر من ذلك، فإنه يقول فيمن يروي عنه يحيى بن أبي كثير وزيد بن أسلم معًا: إنه مجهول... وقال فيمن روى عنه مالك وابن عُيينة: إنه معروف"[8].
من هذا يتبيَّن أن بعض العلماء كالذهلي عَدَّ المجهول مَنْ لم يَرْوِ عنه إلَّا واحدٌ، ومنهم مَنْ أضاف؛ كالخطيب: ولا عرَفه العلماء، ومنهم مَنْ عَدَّ كثرة الرواية تُخرج الراوي عن حدِّ الجهالة، فيكون عندهم أن قلَّة الرِّواية هي سبب الجهالة، ومن هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد سُئل عن عقبة بن عبيدالله أبي الرحال الطائي، فقال: كم يروي؟ إنما يروي حديثينِ أو ثلاثة[9].
فمدار الجهالة المطلقة عند جمهور المحدثين نظريًّا على عدد التلاميذ، فمَنْ روى عنه واحدٌ فقط فهو مجهول العين، ومَنْ روى عنه عدلانِ صار معروفًا، وارتفعت جهالة عينه؛ لكن لم تثبُت عدالتُه، إلَّا أن الأمر ليس على إطلاقه كما سنرى. ذكر التهانوي عن أبي حنيفة ورجاله أن مجهول العين عندهم، هو مَنْ لم يُعرَف إلَّا بحديثٍ أو حديثين، وجُهِلت عدالتُه، سواء انفرد بالرِّواية عنه واحدٌ أو أكثر[10].
قال ابن رجب: والظاهر أنه ينظر إلى اشتهار الرجل بين العلماء وكثرة حديثه ونحو ذلك، ولا ينظر إلى مجرد رواية الجماعة عنه[11]، ولكن ما المقصود بالشهرة؟ قال ابن رجب: قال أبو حاتم الرازي في إسحاق بن أسيد الخراساني: ليس بالمشهور، مع أنه روى عنه جماعةٌ من المصريين؛ لكنه لم يشتهر حديثُه بين العلماء، وقال عن آخر: إنه لم ينتشر حديثُه بين العلماء[12].
قال ابن حجر في مقـدمة تقريب التهذيب: مَنْ لم يَرْوِ عنه غيرُ واحـدٍ ولم يوثق وإليه الإشـارة بلفظ مجهول[13]، يُفهَم من كلام ابن حجر هذا أنه قد لا يروي عن الرجل إلا راوٍ واحدٌ عَدْلٌ؛ لكنه معروف عند العلماء موثَّق، فلا يكون مجهولًا، وإن لم يَرْوِ عنه إلَّا واحـٌد، وهذا الاتجاه يُؤيِّده إخراج صاحبي الصحيحين لبعض الرُّواة ممَّن انفرد عنهم راوٍ واحدٌ، ويكون إخراج صاحبي الصحيحين إثباتًا لعدالتهم؛ لأنهما لا يرويان عن مجروح في عدالته، وقد تكون روايتُهما عمَّن هذا شأنه توثيقًا، إذا لم تكن صِحَّة الحديث من كونه مرويًّا من طرق أخرى.
خلاصة اتجاهات العلماء في المجهول[14]:
الاتجاه الأول: المجهول مَنْ روى عنه واحدٌ، فإن روى عنه اثنان ارتفعت الجهالة عنه، ونُسِب للذهلي.
الاتجاه الثاني: أن العبرة بكثرة الرِّواية وقِلَّتُها، فمَنْ كان قليلَ الرِّواية لا يكون معروفًا، ونُسِب هذا إلى الحنفية، وأفاده بعض تصرُّفات الإمام أحمد، وأشار إليه ابن رجب، ونسبه إلى أبي حاتم.
الاتجاه الثالث: أن العِبْرة بحال مَنْ روى عنه، فإن روى عنه المعروفون الثِّقـاتُ فهو معروف غير مجهول، أما مَنْ روى عنه مَنْ لا يتحرَّى في الرِّواية، أو ليس من الأئمة الثِّقات فقد يكون مجهولًا، ونُسِب هذا إلى ابن معين، ويفيده بعض كلام ابن المديني.
الاتجاه الرابع: مَنْ لم يَرْوِ عنه إلَّا ضعيفٌ أو مجهولٌ، أو لم يَرْوِ هو إلَّا عن ضعيف أو مجهول، ونُسِب هذا إلى ابن حِبَّان.
الاتجاه الخامس: ألَّا يكون معروفًا بحمل العلم والعناية به، وهو مع ذلك لم يتبيَّن من أمره شيء، وهو مضمون رأي ابن عبدالبر.
الاتجاه السادس: أن المجهول مَنْ تحقَّق فيه أمران:
1- لم يَرْوِ عنه إلَّا واحدٌ.
2- لم يُزكِّه أحدٌ من أئمة النقد، فإن روى عنه أكثر من واحد ولم يُزَكَّ فهو مجهول الحال، وإن روى عنه واحدٌ وزُكِّيَ؛ لم يعد مجهولًا، وإلى هذا الرأي ذهب ابن القطان، وابن حجر، والسخاوي، وهو ما يُفهَم من كلام الخطيب البغدادي في نظري.
ومَنْ تأمَّل في هذا الاتجاه يرى أنهم إنما يريدون بذلك مجهول العَيْن حصرًا، ولعلَّ هذا القول أقربُ إلى واقع عمل المحدِّثِينَ؛ إذ نجد في الصحيحين مَنْ لم يَرْوِ عنه إلَّا واحدٌ، ووُثِّقَ، فلا يُعَدُّ مجهولًا. وعليه فلو أردنا أن نستخلص تعريفًا للمجهول، فيُمكننا القول بأن المجهول هو مَنْ لم تُعرَف عينُه ولا حالُه[15]، وبِناءً عليه كان تقسيم الجهالة إلى جهالة العين وجَهالة الحال.
ثانيًا: أقسام الجهالة:قسَّم ابنُ الصلاح الراوي المجهول إلى ثلاثة أقسام؛ فقال: الثامنة: في رواية المجهول، وهو في غرضنا ها هنا أقسام:الأول: المجهول العَدالة؛ من حيث الظاهر والباطن جميعًا، وروايتُه غيرُ مقبولةٍ عند الجماهير.
الثاني: المجهول الذي جُهِلَتْ عدالتُه الباطنةُ، وهو عَدْلٌ في الظاهر، وهو المستور، فهذا المجهول يَحتَجُّ بروايته بعضُ مَنْ ردَّ الأوَّلَ، وهو قول الشافعيين، وبه قطع، منهم الإمام سُليم بن أيوب الرازي؛ لأن أمر الأخبار مبنيٌّ على حُسْن الظَّنِّ بالراوي، ولأن رِواية الأخبار تكون عند من يتعذَّر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. قلتُ - أي: ابن الصلاح - ويُشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثيرٍ من كتب الحديث المشهورة في غير واحدٍ من الرُّواة الذين تقادَمَ العَهْدُ بهم، وتعذَّرَت الخبرةُ الباطنة بهم.
الثالث: المجهول العين، وقد يَقبل رواية المجهول العدالة مَنْ لا يَقبل رواية المجهول العين - أي: فمَنْ لا يقبل مجهول العدالة وهم الأكثر من باب أولى ألَّا يقبل مجهول العين - ومَنْ روى عنه عدلان فعيَّناه، فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة[16]؛ ا هـ.
قال ابن حجر: ثم الجهالة، وسببها أن الراوي قد تكثُر نعوتُه، فيُذكر بغير ما اشتَهر به لغرض، وصنَّفُوا فيه: الموضح، وقد يكون مقلًّا فلا يكثُر الأخذُ عنه، وصنَّفُوا فيه: الوحدان، أو لا يُسمَّى اختصارًا، وفيه: المبهمات، ولا يُقبَل المبهم ولو أبهم بلفظ التعديل، فإن سُمِّي وانفرد واحدٌ عنه فمجهول العَيْن، أو اثنان فصاعدًا ولم يُوثَّق، فمجهولُ الحال، وهو المستور[17].
وعليه فتُقسَّم الجهالة إلى ثلاثة أقسام:
1- جهالة العين.
2- جهالة الحال.
3- الراوي المستور.